|
المهاجر الكردية الأولى
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1415 - 2005 / 12 / 30 - 09:11
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
1 _ التاريخ والأسطورة :
ثمة أسطورة طريفة في أصل الأكراد ، تقول أن الملك سليمان الحكيم بعث عفاريت من الجن إلى أوروبة كي يجلبوا له خمسمائة فتاة من حسانها ، فلما أنجز هؤلاء مهمتهم وآبوا إلى مليكهم ، وجدوه قد إرتحل إلى سماء ذاخرة بالحسان المخلدات ، فاحتفظوا بنسوته الأرضيات لأنفسهم ، ومن نسلهم المختلط كان الأكراد (1) . كان من شيوع هذه الحكاية الخرافية ، لدى جيراننا ، أنّها قبلت كحقيقة راسخة ؛ حتى أن " مينورسكي " ، المؤرخ المعروف ، ينوّه بها : " وليس من العبث عندما نرى الفرس والأتراك وهم يعيدون المثل العربي " أنّ الأكراد طائفة من الجن " . (2) ولكن لهذه القصة مغزاها ، أيضاً ؛ لجهة التأكيد على عامليْن مهميْن ، وهما الهجرة والتفاعل ، أسهما في تشكيل العنصر الكرديّ . مع التشديد بأن الأمر غير مقتصر على " أولاد الجن " حسب ، بل يشمل ، إلى هذا الحد أو ذاك ، كافة الشعوب المعروفة . ولا أدل على ذلك من الإنتشار العربي _ السامي ، قبل الإسلام ، والمعتمد على أسطورة لا تقل طرافة ، عن الكاهنة " طريفة " ، التي تنبأت بأن فأراً سيسبب سيل العرم وتشتت العرب وإنسياح بعضهم إلى بلاد الشام والرافدين . وفي رواية للمسعودي ، المؤرخ المولّع بالخرافات ، أن الخليفة العباسي ، السفاح ، سأل خالد بن صفوان عن رأيه بالقحطانيين ، فأجابه : " غرقتهم فأرة ، وملكتهم إمرأة ، ودلّ عليهم هدهد " (3) . الفأرة عرفناها ؛ والمرأة هي بلقيس ملكة سبأ ؛ أما الهدهد طائر الملك الحكيم سليمان ، فيلفتنا إلى ورود ذكر مليكه في إسطورتيْن تخصان العرب والكرد ، لدرجة أن المدونين المسلمين إتفقوا على " حقيقة " المنبت الواحد لهذين القوميْن . وفي ذلك ، يقول الشاعر العربي : لعمرك ما الأكراد أبناء فارس ، ولكنهم أبناء كرد بن عامر لنرجع الأسطورتيْن إلى ذمة صاحبهما ( المسعودي ) ، ونرَ ما إذا أجمع مؤرخو زمننا على أصل الأكراد وجغرافيّة موطنهم . الحقّ ، أن البحث العلمي ما عاد ليقبل أن تبقى أمة يفوق تعدادها الأربعين مليوناً " مجهولة الهوية " ، ونحن على أبواب القرن الواحد والعشرين ؛ أمة من أقدم أمم العالم ، ممن إستوطن أسلافها بإستمرار المنطقة الجبلية ، المعقدة التضاريس ، والمشكلة حدود " الهلال الخصيب " ، الشمالية . إستناداً إلى الأبحاث الإركيولوجية والإنتربولوجية ، فعلماء التاريخ تم لهم الإستنتاج الإفتراضي ، بأن العنصر الكردي إنبثق ، بدرجة أساسية ، من مجموعة الشعوب الجبلية القديمة التي توطنت في البقعة الشاسعة ، الشرق أوسطية ؛ أين تسمى الآن كياناتها الحديثة بدول تركية وإيران والعراق وأرمينية ؛ هذا العنصر المسهم بحضاراتها المتنوعة ، ومنذ فجر التاريخ ؛ التاريخ الذي هو من الغنى ، أن دراستنا هذه لا تستطيع الإحاطة به ، مع أنها لن تهمل شأنه . لم يختلف العلماء ، في واقع الحال ، بإنتماء الأكراد " عرقياً " لأولئك