جعفر الحكيم
الحوار المتمدن-العدد: 5325 - 2016 / 10 / 26 - 12:17
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
حوارات في اللاهوت المسيحي 3
التعامل مع (الآخر) في النص المسيحي
في المقال السابق استعرضنا بعض نصوص الكتاب المقدس التي تحدد -للمؤمنين به- النظرة الى المجموعة المؤمنة وكذلك النظرة الى (الآخر) المختلف في الإيمان, وقد اتضح لنا ان النص المسيحي المقدس يقسم البشر الى فئتين:
الفئة المؤمنة بألوهية المسيح ,وتعتبر هذه الفئة هم أبناء الله وشعبه وهيكله المقدس
وفئة (الآخر) من غير المؤمنين , وتعتبرهم ابناء ابليس وأبناء اللعنة الانجاس الاثمين ..الخ
وقد وردت نصوص عديدة تحث (المؤمنين) على المحبة والرحمة والتعاون والألفة وكل الأعمال الطيبة الأخرى ,ولكن ضمن نطاق المجموعة المؤمنة حصرا !
فماذا عن الفئة الاخرى والتي لا تشارك المسيحيين في نفس الايمان؟
النص المسيحي المقدس يحدد بشكل صارم وواضح أسس التعامل مع (الآخر) منطلقا من قاعدة نصية نسبها كتبة الأناجيل إلى السيد المسيح تقول:
( مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ) لوقا 11-23
فكل الذين لا يتطابق إيمانهم تماما مع المسيحيين مصنفون (ضد) السيد المسيح(كفار) وفي جهة الشيطان!
لان من ليس (مع) المسيح فهو من اعداءه!
وأعداء المسيح -الذين لا يؤمنون بألوهيته- يكون مصيرهم اما استحقاق الذبح او الحرق!
(أما أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامـي ) لوقا 27:19
(إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجًا كَالْغُصْنِ، فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي النَّارِ، فَيَحْتَرِقُ) يوحنا 6:15
وهذا النص الأخير كان الأساس الشرعي والسند النصي الذي اعتمدته الكنيسة في تبرير حملات الإبادة والمجازر الجماعية التي تسببت في إزهاق حياة آلاف البشر حرقا وهم أحياء نتيجة اتهامهم بالهرطقة وغيرها من التهم الجائرة طوال التاريخ الدموي للكنيسة والذي استمر لقرون طويلة ولم يتوقف الا بعد عصر الأنوار وانتصار الثورة الفرنسية ,بعد أن حبست العلمانية رجال الدين المسيحي داخل أسوار الكنيسة,لينطلق متحررا بعد ذلك العقل والضمير الإنساني في العالم الغربي.
وبالإضافة لعقوبة التحريق البشعة كجزاء لغير المؤمنين في الدنيا,كذلك سيكون مصيرهم الأخروي الهلاك الأبدي بعد أن يسحق الرب يسوع تحت قدميه كل أعدائه -الذين لم يؤمنوا بألوهيته- وكانوا (ضده) فلذلك هم في طرف الشيطان!
(قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: «اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ) سفر المزامير 110: 1
لقد حدد الإنجيل بنصوص منسوبة للسيد المسيح لكل مسيحي مؤمن (أن إيمانه ومحبته واتباعه للرب يسوع لن يكون صادقا ولا مقبولا ما لم يكن متزامنا مع (كراهية) الآخرين !, ولو كانوا أقرب الأقربين كالوالدين او الزوجة!)
(إِنْ جَاءَ إِلَيَّ أَحَدٌ، وَلَمْ يُبْغِضْ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَزَوْجَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وأَخَوَاتِهِ، بَلْ نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ تِلْمِيذاً لِي)
لوقا 26:14
لذا فان تعاليم المحبة والتعاطف المتكررة في الأناجيل مقيدة بشرط صارم وهو ان تكون ضمن دائرة المؤمنين المسيحيين وفيما بينهم لان محبة الله فيهم ولهم فقط!
