أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - محمد فوراتي - مسار المجتمع التونسي من الانكفاء إلى الهجوم خلال العشرية الماضية















المزيد.....


مسار المجتمع التونسي من الانكفاء إلى الهجوم خلال العشرية الماضية


محمد فوراتي

الحوار المتمدن-العدد: 389 - 2003 / 2 / 6 - 03:39
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


 

يلاحظ المتأمّل في الساحة السياسيّة التونسيّة في السنوات الأخيرة بوادر عديدة لاستفاقة المجتمع المدني, وحركيّة نشيطة وغير عاديّة في عديد المجالات السياسيّة والثقافيّة والحقوقيّة, وذلك بعد عشر سنوات من الركود, ومن تغوّل السلطة, ومسكها بكلّ دواليب الدولة.. فكيف تحرّكت فعاليّات المجتمع التونسي؟ ومن هي الأطراف التي تقف وراء هذه الاستفاقة؟ وهل نجحت القوى الديمقراطيّة في انتزاع بعض المواقع والفضاءات لها داخل تونس؟
سنوات القمع الشامل
لقد تعرض الطرف الإسلامي في الساحة التونسية منذ بداية التسعينات لهجمة شرسة من قبل السلطة والقوى الداعمة لها من الداخل والخارج.. هذه الهجمة كانت أقرب إلى حرب الإبادة أو المحرقة, التّي مورست ضدّ عشرات الآلاف من التونسيين. لقد عاش مناضلو التيّار الإسلامي خلال هذه السنوات كلّ أنواع التنكيل والتعذيب والتشريد والتجويع, وبلغ الأمر حدا يفوق خيال المرء, وسوف تكشف الأيّام القادمة فداحة ما ارتكبت الأيادي الآثمة في حقّ مئات الشباب والشيوخ والنساء.
والغريب في الأمر أنّ قوى القمع لم تكتف بـ"غول التطرّف" المزعوم فحاربته, بل واصلت قمع القوى المستقلّة والرافضة لنهج السلطة, فوضعت الجميع في سلّة واحدة, فدجّنت اتّحاد الشغل وكل ّالمنظّمات الجماهريّة الأخرى, كاتّحاد الكتّاب, واتّحاد الفلاحين, واتّحاد الطلبة, حيث تم ّإبعاد كلّ من طالب بالاستقلاليّة داخل هذه المنظّمات, ثمّ حاصرت الأحزاب السياسيّة المعارضة, وفرضت على القانوني منها الولاء, وكل ّمن تسوّل له نفسه الرفض والامتناع تصنع له المكائد, وهو ما حصل للقيادة الشرعيّة لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين ورئيسها الدكتور محمد مواعدة القابع الآن في السجن.
كما تمّت محاكمة أعضاء حزب العمّال الشيوعي التونسي في مناسبات عديدة (1994 و1996 و1998), ومجموعة كبيرة من أعضاء الاتحاد العام لطلبة تونس, إضافة إلى مئات من طلبة الاتّحاد العام التونسي للطلبة الموزّعين على كلّ السجون التونسيّة, ولم ينج من هذه المحاكمات الدكتور مصطفى بن جعفر من التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحريات, ورشيد النجّار والجيلاني الهمامي من اتّحاد الشّغل, ومنصف المرزوقي, وبشير الصيد, وآخرون أسماؤهم عاديّة ومأساتهم كبيرة, وكانت آخر مأساة اعترضتني مأساة الصحفي توفيق البوسيفي, الذي كان يشتغل بدار الصباح, وتمّ طرده وتجويعه ومنعه من السفر, حتّى وصلت به حالة اليأس إلى محاولة الانتحار بمسحوق الفئران, والسبب طبعا مقالاته التّي أغضبت السلطان.
إذا كانت كلّ هذه الفترة من عذاب التونسيين قد اتّسمت بالخوف والانسحاب والسكوت, فإن ّالسنوات الأخيرة تغيّرت فيها الإشارات, وتحرّرت فيها النفوس, وتحرّكت فيها المياه الراكدة, وإن بحدود.