المهاجرين الشماليين ( النورديين ) ، المنساحين إلى منطقتنا الشرق أوسطية ، منذ الألف الثانية قبل الميلاد ؛ أيْ الهندو اوربيين ، المظللة شجرة لغاتهم ، الوارفة ، البقعة الجغرافية المحصورة بين براري الهند شرقاً وشواطيء الميط الأطلسي غربا . أما معضلة الموطن الأول ، الأصلي ، لتلك الشعوب ، فليس بذي أهمية ، طالما الأمر ما فتيء إحتمالات شتى . المهم في هذه الإرتجاعة ما قبل الميلادية ، أن الفرع الكردي من هذه السلالة العتيدة ، قد مدّ جذوراً راسخة ، عنيدة ، في تربة المنطقة . وما دمنا نتكلم عن الشجرة ، فلنقل أن " تطعيماً " عرقياً _ لغوياً ، تمّ بين السلالات الجبلية المسماة بالغوتية والكاشية والهورية ، وبين جيرانهم أهل السهول كالسومريين والآراميين . لقد كان من ثمار هذا التفاعل قيام دولتيْن كبيرتيْن في أراضي الكرد ، التاريخية ، هما إمبراطورية ميتاني ( منتصف القرن 15 ق م ) ، وإمبراطورية ميديا ( القرن السادس ق م ) . وإستمرت المدونات القديمة تسم الكرد بالميديين ، حتى القرون الأولى للميلاد ، حينما إنتشر إسمهم المستعار من لدن المؤرخ الإغريقي كسينوفون ؛ الذي خبّر في تذكرته التاريخية عن قوم جبليّ ، بإسم " كاردوخ " ، إتصف بالمراس والجسارة وكبّد ابناء قومه ، الغزاة ، خسائر فادحة ، في حملتهم عبر ميديا القديمة . على أن إكتشاف ألواح جديدة ، في عصرنا الحاضر ، بيّن أن كلاً من الأرمن والآشوريين ، كانوا يعرفون جيرانهم اللدودين بإسم " كاردوئي " ؛ إيْ قبل زمن كسينوفون بعدة قرون (4). غوتي ، هوري ، ميدي ، كاردو ؛ هي تشكيلة الأسماء المفترض ، بعرْف علماءنا ، أنها إشتقاقات إسم " كرد " . هذا ، دون إغفال أن البعض من عرب المسعودي ، ما زال يتبنى هذا الإسم المهول " كرد بن مرد بن عامر بن صعصعة " ؛ فيما الأتراك ، لخفة في دمهم ، يردون ذاك النسب بتأكيدهم ، أن إسم " كرد " ، اليتيم ، قد تنوّع من إسم " ترك " ..
2 _ الأكراد في البلاد الشامية :
مع الفتح الإسلامي لكردستان ( أو إقليم الجبل ) ، دخل قومنا الكاردوخ مرحلة جديدة ، مختلفة ، أثرت جذرياً ، وإن تدريجياً ، في كيانهم وعقائدهم . الأرجح أن الأكراد وهم " اولي البأس الشديد " _ بحسب تفسير البعض لآية قرآنية يتيمة (5) . خضعوا شكلياً للحكم الجديد ، وربما بشكل مغاير للشعوب الاخرى المجاورة. بيد أنهم سرعان ما وجدوا أنفسهم وقد إنساقوا خلف الصراع المتمخض عن التنافس التقليدي ، القبلي ، بين آل هاشم وبني أمية ؛ صراعٌ دمويّ ، خاضوه ضد هؤلاء الأخيرين ، بإنتساب الكثير منهم إلى فرق العلويين والخوارج ، وخاصة فترة حكم الحجاج للعراق (6) . ثم هدأوا نوعاً مع العهد العباسيّ ، في طوره الثاني خصوصاً ، متسنياً لهم أيضاً إنشاء حكومات مستقلة ؛ كالدولة المروانية ( الدوستكية ) ، التي قامت على الحدود الشمالية لبلاد الشام ، في الفترة السابقة لظهور نجمهم الأشهر ، صلاح الدين . نأتي الآن إلى المرحلة التاريخية ، الفاصلة ، المنطلق منها مبحثنا . ذلك أن القرن الحادي عشر للميلاد ، الصاخب ، شكّل " العتلة " الثانية لهجرة أحفاد