|
الخارج و السلطة يحدّدان معنى -الوطنية-
حازم نهار
الحوار المتمدن-العدد: 1416 - 2005 / 12 / 31 - 10:15
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ثمة عاملان رئيسان يحددان معنى "الوطن و الوطنية" في الثقافة السائدة على اختلاف تياراتها و مشاربها، القومية و الماركسية و الإسلامية، في سورية و المنطقة العربية. هذان العاملان هما "الخارج" و السلطة القائمة، و كلاهما يحددان فهما سلبيا يصب في خدمة استمرار "القابلية للاستعمار" و الحفاظ على مقومات الاستبداد، فهذا الفهم غير قادر لا على درء الاحتلال و خطر الخارج، و لا على فتح الطريق أمام التغيير الديمقراطي و تفكيك المنظومات الفكرية و السياسية التي يعتاش عليها الاستبداد. العامل الأول، أي "الخارج"، يستدعي تلقائيا مفاهيم و مقولات أخرى عديدة ترتبط أيضا بالفهم السائد للوطن و الوطنية، كالجغرافيا الوطنية و مقاومة الخطر الخارجي و الحفاظ على الخصوصية و الأيديولوجية. يشار للوطن عادة ب "الحمى" ، بما يعني أن الوطن محض جغرافيا ، أو هو الجغرافيا الحاوية على الماء والكلأ والنار وحسب، و يتأسس على ذلك تقسيم العالم إلى "فسطاطين": أهل الحمى و الغزاة، و بالتالي تحديد سلبي للوطنية ، لتصبح معادلة تماماَ للموقف العدائي من الآخر، أي الغازي أو المستعمر، الذي يحاول انتهاك الحمى. هذا يفسر لنا إلى حد ما ذلك الشعور بالنقص الذي ينتاب أغلب السياسيين في منطقتنا إزاء "المقاومة المسلحة"، على اعتبار أن هذه الأخيرة هي أعلى مرتبة من مراتب "الوطنية"، بل ويشعرون بتفاهة أعمالهم ونشاطاتهم السياسية والثقافية إزاء قطرات الدم التي تضحي بها ذوداَ عن الأرض والحمى والجغرافيا . هذا الفهم السلبي للوطنية المؤسس على الموقف العدائي من الآخر أو الخارج، ما زال حاضرا بقوة، الأمر الذي منعنا من بناء الهوية الوطنية انطلاقاَ من الذات وحاجاتها وأهدافها بالدرجة الأولى، و هذا يفسر لماذا تطابق مفهوم "الوطنية" مع حركة التحرر وطرد المحتل خلال فترة مقارعة الاستعمار الغربي، لتصبح "الوطنية" معادلة تماما لتحقيق الاستقلال. عناصر الدولة أو شروط وجودها، كما هو معروف، تتحدد بالشعب والأرض والسيادة، لكن هذا التحديد التقليدي تغير بفعل عوامل عديدة، خاصة ما يتعلق بالسيادة، فالقواعد السياسية التي أرسيت في العالم بعد الحرب العالمية الثانية أفقدت "السيادة الوطنية" مفهومها المطلق، و وجود "الدولة" في عالم واسع يتضمن دولاَ متفاوتة في القوة يجعل من كل دولة بالضرورة ناقصة السيادة إزاء الدول الأقوى، كما أن التطور التكنولوجي، خاصة في السنوات الأخيرة، أفقد "السيادة الوطنية" أيضا الكثير من مقوماتها، وزاد من فعل الدول المتطورة في جميع مناطق العالم. المعروف أن حدود بلادنا حددت من قبل "الآخر" ودون رأي أهل المنطقة، فلنفترض أن هذا التحديد تم بطريقة تختلف بضعة كيلو مترات في أي اتجاه وأي منطقة ، فهل كان ذلك سيغير من طبيعة فهمنا للوطن والشعور الوطني ؟. الجغرافيا هي إطار الوطن، لكن الوطن أبعد من الجغرافيا . الأساس هو ماهية الوطن، وماذا يوجد فيه، أما الحدود الجغرافية للوطن فهي نتيجته وتتحدد به. هذا لا يعني أن الجغرافيا غير هامة، إذ ستظل سيادتنا منقوصة طالما بقيت أجزاء من أرضنا محتلة، لكن الصحيح أيضا أن "الاحتلال" ليس السبب الوحيد في نقص السيادة المزمن. "الوطن في خطر". هكذا يطرح النظام الحاكم، وهكذا تطرح بعض القوى السياسية. النظام الحاكم يقول تبعاَ لذلك بضرورة الصمت وكم الأفواه، لأن صوت المعارضة المرفوع يخدم في تشجيع الخارج على القدوم إلينا وانتهاك "سيادتنا الوطنية". لا تجد تيارات سياسية عديدة اليوم أي حرج في الوقوف، بشكل مباشر أو غير مباشر، مع الاستبداد في اللحظات التي تتعرض فيها " السيادة الوطنية " أو بالأحرى " الجغرافيا الوطنية " للتهديد الخارجي. وليقتصر خطابها تبعا لذلك