|
روسيا تعمل لاحتواء تركيا بسياسة العصا والجزرة
جورج حداد
الحوار المتمدن-العدد: 5326 - 2016 / 10 / 28 - 15:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في اوائل النصف الثاني من القرن الماضي، وعلى خلفية اعتراف فرنسا مرغمة باستقلال الجزائر، قال الجنرال ديغول قولته الشهيرة "ليس لفرنسا اصدقاء دائمون ولا اعداء دائمون، بل مصالح دائمة". الان، امام الانظار المشدوهة للعالم اجمع، قام الرئيسان الروسي والتركي بوتين واردوغان، بتوقيع اتفاقية تطبيق مشروع مد انابيب الغاز الروسي، المسمى "السيل التركي" عبر البحر الاسود ومنه الى تركيا، فمحطته الاخيرة اليونان، ومن اليونان يتم توزيع هذا الغاز الرخيص الى بلدان اوروبا الجنوبية والوسطى والشرقية، ولا سيما بلدان البلقان. ويشمل الخط اربعة انابيب، الطاقة التحميلية الاولية لكل منها هي 15,75 مليار متر مكعب سنويا. وسيستخدم احدها لحاجات تركيا ذاتها، والثلاثة الانابيب الاخرى تتابع طريقها لتفريغ في اليونان والتوزيع من اليزنان الى اوروبا. وهكذا ستحصل تركيا على الوقود الروسي النظيف بيئيا والرخيص، للتدفئة والانارة والصناعة. كما ستجني ارباحا كبيرة من رسوم الترانزيت، التي كانت في السابق تجنيها اوكرانيا، المهددة الان بالعتمة والفقر والجوع، بفضل سلطة الفاشست الاوكرانيين و"التعاون" مع الناتو والاتحاد الاوروبي ضد روسيا. كما وقع الرئيسان الروسي والتركي مشروع بناء محطة نووية لانتاج الطاقة الكهربائية الرخيصة، مما يكفي حاجات تركيا ويحولها الى مصدّر للكهرباء الرخيصة الى البلدان المجاورة. وكل ذلك سيرفع كثيرا من المكانة الاقتصادية والسياحية والسياسية لتركيا في اوروبا عامة وفي العالمين العربي والاسلامي، اكثر بكثير من مكانتها الحالية كدولة عضو في حلف الناتو العسكري المعادي لروسيا. والجدير ذكره ان مشروع "السيل التركي" قد حل محل مشروع سابق باسم "السيل الجنوبي" سبق ووقع عليه الرئيس بوتين ورئيس الجمهورية البلغارية السابق غيورغي برفانوف في كانون الثاني 2008، والذي كان من المفترض ان يمر عبر البحر الاسود وبلغاريا، ومن بلغاريا الى البلدان الاوروبية الاخرى، وكانت بلغاريا هي التي ستجني المكاسب التي ستجنيها تركيا الان. ولكن بلغاريا (الصديقة التاريخية لروسيا) تقاعست في المصادقة على المشروع، بانتظار اخذ موافقة الاتحاد الاوروبي، التي لم تأت. اما تركيا (العدوة التاريخية لروسيا)، وبالرغم من الظروف السيئة جدا للعلاقات الروسية ـ التركية بسبب الازمة السورية، وخصوصا بعد اقدام طائرة F-16 تركية في تشرين الثاني 2015 على اسقاط طائرة حربية روسية داخل الحدود السورية وقيام الارهابيين التركمان المرتبطين بتركيا بقتل احد الطيارين بشكل غادر ومخالف للاعراف الدولية، وهو ما سماه الرئيس بوتين في حينه "طعنة في الظهر". وقد رفضت تركيا الاعتذار في حينه من روسيا. مما دفع روسيا الى اتخاذ قرارات اقتصادية شديدة لمقاطعة تركيا واعادة نظام التأشيرات (الفيزا) الذي كان قد الغي منذ سنوات بين البلدين. وخلال اسابيع فقط، وبسبب منع السياحة الروسية الى تركيا، ومنع استيراد المنتوجات الزراعية والاستهلاكية منها، ومنع اليد العاملة التركية من العمل في روسيا، تحمل الاقتصاد التركي خسائر لا تقل عن 50 مليار دولار، في فترة وجيزة جدا، كما اصبح من المرجح ان تخسر تركيا مشروع "السيل التركي" ومشروع المحطة النووية ـ الكهربائية، كما صرح بذلك الخبير الاقتصادي التركي اورخان كولوتش لموقع Politonline.ru . وفي تصريح للصحفي الفرنسي المعارض تييري