تمر اليوم على الشعب العراقي ذكرى مناسبة أليمة، الذكرى الأربعون لإنقلاب 8 شباط/فبراير 1963 الذي ما أن يذكره العراقيون إلا وأعقبوه بعبارة (الدموي الأسود) لأنه الإنقلاب الذي دشن مرحلة سوداء عاشها الشعب ومازال، من المجازر والتنكيل والتشريد والخراب والدمار بسبب سيطرة آيدولوجية البعث الفاشية التدميرية التي قادت البلاد إلى الوراء عقوداً من السنين وزجت بها إلى هذه المحنة القاتلة. لذا نرى من الضروري أن نتذكر هذه المناسبة، لا من أجل نكأ الجراح وإنما من أجل مراجعة تاريخنا الحديث ومحاولة إستخلاص الدروس والعبر عسى ولعل أن نتعلم منها ونحن مقبلون على مرحلة جديدة، مرحلة الخلاص من النظام الفاشي وبناء مرحلة الديمقراطية وإعادة العراق إلى مكانته اللائقة بحضارة عمرها ستة آلاف عام وصاحب أول قانون في التاريخ.
هناك قول مأثورة أن الثورة تأكل أبناءها. كذلك يمكن القول أن كل ثورة تحمل معها تناقضاتها وصراعاتها. فالثورة هي استجابة للظروف الموضوعية عندما تتوفر لها العوامل الذاتية (الأداة المنفذة). ولكن لا يعني هذا أن جميع العوامل الموضوعية المضادة للثورة قد انتهت بالكامل، وإلا ففي هذه الحالة يتم التغيير بالوسائل السلمية وذلك عن طريق التطور السلمي التدريجي. لذا فهناك طبقات وشرائح في المجتمع من أصحاب النفوذ والمصالح من الملاكين والإقطاعيين في العهد السابق، وكذلك قوى خارجية من الدول الإستعمارية والشركات الإحتكارية، قد استفزتها الثورة وتضررت مصالحها ولا بد أنها تركت لدى هذه الشرائح ردود أفعال عنيفة، ولا يمكن أن تتركها تواصل مسيرتها بسلام.
ومن جهة أخرى، فإن الجهات المستفيدة من الثورة، أعني الطبقات الإجتماعية، العمال والكادحين والفلاحين والبرجوازية الوطنية وأرباب الصناعات والمثقفين، وسائر الجماهير الشعبية الكادحة ومن ورائها القوى السياسية الممثلة لمصالح هذه الشرائح الإجتماعية، لم تكن قد بلغت الدرجة الكافية من النضج والوعي السياسي لتحافظ على وحدتها من أجل حماية مصالحها وتطوير سياساتها وفق متطلبات المرحلة التاريخية لصيانة ثورتها ودرأ المخاطر عنها. فرغم اتفاق ضباط الأحرار والقوى السياسية في جبهة الإتحاد الوطني على تغيير الوضع، إلا إنها ركزت أكثر اهتمامها على إسقاط النظام الملكي، ولم تلتزم بالبنود الأخرى من ميثاق الجبهة، وخاصة فيما يخص الموقف من الوحدة العربية وحكم البلاد بعد الثورة.
كانت الثورة مُستَهدفة منذ يومها الأول من قبل القوى الخارجية وخاصة الأنكلو-إمريكية، حيث تم الإنزال الإمريكي في لبنان والبريطاني في الأردن، للزحف على العراق ووأد الجمهورية الفتية، إلا إن التفاف الجماهير حول قيادة الثورة واستعدادها للتضحية في سبيل الدفاع عنها من أي عدوان، غيَّر حسابات المستعمرين فالتزموا بالحكمة القائلة: "لا تحارب شعباً في حالة ثورة"، كذلك موقف الجمهورية العربية المتحدة والإتحاد السوفيتي في تضامنهما مع العراق والدفاع عنه ضد أي عدوان خارجي. كل ذلك أرغم القوى الخارجية على تأجيل ضرب الثورة عن طريق الغزو الخارجي، ولكن إلى حين. إذ رأت تلك القوى أنه من الأفضل إعادة الحصان الجامح إلى الحظيرة الإمبريالية عن طريق ضربها من الداخل وذلك بانتظار خلق الصراعات الداخلية والإستفادة منها لإيجاد موطئ قدم لها.
ومن المؤسف القول أنه ما أن نجحت الثورة في تحقيق أهدافها الأولى المباشرة في إسقاط النظام الملكي وإعلان الجمهورية، حتى انفرط عقد الجبهة وانشغلت القوى الوطنية والقومية في صراعات دموية فيما بينها في سبيل أغراض فئوية وحزبية ضيقة على حساب المصالح الوطنية والقومية العامة. تلك الصراعات وفرت الجو المناسب وفتحت الباب على مصراعيه لأعداء الثورة في الداخل والخارج للإستفادة من الوضع الصاخب وإستغلال الظروف لصالحها وبالتالي إسقاط الثورة وإلحاق الضرر الفادح بالجميع .
