|
هل البديهيات تحتاج إلى توضيح ؟
طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 5329 - 2016 / 10 / 31 - 15:27
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هل تحتاج البديهيات إلى توضيح؟ طلعت رضوان يحدث أحيانــًـا أنْ يـُـساء فهم ما أكتب ، من ذلك ما حدث عندما كتبتُ عن الإخوان المسلمين قبل يوليو1952وأنّ اغتيالاتهم كانت سياسية فقط ، ففهم البعض أننى أدافع عن الإخوان المسلمين، لمجرد أننى التزمتُ بالواقع و(الوقائع) حيث لم تحدث اغتيالات للمفكرين. فهل كان المطلوب منى تزوير الواقع، أو (خلق) أحداث لم تحدث؟ لذلك رأيتُ إعادة نشر مقالى ، مع محاولة منى لتدارك ما فاتنى ، والذى تسبب فى اتهامى بالدفاع عن الإخوان المسلمين، رغم كتاباتى فى كتبى ومقالاتى وموقفى الثابت ضد كل الأصوليات الدينية، ولكن يبدو أنّ حتى (البديهيات) أصبحتْ عسيرة الفهم لدى البعض. واجه طريق النهضة المصرية عدة عقبات، كان أخطرها مواجة الأصوليين الإسلاميين، خصوصًا بعد تشكيل ميليشيات مسلحة للإخوان المسلمين، ورغم ذلك فإنّ الأمانة العلمية تقضى بالتوقف أمام ثلاثة مظاهر : الظاهرة الأولى أنّ لغة التكفير كانت تــُـصوب أساسًا ضد المفكرين الليبراليين، أصحاب مدرسة (المرجعية للعقل) من أجل تأسيس الدولة العصرية ، أمثال درية شفيق، سعاد الرملى، منيرة ثابت، هدى شعرواى، أحمد لطفى السيد, طه حسين، سلامة موسى، إسماعيل أدهم وإسماعيل مظهرإلخ. وأنّ المصادرة وفرض الوصاية كانت ضد الفكر والكلمة المكتوبة. أى أنّ لغة التكفير لم تشمل العادات والمعتقدات الشعبية ، حتى التى تتعارض مع المرجعية الدينية ، مثل الاحتفال بسبوع الطفل وخميس وأربعين المتوفى وزيارة القبور والنذور للأولياء والاحتفال بهم فى طقوس الموالد الشهيرة التى يعشقها شعبنا (مسلمون ومسيحيون) وظلّ شعبنا يُؤدى تحياته المُتعددة (صباح الخير. مساء الخير. العواف. تصبح على خير إلخ) دون تكفير أو حتى ازدراء أو محاولة لمنعها لفرض شمولية وأحادية التحية الواحدة كما يحدث الآن. ولم يحدث أنْ قتل شاب أمه لأنها أقامت طقس الزار مثلما حدث بعد يوليو 1952. ولم يحدث الاعتداء على آثار جدودنا مثلما حدث عام 1992(كمثال واحد فقط) عندما تم إلقاء عبوة حارقة على معبد الكرنك بالأقصر. أو الاعتداء على السياح فى المذبحة الشهيرة فى شهر هاتور / نوفمبر 1997 أو فرض الجزية على المسيحيين وإعدام أربعين منهم رفضوا إطاعة الجماعة الإسلامية فى المنيا ولم يحدث أنْ نادى أصولى بوجوب فرض الجزية على المسيحيين وحرمانهم من الدفاع عن الوطن ، بمنعهم من دخول القوات المسلحة كما صرّح مصطفى مشهور (أهرام ويكلى 3- 9 إبريل97) ولم يحدث أنْ كفــّـر الأصوليون بعضهم البعض كما حدث فى السنوات الأخيرة ، حيث تم تكفير الشيخ متولى الشعراوى والشيخ الغزالى والمفتى ورجال الأزهر. وأنّ فتوى التكفير كانت مصحوبة بإهدار الدم (روزاليوسف 30/11/92) الظاهرة