عابد الأسود
الحوار المتمدن-العدد: 1415 - 2005 / 12 / 30 - 10:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
منذ مدة ليست بالقصيرة اتخذت حركة التحرير الإسلامية "حماس" قراراً تاريخياً بالمشاركة في الانتخابات التشريعية, ومن ثم نحو اندماج كامل في منظمة التحرير الفلسطينية, الواجهة السياسية للنضال السياسي الفلسطيني. حتى بدأت حركة فتح تخشى على الزعامة التاريخية التي حققتها و ثابرت على الحفاظ عليها في الأراضي المحتلة .
و كما عهدناه ما زال حزب الله اللبناني يلعب دوراً مفصلياً في الحياة السياسية اللبنانية , في أوقات السلم والحرب على حد سواء , بل يجب أن نشهد للحزب بحنكته السياسية خصوصاً عند التعامل مع المتغيرات الدولية التي تتلاحق بشكل ملفت والتي كانت قد تتوجت بالقرار الأممي 1559 , بل إن الحزب بدل أن يهرب من الواجهة الديبلوماسية كان قد ارتأى أن يشارك في حكومة السنيورة , لا بل و اشترط أن يكون مقعد الخارجية من نصيبه , الأمر الذي يدل عن جدية الحزب في انخراطه في اللعبة السياسية .
كذا نجد انخراط الأخوان المسلمين في مصر في اللعبة السياسية المطالبة بالإصلاحات السياسية , ونجاحهم غير المسبوق في الانتخابات النيابية , على الرغم من عمليات التزوير والبلطجة التي أصابت مرشحيهم وناخبيهم على حد سواء , حتى بات الأخوان قوة سياسية –لا شعبية فحسب- لا يستهان بها في الميزان العربي.
و بعيداً عن المناقشات والمداولات التي تهم النخبة الفكرية, وبغض النظر عن صحة النظريات السياسية الإسلامية في نظر هؤلاء , فإن الحركة السياسية الإسلامية أمست واقعاً, لا يمكن لعاقل أن يتعامى عنه وعن آثاره المتزايدة في المجتمعات العربية.
أمست الحركات والأحزاب الإسلامية فاعلاً حقيقياً على الساحة السياسية , لذا بات لزاماً دمقرطتها , ومن ثم إدخالها في اللعبة السياسية الحقيقية , على أن ترضخ هي لشروط الديمقراطية , و يسلًم الآخرون بوجودها كونها أحد المكونين الأساسيين للشارع العربي .
ببساطة ... لا بديل عن هذا السيناريو إلا المجازر الإرهابية كالتي كانت في سوريا , مصر و الجزائر ....
عفواً .. أنا هنا لا أدعي على الإطلاق اقتران الإسلاميين بالعنف لا من قريب ولا من بعيد , بل أتكلم عن أي فكر يمتلك زاداً شارعياً كبيراً في ظل استبداد خانق .
في هذا السياق فقط , لا نريد من المنظرين أن يحكموا على الحركات الإسلامية , أو أن يقرروا مشروعيتها أو عدمه , فالشعب وحده هو من يقرر المشروعية ... وإلا فما هي الديمقراطية.
لكن المطلوب منا جميعاً أن نعمل مع هذه الحركة التي تشكل وسوف تشكل مكوناً أساسياً من مكونات الساحة السياسية العربية والإسلامية بصورة جدية , هذا إذا كنا نبحث بشكل جدي عن وحدة وطنية جامعة , لا عن مزايدات سياسية فارغة.
مطلوب منا أن نقبل بتلك القوى على أن تقبل هي بتعريض أطروحاتها التراثية للنقد والمحاكمة العقلية , لا أن تفرضها كواجبات دينية بل كمقدسات دستورية , كونها الناطقة الوحيدة باسم الله . بمعنى آخر أن تكون حركات سياسية بكل ما تعنيه الكلمة من معان , تؤمن تماماً بأن الله للكل , وليس حكراً على من يدعون القرب منه.