واجهتْ قيادة الثورة ركاما هائلاً من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تراكمت عبر قرون وكان عليها إيجاد الحلول لها. كانت الثورة تمثل إنعطافة تاريخية كبرى وفي مرحلة تحولات ثورية عاصفة اجتاحت العراق وعربدة التاريخ في أشد عنفوانها.
وحل هذه المشاكل المتراكمة والأوضاع الصاخبة كان يحتاج إلى وقت وصبر وخبرة، والجماهير في حالة غليان وكما قال لينين: "الثورة مهرجان المضطَهدين". فقد أرادت قيادة الثورة أن تحقق أكثر ما يمكن من المكتسبات الوطنية دفعة واحدة وفي وقت قصير، أي فوق طاقتها وفوق ما يتحمله المجتمع العراقي المتعدد الأعراق والأديان والطوائف والطبقات الإجتماعية وأحياناً كانت مصالح هذه المكونات متقاطعة ومتضاربة ومتناقضة ومتشابكة في صراعات دموية وفوق ما تسمح لها العوامل الداخلية والخارجية.
نوجز أسباب الإطاحة بالثورة بما يلي:
لقد جاءت الثورة لتصحيح أوضاع شاذة وملحة وتحقيق منجزات ثورية للشعب كما ذكرنا أعلاه. ولكن هذه المنجزات التي هي في صالح مجموعة من الناس تكون في نفس الوقت ضد مجموعة أخرى. لذلك يمكن اعتبار مكتسبات الثورة هي في نفس الوقت أسباب اغتيالها وهي كما يلي:
أولاً-العوامل الخارجية:
لقد ضربت الثورة في الصميم، مصالح الدول الغربية وخاصة (الأنكلو-إمريكية) في العراق ومنطقة الشرق الأوسط، وذلك بتبني سياسة عدم الإنحياز وخروج العراق من حلف بغدااد، والكتلة الإسترلينية، وإنهاء النفوذ البريطاني والأمريكي، ومشروع آيزنهاور، وإقامة العلاقات السياسية والإقتصادية والثقافية المتكافئة مع المعسكر الإشتراكي وعلى رأسه الإتحاد السوفيتي، في الوقت الذي كانت الحرب الباردة في أشد عنفوانها بين المعسكرين الغربي والشرقي والصراع بينهما على مناطق النفوذ في دول العالم الثالث وخاصة منطقة الشرق الأوسط.
كذلك كانت الثورة طموحة في إرغام الشركات النفطية في تحقيق أكبر ما يمكن من حقوق الشعب في الحصول على حصته من ثرواته النفطية، لذلك باشرت قيادة الثورة بالمفاوضات مع تلك الشركات، وأصدرت قانون رقم 80 لعام 1961 الذي تم بموجبه تحرير 99.5% من الأراضي العراقية من سيطرة الشركات النفطية الإحتكارية، ولائحة قانون تأسيس مصلحة النفط الوطنية ودور قائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم في تأسيس منظمة أوبك .. وتلبية لدعوة الحكومة العراقية، اجتمع ممثلو سبعة بلدان مصدرة للنفط في بغداد في 14 أيلول 1960 وأعلن عن تشكيل منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك). وكانت هذه الثمرة الأولى للسياسة النفطية الوطنية العراقية التي لم يزل أثرها واضحاً في السياسية العالمية حتى يومنا هذا. وإرسال آلاف البعثات الدراسية من أبناء الوطن للخارج للتخصص في هندسة وإدارة النفط، هذه الخطوات المهمة التي مهدت السبيل لتأميم النفط لاحقاً في بداية السبعينات. كذلك تأييد ودعم الثورة لحركات التحرر الوطني العربية والعالمية.
هذه الإجراءات الثورية اعتبرت استفزازاً للدول الغربية والشركات النفطية الإحتكارية وخروجاً على المألوف من دولة نامية عن الطاعة، خاصة العراق الغني بثرواته والمهم بموقعه الإستراتيجي.
دور المخابرات الأجنبية
لقد لعبت المخابرات الأجنبية وخاصة البريطانية والأمريكية دوراً كبيراً في تدبير إنقلاب 8 شباط 1963، وخاصة وكالة المخابرات الأمريكية CIA. وظهر فيما بعد أن صالح مهدي عماش كان عميلهم ولعب دوراً كبيراً بهذا الخصوص. فقد تم رفده منذ كان ملحقاً عسكرياً في السفارة العراقية في واشنطن قبيل الثورة. وعمل العملاء المتسترون على دفع عبد السلام محمد عارف لاستدعائه إلى بغداد بعد الثورة مباشرة حيث تم تعيينه مديراً للإستخبارات العسكرية. وتبين فيما بعد أنه كان مرتبطاً بالمخابرات المركزية الإمريكية ويشهد بذلك هاني الفكيكي في كتابه أوكار الهزيمة فيقول: "ويبدو أن بُغضَ عمّاش للقرارات المعقدة ليس مزاجاً عابراً. ففي أوائل عام 1962، وهذا ما علمناه في وقت متأخر وبعد نهاية الحكم، كان قد طلب إلى (ويليام ليكلاند) معاون الملحق العسكري الأمريكي في بغداد إبلاغ المقدم محمد المهداوي وزملائه، الذي كان في دورة تدريب، تأخير عودتهم من الولايات المتحدة إلى إشعار آخر، بسبب إعتقال ضباط الشرطة وكشف تنظيمهم. وفعلاً تم إبلاغ المهداوي بذلك مع تحيات "أبو هدى" عمّاش، بعد إستدعائه لغرفة آمر المعسكر.
