انوار طاهر
باحثة
الحوار المتمدن-العدد: 5317 - 2016 / 10 / 18 - 22:08
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الخطاب الحجاجي
من العزل المنهجي إلى الابستمولوجيا التعددية*
تأليف: شاييم بيرلمان
ترجمة: أنوار طاهر**
يعد شرط توفر النظرية التي تتأسس عليها قاعدة المصطلحات والأفكار والتصورات الخاصة بالدراسات التجريبية أو الاختبارية، واحداً من الشروط الأساسية لوفرة وإثراء البحوث المتعددة التخصصات interdisciplinaire. ودون توفر تلك النظرية، فأن كل علم سيقع عرضة لمخاطر العزلة بينه وبين العلوم الأخرى، لطالما ظلّ يزعم انه يبحث في ظواهر مستقلة ومختلفة تماماً عن تلك التي تدرسها بقية العلوم. حتى صار من الصعوبة بمكان، تحديد عناصر التماثل بين تلك الظواهر المتباينة التي هي موضوع البحث في الحقول المعرفية. فلم يعد من السهل، على سبيل المثال، توضيح الصلة بين مفهوم التنافر الإدراكي لعالم النفس الاجتماعي الأميركي فستنغر(1) من جانب، وقانون التناقض حسب تعريفه المعطى في المنطق الشكلاني؛ ومبدأ التضاد حسب تعريفه المعطى في الحجاج من جانب آخر(2).
وهذا ما صادفناه مع علم النفس الاستدلالي أيضا، عندما ظل هو الآخر متجاهلاً الإسهامات المهمة في المنطق الحديث لسنوات عديدة. والفضل الكبير يعود إلى عالم النفس السويسري جان بياجيه ومجهوده العلمي الفردي منه أو المشترك مع زملاءه من المناطقة في إعادة تفعيل العلاقة بين علم النفس والمنطق. وبالمثل، عانى علم اجتماع المعرفة كثيراً من عدم وجود نظرية في الاستدلال غير الشكلاني. لان من الواضح، أن الاستدلال الشكلاني بحكم طبيعته نفسها وحسب تحليل النظرية الحديثة في البرهان، يعد احد أنواع الاستدلال غير قابلة للتأثر بالشروط النفسية والسوسيولوجية للمعرفة. إذ أن خصائص الاستدلال الشكلاني في التجريد وثبات الصلاحية، تجعله غير قابل للفهم والصياغة إلا بحسب المصطلحات الأفلاطونية platoniciens أو الشكلانية البحتة. وهذا ما يدعونا إلى التأكيد على أن نظرية الحجاج هي النهج البحثي النقدي الذي يساعدنا في تحديد تلك المواضع الخطابية التي يمكن أن تُمارِس بوساطتها مجمل العوامل النفسية والسوسيولوجية تأثيراً كبيراً على المخاطَب لا يمكن إنكاره.
تشير نظرية الحجاج l’argumentation إلى دراسة مجمل التقنيات الخطابية التي تهدف إلى التأثير في الجمهور المخاطَب وبالشكل الذي يؤدي إلى تحقيق التوافق فيما بينهم وتعزيز روح الالتزام تجاه القضايا المطروحة لغرض الاتفاق عليها(3). وكل حجاج يفترض وجود متكلم يعرض لخطاب معين (يمكنه التواصل به كتابياً أو شفاهياً)؛ وجمهور متلقٍ لذلك الخطاب ألحجاجي (ومن الممكن أن يتماثل هنا المتلقي مع المتكلم عندما يعقد مشاورة مع النفس مثلاً)؛ ويتطلب أخيراً تحقيق حالة من التوافق مع القضية المطروحة للمداولة والنقاش أو تعزيز شدة التأييد تجاهها بواسطة ابتكار استعدادات جديدة تدفع بالمخاطَب نحو الفعل أو المباشرة فوراً في انجازه عند الاقتضاء.