الكاردوخ ؛ والمنطلقة من كردستان ، هذه المرة . فبعد ما يقارب الثلاثة آلاف عام على الهجرة الاولى ، الآرية ، للعنصر الكرديّ ، إلى أعالي الهلال الخصيب ، هاهو في إنطلاقته الكاسحة ، جنوباً ، في توسع طاريء وبعد " سبات " ، مديد ، إستغرقه منذ إنقراض دولة ميديا . وفي هذا الصدد ، يكتب الباحث سبانو : " سكنت المناطق الجبلية الواقعة في أعالي الجزيرة ، شمال وشمال شرقي الموصل ، أعداد كبيرة من القبائل الكردية ، التي كانت مجموعات منها تهاجر لتقطن بلدان الجزيرة وتستوطن بها مندمجة مع سكانها . وقد إستطاع أحد قادة جماعة الأكراد ، وهو " باذ " ، تأسيس دولة في ميافارقين وديار بكر ، في الجزيرة ، عرفت بإسم الدولة المروانية ( 983 _ 1085 ) . وفي القرن الحادي عشر ، هاجرت قبائل التركمان من منطقة ما وراء جيحون ، إلى خراسان والعراق والجزيرة وآسيا الصغرى والشام ، مما دفع أمامهم كميات من الأكراد نحو تلك الدويلات ، منخرطين في جيوشها ، وبالتالي سمح بتغلغلهم فيها ممهداً السبيل أمامهم لوراثة التركمان والحلول محلهم ". (7) وإذا ضربنا صفحاً عما تضمنته رواية باحثنا من مغالطات ، بخصوص ما يسميه " الهجرة والإندماج " ؛ فالواقع أن حركة الإنسياح الكردية في بلاد الشام الداخلية والساحلية ، وخاصة المدن والقلاع المهمة ، لا علاقة لها بالوجود القومي ، الحضاري ، لهذا الشعب العريق في منطقة الجزيرة ، والعائد لفجر تاريخها . وعلى أي حال ، فإن القرن الحادي عشر الميلاديّ ، شهد طبقة عسكرية كردية ، ارستقراطية ، كانت على رأس السلطة في بعض المدن السورية ، لعل أشهرها تلك الحاكمة في حماة ؛ مؤسسها علي بن وفا الكردي ، الأمير الإقطاعي التابع لسلطة أتابكة السلجوقيين ، الدمشقية (8) . قبل ذلك ، وجدت حامية عسكرية كردية في القلعة الحاملة إسمها ، تاريخياً " حصن الأكراد " ؛ القلعة الإستراتيجية ، المشرفة على الطريق بين سورية الداخلية والساحلية . ويخبرنا الكاتب وصفي زكريا ، شيئاً عنها : " ومجيء الأكراد إلى بلاد الشام قديم ، وربما كان أول من أتى بهم عامل حمص ، شبل الدولة نصر بن مرداس سنة 424 للهجرة ، وأسكنهم في حصن الصفح ليحفظوه ويصونوا الطريق بين حمص وطرابلس ، فسمي منذ ذلك الحين " حصن الأكراد " . وقد بقوا فيه نحو قرن ونيّف إلى أن جاء تانكرد ، أمير أنطاكية ، وإستخلصه منهم سنة 530 هجرية ، فتشتتوا " . (9) لدينا ، أيضاً ، دليلٌ آخر على وجود إقطاعيلت كردية في بلاد الشام ؛ إحداها يعود بنا إلى السنوات الأولى من القرن الحادي عشر . فإن إبن تالشليل ، الأمير الكرديّ للساحل السوري ، إضطهد دناصري الحاكم بأمر الله ، من دروز وادي التيم ، اللبنانيّ ، في حملة قتل ونهب وسبي ، عاتية (10) . بعد حوالي القرن ، جاء الأمير معن مع جماعته ، ليسكن البقاع بأمر من صاحب دمشق ، طغتكين ، بهدف مضايقة الصليبيين (11) . ويرجع المعنيون نسب سلالتهم إلى بني أيوب ، ويعتبرهم بعض الباحثين أول جماعة كردية مهاجرة إلى لبنان (12) . في أيام الأيوبيين الكرد ، المتخذين لدمشق عاصمة لبلاطهم ، إنتشر بني قومهم