لقد أصبح للحركة الديمقراطيّة دور أكثر فاعليّة, فبرز للوجود المجلس الوطني للحريّات (1998), والتجمّع من أجل بديل عالمي للتنمية (1999), وشهدت الساحة الحقوقيّة دخول عناصر شبابيّة جديدة إلى ميدان النضال من أجل  الحريّة وحقوق الإنسان, وهذا راجع إلى تقلّص المساحة السياسيّة في الفترة السابقة. ومنذ المؤتمر الخامس للرابطة التونسية لحقوق الإنسان, الذّي أفرز هيئة مستقلّة  لم تعجب الكثيرين في السلطة, أصبح العمل الحقوقيّ ميزة النخبة التونسيّة, التّي التفّت حول هذه المنظّمات لتخوض صراعا ميدانيا وأعلاميّا لم تجده في الأحزاب السياسيّة, ممّا جعل السلطة ترتبك عديد المرات وتفقد عديد المواقع.
إضرابات واعتصامات
لقد شهدت الساحات العامّة التونسيّة اعتصامات عديدة, وإضرابات متكررة في عدّة أماكن, ولعدّة أسباب, فقد خاض النقابيون بعض الإضرابات الناجحة, وخاصّة في قطاعات البريد والماليّة والصّحة والتعليم, وهو ما عجّل بسقوط الأمين العام السابق لاتحاد الشغل إسماعيل السحباني, وفتح الملفّ النقابيّ, كما نظّم المجلس الوطني للحريّات اعتصاما أمام السجن المدني 9 أفريل بالعاصمة, للمطالبة بإطلاق سراح السجناء السياسيين, وأقام اعتصاما آخر أمام سجن النساء بمنوبة للمطالبة بإطلاق سراح سهام بن سدرين, واعتصم مناضلون أمام مبنى وزارة الصحّة احتجاجا على طرد الدكتور منصف المرزوقي من عمله, ونظّم العاطلون عن العمل من أصحاب الشهادات العليا اعتصامات عديدة أهمّها ذلك الذي تمّ أمام وزارة التربية للاحتجاج على مناظرة "الكاباس" والفرز السياسي في قبول المترشّحين, وتشابك المناضلون في هذه المناسبات مع قوّات الأمن في ساحات مكشوفة, أمام دهشة المواطن العادي, الذي لم يشهد مثل هذه الشجاعة والإقدام منذ عشر أعوام.
في نفس الفترة تقريبا شنّت عدّة إضرابات جوع ناجحة لفتت نظر الرأي العام, وانتهت بمكاسب فوريّة, وتنازلات من السلطة. وكان من أبرز هذه الإضرابات إضراب الصحافي توفيق بن بريك, الذي حرّك  إضرابه عديد الأوساط الإعلاميّة حتّى تسلّط الضوء على الانتهاكات الحاصلة لحقوق الإنسان في تونس, ثمّ إضراب عبد المومن بالعانس والفاهم بوكدّوس بالسجن من حزب العمال الشيوعي التونسي, وهو الإضراب الذي انتهى بإطلاق سراحهما, وإضراب المناضل الإسلامي توفيق الشايب, والذي فاق الـ50 يوما, وانتهى أيضا بخروجه من السجن, وخاصّة بعد اعتصام زوجته أحلام الداني في مقر الرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان, ولا يمكن نسيان إضراب الجوع الذي شنّه المناضل الإسلامي الهادي البجاوي في بيته بالعاصمة, مطالبا بعديد الحقوق, التي سلبت منه, وأهمّها حقّ العلاج والشغل وجواز السفر ورفع المراقة الإداريّة المفروضة عليه يوميا.
كما شهدت السجون التونسيّة عديد الإضرابات الجماعيّة الناجحة, التي أزعجت السلطة كثيرا, وجعلتها تستجيب للمساجين السياسيين للعديد من المطالب. وقد خاض هذه الإضرابات أكثر من 1000 سجين إسلامي, ودخلها, لأوّل مرّة مساندة لهم, سجناء الحق العام, ثم شن أكثر من أربعين سجين محكوم بالإعدام إضرابا فريدا من نوعه للمطالبة بمعاملتهم كسجناء عاديين, وإعطائهم كامل الحقوق.