ويضيف الفكيكي في مكان آخر من كتابه: ".. وأعلمني طالب شبيب لاحقاً أن البكر كان قد استدعى جميل صبري وكلفه بحضور عماش إستقبال (ويليام ليكلاند)..، بدلاً من عماش الذي كان يجتمع به صباح كل يوم سبت. وكما روى لي شبيب فإن جميل صبري تردد وتمنَّع في البداية، ولكنه قبل المهمة بسبب ضغوط البكر عليه. وإنه قرر إعلامنا بالأمر إلا إنه منع في اللحظة الأخيرة."
ويذكر الفكيكي عن اللقاء الذي تم بين وفد حكومة البعث عام 1963 مع جمال عبد الناصر في القاهرة فيقول: "في هذا اللقاء خاطب عبد الناصر علي صالح السعدي محذراً إياه من وليم ليكلاند، الذي سبق أن خدم في القاهرة وأسماه خبير إنقلابات، ولم يفهم علي آنذاك معنى التحذير ولم يكن يعلم بعلاقة ليكلاند ببعض البعثيين، عسكريين ومدنيين." هذه الشهادة تكشف بوضوح ودون أدنى شك إرتباط صالح مهدي عماش بالمخابرات الأمريكية ودور المخابرات الأمريكية في إنقلاب 8 شباط 1963.
وفي مكان آخر من مذكراته يضيف الفكيكي: "وفي جناح قاسم عثروا على إضبارة تخص الدكتور زغيب، الأستاذ اللبناني المنتدب للتدريس في جامعة بغداد. وبتوصية وتزكية من ميشيل عفلق والقيادة القومية استخدمنا الدكتور زغيب لسنوات في نقل بعض الرسائل بيننا وبين القيادة القومية. وكان طالب شبيب هو صلة الوصل به في بغداد. وحين دراستنا للملف وجدناه مليئاً بتقارير مديرية الأمن العامة والإستخبارات الإمريكية (CIA). وتعاونه مع حزب البعث وتطلب إلى قاسم الموافقة على إعتقاله وإبعاده عن العراق غير إن قاسم كتب على بعضها أمره بإبقائه ومراقبته بدقة" .
وهناك شهادة من الملك حسين أبداها في حديث شخصي منفرد مع محمد حسنين هيكل: ".. إسمح لي أن أقول لك إن ما جرى في العراق في 8 شباط (فبراير) قد حظي بدعم الإستخبارات الأمريكية. ولا يعرف بعض الذين يحكمون بغداد اليوم هذا الأمر ولكني أعرف الحقيقة. لقد عقدت إجتماعات عديدة بين حزب البعث والإستخبارات الأمريكية، وعقد أهمها في الكويت. أتعرف أن… محطة إذاعة سرية تبث إلى العراق كانت تزود يوم 8 شباط(فبراير) رجال الإنقلاب بأسماء وعناوين الشيوعيين هناك للتمكن من إعتقالهم وإعدامهم."
وتأكيداً لشهادة الملك حسين عن دور السي آي أيه وتعاونه مع التيار القومي في ضرب ثورة 14 تموز، قال الدكتور أحمد عبدالهادي الجلبي:
"… أما تدخل أمريكا الحقيقي الأول في العراق فبدأ في سنة 1962 حينما كلفت وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية (سي أي أيه) من جانب رئيس الولايات المتحدة بمجابهة الإتحاد السوفيتي والحزب الشيوعي في العراق فعملت سي آي أيه بشكل مباشر وبتحالف مع النظام المصري حينها بزعامة جمال عبدالناصر وتعاونت مع حزب البعث العربي الإشتراكي في العراق، خصوصاً كوادر الحزب في القاهرة ومن ضمنهم صدام حسين على تشجيع وتأهيل الحزب لتسلم الحكم. وقد ذكر لي أحد مسؤولي ال (سي آي أيه) في فرانكفورت وإسمه جيم كريتشفيلد، كان مسؤول ال(سي آي أيه) في أوربا أن ال(سي آي أيه) أصدرت بالتعاون مع البعثيين قائمة بأسماء 1700 شخص تقرباً يجب تصفيتهم لدى قيام أي حركة ضد عبدالكريم قاسم والحزب الشيوعي في العراق. وفعلاً نشرت هذه الأسماء عبر إذاعة سرية للأمريكيين في منطقة الشرق الأوسط" .