أن ذلك العرض الموجز لأساسيات نظرية الحجاج يكشف لنا عدداً كبيراً من المفاهيم ذات الصلة المباشرة بعلم النفس الاستدلالي وعلم النفس الاجتماعي وحركية العلاقات الإنسانية. وقد كان لنا في مؤلفنا "مصنف الحجاج" مناسبات عديدة عملنا فيها على إدراج وبيان مختلف الدراسات النفسية المتعلقة بمنزلة ومصداقية المتكلم؛ وأثر نظام عرض الحجج. واشرنا أيضاً إلى أهمية الوسط الثقافي ودوره في تبني الحجج. وفي المساهمة المحكمة للفيلسوف ابوستل في الجزء المكرس عن نظرية الحجاج والصادر عن المركز البلجيكي لأبحاث المنطق(4)، دوّن فيها الكثير من النظريات النفسية والسوسيولوجية التي من الممكن تطبيقها على نحو مفيد في دراسة فرضيات نظرية الحجاج. وكذلك في مقالته الموسومة: "البلاغة، علم الاجتماع-النفسي والمنطق"(5) حاول تباعاً فحص الأعمال البحثية المخصصة لدراسة حركية الاتجاهات والمواقف والاعتقادات؛ ولديناميكية الجماعات ونظرية المعلومات من جهة، وقدم من جهة أخرى عدة افتراضات بشأن تطبيقاتها الممكنة في دراسة مستويات فاعلية الأنماط الحجاجية.
ولو كان الوقت متاحاً، لقمنا بفحص مختلف الجوانب المتعلقة بنظرية الحجاج والملائمة في إعداد دراسات متعددة التخصصات وبشكل أكثر تنظيما. لهذا، سنقتصر في الوقت الحاضر، على الإشارة إلى بعض ابرز تلك الجوانب.
من المعروف أن من بين شروط الحجاج الأساسية، هو أن نحافظ على رغبتنا في إقناع المتلقي الذي يستمع للخطاب؛ وفي ضرورة التثبت العقلاني/المنطقي على حد سواء، وهو ما يقتضي وجود لغة مشتركة بين المتكلم والجمهور المخاطَب. وعلينا أن نعرف جيداً، في أي وقت وتحت أي ظرف من الظروف يمكن استعمال وتفعيل تلك العناصر الحجاجية ؟ وكيف يجري التحول من حالة الأمر إلى الإقناع ؟ وما هي الشروط النفسية والسوسيولوجية التي تدفع نحو إحداث ذلك التحول؟ وهل سيكون هناك ثمة تمييز في هذا الصدد لتلك الشروط التي تعزز من الحجاج المتحرر من الإجراءات المحددِة لقواعد الاتصال المؤسساتي الإلزامي بين المتكلم والمخاطَب لمجتمع ما أو لبعض الحالات في بعض المواقف. ويكفي أن نفكر في هذا الشأن بالمؤسسات السياسية والدينية؛ وفي التعليم الإلزامي، وفي جميع الإجراءات التي ينص عليها القانون الوطني والدولي والتي تهدف إلى تعزيز الاتصال وتبادل الأفكار عند الفرد أو بين شخصين، في الدعوى القانونية؛ أو في المحادثة.
أن ما تثيره اللغة من إشكالات عديدة بوصفها أداة في التواصل والحجاج، يهيئ مجالا واسعا يحفز كثيراً دراسات اللسانيين وعلماء الاجتماع. فإلى جانب لغة النحو المشتركة واللغة العادية، نلاحظ أيضا أن وجود لغات مقدسة ولغات تقنية وبما تتضمن عليه من تداخل مع اللغة اليومية خلال العملية الحجاجية، إنما تستحق تحليلاً دقيقاً للغاية. واقرب مثال أنموذجي لذلك التداخل هي اللغة القانونية بوصفها لغة محكمة غامضة تقتصر على دارسيها ومزاوليها، من جانب ومن جانب آخر، هي لغة متاحة للجميع. أن طريقة التفاعل الحاصلة في القانون بين الاستعمالين الشائع والتقني للمفهوم نفسه، يمكن لها أن تُنشئ مقاربة تساهم إلى حد كبير في فهم الطريقة التي تداخلت فيها مفاهيم الانظمة الفلسفية مع اللغة اليومية وحوّرت الاستعمال الشائع لمفاهيم مثل: الواقع؛ الحرية؛ الجوهر؛ الوجود؛ الطبيعة؛ الإله وغيرها.
