أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد عبد القادر الفار - مُتْ فوراً














المزيد.....

مُتْ فوراً


محمد عبد القادر الفار
كاتب

(Mohammad Abdel Qader Alfar)


الحوار المتمدن-العدد: 5304 - 2016 / 10 / 4 - 11:52
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لطالما تحاورنا عن تلك الشجرة التي تسقط في غابة منعزلة حيث لا يوجد كائن يمكن أن يسمعها، هل تصدر صوتاً؟ كان سؤال من ذلك النوع حريّاً بأن يفتح كل أنواع الحوارات حول طبيعة الحقيقة الموضوعية واستقلالها عن المراقب، وما يقود إليه ذلك من تصورات فلسفية وتفنيدات علمية وجدالات كوانتمية. هل يمكن حدوث شيء لا يشهده أحد؟ لقد كان دافعنا العميق وراء الاستغراق في تلك الحوارات هو الرغبة في التحرر. التحرر من الأحداث الصماء التي تحدث ميكانيكياً، رغم أنفنا، ورغم عقلنا، ورغم قلبنا، والتوق إلى إعلاء قيمة وعينا، كون الوعي المجرد يبدو لنا مستقلاً عن الزمان والمكان. والزمان والمكان قيدان. فالسجين يقهره المكان، والشيخ الكبير يقهره الزمان. ولكن بالانسحاب إلى الوعي المجرد، يدرك السجين حريته من المكان والشيخ حريته من الزمان.

من كل اللحظات الآن ...

من كل الأماكن هنا ..

من كل الناس .. أنا

أيعقل أنني طوال تلك السنين انا وسأبقى أنا .... أليس هذا حبسا...

أنغمس في الانا ... وأغفل عنها ...

وفي هذه اللحظة.... يبدو غريبا لي كيف أن كل شيء .. كل ما في الوجود بالنسبة ""لي؟!" هو اطلالة دماغ شخص واحد ...


هذه الأنا، قيدها الحقيقي هو ذاكرة الآخرين. إن معضلة الأنا هو أن قيمتها تبدأ مع وجود آخرين يدركونها، ولكن هؤلاء الآخرين في نفس الوقت هم أكبر قيد على تلك الأنا، بشهادتهم على هفواتها، وضعفها، وهشاشتها، وهزائمها المتكررة أمام الزمان والمكان وقوانين الكون الفيزيايئية والكيميائية والبيولوجية. وأخطاؤنا تؤلمنا لا لأثرها علينا فقط أو لأثرها على الآخرين، ولكن لأنها تفتح باب التعرض للأحكام من الآخرين. ومهما كنّا أقوياء، فإننا نفضل أن نتجنب أحكام الآخرين. وتلك الأحكام المتغيرة لا يصلّبها شيء مثل الذاكرة، خاصة لو تراكمت حوادث متشابهة، أو هفوات متتابعة. ولكن، حتى لو كان حدثاً منفردا، فكيف يُمحى ما لم تكن لنا سلطة على ذاكرة الآخرين، على الأقل ذاكرتهم التي تخصنا، ذكرياتهم بخصوصنا، والتي هي منبع لأحكامهم علينا.

فكّر بهذا ..."إن القلق على الانطباعات التي نتركها هو تقديس في غير محله للذاكرة، وهو يعيق خوض التجارب الجديدة، ويحجب رؤية الأبواب المفتوحة. التجارب المتجددة وليست الانطباعات ولا الذكريات هي ما يهم"...

ماذا كان ذلك؟ لقد تعوّدنا، أمام ذلك العجز عن التحكم في ذاكرة الآخر، على اللامبالاة. ونحن نصل في اللامبالاة حداً يجعلنا نتكيّف مع أحقر تصوّرات يشكلها الآخرون بخصوصنا، حتى لو احتفظوا بها مدى الدهر أو خلّدوها صوتاً وصورة وتسجيلا وكتابة. ورغبتنا في التحرر من الرغبة الذليلة في الصورة الناصعة، يجعلنا في المحصلة نكتسب قوة هائلة. فنحن نفعل كل شيء نريده بشكل مستقل تماما عن انفعالات الآخرين بما نفعله، ونعتمد في فرض ما نريده على قوتنا، لا على احترامهم أو تقبلهم. بل وبقوتنا نعاود نحن فرض معايير جديدة، تصبح ذكرياتهم الرديئة عنا وفقا إليها إطراء لنا.

ولكن المشكلة لا تنتهي هنا، فمن حيث شعرنا أننا تحررنا، اكتشفنا أننا لم نراوح نفس المكان، فنحن لا زلنا مهووسين بالآخرين. إن كل ذلك الفعل الهائل الناجم عن انتهاج اللامبالاة، هو استعراض قوة. استعراض أمام من؟ أمام الآخرين؟ لا زلنا مهووسين بهم. فنحن نستعرض لا مبالاتنا بهم. نستعرضها أمامهم، وهذا تناقض يفضي إلى عبثية تصديقنا ولو للحظة بأننا بالفعل تحررنا منهم ومن ذاكرتهم، ومن تصوراتهم.