الثانية أنّ الاغتيالات التى نفّذها الإخوان المسلمون كانت اغتيالات سياسية ، مثل اغتيال كل من أحمد باشا ماهر (فبراير 1945) والقاضى أحمد الخازندار (22مارس1948) واللواء سليم زكى (4ديسمبر1948) والنقراشى باشا يوم 28ديسمبر1948 (49) أى أنّ الاغتيالات لم تشمل المختلفين فكريًا وعقيديًا ، مثلما حدث مع اغتيال فضيلة د0 محمد حسين الذهبى وزير الأوقاف الأسبق عام 1977 ، واغتيال شهيد الفكر فرج فودة عام 1992 ، ومحاولة اغتيال الأديب نجيب محفوظ عام 1994. ومع مراعاة أنّ كلامى لا يعنى أنّ الإخوان المسلمين، ضد قتل المفكرين، ولكننى أردتُ توضيح المناخ الذى تواجدوا فيه قبل يوليو52. ومع مراعاة (ثانيـًـا) أنّ عدم قتل المفكرين يحتاج إلى بحث لمعرفة الأسباب : فهل السبب قوة التيار الليبرالى وشعبيته بين أبناء شعبنا؟ أم لأنّ حكومات ما قبل يوليو52كانت على درجة من (التسامح الفكرى) مع الليبراليين وحمايتهم ، وأنّ الإخوان أدركوا ذلك فامتنغوا عن اغتيال المفكرين، أمثال طه حسين، أسماعيل مظهر، إسماعيل أدهم، درية شفيق، سعاد الرملى وعبدالحميد الحديدى .. إلخ؟ أم لأنّ المفكرين كانوا يُرجعون العنف لجذور الإسلام وتاريخ الخلافة الإسلامية؟ أم لأنّ الصحافة كانت تهاجم الإخوان وتنتقدهم بشكل مبدئى ، ولم تستخدم تعبير(متأسلمين) الذى انتشر بعد يوليو52 على أساس أنهم (لايفهمون صحيح الإسلام) أو(الإسلام الصحيح) وكانت المقالات فى تلك الفترة السابقة على يوليو52 تستخرج من كتب التراث العربى / الإسلامى ما يؤكد أنّ العنف كان سمة سائدة طوال تاريخ الخلافة الإسلامية؟ كما أنّ فن الكاريكاتير ساهم فى نقد الأصولية الإسلامية، لدرجة رسم صورة لحسن البنا (مرشد الإخوان) وعلى رأسه قنبلة... إلخ، أم هى كل تلك العوامل؟ الظاهرة الثالثة أنّ تيار الأصولية الإسلامية قبل يوليو 1952 كان يُـقابل ويُجابه بقوة وحزم وبرسوخ مبدئى وشجاعة أدبية وأسلوب علمى رفيع المستوى0 وفيما يلى بعض الأمثلة : بعد أنْ أصدر قاسم أمين كتابه (تحرير المرأة) عام 1899 ، أصدر فى العام التالى كتابه (المرأة الجديدة) الذى أشار فيه إلى دور العلماء الأوروبيين فى ترسيخ قاعدة العلم، وأكــّـد على أنّ أوروبا حققتْ فى مائتىْ سنة مالم تحققه غيرها فى آلاف السنين. وكتب ((وتوالتْ الاكتشافات العلمية. وشيّد العلم بناءً متينًا لايمكن لعاقل أنْ يفكر فى هدمه. ولهذا تغلّب رجال العلم على الدين فى أوروبا ، بعد النزاع والجهاد. وانتهى الحال بأنْ صار للعلم سلطة يعترف بها الناس. أما من جهة النظامات (= النظم) السياسية ، فلأننا مهما دققنا البحث فى التاريخ ، لا نجد عند أهل العصور الإسلامية ما يستحق أنْ يُسمى نظامًا ، فإنّ شكل حكوماتهم كان عبارة عن خليفة أو سلطان غير مقيد ، ويُدير مصالح الأمة مستبدًا برأيه)) وعن حجاب المرأة كتب (( إنه عادة لا يليق فى عصرنا استعمالها )) ودعا إلى أنْ ((نـُـربى أولادنا