ومن اجل أن يتسم الخطاب الحجاجي بالفاعلية، ينبغي أن يستند المتكلم على القضايا المسلّم بها لدى الجمهور المخاطَب. لكن، كيف يمكن للمتكلم قياس أو على الأقل تقييم درجة التوافق والتأييد عند المتلقي؟ ثم إلى أي مدى وتحت أي ظرف يمكن أن يتضامن جميع الأفراد المنتمين لذلك الجمهور المنتظِم اجتماعياً من اجل تأييد القضية المطروحة؟ وهل يوجد بينهم جماعات معينة تكون أكثر تمثيلاً للرأي السائد، وكيف يمكن تمييز ذلك؟ وكيف يمكننا أن نؤسس خطابنا ألحجاجي على أقوال مؤكدة مسبقاً لدى الفرد أو جماعة ما؟ وما هي تلك الظروف التي نتوقع فيها حصول تغيير في الرأي أو في الموقف ؟ وهنا، ماذا يكون دور مبدأ الثبات الذاتي(6) الذي يشير إلى قوة الشعور بصلابة المبادئ وبوهم اكتمالها، ويفرز خطاباً يرسخ من جهة للآراء السائدة عندما لا يكون هناك سبب معقول يدعو للتخلي عنها؛ ومن جهة أخرى يعمل على تثبيت قاعدة العدالة الشكلانية(7) التي تقضي بمعالجة المواقف المتشابهة إلى حد كبير بنفس الطريقة تماما تبعا لنصوص قانونية محددة وبمعزل عن سياقاتها المختلفة ؟
ونحن نعرف أهمية استعمال "الأنموذج السابق" وما ينتجه من سلطة في الحياة الاجتماعية وخصوصا في الحياة السياسية. ويمكننا بواسطة التحليل المنهجي للعلوم إيضاح أهميتها أيضا في جميع التخصصات الفكرية. ويبدو لي أن مثل هذه الدراسة ستكون نافعة لا سيما في بيان مفهوم "قوة" الحجة. وهو مفهوم خاص بنظرية الحجاج، رغم انه غريب عنه بعض الشيء خاصة وان الحجاج لم يعرف سوى تلك البراهين الصائبة والمتطابقة مع القواعد العامة؛ أو البراهين التي ليست كذلك. في الوقت الذي لا يكفي في الخطاب ألحجاجي أن تتطابق الحجج مع قواعد معينة حتى يصل إلى استنتاج قسري كما هو الحال عليه مع المنطق ألبرهاني. فالحجج أما أن تكون قوية أو ضعيفة. وعليه ينبغي أن نتساءل عن كيفية الوصول إلى تقييم مناسب لقوة أو ضعف الحجة ؟ وهل يتماثل هذا التقييم بشكل متواز مع فاعلية الحجاج ؟ وإذا كانت هذا الأخيرة تتحدد حسب نوع الجمهور المخاطَب. فهل علينا أن نُرجع الحجاج إلى مفهوم الصلاحية الذي يتحدد وفق احتمالات قابلة للحساب في الاستنتاج؟ مع العلم انه لا يمكن اختزال جميع الحجج إلى ذلك النمط من الاحتمالات الحسابية. لذلك من المهم للغاية معرفة وتحديد أنواع الحجج التي يمكن أن تنبني بطريقة شكلانية وما هي شروط ذلك البناء.