مايسان، رئيس تحرير موقع "فولتير" (voltairenet.org) ادلى به مؤخرا الى الجريدة الروسية "برافدا"، يقول انه بسبب العداء التاريخي بين روسيا وتركيا، فإنه لا يصدق ان المياه يمكن ان تعود الى مجاريها بين البلدين. والواقع ان هذا لم يكن رأي تييري مايسان وحده. فأمام تعثر، ثم فشل الحل السياسي الروسي ـ الاميركي المشترك لوقف اطلاق النار وادخال المساعدات الانسانية الى حلب كمقدمة للحل السلمي للازمة السورية، فإن الكثيرين كانوا يتوقعون ان روسيا تتحين الفرص لكي ترد على تركيا بوابل من الصواريخ الجوية الستراتيجية التي تأتي على الاخضر واليابس والحجر والبشر. وان الحرب في سوريا، كما جاء في تنبؤات العديد من المتنبئين القدماء ستكون الشرارة التي تنطلق منها الحرب العالمية. ومع ذلك فإن القيادتين الروسية والتركية اظهرتا من الحكمة والروية ووضع المصالح الحقيقية للبلدين فوق الاعتبارات الخلافية، التاريخية والراهنة، وعلى خلاف الاجواء المشحونة وشديدة التوتر في المنطقة كلها، فقد ارسل الرئيس التركي، ولو متأخرا، رسالة اعتذار لروسيا وتعزية لعائلة الضابط الطيار الروسي الشهيد، كما قام بزيارة بتروغراد في شهر اب 2016 حيث اجتمع بالرئيس بوتين، واجرى معه محادثات تتعلق بتجديد العمل بمشروع "السيل التركي" ومشروع بناء المحطة الكهرونووية في تركيا. وفي اعقاب هذا اللقاء ادلى وزير الطاقة الروسي الكسندر نوفاك بتصريح الى جريدة Hürriyet التركية اعلن فيه انه خلال اجتماع اللجنة الروسية ـ التركية للتعاون التجاري والاقتصادي، الذي كان مقررا عقده في تركيا في 10 ـ 12 تشرين الاول، سيتم توقيع الاتفاق بين موسكو وانقرة حول مشروع "السيل التركي" ومشروع المحطة الكهرونووية الذي سيكلف توظيف حوالى 20 مليار يورو، وقد وافقت الشركات التركية على المساهمة بنسبة 35 ـ 40% من التوظيفات. وفي الوقت ذاته صرح الكسي ميلر رئيس شركة "غازبروم" الروسية، التي تتولى تنفيذ مشروع "السيل التركي"، ان الشركة تلقت فورا التصاريح التركية الضرورية للشروع في العمل. وليس الاتفاق الروسي ـ التركي اعجوبة. وهو ليس موجها ضد اي طرف ثالث. ومن السذاجة، اتهام اي من القيادتين الروسية او التركية بالجبن والخنوع والانتهازية. الا انه يمكن "اتهامهما" معا بالبراغماتية، عملا بمقولة الجنرال ديغول. وبهذا الصدد نلاحظ ما يلي: 1 ـ يوجد في روسيا تيار متشدد، يطالب بتصفية الحساب مرة والى الابد مع تركيا، تحت شعار مكافحة الارهاب الاسلاموي العالمي، الذي هو شعار مقبول عالميا. وطالما ان الكفة العسكرية، لا سيما الصاروخية ـ النووية، تميل لصالح روسيا تماما، ولن تجرؤ لا اميركا ولا الناتو على رفع اصبع بوجه روسيا، التي لا تسعى الى احتلال واستغلال اي بلد، وهي مستعدة للحرب النووية حتى كبسة الزر الاخيرة تحت شعار "يمكن ان يفنى العالم كله، ولكن روسيا ستبقى!" 2 ـ وفي الوقت ذاته يوجد في روسيا تيار اخر، هو التيار الاوراسي، الذي يعتبر الرئيس بوتين من اشد انصاره، والذي يقول بأن الحضارات والاديان السماوية جميعا ولدت في اسيا واوروبا وامتدادهما افريقيا، وروسيا هي اكبر دولة اوراسية، وهي "ام الصبي"، واذا كانت روسيا تقف بوجه سياسة الهيمنة الاميركية الآتية من وراء المحيط، فليس لاجل تدمير العالم بل لاجل ولادة جديدة له وحل جميع المعضلات التي خلفها الماضي بالتفاهم والتعاون بين جميع الشعوب والاديان الاوراسية والافريقية. وروسيا تعتبر نفسها دولة ارثوذوكسية ـ اسلامية، ويقع على عاتقها مهمة التقريب بين الشعوب المسيحية والشعوب الاسلامية كأساس للتقارب