في معظم المدن الإسلامية الشامية ، وبدرجة أقل ، في الساحل السوري ؛ الذي بقيت أهم مدنه وقلاعه بيد الإفرنجة حتى قيام الدولة المملوكية . إن أول إشارة تاريخية لدينا ، عن التواحد الكردي في ساحل بلاد الشام ، تتحدث عن إنتفاضة في كسروان ضد المماليك ، في القرن الرابع عشر ، حيث أنجد الأكراد عسكر السلطنة ضد المنتفضين . وما لبث أن توافدت أعداد من بني قومهم إلى مختلف مناطق الساحل ، مستولين على إقطاعات كبيرة فيها ، وخصوصاً في طرابلس وعكار والضنية (13) . ما من شك في أن إنتشار الكرد في مناطق الساحل السوري ( محافظة اللاذقية ، الحالية ) ، حاصلٌ لإستيلاء صلاح الدين على الحصن المهيب ، المعروف الآن بإسمه ( قلعة صلاح الدين ، في الحفة ) . وقد تعزز الإستيطان الكرديّ هناك ، في زمن المماليك والعثمانيين ، حتى أن أحفاد أولئك الكرد ، المحاربين ، ما إنفكوا إلى وقتنا الحاضر محتفظين بأنسابهم وعاداتهم ، في قرى ونواحي جبل صهيون وجسر الشغور . وفي هذا الشأن ، يقول الباحث كمال الصليبي : " ومهما قيل في أصل هؤلاء المستوطنين العرقية ، فقد كانوا جميعاً على المذهب السني ، مما أدى إلى تعزيزه في البلاد (14) . ولكن إستيطان الكرد في الساحل السوري ، لم يقتصر على السنة وحدهم ؛ فواحدة من أهم العشائر العلوية ( الرشاونة ) ، تتصل فرعاً بأصلها الكبير ؛ عشيرة ( رشوانا ) ، الكردية ، الكبيرة . (15) أما حلب ، كبرى مدن الشمال السوري ، الإسلامية ، فإن قربها من جبل الأكراد ، الواقع إلى الشمال الغربي منها ( كورداغ ) ، سهّل منذ القدم إتصال الكرد بها ، وهجرتهم إليها . لا ريب أن الوجود الكردي ، تاريخياً ، في هذه الحاضرة العريقة ، إتخذ حجماً أهم مع سيطرة صلاح الدين عليها ، وتعيينه لإبنه الملك الظاهر ، نائباً عليها . وقد حكمت سلالة بني أيوب حلبَ ، مخلفة فيها ، شأن المدن الشآمية الاخرى ، آثاراً راقية من مدارس وخانقاهات وحمامات وغيرها . جدير بالذكر ، أن فرعاً من العائلة الأيوبية ، الحلبية ، إستمر محتفظاً بنفوذه في زمن المماليك والعثمانيين . عُرف هذا الفرع بإسم " جان بولاد " ؛ إبن الأمير قاسم الكردي ، الشهير ب " إبن عربو ". كان السلطان العثماني ، سليم الأول ، قد ثبت جان بولاد هذا ، على سناجق حلب والمعرة وكلس وإعزاز وتوابعها ، مانحاً إياه لقب " أمير الأكراد" . توفي أميرنا عام 1576 ، بيد أن داره العظيمة ، التي إبتناها لنفسه داخل منطقة باب النصر ، مشهورة ما تزال ، وقبلة للسياح في حلب القديمة (16) . المصادر التاريخية تخبرنا ، أيضاً ، أن أحد أحفاد الأمير جان بولاد ، هرب من بطش الباب العالي في أوائل القرن الثامن عشر ، ملتجئاً إلى جبل لبنان ، واضعاً في تربته بذرة العائلة الدرزية العريقة ؛ الجنبلاطية (17) قلنا أن أول إمارة إقطاعية ، كردية ، في بلاد الشام ، قد وصلنا أخبارها ، كانت تحكم في مدينة حماة ، في بداية القرن الثاني عشر . وفي أواخر ذلك القرن ، أضحت المدينة مملكة مزدهرة ، ذائعة الصيت ، بفضل سلالة من بني أيوب ؛ مؤسسها الملك منصور الأول محمد بن تقي