على استجداء النظام، واللعب على وتر تذكيره بالأخطار المحدقة بالبلد التي تتطلب "تكاتف جهود الجميع"، فالتناقض الرئيسي اليوم هو "مع الإمبريالية والاستعمار"!!. و في أحسن الأحوال تستجدي هذه القوى السلطة من أجل الحوار الوطني و الانفتاح الديمقراطي لدرء الخطر الخارجي، فالديمقراطية ضرورية، على ما يبدو، فقط في مواجهة الخارج، و ليس لأنها النظام السياسي الأرقى المتناسب مع مصالح الوطن و المواطنين !!. الخطر الخارجي يستدعي أيضا المحافظة على خصوصيتنا و ثقافتنا و الأيديولوجيات التي نتستر بها. و ليس غريبا إذا ألا يتخيل أحد "الوطن" و"الوطنية" مفصولين عن الأيديولوجية، فكل إيديولوجيا ترسم صورة ما للوطن والوطنية، وتنظر لمن لا يشتركون معها بأنهم ضد الوطن ولا يتوافرون على شيء من الوطنية. كل من هو غير مسلم مشكوك في وطنيته في فكر التيارات الإسلامية، و هنا أيضا يجري تقسيم العالم إلى "فسطاطين"، فسطاط الإيمان و فسطاط الكفر، يتطابق الأول مع "الوطنية" و الثاني مع "العمالة أو الخيانة". أما التيارات الشيوعية التقليدية فتشكك بوطنية كل من يحاول الاستفادة من علوم الغرب وثقافته بحكم عدائها المزمن و غير الواعي للرأسمالية، في حين ينظر أصحاب الفكر القومي لكل من ينتمي للأقليات القومية (الأكراد مثلاَ) كعميل محتمل أو مؤكد للخارج، فهذه الأقليات،كما يرون، ما هي إلا إسفين مغروس في مجتمعاتنا سيستخدمها الخارج في النفاذ إلينا في الوقت المناسب!!. العامل الثاني المحدد هو النظم الحاكمة التي تفصّل "الوطنية" و "المصلحة الوطنية" على مقاسها، و أحيانا على مقاس بعض الأفراد. السيادة الوطنية في قاموس أنظمة الاستبداد تعني قانون الطوارئ والأحكام العرفية، واجتثاث المعارضين، وقطع الطريق على الحريات، واحتكار السلطة، وإلحاق الإعلام ومؤسسات الدولة بها، وتخويف البشر وامتهان كرامتهم، رغم أن هذا الفهم لم يحافظ كما تشير التجربة على "الوطن والوطنية". من هنا تصبح كل حركة معارضة خارج السرب الوطني، أو يجري اتهامها بالعمالة للخارج والخيانة الوطنية. "العميل" في عرف هذه النظم، كما هو معروف، هو كل من يحاول الخروج على النسق الشمولي وشرعة الاستبداد. هذه الاتهامات معروفة و مألوفة في تاريخنا، إذ كانت السلطات القائمة تتهم معارضيها على الدوام، بهدف حرقهم اجتماعيا و سياسيا، بإحدى التهم الثلاث، فإما يتهمون بالعمالة للخارج، أو بالإلحاد، أو يتهمون في أخلاقهم الاجتماعية، و ذلك لأنها تدرك أن هذه التهم قادرة على استنفار الغرائز البدوية و الدينية للبشر ضدهم. هذه الاتهامات، تجعل المعارضة تسير في طريق رد التهم عنها وإثبات وطنيتها بشتى السبل، سواء من حيث خطاب كيل الشتائم للخارج ، والتأكيد الدائم لرفضها له جملة وتفصيلاَ ، سياسة وثقافة، شخوصاَ ودولاَ ومنظمات غير حكومية، أو من حيث الصمت عن نقد الأنظمة في اللحظات التي يشتد فيها ضغط الخارج عليها . بدلاَ من التركيز على قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان، تنهك المعارضة نفسها وتستنزف طاقتها في إثبات وطنيتها في بلد يفتقد لأية معايير قانونية تحدد معنى "الوطنية" ومعنى "الخيانة الوطنية"، وأمام سلطات شهادتها مجروحة في هذا الأمر ، وتحتاج إلى آلاف الشهادات لإثبات وطنيتها. تحتاج السلطات إلى شهادة في الحفاظ على المال العام وعدم تورطها في الفساد، و إلى شهادة في حسن إدارة موارد البلد، و شهادة في احترام القانون الوطني، أي الدستور، و شهادة في عدم استغلال المناصب الحكومية، و شهادة في الحفاظ على حياة كريمة للمواطنين، وأخرى في صون حرياتهم، وشهادة في رسم سياسات ناجحة تخدم الحفاظ على المناعة الوطنية، و شهادة في عدم تحولها إلى قنوات سهلة للمصالح الخارجية، أو في عدم انتهاج سياسات خارجية تسهل للطامعين مشاريعهم، وغيرها من الشهادات. الاستبداد يخرب التيارات السياسية