في هذه الحالة , ليس من مانع – في رأيي - من نشوء حركة إسلامية ديمقراطية كاملة, تعكس هموم قطاع كبير من الرأي العام العربي الحريص على القيم الدينية , و المتمسك بها , وتعمل مع الحركات الاجتماعية والسياسية الأخرى على أسس ديمقراطية في التوصل إلى الحلول المطلوبة لإقامة نظام مجتمعي يضمن الحرية والتنمية و المساواة والعدالة لجميع المواطنين .
هنا أجد نفسي مضطراً للتنبيه إلى أن هذا النظام ينبغي أن يمثل الهدف الذي تسعى وراءه جميع القوى السياسية في عالمنا العربي, أقول هذا لأنني أرى أن الهم الأول والأخير عند هذه القوى – والاسلاميون منهم على أية حال - يكمن في ترسيخ نظرياتها والاستماتة في الدفاع عن شرعيتها , بدل التفاعل الحقيقي مع سائر مكونات المجتمع في سبيل المصلحة الجمعية.
هكذا ترى انشغال الحركات الاحيائية في الدفاع عن فكرتها بمعنى إحياء التراث التاريخي العريق , بدل العمل السياسي نحو المصلحة الجمعية انطلاقاً من دوافع ومبررات دينية موجودة بل ومتجذرة في مصادر التشريع الإسلامي , هنا وجب التنويه إلى أن هذه الإشكالية ليست محصورة في الإسلاميين بل في كثير من القوى السياسية الحاكمة منها والمعارضة.
أعتقد أن هذا بالضبط ما يفسر الفشل السياسي للحركة السياسية الإسلامية في العالم العربي خلال العقود الماضية , التي شهدت نجاحات مذهلة للحركات السياسية الإسلامية في البلدان غير العربية كتركيا , ماليزيا , اندونيسيا ....أعني هنا بالفشل عدم تحقيق أي من الأهداف على أرض الواقع ,على الرغم من الشعبية الكبيرة والمتزايدة التي يمتلكها الإسلاميون في عالمنا العربي.
ما أريد أن أعنيه هو أن المسؤولية في هذا الفشل ليست دائماً معلّقة على الحكومات , كما ينظر الإسلاميون , وليست معلقة على الإسلاميين , كما يدعي متطرفو العلمانية . إنما هي مسؤولية مشتركة في ظل مناخ غير ديمقراطي , بل ومعاد للديمقراطية , ولو كثقافة!!!.
من الناحية الفكرية فالإسلاميين لا ينكرون أن القرآن الكريم , وهو مصدر التشريع الأول لا يحوي نظاماً صريحاً للحكم, ولا يمكن له أن يحوي ذلك النظام , إذ أنه لو احتوى على نظرية سياسية بحذافيرها لما أمكن له أن يخلد كل هذه القرون , ولانتفى كونه صالح لكل زمان ومكان .
فإذا كان القرآن لا يحوي نظاماً سياسياً فهل من الممكن أن نستنبط نظرية سياسية من القرآن و السنة, بما يحويان معاً من توجيه قيمي أخلاقي عام.
والجواب .. طبعاً , إن ذلك ممكن , شرط أن تقبل الحركات الإسلامية بأن ما نستنتجه من ذلك الاستنباط ليس نظرية دينية إسلامية , وإنما هو اجتهاد بشري عقلي نقوم به نحن البشر على ضوء معطيات عصرنا وهواجسنا ومصالحنا السياسية والاجتماعية.
هذا بالفعل ما حصل عندما صاغ المجتهدون المسلمون نظرياتهم في النظام السياسي في العصور الماضية, علماً بأنهم لم يضفوا على نظرياتهم القداسة الدينية , فكما أن النظرية الأوتوقراطية لم تكن ضرورة دينية , ولا نابعةً من وحي القرآن وتعاليمه , فإن النظريات الجديدة المستنبطة أو التي يمكن أن تستنبط من نصوص الإسلام حول نظام الحكم والدولة ليست , ولا ينبغي أن ينظر إليها بوصفها تجسيداً لكل هذه التعاليم .
لقد نظر المشرعون في العصور الماضية إلى النظريات السياسية على أنها "فقه" بمعنى فهمهم للدين في إطار المجتمع الذي عايشوه ... هنا أحترم كل هذا التراث الفقهي الكبير الذي قام هؤلاء بكتابته , لكنه يشكل عندي حافزاً نحو فعل نفس الشيء بدلاً من إتباعه بالمطلق ومحاولة إحيائه مهما كانت النتائج ...