على أنْ يتعرفوا شئون المدنية الغربية. وأنه من المستحيل أنْ يتم إصلاح فى أحوالنا إذا لم يكن مؤسسًا على العلوم العصرية الحديثة. ولهذا لا نتردد فى أنْ نـُـصرّح بأنّ القول بأننا أرقى من الغربيين هو من قبيل ما تنشده الأمهات من الغناء لتنويم الأطفال )) (قاسم أمين- الإعمال الكاملة- تحقيق د. محمد عمارة- دارالشروق- عام1989- من ص494- 503) وعلّق فرح أنطون على كلام قاسم أمين قائلا ((مما تقدم يتضح أنّ مدنيات الأمم لا تتوقف على الدين، بل على العلم وأنّ الأمم (الوثنية) كاليابان إذا سلكتْ سبيل العلم والنواميس الطبيعية، ارتقتْ مدنيتها على كل مدنية، حتى مدنية الذين يعملون بقواعد الإنجيل والقرآن حرفــًا ومعنى دون أنْ يشتغلوا بالعلم ، لأنّ الدين شىء والدنيا شىء (آخر) وآلة الإصلاح فى كل منهما تختلف عن آلة الآخر. فكيف إذن يصح أنْ يقال إنّ الإنسانية ستعود كلها إلى القرآن فى المستقبل كما يقول الأستاذ محمد عبده، وأنها ستعود إلى الإنجيل كما يقول رؤساء الدين المسيحى؟ كلا ثم كلا إنّ الإنسانية طـُـبعتْ على التنوع والاختلاف ، ولابد من هذا التباين فى المعتقدات)) (فرح أنطون : ابن رشد وفلسفته مع نصوص المناظرة بينه وبين محمد عبده – دار الطليعة للطباعة والنشر- بيروت – ط 1- عام 1981- من ص186- 191) أما لطفى السيد فكتب فى تعريفه لمفهوم الدولة أنّ لها ((وظائف مُـحـدّدة هى الحفاظ على الأمن والعدل والدفاع عن المجتمع ضد العدوان. ويحق للدولة – للقيام بهذه الوظائف – التدخل فى حقوق الفرد. أما ما عدا ذلك، فأى تدخل منها جائر. مع العلم أنّ بعض أنواع التدخل أشد خطرًا من سواه. وخصوصًا العبث بحرية القضاء أو بحرية الكتابة والقول والنشر وتأليف الأحزاب)) (لطفى السيد- المنتخبات ج1 ص106، ج2- ص58- نقلا عن البرت حورانى فى كتابه: الفكرالعربى فى عصرالنهضة- ص181- ترجمة كريم عزقول- دارنوفل- بيروت- عام1997) وامتلك شجاعة الرد على الأصوليين أمثال الأفغانى فكتب ((كان من السلف من يقول بأنّ أرض الإسلام وطن لكل المسلمين. وتلك قاعدة استعمارية تنتفع بها كل أمة مستعمرة تطمع فى توسيع أملاكها ونشر نفوذها كل يوم فيما حواليها من البلاد، وتلك قاعدة تتمشى بغاية السهولة مع العنصر القوى الذى يفتح البلاد باسم الدين)) (لطفى السيد – قصة حياتى- هيئة الكتاب المصرية- ص108، 109- وكذلك صحيفة الجريدة 16يناير1913)) وكتب ((الإسلام ليس لمسلم بوطن. فوحدة الاعتقاد الدينى ليست كافية لإقامة وحدة التضامن الوطنى)) (صحيفة الجريدة 10مارس 1907) وهاجم لطفى السيد قانون الجمعيات الأهلية الذى سنّته الحكومة (( لأنها سنّت تمثيل الأقليات وفرضت أقلية قبطية سياسية وأقلية بدوية سياسية. وركــّـز فى كل كتاباته على حقوق المواطنين مثل الحرية الشخصية بمعناها العام، وحرية الفكر والاعتقاد وحرية الكلام والكتابة. وإذا كان الفرد خـُـلق حرًا فإنّ الأمة تألــّـفتْ حرة أيضًا )) كما نادى بضرورة استقلال القضاء، فإنْ لم يكن القضاء حرًا ومستقلا ، فمصالحنا همل وحريتنا هراء)) وعن الصحافة ذكر أنها صانعة الرأى العام ، وهى الحكومة الحقيقية للبلاد المتمدنة ولذلك فإنّ ((خير ما تفعل الحكومات لنفسها وللأمة التى تحكمها أنْ تكون مع الصحافة على غاية من التسامح، فلا تقف فى طريق رقيها، لأنّ ذلك وقوف فى طريق حرية الرأى العام ومصادرة لاعتقاده لا يأتى إلاّ بنتيجة عكسية )) أما حرية الخطابة، فهى لصيقة بالحرية الشخصية ((وأنّ الذين يتعرّضون لحرية الكلام، يُعطـّـلون حقـًا من حقوق الأفراد الطبيعية)) وإذا كانت حرية الكتابة من الحقوق التى لا يحل للشارع (= المشرع) أنْ يمسّها ، فإنّ المساس بحرية الكلام أولى بالتحريم)) وعن حرية الاجتماع كتب أنها (( أكثر خطرًا على الظلم من كل حرية سواها. ولا يجوز للشارع أنْ يمسها من غير أنْ يؤخر الأمة ويحبسها عن الأخذ بأسباب مدنيتها )) (صحيفة الجريدة- أكثر من عدد والمنتخبات ج1، ج2) 000 فى عام 1924 أصدر مصطفى كمال أتاتورك قرارًا تاريخيًا بإلغاء الخلافة. هذا القرار الذى يستوجب شكر صاحبه ، لأنه أعفى شعبنا وباقى الشعوب التى كانت خاضعة للخلافة العثمانية من أداء الجزية، ولكن التيار الأصولى هاجمه بشدة ، لأنّ الأصوليين الإسلاميين لا يعنيهم أنْ تظل مصر خاضعة للخلافة الغاشمة. ولا يعنيهم استنزاف موارد الشعوب بأداء الجزية السنوية. وتلتقى إرادة الملك فؤاد مع رغبة رجال الدين الذين ينادون بتنصيب الملك خليفة على المسلمين فى كل أنحاء العالم. فى هذا الوقت المشحون بالتوتر، كان على عبدالرازق يعد كتابه (الإسلام وأصول الحكم) الذى صدر فى العام التالى ، وأثبت فيه أنّ نظام الخلافة ليس من الإسلام ، وكتب أنّ (( الخلافة فى الإسلام لم ترتكز إلاّ على أساس القوة الرهيبة. وأنّ تلك القوة كانت إلاّ فى النادر، قوة مادية مسلحة )) وأنّ الخلافة كانت ((ولم تزل نكبة على الإسلام والمسلمين وينبوع شر وفساد)) (الإسلام وأصول الحكم- أكثر من طبعة- وهيئة الكتاب المصرية- ص28، 36)) ورغم أنّ المؤلف كان يُدعم رأيه بالاستناد إلى المرجعية الدينية، فإنّ ذلك لم يغفر له عند الكهنوت، وكان حكم الأزهر هو(( إخراجه من زمرة العلماء)) لم يُدافع عن على عبدالرازق الليبراليون فقط ، وإنما دافع عنه مثقف محافظ مثل د0 هيكل، وهاجم كتاب جريدة السياسة الحكم الصادر ضده. فى العام التالى نشر طه حسين كتابه (فى الشعر الجاهلى) الذى نسف فيه ما ترسّخ فى العقول عبر العصور عن ما يُسمى ب الشعر الجاهلى . وذهب فى اعتقاده أنّ هذا الشعر منحول، وأنه كــُـتب بعد الإسلام ((لأغراض دينية واقتصادية وسياسية )) ونجح رجال الدين فى تقديم طه حسين إلى النيابة. وأعتقد أنّ الدرس الذى يعنينا هنا هو أنّ من يقرأ حيثيات الحكم الذى أصدره رئيس نيابة مصر (محمد بك نور) يُدرك أنه قرأ الكتاب بعمق، واختلف مع مؤلفه فى بعض ما أورده، وبصفة خاصة