تطورات المشهد السياسي
أمّا على المشهد السياسي, ذي العلاقة الجدليّة بالمشهد الحقوقي, فقد تحرّكت رماله الثابتة منذ سنوات, ونشطت الساحة السياسية بشكل ملحوظ, فتحرّر الناس من عقدة الخوف, وشهدنا عدّة مبادرات شجاعة أهمّها الندوة الوطنيّة للحريّات والديمقراطيّة, بمشاركة عدّة أحزاب سياسيّة, وذلك في 1 تموز (جويلية) 2000, وانتهت بإعلان مطالب عاجلة, في وثيقة ممضاة من المشاركين والمشاركات. وكانت أهم هذه المطالب العفو التشريعي العام, والفصل الفعلي بين أجهزة الحزب الحاكم والدولة, وضمان حياد الإدارة, وتحريرالإعلام, ومراجعة مجلة الصحافة, واحترام استقلاليّة الأحزاب, ومراجعة الدستور, ومراجعة المجلّة الانتخابيّة, وإلغاء جميع القوانبن اللادستوريّة, التي تكبّل الحريات الفرديّة والجماعيّة, ثمّ وضع حدّ للتدخّل الأمني في الحياة السياسيّة.
وقد كان مقر الحزب الديمقراطي التقدّمي مسرحا لعديد الندوات حول الديمقراطية, وحقوق الإنسان, والعنف, ومجلّة الصحافة, ومثّلت ولادة هذا الحزب الذي تحوّل من التجمّع الاشتراكي التقدّمي إلى الحزب الديمقراطي التقدّمي (rsp-pdp) حدثا وتجربة فريدة, بدأت بمشروع إئتلاف ديمقراطي, وانتهت بولادة حزب جمع في صفوفه خليطا من العائلات السياسيّة, من أبناء التجمّع الاشتراكي التقدمي, ومن ماركسيّين من قدماء حزب العمال الشيوعي التونسي, ومن يساريين من مشارب مختلفة, بالإضافة إلى مجموعة من البعثيين والقوميين العرب. كما نجد ضمن هذه التجربة عددا من الإسلاميين التقدّميين.
بعد هذه التجربة أعلن الدكتور المنصف المرزوقي مع ثلّة من المناضلين في الميدانين السياسي والحقوقي عن تأسيس حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة, الذّي أصبح رقما مهمّا في المعادلة السياسيّة داخل المعارضة وخارجها, انتهت أخيرا بإعلان " الوفاق الديمقراطي " بين أربعة أحزاب معارضة.
وشهدت الساحة الساسيّة أيضا نشاطا بعيدا عن الأحزاب المنّظمة, فكثرت الندوات الفكريّة والسياسيّة, التي احتضنتها الفضاءات المستقلّة, وحضرها لأول مرّة عدد من الناشطين الإسلاميين, زيادة على الحضور التقليدي للعائلات السياسيّة. كما تشهد الأماكن العامّة كالمقاهي ودور الثقافة والمعاهد والجامعات نقاشا سياسيا علنيّا وشاملا غاب طويلا, وأفرز عدّة تحركات طلابيّة وتلمذيّة في كامل أنحاء البلاد بسبب الزيادات في الاسعار, والتغييرات الحاصلة في البرامج الدراسيّة.
حيوية المنظمات والجمعيات التونسية
ولا يمكن الحديث عن استفاقة المجتمع المدني بدون الحديث عن المنظّمات المستقلّة, التي لعبت دورا كبيرا في تحريك السواكن, بعد أزمة عاشتها هذه المنظمات, على مدى عشر سنوات خلت, وأوّل هذه المنظمات نجد الاتّحاد العام التونسي للشغل, وهو أكبرها جماهيريّا, والذّي شهد صراعا كبيرا بين تيارين متباينين: الأوّل يدافع عن استقلاليّة المنظمة, والثاني يريدها جزء من الديكور الذي يجمّل وجه السلطة. وقد أصبح للمعارضة النقابيّة دور أكبر, فارتفعت أسهمها, وخاصّة بعد فضيحة السحباني, التي انتهت فصولها بالحكم عليه بالسجن 5 سنوات, وسجن بعض أعوانه بتهم السرقة والاختلاس والتلاعب بأموال العمّال.