ومن اجل أن تملك الحجة أي فاعلية، ألا يجب أن تندرج تحت خصائص أن تكون ملائمة أو وثيقة الصلة بموضوعها. وكيف يمكننا تحديد هذا المفهوم؟ وهل تبقى ثمة إمكانية في تصور مثل ذلك المفهوم بشكل مباشر أو غير مباشر، في ظل هيمنة استعمالات بنية الدلالة الشكلانية لما يقابله من مفهوم اللاتجانس وانعدام الصلة مع الموضوع؟ وهل ستبقى ثمة إمكانية لتمييزه في التخصصات الأخرى حيثما يجري استعماله؟
بعبارة أخرى، أن الأدلة البرهانية قسرية، تجعل من الصلة المنطقية بين المقدمات والنتيجة عنصراً ثابتاً لا شك فيه. في حين أن الحجاج ليس قسرياً البتة، وهو ما يدعونا إلى التساؤل إلى أي مدى يؤدي فيه دفاع المتكلم ألحجاجي عن قضية معينة إلى إضعاف ثقة المتلقي تجاهها؟ فمنْ يعتذر يدين نفسه، كما يُقال عادة. والجدال حول سمعة شخص ما، يعني، في الواقع، أنها أمر مشكوك فيه ولا يمكن أن تقع خارج موضع النقاش. لكن، عندما يستوجب الأمر الحجاج لصالح قضية معينة والدفاع عنها، فما هي الأسباب التي تدعونا إلى إدخالها في موضع النقاش؟ وتواجهنا نفس المشكلة بخصوص التعريفات العلمية، فمتى نسعى إلى تعريف مفهوم معين؟ ومتى نفترض، بعكس ذلك، أن المفهوم واضح بما يكفي لدرجة لم يعد فيها بحاجة إلى تعريف؟ ومثل كل أشكال الحجاج، سواء ما كان يشير منه إلى تبادل ودي للآراء أو نقاش عام، وبامتداده على زمن الفعل الذي ينبغي على الخطاب ألحجاجي الأعداد له أو انجازه، يجب أن لا تترك مناقشة الأسئلة المتعلقة بالقرارات أو حتى بتحديد المفاهيم إلى الأحكام التعسفية لكل منا.
ونحن نلاحظ أن هناك بعض المسائل التي لا يمكننا النقاش فيها، بل ولا يجوز أن تكون موضع سؤال على الأقل ليس في كل وقت. وكان أرسطو قد حدد في كتابه "الطوبيقا" أي نوع من المشاكل يمكن النقاش حولها. بالنسبة له، لا يجوز مناقشة منْ يستفهم حول قضية احترام الوالدين أو حول قضية وجود الإله، وإنما ينبغي معاقبته. وفي القانون كذلك، يعد الحكم الصادر بحق قضية معينة هو من الأمور غير القابلة للنقاش بالمرة، إلا في حالات استثنائية. ونحن نعلم انه في المجتمع الحريص كثيرا على مبدأ الكفاءة في الأداء، إنما يجري الاستناد على العادات والإجراءات القانونية لغرض التحكم ومراقبة الرغبة بالتواصل دون انقطاع، حتى جرى تحويلها إلى حوار مضجر وطويل بين مجرد اموات. ولهذا السبب لا تخلو من الأهمية، كل من الدراسات التاريخية والسوسيولوجية المتعلقة بدراسة الإجراءات المتحكمة في إنتاج صور محددة للنقاش والتواصل؛ وللمتشاركين فيه؛ ولموضوع حواره بل وحتى لزمانه ومكانه، تلك الإجراءات التي كثيرا ما تُفضي إلى إحداث تعديل في النظام القانوني نفسه وبما يتلائم وتشريعاتها. وهنا كان علينا أن نتساءل حول العديد من القضايا: فمنْ يُسمح له بالكلام في هذا الظرف أو ذاك؛ وما هي القواعد التي ينبغي له أن يخضع إليها؛ ما هي أصولها والنتائج المترتبة عليها؛ كيف ولماذا تتطور تلك القواعد؟ ويمكن أن نتبين من خلال تلك الأسئلة وغيرها بهذا الخصوص، العديد من التحولات الملحوظة والحاصلة، ابتداء من المراسيم الدينية حيث يجري التحكم باستعمالات الخطاب في أدق تفاصيله؛ وحتى ابسط تبادل في الكلمات بين أصدقاء عِشرة طويلة.