ما كتبه طه حسين عن أنّ (( للتوراة أنْ تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أيضًا أنْ يحدثنا عنهما ، ولكن ورود هذيْن الاسميْن فى التوراة والقرآن لايكفى لإثبات وجودهما التاريخى)) ومع ذلك كتب محمد بك نور فى تقريره أنه فى ضوء ما تقدم ((يتضح أنّ غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين ، بل إنّ العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه، أوردها على سبيل البحث العلمى، مع اعتقاده أنّ بحثه يقتضيها ، وبذلك يكون القصد الجنائى غير متوفر، فلذلك تـُحفظ الأوراق إداريًا )) (خيرى شلبى- محاكمة طه حسين- وكذلك مجلة فصول – أكتوبر1990) ورغم أنّ دستور 1923 تضمن العديد من المواد التى تــُـدعم فكرة الدولة الحديثة مثل المادة رقم (1) التى نصّتْ على أنّ ((مصر دولة ذات سيادة وهى حرة مستقلة)) والمادة رقم (3) التى نصّتْ على (( المصريون لدى القانون سواء وهم متساوون فى التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة، لاتمييز بينهم فى ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين)) والمادة رقم (4) التى نصّتْ على (( الحرية الشخصية مكفولة )) والمادة رقم (12) التى نصّتْ على ((حرية الاعتقاد مطلقة)) والمادة رقم (15) التى نصّتْ على ((الصحافة حرة فى حدود القانون والرقابة على الصحف محظورة. وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإدارى محظور)) والمادة رقم (20) التى نصّتْ على (( للمصريين حق الاجتماع فى هدوء وسكينة غير حاملين سلاحًا. وليس لأحد من رجال البوليس أنْ يحضر اجتماعهم ولاحاجة بهم إلى إشعاره)) والمادة رقم (23) التى نصّتْ على أنّ ((جميع السلطات مصدرها الأمة )) (عبدالرحمن الرافعى : فى أعقاب الثورة المصرية- مكتبة النهضة المصرية- ج1 عام1947- من ص310- 327) رغم هذه المواد الصريحة التى تـُـرسّخ دعائم دولة عصرية، وتواكب التطور الدستورى والسياسى فى الأنظمة الليبرالية، فإنّ الليبراليين المصريين انتقدوا الدستور، لما فيه من عيوب ونقص وتناقض. وركــّـزوا هجومهم على المادة رقم (149) التى نصّتْ على أنّ (( الإسلام دين الدولة)) وهى المادة التى نجح التيار الأصولى فى فرضها. وبينما كانت مواد الدستور مجرد (مشروع ) أى قبل أنْ يُعتمد الدستور رسميًا للعمل بمقتضاه، كتب محمود عزمى مقالا فى جريدة (الاستقلال) فى عدد 22سبتمبر 1922 بعنوان (العقيدة الدينية فى لجنة الدستور) قال فيه (( إنّ ذلك النص المقرر للدولة دينــًـا رسميًا هو ذلك الذى يريد أنْ يستغله أصحاب الآراء العتيقة. وهو الذى سيجر على البلاد ارتباكــًـا قد ينقلب إلى شر مستطير)) وطالب البعضُ أمثال الشيخ (شاكر) نتيجة ذلك النص بضرورة (( اشتمال مواد الدستور بما يجعل أحكام الدين هى المتفوقة على كل تشريع)) فكتب محمود عزمى ((وبالتالى سيأتى وقت على سكان مصر فى هذا القرن العشرين، فتقطع الأيدى