ثانياً: دور القيادة المصرية والتيار القومي العربي في إغتيال الثورة:
لقد أكد العديد من الباحثين وخاصة من ذوي التوجه القومي العربي والذين كتبوا مذكراتهم من الضباط الأحرار، أن الوحدة العربية ما كانت من أهداف الثورة، وإنما العمل على تقوية التضامن العربي والتقارب مع الجمهورية العربية المتحدة بخاصة. وكان هذا أيضاً ضمن ميثاق جبهة الإتحاد الوطني. ولكن بعد الثورة بأيام، وهي في بداية إنتصارها، جاء ميشيل عفلق إلى العراق، واجتمع بقيادة حزب البعث وطرح شعار (الوحدة الإندماجية الفورية) كهدف أساسي وملح للتيار القومي العربي. ولم يكن التيار القومي جاداً في رفعه شعار الوحدة وإنما كانت الغاية منه إحراج موقف عبد الكريم قاسم واتخاذه ذريعة لإسقاطه.
كذلك الدور المدمر الذي لعبه جمال عبد الناصر في ضرب الثورة العراقية. وقد اعترف ناصر أنه دعم حزب البعث وغيره من فصائل التيار القومي، مادياً وإعلامياً من أجل الإطاحة بحكومة قاسم. وأكد أكرم الحوراني ذلك في مذكراته وأنه لما فشلت محاولة الشواف في الموصل، شنت وسائل الاعلام الناصرية وبإيعاز من عبد الناصر نفسه، حملة إعلامية مكثفة، الغاية منها تحريض قاسم لإعدام الطبقجلي والحاج سري والضباط القوميين الآخرين، ونعته بالجبن إن لم ينفذ ذلك، وذلك للإنتقام من هؤلاء الضباط القوميين لعدم نصرتهم للشواف من جهة ولأخذ إعدامهم ذريعة للتحريض ضد قاسم في العراق والشارع العربي من جهة أخرى.
ثالثاً: العوامل الداخلية:
جاءت الثورة، ليس لتحقيق الاستقلال السياسي والسيادة الوطنية فحسب، بل وتحقيق العدالة الإجتماعية لمختلف شرائح وطبقات الشعب. لذلك باشرت الثورة بإصدار القوانين لتحقيق هذه الأهداف ومنها:
1-قانون الإصلاح الزراعي:
ضربت الثورة بعمق مصالح الإقطاعيين بإصدارها قانون الإصلاح الزراعي، وقانون إلغاء حكم العشائر الذي حرر الملايين من الفلاحين من ظلم شيوخهم. فحرم هذا القانون شيوخ الإقطاع من أهم نفوذ وسلطان لهم على سكان الأرياف الذين كانوا يشكلون حوالي 60% من الشعب. فكانوا على إستعداد للتعاون مع أية جهة لإستعادة نفوذهم ومكانتهم والقضاء على النظام الجديد.
2-الصراع الدموي بين القوى السياسية:
انشغلت القوى السياسية المؤدلجة، اليسارية والقومية، في صراعات دموية عنيفة، رغم توسلات الزعيم عبد الكريم قاسم المتكررة بهم على وحدة الصف ونبذ صراعاتهم جانباً لحماية الثورة والوطن. لكن ومع الأسف الشديد، وقعت هذه الكلمات على آذان صماء. ونتيجة لهذه الصراعات الدموية بين القوى السياسية، حصلت إنتهاكات وحوادث مؤسفة في الموصل وكركوك، وبدرجة أقل، في المدن العراقية الأخرى، راح ضحيتها الكثير من الأبرياء مما أساء كثيراً إلى سمعة الثورة وأضعفت مكانتها وجعلتها فريسة سهلة للإنقضاض عليها من قبل أعداءها.
والذي أشعل فتيل الصراع هو رفع التيار القومي لشعار الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة والذي عارضه التيار الوطني المتمثل بالحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي والديمقراطي الكردستاني والقوى الأخرى. وهذا الصراع أدى إلى تصاعد شعبية الحزب الشيوعي، الحالة التي أطلق عليها ب"المد الأحمر" والذي بسببه تفشى الرعب والهلع في القوى المعادية للشيوعية في الداخل وكذلك في الدول العربية والإقليمية الأخرى والدول الغربية وخاصة أمريكا وبريطانيا وبلورت عندهم اعتقاد خاطئ بأن عبدالكريم قاسم هو شيوعي وأن الحزب الشيوعي على وشك إستلام السلطة في العراق. وهذا الخوف هو الذي دفع خصوم الشيوعية إلى تحالف ما يقارب الأربعين جهة داخلية وخارجية، لا يجمع بينها أي جامع سوى الخلاص من قاسم والخطر الشيوعي. ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك فيعتبرون تصاعد شعبية الحزب الشيوعي في العراق والخوف من إستلامه السلطة السبب الأساسي والرئيسي لإغتيال ثورة 14 تموز.
3-إصدار قانون الأحوال الشخصية:
كانت الثورة طموحة في تحقيق العدالة الإجتماعية ومنها تحرير المرأة وإقرار حقوقها. وغني عن القول أنه لا يمكن تحقيق أي تقدم لأي شعب ونصفه الآخر مشلول ومحروم من حقوقه الإنسانية. فالمرأة التي تشكل نصف المجتمع كانت وما زالت، محرومة من المساواة بأخيها الرجل في الحقوق والواجبات والمسؤوليات في المجتمع العراقي. أرادت قيادة الثورة أن تصحح هذا الخلل وتلغي الإجحاف بحق المرأة. فأصدرت قانون الأحوال الشخصية الذي ساوى بين الرجل والمرأة وخاصة في الإرث وشهادتها في المحاكم ووضع شروطاً على تعدد الزوجات. ولكن ما أن صدر هذا القانون التقدمي الذي حقق للمرأة الحد الأدنى من حقوق الإنسان، حتى استغله خصوم الثورة واعتبروه خروجاً على الإسلام وعملوا على تأليب رجال الدين ضد قيادتها.