والاجتماعية في المجتمع ، ويشوه انتماءها الوطني، ويقدم فهماَ سكونياَ ثابتاَ لمفهومي "الوطن والوطنية"، على عكس النظام الديمقراطي الذي يسمح في كل لحظة بإعادة اكتشاف "الهوية الوطنية"، باعتبارها هوية متجددة، وكائناَ حياَ ينمو ويتطور ويتفاعل مع الجديد والمتغيرات. لا توجد ملامح للوطن دون الديمقراطية. لا وطن بلا مواطن، ولا تحرير أو استقلال بدون حرية المواطن. أليست التضحية بحقوق الإنسان على قربان "الوطن في خطر" و "الوطنية" المفصلة على مقاس أنظمة الاستبداد، هي التي قادت إلى هذه الحالة من "الهشاشة الوطنية" وتلك التشوهات في الانتماء الوطني ؟ . المفهوم الجديد للسيادة الوطنية يتحدد بمدى احترام حقوق الإنسان، فهي الأساس ليشعر المجتمع برمته بأن الدولة دولته، وأن الوطن وطنه. يسأل البعض سؤلاَ ساذجاَ هو: في حال تعارض "الوطنية" مع حقوق الإنسان، فلمن تكون الأولوية ؟. هذا السؤال ينطلق نظرياَ على الأقل من وجود تعارض مبدئي بين "الوطنية" وحقوق الإنسان. السؤال الصحيح باعتقادنا هو: هل يمكن أن يكون هناك وطن، أو هل يمكن فهم "الوطنية" خارج إطار احترام حقوق الإنسان ؟ ، و ماذا يعني الوطن دون وجود دستور ديمقراطي و قوانين لحماية الحريات ؟ . الوطن أولا هو الدستور وليس مجرد أرض نعيش عليها ونحبها. مرجع "الوطنية" هو الدولة الوطنية، وطالما لا يوجد دولة وطنية لا يمكن القول بإمكانية وضع محددات أو توصيفات حقيقية للوطنية ، أما الدولة الوطنية فهي دولة الكل الاجتماعي، ودولة الدستور الديمقراطي ودولة القانون واستقلال القضاء، وهي الدولة التي يمكن من خلالها فقط وضع معايير وتعبيرات قانونية واضحة لتوصيف "العمالة والخيانة الوطنية".
#حازم_نهار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة إعلان دمشق
-
تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج 8 من 8
-
تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج 7 من 8
-
تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج 6 من 8
-
تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج-5 من 8
-
تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج 4 من 8
-
تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج-3 من 8
-
تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج 2 من 8
-
تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج 1 من 8
-
مؤتمر البعث: محاولات بائسة لضمان -الاستمرارية-
-
منتدى الأتاسي طليقاَ
-
سعد الله ونوس: من مسرح التسييس إلى مسرح المجتمع المدني
-
على أبواب مؤتمر البعث: لا قدرة للمعارضة على تفكيك النظام
-
هل يبقي البعث على صيغة - الجبهة الوطنية التقدمية - ؟
-
مستقبل لبنان والعلاقات السورية - اللبنانية
-
سعد الله ونوس : ملحمة صراع بين الحياة و الموت
-
إشكالات حركة حقوق الإنسان في سورية و المنطقة العربية
-
ملاحظات أولية للخروج من أزمة الأحزاب السياسية
-
العرب والعولمة
-
السلطة- و-المعارضة- في المجتمع العربي
المزيد.....
-
من زاوية جديدة.. شاهد لحظة تحطم طائرة شحن في ليتوانيا وتحوله
...
-
أنجلينا جولي توضح لماذا لا يحب بعض أولادها الأضواء
-
مسؤول لبناني لـCNN: إعلان وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرا
...
-
أحرزت -تقدمًا كبيرًا-.. بيان فرنسي حول وضع محادثات وقف إطلاق
...
-
هجوم صاروخي روسي على خاركيف يوقع 23 جريحا على الأقل
-
-يقعن ضحايا لأنهن نساء-.. أرقام صادمة للعنف المنزلي بألمانيا
...
-
كيف فرض حزب الله معادلة ردع ضد إسرائيل؟
-
محام دولي يكشف عن دور الموساد في اضطرابات أمستردام
-
-توجه المحلّقة بشكل مباشر نحوها-.. حزب الله يعرض مشاهد من اس
...
-
بعد -أوريشنيك-.. نظرة مختلفة إلى بوتين من الولايات المتحدة
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|