والأرجل من خلاف والرجم بالحجارة. ويكون السن بالسن والعين بالعين. نحن نلفت النظر وسنستمر على لفت النظر إلى الخطر المحدق الذى يجيىء عن طريق ذلك النص)) وبعد أنْ صدر الدستور واصل محمود عزمى، ذلك المفكر المصرى الشجاع، دفاعه عن الأمة المصرية التى يجب أنْ تكون ليبرالية الفكر والسياسة، فكتب أنّ الدستور جاء ((هجينــًـا يجمع بين الشىء ونقيضه. فالأمة مصدر السلطات، والملك له الحق مع المجلس النيابى فى التشريع. ويوازن بين سلطة الملك الأوتوقراطية وبين سلطة الأمة ذات المضمون الديموقراطى. وينص على أنّ حرية الاعتقاد مطلقة، وفى نفس الوقت (ينص على) أنّ الإسلام هو الدين الرسمى للدولة. وهكذا أصبحتْ البلاد فى مفترق الطرق. وأصبح الدستور ثوبًا فضفاضًا ويسهل تأويله على أوجه عدة إلخ. أما عميد الثفافة المصرية (طه حسين) فبالرغم من وعيه بأنّ الأصوليين متربصون له، وخاصة بعد معركة كتابه (فى الشعر الجاهلى) عام 1926، فإنه امتلك شجاعة الكتابة فى مجلة الحديث عدد أمشير / فبراير 1927 فقال (( لستُ أرضى عن هذا الدستور الرضا كله. ففيه نقص وفيه تشويه وفيه نصوص لابد من تغييرها0 ثم هاجم الذين صاغوا مواد الدستور هجومًا عنيفـًا بسبب المادة التى نصت على أنّ الإسلام دين الدولة. وببصيرته الرحبة انتقد هذا النص. ومن يقرأ المقال (اليوم) يُدرك أنّ طه حسين كان يستشرف المستقبل المتردى الذى نعيشه الآن0 حيث ذهب إلى أنّ النص فى الدستورعلى أنّ الإسلام دين الدولة ((مصدر فرقة. لا نقول بين المسلمين وغيرالمسلمين (فقط) وإنما نقول إنه مصدرفرقة بين المسلمين أنفسهم ، فهم لم يفهموه على وجه واحد. وأنّ النص على دين للدولة يتناقض مع حرية الاعتقاد. لأنّ معنى ذلك أنّ الدولة مكلفة أنْ تمحو حرية الرأى محوًا فى كل ما من شأنه أنْ يمس الإسلام من قريب أومن بعيد، سواء أصدر ذلك عن مسلم أوعن غير مسلم، ومعنى ذلك أنّ الدولة مكلفة بحكم الدستور أنْ تسمع ما يقوله الشيوخ فى هذا الباب. فإذا أعلن أحد رأيًا أو ألّف كتابًا أو نشر فصلا أو اتخذ زيًا، ورأى الشيوخ فى هذا مخالفة للدين ونبّهوا الحكومة إلى ذلك ، فعلى الحكومة بحكم الدستور أنْ تسمع لهم وتعاقب من يخالف الدين أو يمسه)) وفى هجومه على الأصوليين ذكر أنهم ((كتبوا يطلبون ألاّ يصدرالدستور، لأنّ المسلمين ليسوا فى حاجة إلى دستور وضعى ومعهم كتاب الله وسنة رسوله. وذهب بعضهم إلى أنْ طلب من لجنة الدستور أنْ تنص على أنّ المسلم لا يـُـكلــّـف بالقيام بالواجبات الوطنية، إذا كانت هذه الواجبات معارضة للإسلام ، وفسّروا ذلك بأنّ المسلم يجب أنْ يكون فى حل من رفض الخدمة العسكرية، حين يُـكلــّـف بالوقوف فى وجه أمة مسلمة ، كالأمة التركية مثلا )) (مجلة الحديث- فبراير1927وأعاد نشره فى كتابه "من بعيد"- الشركة العربية للطباعة والنشر- ط2 نوفمبر1958- ص222وما بعدها) إنّ النقد الذى وجّهه الليبراليون المصريون ضد دستور 1923، إنما