4- سياسة الخروج على التمايز العرقي والطائفي:
ورثت الدولة العراقية التمايز الطائفي من الدولة العثمانية بحرمان أغلبية الشعب العراقي، الشيعة من العرب والكرد والتركمان، من حقوق المواطنة الصحيحة ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية. لقد تبنى قائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم، سياسة عدم التمييز بين العراقيين على أساس العرق والدين أو المذهب. كما شدد على عدم التمييز في قبول طلبة الكلية العسكرية والأركان. كذلك لم يميِّز بين العراقيين في إسناد المناصب العالية، فقد اختار الصابئي عبدالجبار عبدالله رئيساً لجامعة بغداد لمكانته العلمية، والدكتور مهدي المخزومي الشيعي، عميداً لكلية الآداب.. فهذه هي المرة الأولى في تاريخ العراق تسند فيها هكذا مناصب لأبناء هذه الطوائف. اعتبرت هذه السياسة خروجاً على المألوف والموروث التركي، واستفزازاً للمستفيدين من التمايز العرقي والطائفي لذلك انتقموا منه. ولكن لسوء حظ قاسم وحظ الشيعة أن المستفيدين من التمايز الطائفي استطاعوا إستدراج القيادات الدينية الشيعية وعلمائهم (دون الجماهير الشيعية طبعاً) ضد قاسم بحجة الخطر الشيوعي على الإسلام وتم لهم ما أرادوا.
يقول حسن العلوي: "باغتيالهم حكومة عبد الكريم قاسم فقد انتهت (هذه العملية-التخلص من الطائفية السياسية) بحرمان العراقيين من نظام سياسي غير متعصب، لم يلتزم بتعميم تمذهب الدولة … وكان بعض علماء الإسلام ، والبعثيون، والضباط والوزراء الشيعة الذين اشتركوا في إسقاط عبد الكريم قاسم من ضحايا هذه السياسة". ويضيف: " وفي أيامنا هذه، وحيث يحتدم الصراع الدموي بين البعثيين والحركة الإسلامية الشيعية، يلتقي الفريقان مرة في السنة على موقف واحد، في قضية واحدة، عند الذكرى السنوية لمقتل عبد الكريم قاسم ، فيركزان وبمصطلحات واحدة على جهود كل منهما في إسقاط "الدكتاتور قاسم"، و"سيطرة الشيوعيين العملاء" ويهاجمان عبد الكريم قاسم وحكومته بمفردات واحدة." .
5- دور عبد السلام عارف في تدمير الثورة:
رغم أن عبد السلام عارف كان على رأس القوات المسلحة في دخول بغداد صبيحة الثورة، وإذاعته لبيان الثورة من الإذاعة، إلا إنه يعتبر أيضاً سبباً أساسياً لفنائها، وقد أكد ذلك السيد مصطفى علي، وزير العدل في عهد قاسم للباحث الدكتور ليث الزبيدي عندما قال: "عبد الكريم قاسم جاء بثورة عظيمة، ولكن جاء بفنائها معها، جاء بعبد السلام عارف".
كان عبد السلام عارف، رائد الحق العرقي والعزل المذهبي في العمل السياسي.. ولأول مرة في عهده، يجري العمل بالهوية العرقية والطائفية علناً. كما أكد ذلك الأستاذ هديب الحاج حمود وزير الزراعة في عهد قاسم عندما قال: " إن عبد السلام عارف ذكر لأحد الضباط الأحرار الموجودين معه في الفوج ليلة 14 تموز 1958، بأنهم سينفذون الثورة وهناك ثلاث جماعات يجب إستئصالها وهم: الأكراد، والمسيحيون والشيعة" .