كما أعلنت مجموعة نقابيّة بقيادة محمد الطاهر الشايب عن ولادة "الكنفدراليّة الديمقراطيّة للشغل", وخيّرت مجموعة أخرى من المعارضة النقابية تقديم ورقة عمل للرأي العام سمّيت بـ"أرضيّة العمل النقابي", يطرحون فيها البدائل الممكنة للنضال على الجماهير العمّاليّة, في ظلّ ما يسميه خليفة السحباني عبد السلام جراد بـ"التصحيح", والتي لا يرى فيها غيره إلا تغييرا للوجوه, وبقاء لنفس الممارسات.
إضافة إلى ذلك شهدت الساحة الثقافيّة تأسيس "رابطة الكتّاب الأحرار" المنافسة لاتّحاد الكتاب التونسيين, والتي تطالب باستقلاليّة العمل الثقافي, وحفظ حقوق الكتاب والشعراء, كما نجد كذلك بروز ثلاث لجان وطنية لمقاومة التطبيع والصهيونيّة, ساهمت بفاعليّة في إغلاق مكتب الاتّصال الإسرائيلي في تونس, وبروز جمعيّة لمناهضة حكم الإعدام, وأخرى لقدماء المقاومين, وأخيرا مركز تونس لاستقلال القضاء والمحاماة, الذي سيكون حسب بوادره الأولى ومؤسسيه لبنة قويّة, تعزّز صمود المجتمع المدني. كما تشهد الهيئة الوطنيّة للمحامين حركيّة كبيرة, وخاصّة بعد الانتصار, الذي حقّقه العميد بشير الصّيد المدعوم من أغلب التيارات السياسية, على مرشّح الحزب الحاكم.
وإلى جانب الهيئة الوطنيّة للمحامين تمثل جمعيّة المحامين الشبان, وجمعيّة النساء الديمقراطيّات, والرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان, وفرع تونس لمنظمة العفو الدوليّة, نسيجا قويا للجمعيات القويّة والفاعلة في الساحة الوطنية.
أسباب الحركية
عديدون هم الذين تساءلوا عن السبب في هذه الاستفاقة المتأخرة للمجتمع المدني في تونس, وأجد أن ّهناك عديد الأسباب لما وقع من حركيّة في السنوات الأخيرة أوّلها:
- إدراك المجتمع التونسي بأسره بأن النظام لا يحارب الظاهرة الإسلاميّة لوحدها كما أدّعى, وإنّما يحارب كلّ مخالفيه في الرأي, ويحارب كلّ من يصدع بكلمة فيها نقد أو رفض أو مطالبة بحقوق. وقد اعترف عدد من الديمقراطين الصادقين بخطإ جزء كبير من المعارضة عندما وقفوا متفرّجين على الهجمة الشرسة للسلطة على الإسلاميين, ووفّروا لها غطاءا شرعيّا, ظنّا منهم أنّ الساحة سوف تخلو لهم, وغاب عنهم أنّ الديكتاتوريّة لا تفرّق بين أصناف المعارضة, وأنّها عدوّ لكل الأصوات الحرّة.
- ثاني هذه الاسباب هو أنّ شعارات السلطة أفرغت من محتواها, ولم يعد يصدّقها أحد, سواء كان مواطنا عاديّا أو مثقّفا أو مسيّسا. فبعد عشريّة من الوعود المتواصلة والمساحيق الكثيرة, انكشفت عورة الواقع الرديء على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي, وهو عكس ما ظلّت تروّج له آلة السلطة الإعلاميّة.. لقد ازدادت طبقات الشعب فقرا وحرمانا, وأصبحت مظاهر التسوّل والتشرّد واضحة لا لبس فيها, وكثرت مظاهر الإجرام والانحراف الأخلاقي والقيمي, وانتشرت المخدرات والتعامل بالرشوة والمحسوبيّة و" الاكتاف"... الخ.
- ثالث هذه الأسباب: الانفجار الاتّصالي والإعلامي, الذي عرّى كلّ المستور من مصائب الأعوام العشرة الماضية, فأصبحت المعلومة متداولة لدى جميع أبناء الشع,ب وفي كلّ مناطق البلاد, فإضافة الى الهاتف والفاكس التّي أصبحت وسائل تقليديّة, أصبحت "الأنترنيت" وجهة الكثيرين, وأهمّ مصدر للمعلومات, فأقبل عليها الشباب المتعلّم خاصّة, يطرق المواقع الممنوعة في قاموس السلطة, إضافة إلى ذلك أصبحت القنوات الفضائية متنفسا كبيرا وضروريّا لطالبي المعلومة الحقيقيّة, فأقبل الناس على "الجزيرة" خاصّة وقناة "المستقلّة" وأخيرا الزيتونة.