لكن السؤال المطروح بقوة هو : هل تنسجم التعاليم الدينية الإسلامية مع فكرة النظام الديمقراطي ونموذجه ,أم أن هناك في مضمون هذه الفكرة ما يهدد الإسلام أو يسيء إلى مبادئه .
والجواب : هو أنه لا يوجد في الديمقراطية ما يجعلها مهددة للإسلام أكثر مما وجد من قبل الأوتوقراطية والحكم الفردي , نعم ... هناك من يقول أن الحكم السلطاني القديم كان يضمن على الأقل , وبسبب السلطة الاستثنائية التي يتمتع بها الحاكم , أن تصان حقوق المسلمين سواء ما تعلق منها بتطبيق الشريعة , أو ما ارتبط بالدفاع عن الدين , في حين أن الديمقراطية بما تنص عليه من حريات عقائدية وسياسية يمكن أن تتيح لأي فرد أن يعتدي فكرياً على (حرمات) الدين من دون عقاب .
والواقع أن احتمال تجاوز الأفراد للأحكام الدينية وارد في ظل كل النظم , لكن النظام الديمقراطي يغطي هذا التجاوز تحت قاعدة الحرية الفكرية والشخصية, الأمر الذي يجعله – في رأيي - أكثر تلقائية .
و لكن .... إذا كان خطر نظام الحرية الفكرية يزيد من احتمالات تجاوز الأفراد للأوامر الدينية فهو يفتح باب النقاش طويلاً حول مبررات هذه الأوامر (عالم الشهادة) , هكذا تصبح العبادات حاجات دينية ومجتمعية ,الأمر الذي يقره الإسلاميون وخصوصاً منهم التنويريون.
ثم ماذا إذا كان نظام الحرية الفكرية هو نفسه ما دعا إليه الله في قوله : لا إكراه في الدين .
على كل حال, فإن خطر نظام الاستبداد الأوتوقراطي كان أكبر من خطر النظام الديمقراطي بكثير , أي تجاوز السلطان المستبد المتعسف , هو نفسه , لجميع حدود الدين واستباحته لحريات المسلمين وحقوقهم في كثير من مراحل التاريخ الإسلامي , ونمو مواقف النفاق لدى العامة على حساب الإيمان الصحيح والإخلاص الحقيقي للمقاصد الشرعية . ومع ذلك قبل المسلمون هذا النظام وتعايشوا مع أخطائه.
ببساطة ... من المطلوب من الإسلاميين أن يفكروا ببراغماتية و عملية , بعيداً عن التنظير , الذي اكتسبوه بالمناسبة جراء إقصائهم عن السياسة سواءً أرادوا ذلك أم لم يريدوه.
على الإسلاميين أن يتخلوا عن نرجسيتهم الفكرية وأن ينتقلوا من عبادة ذواتهم المتدينة إلى عبادة الله بكل ما يمثل من كمال قيمي مطلق .
على الطرف الآخر فإن كثيراً ممن يرفضون الإسلاميين إنما ينطلقون من تشكيكيهم في الدين وقدرته على المساهمة في بناء النظم السياسية والفكرية الحديثة ليتساءل : كيف يمكن للإسلام أن يكون مصدراً للتشريع لفكر ديمقراطي جديد في الوقت الذي ارتبط اسمه في العصور الماضية بتكوين الفكر والنظام السياسي الأوتوقراطي .
والجواب أن الذي يشكل الفكر السياسي في الحالتين ليس الدين من حيث هو كذلك, وإنما الناس الذين يفقهون الدين أو يعيدون فهمه على ضوء ثقافتهم وثقافة عصرهم.
فالذي أوحى بالنظريات الأوتوقراطية ليس القرآن , ولكن نوعية الثقافة والقيم التي كانت سائدة آنذاك . وهي ثقافة وقيم لصيقة بالعصر الذي عاشوه, تماماً كما أن الذي يوحي لنا بالنظريات الديمقراطية ويدفعنا إلى الكشف داخل النص القرآني نفسه عن الإشارات والآيات التي تشجع عليها هي ثقافة عصرنا...