والتعاون بين جميع الشعوب. والتلاقي الروسي ـ الايراني هو نموذج تريد روسيا ان تطبقه مع تركيا والسعودية ومصر وغيرها من الدول العربية والاسلامية ايا كان مذهبها. وهذا لا يعني ان روسيا تتخلى عن دعم القضايا العادلة للشعوب والاتنيات التي اضطهدت تاريخيا او راهنا من قبل العثمانيين والاتراك. ولكنه يعني ان روسيا ستستخدم نفوذها لدى تركيا ومختلف الاطراف لحل الخلافات التاريخية والراهنة بالطرق السلمية والتفاهم والتعاون حينما يمكن ذلك. 3 ـ وفي تركيا ايضا يوجد تيار عثماني عفن، يريد استخدام تركيا كحارس لمضائق البوسفور والدردنيل، ضد روسيا، وكقاعدة غربية، عسكرية وسياسية ودينية ارهابية، ضد روسيا والاكراد والارمن واليونانيين والعرب. ـ4ـ ولكنه يوجد ايضا تيار تنويري وتوحيدي، اسلامي وعلماني، يريد تحويل تركيا الى بوتقة حضارية حقيقية. وقد اثبتت تجربة قرن كامل منذ سقوط الامبراطورية العثمانية حتى اليوم، ان وضع تركيا بخدمة الغرب الاستعماري والانضمام الى حلف الناتو ومعاداة روسيا ليس هو الطريق الصحيح. وان جسر العبور الى الحضارة والحداثة والتقدم لتركيا ولجميع شعوب الشرق هو في الانفتاح والتعاون مع روسيا، التي اثبتت تاريخيا، كما تثبت اليوم، انها ـ كشعب ـ هي صديقة حقيقية لجميع شعوب العالم. وحتى في عهد القيصرية الروسية الرجعية، اثبتت روسيا انها لم تدخل بلدا الا ودفعته خطوات الى الامام. فهل ستستفيد تركيا من هذه الفرصة التاريخية لحجز مكان حقيقي لها في قطار الحضارة العالمية؟! ـــــــــــــــــــــــــــــــــ *كاتب لبناني مستقل
#جورج_حداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طبعة روسية جديدة لسباق التسلح الكلاسيكي
-
مناقشة حول ثورة اكتوبر والستالينية
-
توجه جديد في الجيوستراتيجيا الروسية
-
المتوسط يتحول الى -بحيرة روسية-
-
انتصار نهج بوتين في الانتخابات البرلمانية الروسية
-
الدبلوماسية الاميركية تتدهور امام الدبلوماسية الروسية
-
مفهومان لاهوتي واجتماعي للمسيحية
-
سباق التسلح مع اميركا قضية وطنية عامة لروسيا
-
التحالف الستراتيجي الروسي الإيراني... في العمل!
-
تركيا لن تعرف الاستقرار بعد اليوم
-
الفاشية التركية الى مزبلة التاريخ
-
اميركا ستخسر في كازاخستان أيضا
-
روسيا تحاصر اميركا نوويا وتحقق التفوق العسكري في الحروب الاق
...
-
ناغورني كارباخ: مشروع حرب داعشية جديدة لالهاء روسيا
-
روسيا السلافية الاورثوذوكسية تقلب الجيوستراتيجيا العالمية
-
ازمة مالية جديدة تدق أبواب اميركا
-
الداعشية العثمانية ستسحق كما سحقت النازية
-
العلاقات الروسية التركية على خلفية الصراع في سوريا
-
روسيا ضمانة لعدم تدمير العالم العربي والاسلامي
-
السعودية تغرق في الازمات ولن ينقذها الا روسيا
المزيد.....
-
اتفاق الهدنة بلبنان.. مؤلفة كتاب -أرض حزب الله- تبرز 3 أمور
...
-
هدوء -غير عادي- ومخاوف من تهديد حزب الله.. كيف يبدو الوضع شم
...
-
ريابكوف: على روسيا أن تعيد الأمريكيين إلى رشدهم
-
ترامب يقول إنه اتفق مع رئيسة المكسيك على وقف الهجرة والأخيرة
...
-
الجيش الإسرائيلي في بيان عاجل: يحظر عودة سكان 10 قرى جنوب لب
...
-
مستشار السيسي يحذر من ظهور فيروسات جديدة
-
ماسك يتهم موظفا سابقا في البيت الأبيض بالخيانة بسبب علاقاته
...
-
مرشحون في إدارة ترامب يتعرضون لتهديدات بالقنابل
-
صحفية: إدارة -سي بي إس- رفضت إجراء مقابلة مع ماسك دون تحرير
...
-
عوامل بيئية تزيد من خطر الإصابة بـ-كوفيد طويل الأمد-
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|