يقال لنا عادة، أن التفكير النقدي يمكن تطبيقه على أي موضوع كان. وهذا ليس بصحيح أبدا، فحتى يومنا هذا، لم يكن هذا الحال عليه بالتأكيد حتى لدى الأوساط الأكثر تحرراً في معظم المجتمعات المعروفة تاريخيا. وإلا بماذا نفسر ظاهرة اجتياح التفكير النقدي لمجالات جديدة؟ ولماذا لم يكن لبعض التوجهات النقدية في فترات معينة أي تأثير يُذكر، بينما حققت الأخرى، والمتشابهة مع تلك الأولى إلى حد كبير، منجزات ثورية على صعيد السياسة والعلم والدين؟
وهذا ما يدعونا إلى أن نتساءل، هل تختلف أنواع الحجج المستعملة ومستويات فاعليتها كذلك تبعاً لاختلاف السياقات والتخصصات والحقب، وهل يمكن تصنيفها؟ وهل يمكن تمييز أنماط من الأسلوب في الحجاج، مثل الأسلوبيات الكلاسيكية والرومانتيكية التي وصلنا بعد تعريف كل منها وتحديد مفهومها إلى وجود ثمة تعارض فيما بينها يعود إلى استعمالات الحجج المشتركة lieux communs في الخطاب والمتأسسة على خصائص الكم والكيف(8)؟
وهناك بعض من الحجج التي نصطلح عليها شبه منطقية، تكتسب صلاحيتها من قوة التثبت العقلاني الذي تستدعيه نماذج الاستدلال الشكلاني المنطقية أو الرياضية المعتمدة بشكل ضمني في ذلك النوع من الحجج. فهل هذا يعني أن تلك النماذج المستندة عليها الحجة المعطاة هي متماثلة لدى المتكلم وعند جمهور المخاطَبين على اختلافهم، كما وعلينا هنا أن نتساءل عن سياق تلك الحقب والأوساط التي كانت فيها تلك الحجج مصدر فخر وامتياز. ربما كان ذلك في سياق ثقافي لم يصل فيه الوعي الإنساني إلى امتلاك صورة واضحة عن الاستدلال المحكم بصورة شكلانية بحتة، لكن، حتى هذه الفرضية تحتاج إلى شيء من الفحص والاختبار.
وعندما نصادف ذلك النوع الاستثنائي من الحجج الذي يبدو لنا غير فعّال ومنتهي الصلاحية، بل وفي غاية السذاجة. فهل في إمكاننا إرجاع الأسباب التي أدت إلى تشكيل ذلك النمط من الاستجابة نحوها، إلى حدوث تحول في معارفنا؛ أو إلى حصول تغيير في القيّم المسلّم بها والذي ربما قد يكون مرتبطا بتغيير في البنية الاجتماعية بأكملها؟
هل يمكن لجميع الأنماط الحجاجية أن تكون قادرة على كشف تلك التغييرات؟ ألا تحظى بعض أنواع الحجج بمكانة متميزة بهذا الصدد، مثل الحجة عن طريق المماثلة بقياس حالة على أخرى مشابهة لها ومختلفة عنها في السياق؟
أن مشكلة الحجج المنتهية الصلاحية التي لم تعد تتوافق وسياقات الخطاب الجديدة، لا تنفصل بالطبع عن تلك المتعلقة بالحجج المستعملة في الخطابات الثقافية الخاصة بالمجتمعات البعيدة عنا كثيراً. ألا يمكن أن يكشف نوع الحجاج المعتمد عند تلك المجتمعات عن آرائهم السائدة بل وكذلك عن قيّمهم وبنيتهم الاجتماعية؟ وفي هذا الصدد، ستظهر لنا مشكلة واسعة النطاق. فهل هناك نماذج مهمة من الحجج قد لا تكون معروفة في مجتمعاتنا، أو قد تكون متضمنة داخل أشكال استعارية أدبية يصبح التعرف عليها امراً مستحيلاً علينا؟ فما هو الشكل الذي تتخذه لدى المجتمعات الأولى، مثلاً، التقنية الحجاجية في انفصال المفاهيم dissociation des notions (9) (كالتضاد بين الحقيقة والمظهر)؟ وما هي أوجه التعارض التي تسمح بإعادة تنظيم المفاهيم وبما يؤدي إلى العثور على حل مناسب؟