لن تكون ديمقراطيتنا من صنع السلف, ولكن من صنع عقولنا وممارساتنا نحن , من قدرتنا على حل الصعوبات , وتجاوز العقبات التي تحول دون التقدم نحو حياة أخلاقية سياسية ( سليمة )
على النقيض مع من يريد للديمقراطية أن تنأى بنفسها عن الدين , فلا أرى مشكلة في دمقرطة الفكر السياسي الإسلامي, كجزء من النظام الديمقراطي الوطني .
بل بالعكس ... أعتقد أن هذا العمل يمكن أن يمنح المساعي القائمة لتعزيز فرص التحول الديمقراطي في البلاد العربية مشروعية إضافية مهمة تساهم في تدعيمها .
وأعتقد أننا هنا يجب التركيز على تحويل الديمقراطية إلى نقطة إجماع سياسي , بدل أن تكون محط الاختلافات والنزاعات .
الأهم في نظري أن ندرك تماماً, أياً كانت مذاهبنا الفكرية, أن النظم جميعاً, والنظام الديمقراطي بوجه الخصوص, ليست ثمرة محضة لنظرية معينة.
إن النظم هي ممارسات حية وعملية لا تنشأ تجسيداً لتنظير وحيد الاتجاه , وإنما نتيجة ظروف وتحولات وتراكمات فكرية تاريخية مادية ومعنوية , تفرض منحى التغيير في الحياة المدنية .
إن النظام الديمقراطي هو أبرز النظم التي تفعّل الديناميكية الحضارية, الأمر الذي يناقض سياسة الإقصاء, أياً كان التبرير وراء تلك السياسة.
نعم ... إذا أردنا نشوء حركات سياسية إسلامية ديمقراطية فليس من المطلوب أن نبرهن على أن الإسلام ديمقراطي بالهوية, ولكن المطلوب هو تبني برنامج ديمقراطي حقيقي مؤسس على مبررات إسلامية دينية ودنيوية, شخصياً أعتقد بوجودها .
ما يهمنا ليس تجميل الماضي والدفاع عنه إلى درجة التصميم على إحيائه, وإنما بناء المستقبل, بمعنى تحسين ظروف حياة الناس المادية , الأخلاقية والاجتماعية.
يهمنا أيضاً أن نعلم أن ما يحدث في الواقع هو ليس نتيجة (حتمية) لسيادة فكرة على المجتمع أو على غيرها من الأفكار, إنما هو نتيجة تلاقح الأفكار في إطار مجتمعي واقعي .
هنا من الممكن أن يتم التزاوج بين الفكرة والواقع الذي من الممكن أن يكون مناقضاً في بعض جوانبه لهذه الفكرة , ولمن يرى في ذلك خيالاً غير قابل للتطبيق فلينظر لحزب العمال البريطاني ذو الأصول اليسارية في مجتمع معولم وامبريالي , وللحزب المسيحي الديمقراطي في ألمانيا مع ازدياد معدلات التحلل الخلقي وتصاعد المادية هناك , بل لينظر إلى حزب العدالة والتنمية ذو الأصول الإسلامية والذي يتباهى أعضاؤه بتدينهم في مجتمع يكاد يكون السفور والتعري أحد أهم ما يميزه عن بقية المجتمعات الشرقية ...
تتعامل كل هذه الأحزاب مع الواقع دونما حرج, وأيضاً دونما خجل من نظرياتها الفكرية التي وصلت بها السلطة ...
إنها الديمقراطية .. الضمان الأوحد لتتم عملية التلاقح بين الفكرة والواقع بصورة سلمية وعلمية...
لا شك في أن نظام الدولة الديمقراطية الحديثة لا يرى في الدولة مركزاً فكرياً عقائدياً يستطيع عبره أن يجسد ذاته, وإنما هو نظام يعمل على تسيير شؤون الناس, كل الناس بما تقتضيه المصلحة الجمعية. وكل من يستطيع أن يتكيف مع هذه الحقيقة يستطيع, بل ينبغي, أن يساهم في بناء تلك النظم أياً كان موقعه فيها.
أما من لا يستطيع أن يتعايش مع الآخرين , فلا سبيل له إلا أن ينفذ من أقطار السموات والأرض!!!....
#عابد_الأسود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