لايستطيع الانسان ولا الشعوب الاستغناء عن الحلم ولا ان يتنازلا عن الامل، لكن ليس بالامل ولابالحلم وحدهما يستطيعان بناء حياتهما ورسم مستقبلهما مهما اقترب هذا الحلم وذاك الامل من الواقع الذي كثيرا ماتتعارض، لحد التناقض، معطياته مع الامال والامنيات واوليات المنطق. وفي عالم السياسة ،لانطوائه على نزوع براغماتي صرف، مرحلي، تجزيئي، وبالضرورة واقعي، يضمحل اكثر دور الحلم والامل في التاثير على معطياته الصلبة ومالاته اللامبالية خارج حدود مفرداته وعناصره وتمثلاته.
ان واقعية المشروع السياسي تعني قدرته على التحقق، مؤسسا لامكانيته العملية التنفيذية بغض النظر عن المشروعية والابعاد القيمية التي يتضمنها. من هذا المنطلق لايمكن اقرار مشروعية اي مشروع سياسي، مهما تجذرت اصوله الفكرية والتاريخية،من خلال نواياه وتطلعاته بقدر مايكون من الطابع الموضوعي المقرر لمحدداته وبقدرته على الشمول في الرؤية والعمق في التحليل للظاهرة المرصودة ولتجليها في سياقها الواقعي والعملي.. وعمليا يمكن القول انه اذا اصطبغ مشروع او رؤية ما بالكثير من الاماني والامال سيتحول في لغة الفكر الى يوتوبيا وفي لغة السياسة الى تهافت واحيانا الى ترفع.
يؤشر هذا الوصف الى الحالة العراقية التي حولتها اشكالاتها وعقدها وتركيبتها، لدى المعارضة العراقية، الى مساحة للتنظير اكثر مما هي ساحة للعمل.
كيف يقيم ذلك؟.
ان نظرة اولية لمجريات الاحداث تعطينا الانطباع الواضح ان مجمل الخيارات المختارة او المفروضة على قوى المعارضة العراقية هي انعكاس واضح للعجز والمحدودية لديها في التاثير على تطورات المواقف في الازمة والتاثير في مساراتها. واذا بدا البعض، نتيجة ضعف دوره وياسه، اكثر عملية لانخراطه في المشروع الامريكي فان البعض الاخر انسحب كثيرا وراء امان، مشروعة ونزيهة، لكنها تبقى في النهاية اماني واحلام، ومدى قدرتها على التحقق هو السؤال المركزي في النظر الى جوهر مشروعها، اعني مشروع البديل السلمي والتحول التدريجى للسلطة، او ماسمي بالخيار الثالث.
اذا وضع هذا الموقف في سياقه العام سنجد ان حيثيات الظروف المحيطة في الازمة والمحركة لها تقرر ان اطراف الصراع الدائر في الازمة العراقية محددين بوضوح ودقة، وهما النظام الفاشي، لتناقض ادواره، بعد المخاضات المتتالية، مع المشروع الاميركي في المنطقة ولتجاوزه الكثير من الخطوط الحمراء التي تفرضها تلك الادارة على ادواتها المؤدية لادوارها سواء بالايعاز المباشر كما هو حال بعض الانظمة او بالصيغة الايحائية حيث تلاقي المصالح والمشتركات.. الخ والطرف الاخر هو الادارة الامريكية لاسيما بعد 11 ايلول حيث نضّجت الياتها وتصوراتها للهيمنة واستلالها للفرصة التاريخية الذهبية التي حصلت عليها من جراء العمليات الارهابية التي استهدفتها ونبهتها لطبيعة المخاطر التي من الممكن ان تطالها ان لم تاخذ زمام المبادرة مباشرة وبيدها.
هكذا تعارضت المشاريع والممارسات فيما بينها وانقلبت الادوار في المنطقة وفق منطق جديد يبيح التدخل واعلانه بوقاحة بصياغة استعمارية كلاسيكية الجمت الجميع لما كشفته من عجز غير معقول وفشل كلي على كل مستوى وفي اي مشروع من المشاريع التي عرفتها المنطقة والتي يمكنها ، لو نجحت، ان تؤسس لكيان قوي ومتماسك يمتلك مشروعيته امام شعبه وامام العالم. ذلك الفشل الذي تجسد بوضوح مخزي في كل المجالات التنموية، الاقتصادية والاجتماعية وفي ميدان الديمقراطية السياسية، معيار ومدخل المشروعية، وفي الوحدة الوطنية والقومية. فعلى كل هذه الاصعدة واجهت الانظمة، والى حد ما المجتمعات بسبب من انعدام قدرتها على بلورة البدائل وخوض الصراع، الفشل التام، الامر الذي افقدها مشروعية بقاءها وبالتالي اتاح امكانية طرح ممكنات التغيير الخارجي لها دون ان تمتلك مسوغات لرفضه او لصده..هذا العجز العام الذي تجد المنطقة والانظمة على وجه التحديد نفسها فيه القى بظلاله على الحلقة الابرز في دائرة العجز واللامشروعية في المنطقة وهي النظام العراقي ..