هل هناك ثمة نظام مقرر مسبقاً ولا جدال فيه يحدد استعمالات الحجاج، يمكننا أن نعتبره النظام الأكثر فاعلية؟ وكيف يمكن أن يؤثر نظام الحجج على فاعلية الخطاب، وما هي الأسباب؟ وعلى نحو مماثل، ما هو التأثير الذي يمكن أن تنتجه واقعة أن نكون أول أو آخر المتكلمين أثناء نقاش ما؟ هل هناك ثمة نظام في أسبقية الكلام حسب درجة الامتياز ضمن التسلسل الاجتماعي الهرمي، وكيف تمّ تأسيسه؟ نعلم جيداً، أن التقاليد والأعراف هي السلطة التي كانت تعمل على تسوية مثل تلك المسائل. لكنها أهملت في الوقت نفسه العديد من الأمور الأخرى التي تحتاج إلى تسليط الضوء عليها، فما هي تلك المجالات غير المفكر فيها؟ وفيما يتعلق بالتخصصات التي لطالما سعت إلى البحث عن قيمة الحقيقة/والصدق/والحقّ، هل كان لجميع تلك الإشكالات فيها أي أهمية تذكر ؟
من جانب آخر، من المعروف أن على جميع التخصصات العلمية لغرض التقدم ينبغي لها أن تضع مجموعة من الفرضيات تخضع فيما بعد لاختبار التجربة. فهل اختيار تلك الفرضيات اعتباطي، أم كان نتيجة لاستدلال حجاجي؟ وهنا، علينا أن نتذكر، أن صياغة الفرضية نفسها يتطلب من العالِم اللجوء إلى استخدام لغة سيجري الاستعانة بها في وقت لاحق لوصف التجربة والتحكم فيها في آن واحد. وهذه اللغة هي نتاج تقليد علمي طويل سمح بتطورها ضمن مسار يتلاءم ومقتضيات خطابه. وفي الواقع، أن جدلية النظرية والتجربة لا يمكن انجازها دون اللغة المعدّة والمعدّلة من طرف رجل العلم. وبمقدار ما تستعين تلك الجدلية بهيكل الأبنية المفاهيمية الذي يتداخل مع نتائج التجربة والإحصاء، لا يمكن إنكار الدور الذي تلعبه التقنيات الحجاجية في بناء ذلك الهيكل. فما هي أنواع الحجج التي تساهم في عملية تطوير العلوم الاستقرائية؟
وفيما يتعلق بدور تلك الحجج في العلوم الاختبارية، قد يبدو للكثير انه يتصل بابتكار الفرضيات أكثر منه في إثبات صلاحيتها. وينطبق هذا الأمر بصورة خاصة على العلوم الاستقرائية التي تفترض مسبقاً وجود الاتساق والانتظام وبالشكل الذي يسمح بالتنبؤ والتحكم في النتيجة في آن واحد. لكن هذا ليس هو الحال بالنسبة لتخصصات العلوم الإنسانية، مثل علم التاريخ الذي يدرس الوقائع غير القابلة للتكرار المتطابق، حيث يكون من الصعوبة بمكان تحديد أنماط منتظمة ومتسقة ومنعزلة بما يكفي عن سياقها الخاص لتكون قابلة للمقارنة فيما بعد. في هذه الحالة، ينبغي على تلك العلوم أن تركز أبحاثها على المحتوى اللغوي الحجاجي لتلك الافتراضات التي لطالما حكمنا عليها في أن تكون دقيقة ومتنوعة ومتسقة. في بعض الأحيان، تعبر تلك الافتراضات عن رؤى شاملة للإنسان والعالم معاً كثيرا ما تكون موضع تعارض وعدم انسجام، كما هو الحال عليه في الانتروبولوجيا الفلسفية أو في الانطولوجيا، حيث تكون العلاقة بين الأطروحات الفلسفية وبين ما يمكننا أن نختبره فيها بهذا الصدد غير مباشرة للغاية وغير واضحة المعالم، لان هناك ثمة مجموعتين من الحجج التي تتعارض الواحدة منها مع الأخرى. كيف يمكننا، إذن، وضع تقييم محدد عن قوة تلك الحجج؟ هل يوجد معايير في الصلاحية والاحتمالية، مستقلة عن الأنظمة الفلسفية ويمكن لها أن تحسم الأمر بين وجهات النظر المطروحة في الوقت الراهن؟ وهذا ما يدعونا إلى الإشارة هنا إلى أهمية الدراسات التاريخية والتحليلية للأنظمة الفلسفية وللحجج التي لطالما تمّ تحييدها واستبعادها على مدار تاريخ الفلسفة أو لتلك التي جرى تعزيزها والإعلاء من شأنها، لا سيما في تسليط الضوء على هذه القضية الحساسة(10).