ومازلت أتذكّر كيف أقفرت الشوارع من مرتاديها عند بثّ برنامج الاتّجاه المعاكس, الذي استقبل الشيخ راشد الغنوشى والدكتور الهاشمي الحامدي عقب الانتخابات الرئاسية والتشريعية عام 1999, وكذلك لا ينكر أحد اهتمام الشارع التونسي ببرنامج المغرب العربي لقناة "المستقلّة", إلى درجة الهوس, وهو ما جعله يحقّق شعبيّّة لا تضاهى.
لقد تفطنت السلطة إلى خطورة وصول المعلومة وانتشارها بهذا الشكل, لذلك حاولت بكلّ الوسائل التضييق على "الأنترنيت" ومراقبة القائمة الطويلة من المواقع, التي وضعتها وزارة الداخليّة على ذمّة الوكالة التونسيّة للانترنيت ومصالح الامن المختلفة, ووصل الامر إلى حدّ مساءلة البعض في مراكز البوليس عن دخول بعض المواقع "الممنوعة", كما ضيّقت الدولة على استعمال البريد الإلكتروني, فوقع غلق عديد المواقع مثل موقع "هوتمايل" و"مكتوب", كما وقع قطع الاتّصالات الهاتفيّة عن أغلب النشطاء والمواطنين, وخاصّة الخطوط الدوليةّ, كما تمّ منع الشخصيّات الحقوقيّة والسياسيّة من السفر للمشاركة في البرامج التلفزيّة لبعض القنوات المستقلّة. كلّ ذلك يمثّل دليلا على دور الإعلام الهام في نسف الديكتاتوريّات, وهو ما لم يكن متوفّرا في الأزمنة الغابرة, ولكنّ السلطة التونسيّة لن تستسلم, فآخر الاخبار تقول إنّه وقع اقتناء أجهزة متطورة لمزيد إحكام القبضة على هذا "الانفلات" الإعلامي.
خطاب رئيس الدولة ووهم الجمهوريّة الثانية
أربك الخطاب الأخير لرئيس الدولة في الذكرى الثالثة عشر لاستلامه السلطة أغلب الأطراف, وأعاد ترتيب الأوراق من جديد, فبعد الإعلان عن نيّة مراجعة الدستور وبعض الإصلاحات الأخرى, انقسمت الطبقة السياسية إلى طبقتين, واحدة تبارك وتناشد وتتقرّب من السطة, والاخرى ترفض وتحتجّ.. فالتجمّع الدستوري الديمقراطي والمنظمات الموالية له واصلت مناشداتها للرئيس أن يترشّح لانتخابات 2004, والأحزاب القانونية, التي تدور في فلك السلطة عبّرت عن إعجابها المفرط بما جاء في القرارات الشجاعة لخطاب الرئيس, وطالبت بحقّها في اقتسام السلطة مع التجمّع, وهو الشرط المسكوت عنه لترشيحها للرئيس, وهذا ما تبينّاه في البيان السياسي الأخير لحزب الوحدة الشعبيّة.
أمّا أغلب الاطراف السياسيّة الاخرى, فقد شكّكت في نيّة السلطة فتح الباب للديمقراطيّة الحقيقيّة, واعتبرت مراجعة الدستور بابا لتمرير ترشّح رئيس الدولة لدورة رابعة, ومقدمة لمحو الفصل 39 من الدستور. ثمّ أطلقت هذه الاطراف جملة من المطالب, التي لم تتحقق منذ عهد الرئيس السابق الحبيب بورقيبة, وبدونها لا يمكن الحديث عن جمهوريّة ثانية وهي:
1 ) تنقية المناخ السياسي بإطلاق سراح كافّة المساجين السياسين وإعلان العفو التشريعيّ العام.
2) ضمان حريّة الإعلام والتنظم, والتعجيل بمراجعة التشريعات بشكل يرفع نهائيا القيود التي تكبّل الحريّات الاساسيّة.