القطبان المشار اليهما، واللذان يتحكمان بمآلات الصراع لتوافرهما على الممكنات المادية لخوضه ولتحديد مستوياته، تسببا في اقصاء شبه تام للمعارضة السياسية العراقية التي هي بالاساس كانت تتخبط في دوائر عجزها الموروث بنيويا وتاريخيا بسبب تركيبتها الداخلية ولبناها وخلفياتها الايدلوجية وبسبب من صراعاتها فيما بينها من ناحية ومع النظام من ناحية ثانية والتي وسمت المرحلة التاريخية بمجملها بالعجز. فهذه المعارضة سعت وتسعى سعيا محموما، كنتيجة لضغوطات الظروف، لتوحيد صفوفها لتجد نفسها، في مزاج سيزيفي عبثي،وبحركة دائرية، تعود الى الاحتراب ثانية وكأن عقل القبيلة الثاري لايريد مغادرة دوائر الصراع السياسي العراقي.
في ظل هذه الظروف انقسمت المعارضة العراقية الى ثلاث تيارات احدهما انضوى مستخذيا تحت خيمة النظام وتحول الى اداة لمحاولة فك عزلته وانقاذه وتجميل صورته وبشروطه، اي النظام، وبدون اي مقابل. والتيار الاخر، على تباين مستوى واهداف اطرافه، قد انضوى بالكامل تحت مظلة المشروع الاميركي الذي لولا العجز شبه الكلي الذي وجدت المنطقة والمعارضة العراقية نفسها فيه لما امكن الترويج له ولفقد كل مسوغات الانضمام اليه ولرُفض جملة وتفصيلا. والتيار الثالث ،الذي ينطوي، لدى غالبية من يتبنونه، على حس وطني سليم ونوايا طيبة وحرص ومسؤولية كبيرين ازاء الوطن والشعب.
ان مايطرحه تيار الخيار الثالث هو حتما امر يعكس موضوعيا مطامح الشعب العراقي الذي من مصلحته ان يكون التغيير سلميا وان تؤول امور ادارة البلد لقوى المعارضة الوطنية من اجل الانتقال بالبلد الى الطور الديمقراطي حيث التعددية والتبادل السلمي للسلطة ولفتح افاق التنمية والبناء ودفع المجتمع كله للمشاركة في هذه العملية.. لكن اهم مايفتقده هذا المشروع وهذه الرؤية هو القوة المادية المؤهلة والقادرة على تحقيقه وبالخطوات العملية والمنطقية المتناسبة مع معطيات الواقع وتطورات الازمة وتغيرات الظروف. فالتيار الوطني هذا يعول على امكانية التغيير من الداخل بقوى الشعب الذي هو في واقع الحال معزول ومشلول بفعل القمع، ولايعني ذلك ان هذا الشعب عاجز، فماثرة انتفاضة اذار تكفي لتذكر وتدلل على قدرات هذا الشعب الكامنة، وهي كامنة بالضبط لانها تفتقد لعوامل التحريك او التفجير ان صح التعبير. فالغضب العام هو في طور العفوية والعشوائية ومعروف انه مهما اشتد اوار هذا الغضب فهو لن يتحول الى فعل مؤثر بغير مركزة للجهد وقيادة وتحريك وتعبئة ميدانية للشارع، وهذه مسالة تتطلب وقت طويل واعداد مكثف تفتقد اليه الحركة السياسية المعارضة الان. ومسببات هذا الوضع متعلقة الى حد بعيد بالطبيعة القمعية للنظام ولطبيعة النظرة والممارسة التي يفرضها على الشعب وعلى قواه والتي بدورها انتجت ظاهرة العنف كطبيعة ثابتة في الممارسة السياسية في الساحة العراقية وفرضتها كصيغة لمواجهته، وهو مايتنافى مع جوهر الطرح للتيار الوطني في الانتقال التدريجي والسلمي للسلطة.