أن الفائدة من عملية إكساب مختلف أنواع الحجج الطابع الشكلاني البحت وإخضاعها كذلك إلى الإحصاء، هو أمر لا يمكن إنكاره بالطبع. لكن عملية الشكْلَنَة هذه تقتضي على الدوام وجود فرضيات مشيدة مسبقاً تختزل الاستدلال ألحجاجي/غير الشكلاني إلى استدلال شكلاني، وتفترض أيضا وجود أحكام/ومواقف مسبقة حول أهمية ما يتم استبعاده من الحجج نتيجة حصول ذلك الاختزال إلى الخاصية الشكلانية المتسقة في الاستدلال. لاحظ أنه عندما يكون لتلك المواقف آثر واسع وقريبة من الشأن العام، فستكون مرتبطة بكل تأكيد بفلسفة غير مطلقة وقابلة للنقاش والجدل، لكنها ستكون مواقف مقبولة ومسلّم بصلاحيتها بسهولة كبيرة عندما تقتصر أهميتها على نطاق ضيق ومحدود في الجانب المنهجي والأكاديمي إذا جاز التعبير. بوجه عام، إذا كان مذهب النفعية هو فلسفة مثيرة للجدل، سيكون من السهل جداً، الاعتراف بقيمة معيار المنفعة بوصفه أداة يمكن بواسطتها مقارنة الحلول لبعض المشاكل الخاصة. ولهذا السبب تحديداً، سيكون حصول الاتفاق بطريقة أكثر سهولة حول استعمالات حجج معينة وتحييد أخرى في العلوم والتكنولوجيات المتعلقة بتطبيقات محددة أكثر منه في الحجج ذات الأبعاد الفلسفية. أن دراسة الحجج المرافقة لمساع الاختزال إلى الشكْلَنَة تعد من الدراسات المهمة التي سوف تساهم في تسليط الضوء بشكل كبير على مناهج العلوم والتكنولوجيات ومقارنتها مع مناهج التفكير الفلسفي.
كنا قد اشرنا سابقا في كتابنا "مصنف الحجاج" حول أهمية خاصية الفاعلية في الحجاج(11). وما توصلت إليه نتائج الدراسات النفسية يؤكد أيضا على أن طريقة الأسلوب المختارة في عرض بعض الحقائق من شأنها أن تجعل من تلك الحقائق حاضرة في الوعي بصورة ما أو بأخرى وبالشكل الذي يمكن له أن يؤثر في استجابة المخاطَب؛ وبالتالي على فاعلية الحجج المستعملة نفسها. ومن المؤكد، أن لهذه الطروحات اثر كبير في علم الأسلوبيات stylistique. كل ذلك، يدعونا للإشارة إلى أهمية فحص العديد من الصور figures التقليدية في البلاغة من زاوية فاعليتها الحجاجية على المتكلم والجمهور المخاطَب والخطاب على حد سواء. وبوجه عام، أن تحليل الصور البلاغية المتعددة وفقاً للأنماط الحجاجية المتصلة بها، يساعدنا على تحديد آثارها على مختلف مستويات الوعي والإدراك لدى الجمهور المخاطَب، بل ويساهم في بيان الحالات التي يكون فيها استعمال بعض الحجج في غير محله ومتى يكون ضرورياً. والى جانب الدراسات الأسلوبية وغيرها التي ينبغي الاستعانة بها لغرض إبراز الكيفية التي يتفاعل بها الشكل والمحتوى كما –هو الحال في الكليشيهات– في ذهنية الجمهور المخاطَب. إلى أي مدى تكون فيه التغييرات في الشكل ممكنة دون أن ينطوي ذلك على تغيير مماثل في المحتوى، والى أي حد يكون الاثنين فيه غير منفصلان؟ هذه الإشكالات تستحق في مجملها إلى دراسات متباينة بحسب المجالات المعرفية، تبدأ من التخصصات العلمية المتعددة لتشمل حتى الإعلانات التجارية.