هو جزء من المشروع الثقافى لهؤلاء المثقفين الذين امتلكوا شجاعة الإعلان عن آرائهم بوضوح ، تلك الآراء التى يمكن تلخيصها فى جملة واحدة : إنه لايمكن خروج مصرمن ثقافة ومن آليات العصورالوسطى إلاّ بعد تأسيس دعائم الدولة العصرية. وأول هذه الدعائم ضرورة فصل الدين عن الدولة (وليس عن المجتمع) وبتعبيرأدق، فصل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية. وأنّ المحك الطبيعى والمدخل الحقيقى لهذا الفصل هوإعداد دستور(عالمانى) يخلو من النص على دين معين للدولة. كما هو الوضع فى الأنظمة الليبرالية، التى تـُكرّس دساتيرها وقوانينها لترسيخ حق المواطنة. وتُـعلى من شأن هذا الحق الذى يتجسد فى منظومة أنّ الولاء للوطن سابق على أى ولاء (عقيدى أومذهبى أو فلسفى) وتتأسس فلسفة هذه الدساتيرعلى أنّ (الدولة) يجب أنْ تكون محايدة تجاه مواطنيها ، وأنّ هذا الحياد هو الضمانة الحقيقية لتطبيق قواعد العدالة على جميع أبناء الوطن بغض النظرعن ولاءاتهم الدينية. وفى ضوء هذا الفهم الوطنى/ العلمى لمعنى الدساتير(العالمانية) فإنّ الليبراليين المصريين فى عشرينيات القرن العشرين، كانوا يدقون أجراس الخطر من خطورة النص فى الدستورعلى دين معين للدولة. ولعلّ هذا ما جعل الزعيم الوطنى الهندى (جواهرلال نهرو) أنْ يصف دستور 1923 الذى صدر بعد تضحيات شعبنا فى ثورة برمهات/ مارس 1919 بأنه ((لا يُشبهه دستور آخر فى الرجعية)) (د. عبدالعظيم رمضان : الفكر الثورى فى مصر قبرل يوليو1952- هيئة الكتاب المصرية- عام1994- ص118) لعلى أكون قد أوضحتُ موقفى، وأننى لم أدافع عن الإخوان المسلمين كما فهم البعض، عن سوء فهم، وهوما يؤكد أنّ من انتقدنى لم يقرأ كتبى أومقالاتى، وينطبق عليه قول عميد الثقافة المصرية (طاها حسين) الذى وصف خصومه بأنهم ((يكتبون ولايقرأون)) ***
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل يستطيع البشر التخلص من الغيبيات ؟
-
هل الدين - أى دين - قابل للتجديد ؟
-
الأدب الروائى ومقاومة الأصولية الإسلامية
-
أصحاب العقول الحرة وموقفهم من العروبة
-
هل اختار (الله) شعبه أم العكس ؟
-
تناقضات الديانة العبرية (2)
-
هل توجد أدلة مادية على ما جاء فى العهد القديم ؟
-
هل للعرب مساهمة فى العلوم الطبيعية ؟
-
الصراع بين العلم والخرافة
-
هل تعلم العرب شيئًا من (التفكير العلمى) ؟
-
هل عاش توفيق الحكيم فى البرج العاجى ؟
-
المثقف المُتأدلج والمثقف الحر
-
هل يمتلك المثقف إرادته وهولصيق بالسلطة؟
-
هل المصريون عرب ؟ سؤال متناقض
-
مصارعة الثيران ومصارعة الإنسان للإنسان
-
الليبراليون والقومية المصرية قبل يوليو1952 (1)
-
دور الفن التشكيلى فى النهضة الفكرية
-
أدب السيرة الذاتية فى الحضارة المصرية
-
تابع الكتب التى ساهمت فى النهضة الفكرية
-
الكتب التى ساعدت على النهضة الفكرية (1)
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|