6- إعلان عبد الكريم قاسم بعائدية الكويت إلى العراق تاريخياً:
يمكن إعتبار هذا العامل القشة التي قصمت ظهر البعير. ولكن من الجدير بالقول أن قاسم لم يحرك قواته لإحتلال الكويت بقيادة اللواء الركن حميد السيد حسين، كما أشيع في وقته. وقد أكد ذلك الزعيم نفسه في آخر مقابلة له مع مراسل صحيفة اللوموند الفرنسية في 5 شباط 1963، عندما سأله الأخير عن سبب عدم إحتلاله للكويت، فأجاب بأنه ليس فاشستياً ليستعمل القوة ضد أي بلد عربي. فسارعت القوات البريطانية والعربية، بالإنزال في الكويت بعد 24 ساعة من هذا الإعلان، تماماً على خلاف ما حصل في عهد صدام حسين عندما هدد الكويت "بقطع الأعناق قبل قطع الأرزاق" وحشد على حدودها أكثر من 300 ألف جندي من القوات العراقية والأسلحة الهجومية الثقيلة، فلم تحرك الدول الغربية ساكناً إلا بعد أن تم الإحتلال في 2 آب 1990. وهناك شهادات تثبت عدم أي تحرك عسكري من قبل قاسم ضد الكويت. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نورد هنا شهادتين:
الأولى من الأستاذ مرتضى الشيخ حسين فيقول ما يلي:
إن تشويه الحقائق بصورة متعمدة أو عفوية يؤدي في كثير من الأحيان إلى مآسي دموية علاوة على سلبيات تاريخية واجتماعية… قضية تكليف عبدالكريم قاسم للواء السيد حميد السيد حسين الحصونة لإحتلال الكويت.. لي صداقة مع اللواء السيد حميد السيد حسين الحصونة (رحمه الله) وكان يزور برلين في السبعينات والثمانينات وهو ذو إطلاع واسع في أحداث العراق بحكم وظيفته وثقافته الإجتماعية وسألته وكان معي الشاعر العراقي السيد كاظم جواد (رحمه الله)... فبالنسبة لمقولة أن عبدالكريم قاسم كلف السيد حميد السيد حسين الحصونة بإحتلال الكويت وامتناع اللواء السيد حميد عن تنفيذ هذا الأمر العسكري، أجاب اللواء حميد حول ذلك قائلاً:
"إن هذا النبأ مجرد إشاعة كاذبة مضللة دبرها الإنكليز للإنزال في الكويت أي ضد عبدالكريم قاسم الذي أطاح بحلف بغداد وتكالبت عليه جميع الأطراف من الداخل والخارج لتشويه حقيقته والإطاحة به. إن عبدالكريم قاسم لم يكلفني بإحتلال الكويت ولو كلفني وامتنعت عن التنفيذ لفصلني لمخالفتي أمراً عسكرياً صارماً لا يجوز في الجيش مخالفته دون عقاب لمن يمتنع عن التنفيذ. ولو كان الأمر المذكور حقيقة ولو أني خالفته لحق لعبدالكريم قاسم وهو قائد عسكري في أعلى السلطة أن يعاقبني بالفصل من الوظيفة وإناطة الأمر بإحتلال الكويت إلى غيري من قادة الجيش وكل ذلك لم يتم وهو إشاعة مغرضة كما بينت".
7- القضية الكردية:
لعبت القضية الكردية دوراً بارزاً في إسقاط حكومة عبدالكريم قاسم، رغم أن الثورة قد أكدت في المادة الثالثة من دستورها المؤقت على أن "العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية" وهي خطوة لم تكن موجودة في القانون الأساسي الذي ألغي في 14 تموز 1958. ولكن لعبت الجهات الشوفينية المندسة في الجهتين ومن الجهتين في تأجيج الصراع بين حكومة عبدالكريم قاسم والقيادة الكردية وتصعيد الأزمة إلى الإقتتال مما أدى إلى خسارة الطرفين.
8- إفراط قاسم في التسامح مع الخصوم:
عُرف الزعيم بمقولات مثل (عفا الله عما سلف) و(الرحمة فوق القانون) و(العفو عند المقدرة) ..الخ، ليس قولاً فحسب وإنما طبقها عملياً مما يعتبره البعض أحد أسباب نهاية حكمه. ويقول الدكتور علي كريم سعيد: "واعتقد أن تسامح قاسم وعدم إستخدامه التعذيب الوحشي والقسوة ومعاقبة الزوجة والأطفال والإخوان… الخ مما مارسته الحكومات التالية، ساعد البعثيين في تنفيذ خطتهم ضده. ولم يكن قاسم وحده يعرف بوجود حركة يخطط لها ضد نظامه، بل علم بذلك مجلس الوزراء بكامله وعدد من المهتمين. فقد حدثتني الدكتورة مي الأوقاتي أن خالها هاشم جواد (وزير خارجية قاسم) أخبرهم أن مجلس الوزراء بحضور قاسم أُعلم أكثر من مرة بمحاولة سيقوم بها بعثيون. ولم يكن صعباً على السلطة جمع مائة بعثي في بغداد وتعذيبهم وقتل من لا يعترف منهم لتصل إلى النتائج التي تريدها. لكن حكومة قاسم لم تفكر بمثل تلك الأعمال تحت أية ظروف أو ضغوط، لأن أكثر أعضائها سياسيون أحرار غير مقيدين بآيديولوجيا تقول لهم: إن إرادة الكون والتاريخ تقف معهم، وأن عليهم من أجل سعادة الملايين التضحية بمئات الأشخاص."
وكان قاسم أول زعيم عراقي يبشر بروح التسامح في المجتمع العراقي الذي تشرب بمفاهيم العنف والثأر والإنتقام طيلة تاريخه. وكانت دعوة التسامح بادرة غير مألوفة في العراق. وصارت مقولات الزعيم يرددها حتى الأطفال بعد مشاجراتهم وتصالحهم مثل (عفا الله عما سلف..الخ). وكان الزعيم يُلغي أغلب العقوبات التي تصدرها المحاكم بحق أعداء الثورة، حتى كثرت شكاوى وتذمر القضاة وقولهم ما الفائدة من إصدار أحكام بمعاقبة هؤلاء وبعد أيام يلغيها الزعيم. وكانت الجماهير تطالبه بهتافات مثل: (إعدم إعدم) وهو يغضب على الهاتفين فيصرخ فيهم: أطلبوا أي شيء إلا هذا. أطلبوا فتح مدارس ومستشفيات وإعمار البلاد ..الخ . وقد عفا حتى عن الذين قاموا بمحاولة إغتياله، مما شجع خصومه على الإمعان في التآمر عليه لعلمهم أنه سيعفو عنهم في حالة فشلهم.