الدين عمر ، إستمرت في الحكم حتى أواسط القرن الرابع عشر . كان من ملوك هذه السلالة ، العالم والمؤرخ الأشهر ، أبو الفداء ؛ من أعطى لقبه لحماة ، ومقامه فيها من المزارات المشهودة . فضلاً عن أن عمائر الأيوبيين ، الراقية ، تذخر بها مدينة أبي الفداء ؛ وخاصة في الحيّ الذي أسسوه وسكنوا فيه ، والمعروف ب " حارة الكيلانية " (18) . كذلك حكم أولاد عمومة صلاح الدين في مدينة حمص ، قلب بلاد الشام ، وفي مدينة الرقة ، التي تعد من أقدم حواضر منطقة الجزيرة . تعود بدايات الإستيطان الكردي ، العسكري أساساً ، في جنوب بلاد الشام ، إلى فترة الحروب الصليبية . وما يهمنا هنا ، هو فلسطين وشرقي الأردن . كان تحرير البلاد المقدسة ، هو الهدف الثاني لصلاح الدين بعد تمكنه من إزالة الخلافة الفاطمية ؛ واضعاً القدس الشريف ، المحتلة من لدن الفرنجة ، نصب عينيه . ورغم حقيقة التخريب المتعمد لكل حصن صليبيّ ، كيلا يستخدم من قبلهم في حملة مجددة ؛ إلا أن سلطاننا الأيوبيّ أبقى على الكثير من القلاع الهامة ، في صفد والكرك ، كمثال ، مضيفاً إليها بصماته العمرانية المميزة ؛ وهو ما بقي تقليداً عند من خلفوه فيما بعد . وبما أن العادة جرت ، وقتئذ ، على إحلال حاميات كردية ، بشكل خاص ، في تلك القلاع المنتزعة من العدو ؛ فما أسرع أن تحولت هذه إلى مجتمعات جديدة ، ألحق بها إقطاعات مناسبة . علاوة على ذلك ، عمّر الأيوبيون قلاعاً اخرى في فلسطين وشرقي الأردن ، ما فتيء معظمها قائماً في السلط والشوبك وحصن فرعون وغيرها ؛ فضلاً عما خلفوه من مدارس ، في القدس المحررة بوجه خاص ؛ كالصلاحية والأفضلية والكاملية والمعظمية والبدرية .. حتى أن الباحث مصطفى الدباغ يؤكد ، أن فلسطين لم تعرف المدارس إلا في عهد الأيوبيين ، وأما قبل ذلك فكانت المساجد تقوم بمهمة البحث والدراسة الفقهية (19) . وفي هذا المقام ، لا بد لنا أن نكر بأنّ وزير صلاح الدين ، القاضي الفاضل ، كان عربياً فلسطينياً من عسقلان ؛ رجل البيان وأحد أعلام النثر العربي ، الذي كان من أهميته في البلاط الأيوبي ، أنّ مليكه قال عنه مخاطباً أقاربه الأمراء الأكراد : " لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم ، بل بقلم الفاضل " (20) . لا بد ، أيضاً ، من التنويه ، بأنه عُرف العديد من الأعلام الفلسطينيين ، من ذوي الأصل الكردي ، نظير الشاعر أحمد الشهرزوري ( توفي 1067 ميلادية ) ، والمحدث إبراهيم الهكاري ( توفي 1312 ) ، وأحمد بن علي الكردي ( توفي 1369 ) ، وكان والياً على صفد وأنشأ جامعاً فيها يحمل إسمه . ونذكر أخيراً ، الشاعر أبو اللطف الحصكفي ، المدرّس في المدرسة الصلاحية ، المقدسية ، ومن تولى الإفتاء في المدينة الشريفة ، قبل إنتقاله للآستانة ووفاته فيها عام 1660 . (21)
3 _ جيرون وجيرانها :