فهل يكفي موت الآخرين كلهم، وفناء كل ذكرياتهم عنا، ليخلّصنا من عذابات تلك الأفعال التي حدثت أو الأقوال التي قيلت، ولم يعد بالإمكان العودة إليها ومحوها؟

حتى موت الآخرين وفناء ذاكرتهم قد لا يكفينا لنرتاح، وقد أفزعتني جملة واجهني بها أحد الذين تركت لديهم أسوأ الذكريات. قال لي: "لا شيء يُمحى في ذاكرة الكون". وهو بذلك يبشرني بأن ما قمت به لن يُمحى حتى بعد موته هو، فما فعلتُه مُثبت في مكان ما، حتى لو نسيه كل من شهده. فالكون في حد ذاته يشهده. والمختلف هنا، هو أن الكون محايد إزاء ذلك الفعل، فهو ليس كالآخرين، أي أنه لا يصدر عليّ الأحكام، ولكنه يخزّن ما حدث، فإذا جاء وعي جديد، وعي غير محايد، له انحيازاته وأحكامه، أمكنه استرجاع أفعالي من ذاكرة الكون المحايدة، وعندها سيحاكمني من جديد. حتى بعد أن أنسى أنا ما فعلته. فالكون المحايد يحتفظ –بحياد- بكل شيء، فيتيح تعريضه للأحكام مرة أخرى، من قبل من يحكمون، وينفعلون، ويشهتون، وينفرون. يتيح أن يجعلنا مرة آخرى عرضة للرفض، حتى لو لم نعرض أنفسنا على أمل القبول من جديد، ويجعلنا عرضة للنفور، حتى لو زهدنا في أن نُشتهى، وانسحبنا إلى غياهب الغياهب. لن ينسى أحد نقائصنا، سواء كانت نقائص اقترفناها، أو نقائص فرضت علينا.

إن تحررنا نحن، سبيله فقط هو أن ننسى نحن. ونسياننا نحن يكون بفناء ذاكرتنا نحن. ونتنازل أمام قهر ذاكرة الكون المحايدة، وأحكام الآخرين التي لا مناص منها. نموت فننسى من كنا، ونترك لهم أن يحكموا على من كنا إلى الأبد. وبعد أن ننسى، ونظن أن الذي كنّاه ما هو إلا آخر. سنحكم نحن أنفسنا، من موقع محايد متجرد، على ما اقترفناه، وما اقترفته قوانين الوجود في حقنا، على كل نقائصنا، وسننفر من ذلك الآخر الممل أو الضعيف، سنرفض آخراً هو في الحقيقة نحن، هو ما كنّاه. ويا لها من حرية.

أنت الآن.. عالق في ذاكرتك ... كل هواجسك، كلها بلا استثناء، ناتجة عن سيطرة ذاكرتك عليك ...
انس تتحرر ... مُتْ فوراً....



العقبة - 4 اكتوبر 2016





#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)       Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جاذبية العناد
- معنى المعاناة ومعنى الصبر عليها
- عيون مغلقة على اتساعها
- البدائية كرغبة كونية - وداعاً أتلانتيس
- لم أخطئ
- سأكتب قصة
- معنى الأورجازم
- البدائية، كرغبة كونية
- الموقف من استمرار الوجود - ماني الغنوصي
- عصر الأنبياء الصامتين ...
- غاية التقدم... كشف الإنسان 3
- زمن الميمز
- حاول تفتكرني - تحدي الفاني للخالد
- إجابة السؤال الوجودي - من غير ليه
- أزهار سلمى
- قبض الريح - زي الهوا
- معنى التوبة، بين الفاعل والمفعول - 2
- يا ليت قومي يعلمون؟
- الكلام في مواجهة العدم
- إذا كان هناك حياة بعد الموت، لماذا الموت أصلا؟


المزيد.....




- لبنان: غارة مسيّرة إسرائيلية تودي بحياة صيادين على شاطئ صور ...
- -لا تخافوا وكونوا صريحين-.. ميركل ترفع معنويات الساسة في مخا ...
- -بلومبيرغ-: إدارة بايدن مقيدة في زيادة دعم كييف رغم رغبتها ا ...
- متى تشكل حرقة المعدة خطورة؟
- العراق يخشى التعرض لمصير لبنان
- مقلوب الرهان على ATACMS وStorm Shadow
- وزارة العدل الأمريكية والبنتاغون يدمران الأدلة التي تدينهما ...
- لماذا تراجع زيلينسكي عن استعادة القرم بالقوة؟
- ليندا مكمان مديرة مصارعة رشحها ترامب لوزارة التعليم
- كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد عبد القادر الفار - مُتْ فوراً