9- الثقة العالية بالنفس والإستهانة بقوة الخصوم:
رغم إن الثقة بالنفس من الأمور المحمودة في القائد أو أي شخص آخر، إلا إنها إذا تجاوزت حدها فتنقلب إلى الضد، إذ إنها تؤدي إلى الإستهانة بقوة الخصوم وما تسببه من عواقب وخيمة. وكان قاسم يعتقد بأنه لا يمكن أن يكتب النجاح لأية مؤامرة ضده لإعتماده على شعبيته الواسعة وخطأه القاتل في حسن نوايا الآخرين وظنه الخاطئ بأن خصومه من الضباط كانوا مجرد شباب مغرر بهم وسوف يعودون إلى رشدهم ويندمون، خاصة وأن معظمهم كانوا من تلامذته في الكلية العسكرية وكلية الأركان وقد لقنهم مبادئ الوطنية إثناء تدريسه لهم وكانوا من المعجبين به قبل الثورة، وأيدوه بعدها، فلا يمكن أن يخونوه ويفرطوا بمصلحة الوطن إلى هذه الدرجة الخطيرة حسب اعتقاده ولأنه كان يعلم مدى الدمار الذي سيحل بالعراق وشعبه في حالة اغتياله. ولعلمه أيضاً أن القوى السياسية كانت متناحرة، وكان هو وحده يمثل القاسم المشترك الذي يمكن أن يحافظ على توازن الصراع ويلتقوا حوله لمنع هذا الدمار والإنتقام من بعضهم البعض. لذلك لم يخطر على باله أن خصومه سيفرطون بمصلحة الوطن ويخاطرون بكل شيء من أجل نزوات شخصية مؤقتة ورغبة جامحة في الحكم.
ومما يؤكد هذه الفرضية، هو حصوله على قائمة بأسماء المتآمرين قبل وقوع الإنقلاب بأيام. وهناك معلومات موثقة تؤكد أنه حتى وزراؤه كانوا على علم بمحاولة البعثيين الإنقلابية وتوقيتها كما أسلفنا. ولكنه مع ذلك تركهم طلقاء، عطفاً عليهم، ليحتفلوا بعيد الفطر مع عائلاتهم على حد قوله، وأنه سوف يقبض عليهم وهم متلبسين بالجرم.
أما بخصوص بعض الإعدامات التي حصلت في عهده وخاصة من القوميين بعد مؤامرة الشواف في الموصل، فقد كان يزورهم في معتقلاتهم ويتوسل إليهم أن يقولوا الحقيقة في المحكمة ودور العربية المتحدة فيها والتي كانت معروفة للجميع، وسوف يعفي عنهم. ولكنهم رفضوا العرض وأصروا على مواقفهم.
10- موضوعة مجلس قيادة الثورة وتمديد فترة الإنتقال:
يعتقد بعض النقاد إن عدم تشكيل مجلس قيادة الثورة وإطالة فترة الإنتقال وعدم إجراء الإنتخابات البرلمانية وإصدار الدستور الدائم هو المسئول عن سقوطه والإطاحة بالثورة. لا شك أن هذه الإعتراضات مشروعة ولكنها تحتاج إلى مناقشة ولو بإيجاز . أرى انه من السذاجة الإعتقاد بأنه لو نفذ قاسم هذه الأمور الثلاثة لما حصل ما حصل وأنقذ العراق من المجزرة التي خططتها له الدوائر الغربية لإعادة الحصان الجامح إلى حظيرة الإمبريالية. ولنتناول هذه الإعتراضات الثلاث بالترتيب:
مجلس قيادة الثورة: يعتقد البعض وخاصة من التيار القومي العربي أنه لم تم تأسيس مجلس قيادة الثورة لما حصلت الصراعات الدموية وما نتج عنها من مآسي. أعتقد هذا خطأ لأن إنقلاب 8 شباط وجميع الإنقلابات التي تلته، كان هناك مجلس قيادة الثورة، ولحد الآن يوجد هذا المجلس "العتيد!" في العراق. فهل أدى هذا إلى خلاص العراق من حكم الدكتاتوريين العسكريين والمدنيين؟ العكس هو الصحيح. لأن معظم الإنقلابيين كان هدفهم السلطة وليس أي شيء آخر.