دمشق ، أو جيرون ، أو جلق ؛ بحسب أسمائها العابرة للتاريخ . إنها أكبر مدن سورية الطبيعية ، حتى أنها معروفة ب " الشام " ؛ وكأنما إسمها يختصر تلك البقعة الجغرافية ، بأسرها . إن موقعها الفريد ، قد أضفى عليها سحره الخاص ؛ سهلٌ غاية في الخصوبة ، يتخلله المياه الغزيرة ، المتدفقة من الغرب عبْر غوطة نضرة ؛ سهلٌ خِلٌ لجبل ، تحدق منه على منظر الحاضرة الأقدم ، فيخيل إليك أنك تطلّ عل فردوس الله . وفي ذلك تقول شاعرة الشام ، عائشة الباعونية : هي في الأرض جنة فتأمل ، كيف تجري من تحتها الأنهارُ كانت الشام قبلة القاصدين وبغية الطامعين ، فالأحرى أن تكون هدفاً لجيرانها الشماليين ، الكردوخيين ، من باب أولى . طريقها القديم ، الموصل حلب شرقاً بالعراق ، وشمالاً بالأناضول ؛ طريقٌ لا بد أن يمر عبر جبال وعرة ، تتوعدُ القوافل بكمائن " أولاد الجنّ " وغاراتهم . تاريخياً ، ربما يعود إتصال أقدم عواصم العالم بجيرانها الشماليين ، النهابين ، إلى أيام دولة ميتاني . إذ دخلت هذه الدولة في نزاع مع منافستها الجنوبية ، مصر ، إنتهى إلى الإتفاق فالمصاهرة الملكية ، على عادة تلك الأزمان . ومن ثم تقاسم سورية كبائنة للعروس ؛ الجزء الشمالي حتى حماة القديمة حصة للميتانيين ، وما تبقى يكون في عهدة الفراعنة (22) . هؤلاء الأخيرون إستمروا في لعبتهم مع أجدادنا . هاهم في القرن الثامن قبل الميلاد ، يحرضون أمراء الميديين على الدخول في محالفة مع أندادهم من آراميي سورية ، لمواجهة الآلة العسكرية ، الجهنمية ، للآشوريين . بيْد أن تحلفهم تشتت ، ودفعت دمشق ثمن الحلف الذي جمع لمرة ، أسلاف الكرد والسريان ! من الطرافة ، أيضاً ، أن نذكر ، بأن " دياكو " ، أول ملوك ميديا ، المعروفين ، قد نفي في شبابه إلى حماة ، بأمر من الملك الآشوري سركون ؛ كما تسجل سجلات هذا الأخير (23) . على أن نهاية آشور ، حلّت أخيراً ، بتدمير الميديين وحلفائهم الجدد ، الكلدانيين ، مدينة نينوى عام 612 ق م ؛ والذي أضحى منذئذ فاتحة التقويم الكردي . أما ما كان آنذاك من أمر مدينتنا ، فهذا ما يخبرنا عنه مؤرخها ، القساطلي أفندي : " ولما سقطت بابل بسيف كورش ، ملك مادي ، صارت دمشق تابعة له حتى سنة 331 ق م ، عندما إستولى اسكندر المقدوني على سورية ، فإنتقلت دمشق لليونانيين وبعد موته تبعت السلوقيين " . (24) في القرن السابع الميلادي ، ومع ضم بلاد الشام إلى غنائم الدولة العربية الإسلامية ، فكان لا بد من تحوّل جذريّ ، طاريء على مناحي الحياة كافة ؛ دينية وإجتماعية وسياسية وحضارية . حلّ بداة الصحراء في قصور أهل المدنية ، من البيزنطينيين ؛ الذين إنقرضت سلالتهم ، ليلحقها ، بدرجة أقلّ ، العنصر السوري الشعبيّ ، الآراميّ . وإذ تمكن الكثير من النصارى من الإفلات من البوتقة الإسلامية ، بما نالوه من إعتراف الفاتحين ك " أهل ذمة " ؛ فإنهم فقدوا ، في واقع الحال ، موقعهم الإجتماعي وصاروا مع اليهود ، مواطنين من الدرجة الثانية . من جهة اخرى ، فالكثير أيضاً من البداة العرب ، وبعد إستحواذهم للغنائم الموعودة ، أقفلوا عائدين إلى مواطنهم ، عدا قلة منهم طاب لها العيش في الصحراء السورية . أما أهل الحضر من آل أمية _ وهم أصحاب رحلة الشتاء والصيف ، بحسب القرآن _ فما أسرع توالفهم مع الحياة الشامية ، بإستلائهم على دور وقصور البيزنطيين ، الباذخة . وما هي إلا أعوام اخر ، حتى سيطر الأمويون على مقاليد الخلافة ، مبعدين آل البيت ، نهائياً ، عن السلطة . وبالرغم من أنّ أحد أهم مقامات الشيعة ، السيدة زينب ، قد إحتبتها دمشق ؛ فإنها بقيت " مدينة مارقة " ، بنظر هؤلاء ، لما لعبته من دور مذهبيّ _ سياسيّ ، زمن الخلاف مع الأمويين . بالمقابل ، أضفى أهل السنة المسلمين ، هالة من القداسة على الشام ، متبنين الكثير من الأساطير التي كانت سائدة لدى من سبقهم من أتباع الديانات الاخرى . كان جبل قاسيون ، وتحديداً منحدره المحتضن اليوم حينا الكرديّ ، موئلاً لتلك الأساطير : هاهنا مثوى آدم وحواء ، إثر نفيهما من جنة الفردوس ؛ وما فتيء دم إبنهما ، هابيل ، مرتسماً على حجارة الكهف المسمى " مغارة الدم " . يهبط الملاك من عليائه ، للتعزية بأول قتيل في الأرض ؛ فيسمَ غاراً آخر بإسمه " كهف جبريل " . وحكاية أهل الكهف ، الشهيرة ، جغرافيتها في جبلنا نفسه ، " مغارة الجوع " . كما أن مولد إبراهيم الخليل ، سيضلّ موضعه في " الرها " ، بكردستان ، ليشار إليه هناك ، في منحدر الجبل المطل على قرية " برزة " ، المجاورة . فضلاً عن إلتجاء المسيح وأمه إلى " ربوة ذات قرار معين " _ بحسب القرآن _ وتم تفسيرها على أنها تلك الضاحية الدمشقية الجميلة ، " الربوة " ، المنحدرة من قاسيون . وكان لا بد أن تكتمل أسطورة دمشق ، بقصة وطىء الرسول العربي لأرضها . فالنبيّ يستنكف دخول المدينة " لأنه لا يريد رؤية الجنة مرتيْن ! ؛ ليبقى أثر قدمه ، الشريفة ، في تلك البقعة المعروفة ب " القدم " ؛ ضاحية دمشق الجنوبية. هذه الأساطير ، المختلقة لهدف سياسيّ بيّن ، بغية تثبيت سلطة الأمويين خارج الحجاز ؛ شغف بها مختلف العناصر القومية ، المشكلة نسيج الخلافة الإسلامية . وإذ أجبر الوضع السياسي السلالة العباسية على نقل العاصمة إلى بغداد ، بفعل حرج موقعهم في الشام ، إلا أن تركمان السلاجقة والأتابكة ، المسيطرين على شؤون الدولة ، إهتموا مجدداً بدمشق ، التي إستخلصوها من يد الفاطميين ؛ لدرجة أن بلاط آل زنكي إنتقل إلى قلعتها . الواقع أنّ الأكراد ، ورثة التركمان في البلاد الشامية ، كانوا قبل ذلك على رأس إمارات مستقلة في موطنهم ، الكردستاني . ومن المفيد التنويه هنا ، بأن عدداً من المغامرين الكرد ، إقتحموا في تلك الآونة ، الحرجة ، الحياة السياسية لهذا البلاط الإسلامي وذاك . لعل أبرز هؤلاء ، كان الملك العادل سيف الدين إبن السالار ، وزير الظافر بالله ، الخليفة الفاطمي في مصر . إنتمى الملك العادل هذا لبطن من عشيرة كبيرة من الكرد ، هي الزرزارية . في شبابه ، وجد نفسه ضابطاً بخدمة ولاة الشام ، ثم إنتقل لمصر الفاطميين ، ليتسلم بعد مكائد ودسائس ، منصب الوزير الأول عام 1147 م ، متنعماً بلقب " أمير الجيوش ". غير أن المنصب كان وبالاً على حياته ، التي أخترمت إغتيالاً بعد تاريخ توزره بأربع سنوات (25) . وبعد مقتله بعقدين من الزمن ، شاء قدر الخلافة الفاطمية ، العلوية ، أن تنتهي على يد وزير آخر ؛ هو الملك الناصر صلاح الدين إلن أيوب .