ودون شك، يمكن لعلم النّفس أيضا ولعلم النّفس المرضيّ والفلسفة أن يساهموا جميعا في توضيح مفهوم ماهو معقول raisonnable الذي لا يمكن أن يُفهم خارج سياق الحُجّة. فما معنى أن يكون الاختيار أو القرار معقولاً؟ وماذا نعني بالعقْلنة أو بعرض ماهو معقول رغم انه لن يكون كذلك بالفعل؟ ماذا نعني بالتأويل المعقول لظاهرة أو لرمز أو لنص أو لسلوك معين؟ وهل أن يمثل مفهوم ماهو معقول من المفاهيم التي يمكننا التعبير عنها أو تعريفها بمصطلحات نفسية أو اجتماعية أو فلسفية؟ ووجهات نظر هذه العلوم المختلفة، هل هي متداخلة؛ أم أنها مجرد أكْوَام معلومات مرصوصة بعضها فوق بعض الآخر ولا تسمح بأي اتصال أو تواصل فيما بينها قد يؤثر على مبدأ الوضوح والاتساق في الفرضيات الأساسية المعتمدة في كل اختصاص؟ وكيف يمكن أن تساهم نظرية التحليل النفسي في التأويل وبشكل كبير في إعادة قراءة وفحص نماذج الحجاج البلاغي؟ ومن المعروف أن مدرسة المحلل النفساني جاك لاكان قد أولَت اهتماماً كبيرا للغاية لمثل تلك الأسئلة الإشكالية.
وختاماً، آمل من خلال هذا العرض البسيط لبعض العينات من الإشكالات المتضمنة في الحجاج والتي من الممكن أن تكون موضوع بحوث متعددة التخصصات، أن يكون قد أوضح أن الأمر يتعلق بمجال من التحقيقات واسعة النطاق دون أن يتم استكشاف منها إلا القليل جدا.
الهوامش:
*هذا عنوان مقال فيلسوف البلاغة الجديدة شاييم بيرلمان (1912-1984)والمنشور تحت عنوان:
Ch. Perelman : Recherches Interdisciplinaires Sur L’Argumentation, un article publié dans son livre : Le champ de l’argumentation, Presses Universitaires de Bruxelles, 1970, p. 111-119. Cet article est à l’origine un rapport présenté, le 6 septembre 1966, à Evian, au Congrès mondial de sociologie, paru dans Logique et Analyse, Bruxelles, 1968, vol. XI, pp. 502-511.
(1) L. Festinger, Theory of cognitive Dissonance, Evanston, Row and Peterson, 1957 et Jack W. Brehm and Arthur R. Cohen, Explorations in cognitive Dissonance, London and New York, Wiley and Sons, 1962.
(2) Ch. Perelman et L. Olbrechts-Tyteca, Traité de l’argumentation, § 46.
(3) Cf. Traité de l’argumentation, p. 5.
(4) La théorie de l’argumentation, perspectives et applications, Louvain, Nauwelaerts, 1963, 614 pages.
(5) Leo Apostel: Rhétorique, psych-sociologie et logique, Op. cit., pp. 263-314.
(6) Cf. Traité de l’argumentation, pp. 142-144.
(7) Ibid., § 52.
(8) Cf. Ibid., § 25, ainsi que l’article : Classicisme et romantisme dans l’argumentation, ci-dessous, pp. 397-406.
(9) Cf. Traité de l’argumentation, § § 89-93.
(10) Cf. L’argument pragmatique, ci-dessus, p. 101.
(11) Cf. Traité de l’argumentation, § 29.
**باحثة ومترجمة من العراق- متخصصة في الدراسات الفلسفية والحجاجية
#انوار_طاهر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