ان التحول السلمي يشترط عوامل عديدة، منها عامل ضغط دولي لاتكون لديه مطامح ومطامع في الاستيلاء على مقدرات البلد، واستعداد ودافع للعمل والضغط في اتجاه البديل السلمي. وهذا العنصر مفتقد بسبب من ان الادارة الامريكية هي التي تتحكم الى حد بعيد في ايقاع الحركة في المنطقة الامر الذي سيفشل حتما اية نية لاي طرف لهكذا دور بالاضافة الى ان الدور الاوربي والفرنسي تحديدا، وهو مشروع قوة ندية لامريكا لم تكتمل عناصره بعد، ولايعول عليه طالما انه بالبداهة يتحرك وفق متطلبات سياسية اقتصادية وليس قانونية واخلاقية مما يجعل موقفه هشا وتاثيره محدودا لاسيما اذا نظرنا اليه ووازناه مع القدرات الاميركية المتوجهة لتطويعه، ولميله واستعداده الذاتي للاستجابة لهذا التطويع،من اجل الحصول على موضع قدم في المنطقة ودوردولي اوسع في لعبة المصالح الدولية. ويتطلب المشروع كذلك استعدادا لدى النظام العراقي لتقبل هكذا فكرة ولهكذا نوع من الضغوط، وهذا يعني طبيعة خاصة للنظام لم ولن يتوافر عليها، فليس لدى هذه العصابة، ولاسباب معروفة جدا، اي استعداد لقبول فكرة اي شكل من اشكال المشاركة في الحكم ناهيك عن اتاحة المجال لقوى سياسية اخرى في ادارة البلد بديلا عنها .. بكلام اخر ان العناصر الحيوية والاساسية التي ينبني عليها هذا المشروع من عامل ذاتي داخلي يتعلق بمكون المعارضة المستوجب للوضوح والتماسك والحضور الفاعل على الساحة السياسية والمنسجم مع ايقاع الحركة ومزاج الشارع السياسي، بدون حالة الانفصال والتفارق في روابطه معه كما هو الحال الان. ولاكمال جوانب الصورة يجب القول ان هذا المكون الخاص للوضع يعود، لحد بعيد، امر نشاته وفرضه، اضافة للعوامل الخاصة بالمجتمع وبالقوى السياسية، الى عامل القمع والانفراد والتشويه والالغاء لكل شئ قابل للحياة في المجتمع العراقي، الذي خلقته هذه السلطة ومشروعها الفاشي الهمجي.
العامل الدولي معروفة ايضا كل ابعاده ومكوناته والقوى والنوايا التي تتحكم به ولايبدو ان هناك اية امكانية، في الشكل الذي يجد العالم نفسه فيه الان، لاي دور يمكن ان تلعبه المنظمة الدولية بهذا الصدد. واذا وسعنا من الزوايا الحادة والضيقة التي ننظر فيها للواقع وافترضنا ان هذا المشروع قابل للحياة بالجهد والمثابرة وتوحيد الجهود وتركيزها من اجل تثمير كل الممكنات المرتبطة بالية تحقيقه فان مايلزم كحاجة اولية مهمة لاجل ان ياخذ هذا المشروع مداه المعقول على ارض الواقع هو عامل الزمن. فلانضاج العوامل هذه مجتمعة وتوجيه مسارها لما يؤدي الى انجاح مشروع البديل السلمي يتطلب الامر الكثير من الوقت لترتيب الاوراق وتنظيم عناصر المشروع، والكل يعرف ان عامل الزمن تتحكم به الى حد كبير الادارة الاميركية وفق جدولة مرسومة ومقصودة وفسحة الزمن في هذا الترتيب ضيقة. بالاضافة الى ان هذا المشروع من الناحية العملية والمنطقية يتعارض تماما مع تطلعات الادارة الامريكية و يعني اجهاضا لمشروعها في المنطقة والعراق، واكيد انها ستقطع الطريق على كل البدائل التي تتعارض مع مشيئتها .
كل هذه المعطيات في المحصلة الاخيرة تعطينا صورة الى ان هذا المشروع ،مشروع البديل السلمي، هو مشروع طوباوي غير قابل للحياة ولايشفع له انه مشروع نبيل ومعبر عن مطامح وطنية مشروعة. والقيمة العملية المجدية له هي انه يقدم موقفا للتاريخ يدلل على المواقف والنوايا السليمة لاصحابه وكذلك لانطوائه على دور وبعد مستقبليين يعبآن مبكرا لمواقف سوف تقف بالضد من مالات المشروع الامريكي.
اكيد ان على اصحاب هذا المشروع العمل لاخر لحظة ولاخر جهد ممكن، فهو ان لم يات ثماره في فرض البديل الان فهو حتما سيؤسس لمفاهيم وتوجهات تخدم مرحلة الصراع السياسي المعقد في المراحل المقبلة اي فيما بعد التغيير ان تم وفق التصورات المعلنة بايد اجنبية والتي يجب ان يتكرس الجهد النضالي حولها حتما.. لاباس من الحلم وعقد الامال لكن للواقع منطقه ووقائعه الصلبة التي تشوش الرؤى وتهشم الامال العائمة في سرابات الوهم، والسياسة واقعية وعنيدة لحد الغثيان، و غالبا ماتعادي الاحلام.
السويد
2003-2-4