هوامش ومصادر :
1 _ شرفنامة ، للأمير شرفخان بدليسي / ترجمة محمد علي عوني _ القاهرة 1958 ، ص 67 ج 1 2 _ مينورسكي ، الأكراد / ترجمة معروف خزندار _ بغداد 1968 ، ص 67 3 _ المسعودي ، مروج الذهب ومعادن الجوهر / المصحح شارل بلا _ بيروت 1979 ، و 1257 ج 7 4 _ طه باقر ، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة _ بغداد 1956 ، ص 386 ج 2 5 _ كذلك كان تفسير العلامة محمود الآلوسي ، لتلك الآية القرآنية : أنظر ، محمد أمين زكي ، خلاصة تاريخ الكرد وكردستان / ترجمة محمد علي عوني _ القاهرة 1939 ، ص 288 ج 1 6 _ المصدر نفسه ، ص 134 ج 1 7 _ أحمد غسان سبانو ، مملكة حماة الأيوبية _ دمشق 1984 ، ص 33 8 _ مجموعة باحثين ، الأكراد وكردستان / ترجمة مركز الدراسات الفلسطينية _ بيروت 1982 ، ص 310 9 _ أحمد وصفي زكريا ، جولة أثرية في بعض الأنحاء الشامية _ دمشق 1934 ، ص 331 10 _ الأكراد وكردستان ، مصدر مذكور ، ص 311 : نقلاً عن كتاب ، سورية الجنوبية لكلود كاهن _ دمشق 1940 11 _ محمد علي مكي ، لبنان من الفتح العربي إلى الفتح العثماني _ بيروت 1979 ، ص 94 12 _ أحمد محمد أحمد ، أكراد لبنان وتنظيمهم الإجتماعي والسياسي _ بيروت 1995 ، ص 42 13 _ كمال الصليبي ، تاريخ لبنان الحديث _ بيروت 1984 ، ص 18 14 _ المصدر نفسه ، ص 18 15 _ ملاحظة المحقق يوسف جميل نعيسة ، في كتاب : تاريخ حسن آغا العبد _ دمشق 1986 ، ص 145 16 _ إبن الحنبلي ، در الحبب في تاريخ أعيان حلب _ طبعة محققة في دمشق 1972 ، ص 445 17 _ لمزيد من المعلومات عن تاريخ هذه الأسرة ، راجع : محمد أمين زكي ، تاريخ الدول والإمارات الكردية في العهد الإسلامي / ترجمة محمد علي عوني _ القاهرة 1939 ، ص 380 18 _ مملكة حماة الأيوبية ، مصدر مذكور ، ص 160 19 _ مصطفى الصباغ ، موجز تاريخ الدول الإسلامية وعهودها في فلسطين _ بيروت 1981 ، ص 23 20 _ المصدر نفسه ، ص 29 21 _ محمد عمر حمادة ، أعلام فلسطين _ دمشق 1985 ، ص 28 ص 252 ج 1 22 _ مجموعة باحثين ، الموسوعة المصرية _ القاهرة بلا تاريخ ، ص 384 ج 1 23 _ ارنولد توينبي ، تاريخ البشرية / ترجمة نقولا زيادة _ بيروت 1985 ، ص 78 ج 1 24 _ نعمان قساطلي ، الروضة الغناء في دمشق الفيحاء _ بيروت 1878 ، ص 11 25 _ إبن خلكان ، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان _ طبعة محققة في بيروت ، بلا تاريخ ، ص 418 ج 3
الفصل الأول من دراسة بعنوان : ملامح اللوحة الكردية الدمشقية ))
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كي لا ينام الدم
-
سنوات النهضة الكردية: مدرسة الشام
-
المصادر الاسطورية لملحمة ياشار کمال ..جبل آ?ري
المزيد.....
-
أحمد الشرع: سنشكل حكومة شاملة وسنعلن في الأيام المقبلة عن لج
...
-
مراسم يابانية قديمة لجلب الحظ والسلامة البحرية في فوكوكا
-
القسام تؤكد مقتل قائد أركانها محمد الضيف ونائبه وعدد من أعضا
...
-
وزير الدفاع اليوناني يطلب رسميا من سفيرة فرنسا توضيحات حول ص
...
-
ترامب يعرب عن تعازيه إثر مقتل روس في تحطم طائرتين بواشنطن وي
...
-
صحيفة تكشف التقارير الأخيرة لجهاز استخبارات بشار الأسد قبل س
...
-
السفارة الروسية في واشنطن: نعرب عن تعازينا بضحايا حادثة الطا
...
-
مرتضى منصور يهدد ترامب: التراجع أو المحاكمة أمام الجنائية ال
...
-
وكالة: الشيباني يشارك في مؤتمر دولي حول سوريا في باريس
-
واشنطن تخطط لتفجير اختباري للبلوتونيوم العسكري
المزيد.....
-
الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية
/ نجم الدين فارس
-
ايزيدية شنكال-سنجار
/ ممتاز حسين سليمان خلو
-
في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية
/ عبد الحسين شعبان
-
موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية
/ سعيد العليمى
-
كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق
/ كاظم حبيب
-
التطبيع يسري في دمك
/ د. عادل سمارة
-
كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان
/ تاج السر عثمان
-
تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و
...
/ المنصور جعفر
-
محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي
...
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|