3) فصل أجهزة الدولة عن جهاز الحزب الحاكم, وذلك باتّخاذ مجموعة من الإجراءات, وفي مقدّمتها فصل منصب رئيس الدولة عن رئاسة الحزب الحاكم.
4) تنظيم انتخابات حرّة ونزيهة تحت إشراف لجنة وطنيّة محايدة.
مشكلات في الصف المعارض
رغم هذه المطالب المعقولة والملحّة والمصيريّة, تبقى المعارضة الديمقراطيّة أسيرة ممارسات قديمة, تجعلها في عجز تام عن تغيير الواقع, فمازالت عقليّة الحزب الواحد تحكم عقليّة أغلب الاحزاب, حتّى فرّخت ثقافة الإقصاء والأنانيّة المفرطة والخبث, ومرّت للأسف للأجيال الجديدة, فإضافة إلى الانقسام الواضح بين المعارضة الانتهازيّة والمعارضة المبدئيّة, هناك تنافر وتنافس عير بريء بين أطراف اليسار المتعددّة (والتي لم تتوحّد يوما), تصل إلى حدّ التخوين والتكفير السياسي.
ونجد لدى أغلب هذه الأطراف اتّفاقا واضحا على استبعاد المعارضة الإسلاميّة من كلّ المبادرات السياسيّة والحقوقيّة, باعتبار أنّها طرف غير ديمقراطي.. يقول أحمد إبراهيم (أستاذ جامعي) "أنا أرى أنّه علينا أن نعمل على إبراز حركة ديمقراطيّة تقدّميّة, موحّدة على أسس حضاريّة واضحة, وأن ّمحاولات تطبيع التحالف الاستراتيجي مع الظاهرة الإسلامويّة, ليس من شأنه أن يساعد على بلورة بديل ديمقراطي مقنع". (مجلّة الطريق الجديد).
وتجدر الإشارة إلى أن ّهذا الرأي يعبّر عن اعتقاد عدد كبير من مناضلي الساحة اليساريّة, وهو ما يعتبر في حدّ ذاته فشلا ذريعا أمام سلطة مازالت تتمتّع بكثير من مواقع القوّة والقرار في كلّ أجهزة الدولة, وكان الأجدر أن تتّحد المعارضة على اختلاف توجهاتها, لتحقيق الضروريّ من مطالبها.
"المعجزة" الاقتصاديّة إلى أين؟
تنظر الأوساط الحكوميّة بتفاؤل مشط ّ إلى المسيرة الاقتصاديّة لنظام 7 نوفمبر, متغافلة في الأغلب عن المظاهر السلبيّة للاقتصاد التونسي, التي برزت في السنوات الأخيرة, فقد قدّمت الحكومة تقديرات بخصوص نسبة النموّ لسنة 2001 بلغت نسبة 6,2%, ولأوّل مرّة تدّعي الحكومة تغطية الطلب الإضافي لطالبي الشغل, وزيادة الاستثمار بنسبة 11 في المائة, مع الملاحظة أن الأوساط المستقلّة تقدّر نسبة البطالة بأكثر من 35%, وزيادة الاستثمار بـ6% فقط.
إنّ الصيغة الحاليّة التي اختارتها الحكومة في رسم برنامجها, قد تبدو إيجابيّة حينما تعكس عزما ثابتا على الإنجاز, ولكنّها تصبح ضربا من المغالطة إن هي ابتعدت عن الواقع, ولم تحسب حسابا للصعوبات الموضوعيّة المعروفة لدى الجميع بما فيها أوساط السلطة ومن أهمّها ارتفاع المديونيّة, وارتفاع نفقات المحروقات, وتواصل ركود الاستثمار الخاص, رغم الحوافز والتشجيعات والحملات التحسيسيّة, واستقرار معدّل مواطن الشغل المحدثة, بالرغم من تزايد الطلب, واستمرار الركود في القطاعين الفلاحي والصناعي, بالنظر إلى حصّتيهما من النموّ الجملي خلال السنوات الماضية, واكتفاء الحكومة بتقديم الوجه الإيجابي دون الثغرات الموجودة في المسيرة الاقتصاديّة وهو ما من شانه أن يوقع المشرفين على المؤسسات الاقتصاديّة في الأخطاء الخطيرة, واتّساع مجال الخوصصة في القطاعات الاستراتيجيّة, وتزايد ضحايا برنامج الهيكلة والخوصصة, بما يعزّز بالآلاف طوابير البطالة المقدّرة رسميّا بـ16%, في حين تقدرها مصادر غير رسميّة بـ35%, والانزلاق الخطير المتمثّل في توجيه موارد البلاد, والقسط الأوفر من الاستثمار, إلى قطاع الخدمات, رغم تضخّمه, وهو ما يؤدّي بصفة آليّة إلى حرمان القطاعات المنتجة كالفلاحة والصّناعة من موارد هي في أمس الحاجة إليها, وتفاقم التبعيّة المزمنة ومتعدّدة الجوانب التي تتخبّط فيها الفلاحة, وبالخصوص ما يتعلّق بالجانب التكنولوجي, وتزايد حالة التفكّك والتشتت التي يعاني منها القطاع الصناعي, إضافة إلى تقزيم منظماته المهنيّة وتهميش دورها, واكتفاء برنامج التأهيل بضخّ المساعدات لبعض المؤسسات, قصد تمكينها من تجاوز صعوباتها في مجال تعصير التجهيزات, وتأهيل الإطارات, دون البحث عن حلول جذريّة.