اما غير المسيحيين (العالم) ,فيجب على المسيحي ان لا يحبهم لان محبة غير المؤمن بألوهية يسوع هي عداوة لله!!
( أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْعَالَمِ عَدَاوَةٌ للهِ؟ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِلْعَالَمِ، فَقَدْ صَارَ عَدُوًّا لله) يعقوب 4:4
(لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب) 1يو15:2
المعتقد الإيماني المسيحي قائم على اساس ان كل من لا يقبل ألوهية المسيح ونظرية الصلب والفداء فهو عدو للمسيح وبالنتيجة هو مبغض للرب ويجب على المؤمنين ان يبغضوه !
وبذلك انقلبت الكراهية والتحريض عليها الى (دين) في المفهوم النصي المسيحي , لأنها (كراهية مقدسة) من أجل الرب!
(إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم
لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته. ولكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم)
يوحنا 15
هذه الكراهية المصحوبة بالعنف اللفظي حاول كتبة الأناجيل نسبتها للسيد المسيح فوضعوا على لسانه في انجيل متى اصحاح 23 (كوكتيل) من الشتائم والألفاظ الغير لائقة, واعتبرها شراح الأناجيل نوعا من (الغضب المقدس!)
انظر انجيل متى 14: 36-14
اما بخصوص معاملة الذين لا يتطابقون مع الايمان المسيحي بشكل تام ,فبالاضافة الى الدعوة الى بغضهم كما رأينا في النص المتقدم , نجد نصوصا تحدد التعامل معهم على اساس انهم (نجس) وان يحاول المسيحي المؤمن عزل نفسه والابتعاد عنهم كشرط لقبول الرب له!
(فانكم انتم هيكل الله الحي لذلك اخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب ولا تمسوا نجسا فاقبلكم) بولس 2 لكورنثوس
المؤمن المسيحي -حسب نصوص الانجيل- عليه ان يرفض استقبال غير المسيحي في بيته وعليه ان لا يتعامل معه وان يتجنب حتى إلقاء (السلام) عليه, لكي لايعتبر مشتركا معه في الشر!
(ان كان احد يأتيكم ولا يجيء بهذا التعليم فلا تقبلوه في البيت و لا تقولوا له سلام لأن من يسلم عليه يشترك في اعماله الشريرة) رسالة يوحنا 2
ومن تتيع النصوص الانجيلية نجد انها تحرص على ان تعزز في نفوس أتباعها حالة (الاستعلاء الإيماني) من خلال الإيحاء له بتفرده (الطهراني) عن غير المؤمنين بألوهية يسوع, ولذلك يجب عليه عدم الاختلاط بهم والتشارك معهم ونبذهم!
(لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟) كورنثوس الثانية 14:6
ان شرط قبول الانسان في مملكة المحبة والنعمة المسيحية, حيث يتنعم باستحقاق محبة المسيحيين ومحبة الرب يسوع هو ان يتطابق معهم في الإيمان وأن يقر لهم بصوابية عقيدتهم وأن يتبعها ,وإلا فهو لا يستحق من المؤمنين المسيحيين اي محبة او مودة ولا حتى القاء التحية والسلام , لان حتى غبار مدينته دنس يجب ان لا يلتصق بالمؤمنين الطاهرين الانقياء!
(وَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي الطَّرِيقِ وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا:
حَتَّى الْغُبَارَ الَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ) لوقا 10 4-9
وقد يجادل البعض ان هناك في النص المسيحي المقدس عبارات وتوصيات بمحبة الأعداء والإحسان لهم من قبيل (احبوا اعداءكم,باركوا لاعنيكم) ومثل( ان جاع عدوك فاطعمه, وان عطش فاسقه) وغيرها من الوصايا
وعند مقايستنا لهذه النصوص الجميلة مع النصوص التي أوردنا بعضا منها والتي تحث على العكس يبرز لنا التناقض الفاضح, لكن الذي يزيل الحيرة من هذا التناقض هو معرفة ان هذه النصوص الرائعة التي تحث على البعد الإنساني ليست وليدة الفكر والاعتقاد المسيحي وإنما هي ثقافة اجتماعية كانت منتشرة في ارجاء الامبراطورية الرومانية والتي من ضمنها منطقة فلسطين القديمة, هذه الثقافة كانت معروفة باسم (الفلسفة الكلبية) وكانت رائجة قبل مجيء السيد المسيح بحوالي القرنين, وكانت السلطة الرومانية تحرص على نشر ثقافة الفلاسفة الكلبيين لكي تخمد في نفوس الشعوب أي نوازع للمقاومة والتمرد وتشجع الشعوب التي تحتلها على الموادعة والمسالمة.
ومن تتبع تصرفات (يسوع الإنجيلي) نجده لم يلتزم بهذه التعليمات المنسوبة إليه,ففي(متى 23) نراه يواجه خصومه بعنف وعدوانية لفظية شرسة, ولم يبارك احدا من أعدائه, بل على العكس توعدهم بالويل والثبور, ولم تسلم من لعناته حتى (شجرة التين المسكينة) التي لا ذنب لها الا أنه لم يجد فيها ثمرا ليأكله!
وللمزيد حول هذا الموضوع أنصح القراء بالرجوع إلى المقال الماتع للباحث(حسن محسن رمضان) والموسوم (في كلبية يسوع) وسوف يجد القارئ بحث تاريخي مفصل مع الاستشهادات بالنصوص التي قام كتبة الأناجيل بسرقتها من الفلاسفة الكلبيين ونسبتها الى الاناجيل, والغرض من ذلك واضح ومفهوم, لأن المؤسسين الأوائل للديانة المسيحية كانوا يحرصون على استثمار كل الأساليب التي تجلب للديانة الجديدة المزيد من الأنصار, وهذه من مميزات الديانة المسيحية حيث نجدها تتصف باستراتيجية( التكيف مع متطلبات المرحلة!)
لذلك نجد المكرزين يستخدمون النصوص المناسبة في الوقت والمكان المناسب ويطمطمون على النصوص الاخرى التي لاتتناسب مع المرحلة التي يعيشون فيها!
وهذا الأسلوب التكتيكي في الدعاية الإيمانية قديم وناجع منذ زمن بولس(شاؤول) الذي وضع أسس هذا المنهج (المتلون) في النشاط التبشيري لجلب أكبر عدد من الأتباع الجدد
( فصرت لليهود كيهودي لاربح اليهود وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لاربح الذين تحت الناموس
وللذين بلا ناموس كاني بلا ناموس مع اني لست بلا ناموس لله بل تحت ناموس للمسيح لاربح الذين بلا ناموس)
رسالة بولس الاولى لاهل كورنثوس 9: 20-21
بل إننا نجد (شاؤول) يتساءل متعجبا من استهجان البعض للكذب إذا كان في مصلحة خدمة الرب!!
(فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ صِدْقُ اللهِ قَدِ ازْدَادَ بِكَذِبِي لِمَجْدِهِ، فَلِمَاذَا أُدَانُ أَنَا بَعْدُ كَخَاطِئٍ؟) رسالة بولس لأهل رومية 3: 7
ومن هذا كله, يتضح ان التكتيك الدعائي للايمان يقوم على استخدام (الخطاب) التبشيري الذي يتلون حسب متطلبات المرحلة وثقافة وطبيعة المجتمع المستهدف بالخطاب ,مع الحفاظ على ثوابت الإيمان التي تقوم على الكراهية المقدسة والغضب المقدس ...و(الكذب المقدس!)
د.جعفر الحكيم
#جعفر_الحكيم (هاشتاغ)