ومع ذلك يذكر اللواء فؤاد عارف في كتابه والذي كان حاضراً إثناء محاولة عبدالسلام عارف إغتيال عبد الكريم قاسم في مكتبه فقال الزعيم مخاطباً عارف: "مو كلنالك شكِّل مجلس قيادة الثورة" أي قلنا لك أن نشكل مجلس قيادة الثورة. فرد عبدالسلام: "ليش آني أسوي ثورة وانطيها الغيري". أي هل من الإنصاف أن أقوم أنا بالثورة وأسلمها إلى الآخرين. وهذا دليل على أن قاسماً لم يكن ضد تشكيل مجلس قيادة الثورة بالأساس وإنما عارف هو الذي مانع في ذلك. ومع ذلك نعتقد أن عدم تشكيل هذا المجلس لم يكن السبب في إغتيال الثورة كما ذكرنا أعلاه.
حصر فترة الإنتقال لسنة واحدة: يعتقد آخرون وخاصة من التيار اليساري والوطني الديمقراطي، أنه لو اختزل قاسم الفترة الإنتقالية لسنة واحدة وأصدر الدستور الدائم و سمح بإجراء الإنتخابات البرلمانية والرئاسية لسد الطريق على الإنقلابات اللاحقة. نحن نحاسب عبدالكريم قاسم لعدم إجرائه الإنتخابات البرلمانية المبكرة وتسليمه السلطة للمدنيين، وكما ذكرنا آنفاً، نتمنى لو فعل ذلك، كما فعل اللواء عبد الرحمن سوار الذهب في السودان الذي أنقذ البلاد من حكم النميري الفاسد، وبعد عام سلم الحكم للمدنيين بعد إجراء إنتخابات برلمانية حرة وعادلة. لكن هل نجت حكومة الصادق المهدي المنتخبة من بطش العسكريين؟
على أي حال، فالكل يعرف مدى شعبية عبدالكريم قاسم بعد الثورة وكذلك شعبية الحزب الشيوعي عام 1959. فلو أجريت الإنتخابات الرئاسية، لم يكن هناك أدنى شك من أن قاسماً كان يحقق فوزاً ساحقاً لنفسه كرئيس للجمهورية ولم يكن خطر في ذلك. ولكن الخطر فيما لو أجريت الإنتخابات البرلمانية بعد عام من الثورة بصورة حرة ونزيهة أي بعد تموز عام 1959؟ لا شك أن حقق الشيوعيون نصراً كبيراً في هذه الإنتخابات حيث كانوا يتمتعون بشعبية واسعة في فترة أطلق عليها ب"المد الأحمر" ومن المؤكد أنهم كانون يفوزون بأكثر من 50 بالمائة من مقاعد البرلمان. وهذا الإحتمال كان بمثابة الكابوس الذي أقض مضاجع القوى الرجعية في الداخل والدول الإقليمية والغربية في الخارج. ويجب أن لا نغالط أنفسنا، ففي تلك المرحلة لم يكن هناك أي إحترام أو إعتبار للديمقراطية وحق الشعب في إختيار حكامه. وعليه فلو أجريت الإنتخابات وفاز الشيوعيون وسيطروا على البرلمان لحصل إنقلاب عسكري دموي ضدهم كما حصل لحكومة مصدق في إيران عام 1952 بإنقلاب عسكري بقيادة الجنرال زاهدي وفي شيلي بعد فوز قوى اليسار بقيادة سيلفادور الليندي عام 1973 التي أغتيلت بإنقلاب عسكري قاده الجنرال بينوشيه وحصل الشيء ذاته في بلدان أخرى مثل البكستان ضد حكومة علي بوتو وضد سوكارنو في إندونيسيا وجميع هذه الإنقلابات كانت بتدبير المخابرات الأمريكية. فالديمقراطية لم تكن محترمة من قبل العسكريين والأحزاب الآيديولوجية التي كانت تعتبر الديمقراطية فكرة غربية تستفيد منها القوى الإمبريالية أيام الحرب الباردة بين القطبين وكانت هذه القوى تقدس العنف الثوري كما هو معروف. طبعاً لم يكن الخوف من فوز الشيوعيين هو الذي منع إجراء الإنتخابات، وإنما الصراعات الدموية هي التي أدت إلى ذلك ولو أجريت الإنتخابات في تلك الأجواء الصاخبة لسالت الدماء ودون أن يحترم نتائجها أحد. لذلك أعتقد أن تمديد فترة الإنتقال كان أمراً لا بد منه إلى أن تستقر الأوضاع.
ومع ذلك وبعد أربعة أعوام من الثورة حيث حصل شيء من الإستقرار، وكما تؤكد معظم المصادر،
أن عبدالكريم قاسم قد شكل لجنة من المتضلعين بالقانون برئاسة الأستاذ حسين جميل لكتابة الدستور الدائم في نهاية عام 1962 وعزم على إجراء الإنتخابات البرلمانية في حزيران 1963 وافتتاح المجلس الوطني في الذكرى الخامسة لثورة 14 تموز، فعاجله التيار القومي العربي بإنقلابهم في 8 شباط 1963 لمنع الإنتخابات البرلمانية ولعلمهم الأكيد أنهم سوف لن يحققوا أي نجاح في هذه الإنتخابات ولأنهم كانوا يخططون للإنفراد بالسلطة ولن يتحقق لهم ذلك إلا عن طريق إنقلاب عسكري, وهذا ما حصل.
*- كاتب عراقي مقيم في إنكلترا