يمكن القول من خلال كل ّهذه المعطيات أنّ الحكومة ركّزت على تحقيق التوازنات الماليّة, مستجيبة لما رسمته المؤسسات الماليّة الدوليّة من مخطّطات, كما اعتبرت آليّات السوق كفيلة وحدها بدفع عجلة التنمية, غير عابئة بما يعانيه المواطن من جرّاء تصاعد تكلفة حاجياته الأساسيّة, من غذاء ولباس ومسكن وتعليم وصحّة.
خلاصات
هذه حقائق تونس اليوم: فشل ذريع في إنجاز الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة, وفشل سوف تظهر نتائجه بأكثر وضوح في المجال الاقتصادي والاجتماعي, وانحدار أخلاقي وقيمي, دلالاته في ما يظهر من تلاعب بما تبقّى من أموال المجموعة الوطنيّة, وانتشار مفزع للجريمة وظواهر الشذوذ بكلّ أنواعها, وغلاء الأسعار, وزيادة الفقر, وانتشار مظاهر النقمة والرفض, ممّا ينذر بانفجار خطير.
وعندي أن الحكم والمعارضة يتحمّلان المسؤوليّة في ما حصل ويحصل, ومما لا شك فيه أن للمعارضة نصيب وافر من المسؤولية, أما الأطراف المنخرطة في مغانم السلطة, فحدث ولا حرج, فهي أصبحت تحارب اليوم بشراسة لامتناهية دفاعا عن مصالحها ومناصبها, وهو لعمري ما يجعلها من أخطر أنواع السلط, وهذا ما يجعل دور المعارضة الجادّة في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ تونس دورا بالغ الأهمية, ولا أدري هل ستكون تلك المعارضة في مستوى التحدّي؟
 
(*) صحافي تونسي

 



#محمد_فوراتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهجرة السرية أصبحت رغم مخاطرها حلما لقطاع واسع من الشباب تع ...


المزيد.....




- -عليّ التوقف للحظة-.. شاهد مذيع أرصاد جوية يتعرض لنوبة هلع ب ...
- الكويت.. تداول فيديو لمواطن مصري يجمع تبرعات دون إذن ووزارة ...
- 28 شخصًا تركوا دون مأوى.. الجرافات الإسرائيلية تواصل هدم الم ...
- الصحة المصرية تكشف حقيقة تأجير 50 مستشفى حكوميا لشركة قطرية ...
- روسيا تطور مركبة جديدة لإطلاق وحدات محطة (ROS) المدارية
- قتلى وجرحى بقصف إسرائيلي لجنوب غزة
- نجم هندي خلف القضبان بسبب -وجبة محرمة- (فيديو)
- فرنسا: مقتل طياريْن إثر اصطدام مقاتلتين من طراز -رافال- شرق ...
- كيف بدأ اليأس يتسلل إلى اللوبي المؤيد لإسرائيل في أميركا؟
- حان الوقت لإسكات البنادق.. انطلاق محادثات جنيف بشأن السودان ...


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - محمد فوراتي - مسار المجتمع التونسي من الانكفاء إلى الهجوم خلال العشرية الماضية