فاكلاف هافيل يخلع تاجه طواعية
دون ضغط أو إكراه، ومن غير تهديدات بنفيه أو تغيير نظامه بالقوة، قرر قائد الثورة المخملية ومحرر تشيكوسلوفاكيا من الاستبداد أن يتنازل ويخلع التاج الرئاسي، على عكس حكامنا الذين لا يتخلون عن كراسيهم المهزوزة إلا بالموت أو القتل أو الانقلابات العسكرية.
وهكذا، وبعد 13 عاما من الحكم، يغادر فاكلاف هافيل القصر الرئاسي مرتاح العقل والضمير. وكان عندما اختير عام 1989 رئيسا للدولة التي خرجت للتو من الهيمنة السوفيتية، كشف عن رغبته في عدم البقاء في المنصب أكثر من عام، وفي أول خطاب له أمام البرلمان أعلن أنه سيترك الحكم لغيره ويتفرغ لاهتماماته الأساسية ككاتب ومؤلف مسرحي. لم يسم وقتها وريثه أو اختاره من بين أفراد عائلته أو المقربين منه، واكتفى بالتلميح إلى مجدلينا فاساريوفا، الممثلة السينمائية السلوفاكية الجميلة وذات الشعبية الطاغية، كرئيس مقبل للجمهورية الجديدة.
وإذا كان هافيل قد قطع تلك السنوات الطويلة في الحكم فلأن الشعب التشيكي أراد ذلك، ففي الوقت الذي تخلى فيه عن دوره الرسمي على المسرح السياسي، لم يظهر من يملأ مكانه، بل أن البرلمان التشيكي فشل حتى الآن في اختيار مرشح يخلفه.
لقد طبع هذا الكاتب المسرحي والمعارض السابق سنوات حكمه بالبساطة الساحرة، وبالأسلوب السياسي الذي يثير أقل قدر من الاختلاف، فلم يخرج دباباته من ثكناتها إلى الشوارع لوقف رغبه الشعب السلوفاكي بالانفصال عن الاتحاد التشيكي ـ السلوفاكي واختيار الاستقلال، ورغم أنه أخفق في منع وقوعه، لكنه رفض الخطب النارية المهووسة بمفهوم السيادة لإدراكه أن العالم بانهيار المنظومة الاشتراكية دخل زمن التحولات الكبرى والمتغيرات. وحين انفصلت تشيكوسلوفاكيا عام 1993 إلى دولتين مستقلتين، وأصبح أول رئيس لجمهورية التشيك، حافظ على تلك البساطة، وعلى القلق الروحي والثقافي نفسه الذي دفعه إلى العصيان ومقاومة النظام الاستبدادي.
في أغلب صوره، كان هافيل يبدو ممسكا قدح البيرة بيد والسيجارة باليد الأخرى، فيما تتدلى ربطة العنق المحلولة دائما إلى ركبتيه. غير أن هذه الصور ستظل ناقصة إذا لم نضف إليها أسلوبه البسيط في الحياة، مثلما هو في الحكم، وبذلك تكون قد عبرت عن مشاعر الرضى والتسامح والليونة إزاء الأنانية المفرطة لزعماء كانت صورهم وستظل تعبر عن نوع رهيب من خداع النفس.
وربما كان هافيل أكثر من أي زعيم في عصرنا قدرة على إلقاء خطاب ثقافي يستطيع به أن يحرك مشاعر المستمعين، ليس بسبب احترافه الكتابة، وإنما لكونه يعرف كيف يجيب على تحدي الحاضر، والنظر إلى المستقبل، ولأنه هو من دعا مواطنيه إلى "العيش في الحقيقة" وليس داخل الأوهام التي يسكنها العديد من الحكام العرب الذين يكرسون طاقاتهم الهائلة لخلق اطمئنان زائف ورخاء مكذوب وبناء بدون عظمة، ويمارسون كل أشكال الخداع والديماغوجية من أجل أن يقنعوا الشعب المقهورة بحكمتهم الذهبية: " ليس في الإمكان أبدع مما كان".
كانت صراحة هافيل مذهلة بلغت أحيانا حد تخريب سلطته، حيث ظل يتجاهل الفوائد الكبيرة التي يمكن أن يحصل عليها بإطلاق الوعود على طريقة حكامنا الأشاوس، فيما كانت بلاده تحاول الخروج من الحقبة السوفيتية التي جمدت تطورها عند نقطة الصفر، وتتلمس الطريق بحذر نحو استعادة حريتها الكاملة. وقبل أن يقرر وداع السلطة التي مكث فيها 13 عاما، كان التشيكيون، الذين يعدونه أكثر الشخصيات السياسية شعبية في البلاد، على استعداد للقبول به كملك ديمقراطي، وهو ما لم يحصل لرئيس جمهورية آخر في جميع أنحاء العالم.
لقد خرج هافيل من ضلع اليسار، لكنه استطاع أن يتكيف مع متطلبات عصره، وأن يتخلى عن الكثير من المفاهيم التي حتى لو كانت صحيحة من حيث المبدأ إلا أن من الصعب الأخذ بها أو تطبيقها، وهكذا اقتنع بحرية التجارة وتدفقها دون حدود، وقد انتقلت مواقف قطاعات عديدة من اليسار، خصوصا في أمريكا اللاتينية من العداوة المريرة للحرية الاقتصادية إلى اعتناق المذهب الحكيم الذي نادي به هافيل والذي تعبر عنه الكلمات التالية: "على الرغم من أن قلبي مع يسار الوسط، فقد كنت أدرك دائماً أن النظام الاقتصادي الجديد الوحيد الناجح هو اقتصاد السوق، فهو الاقتصاد الوحيد الذي يعتبر اقتصاداً طبيعياً، وهو الوحيد المقبول عقلاً، وهو الوحيد الذي يمكن أن يؤدي إلى الرخاء، لأنه الاقتصاد الوحيد الذي يعبر عن طبيعة الحياة ذاتها".
وعلى خلاف الكثير من "المثقفين" و"المفكرين" العرب الذين لم يحصلوا على ألقابهم عن جدارة أو استحقاق بل بفضل الصحف الحزبية وفضائيات هذه الأيام، لمجرد أنهم أعلنوا عن معاداتهم للولايات المتحدة وإسرائيل، وارتموا أذلاء في أحضان الدكتاتوريات وأنظمة القمع الوحشي متجاهلين عن سابق عمد وإصرار قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، انخرط هافل في حركة المثقفين في ربيع براغ، وخاض نضاله ضد التسلط والاستبداد والتوتاليتارية من خلال الإيمان بتلك القيم والحقوق، بتأسيسه عام 1989 لـ "المنتدى المدني" وهو الحركة السياسية الرئيسية التي كانت تناضل من أجل الديمقراطية في تشيكوسلوفاكيا، خلال ما عرف بالثورة المخملية، والذي قام بالدور نفسه الذي قامت به نقابة تضامن في بولندا، أي التقويض السلمي لسلطة الحزب الشيوعي الحاكم.
في 9 نوفمبر 1956 ألقى هافيل مجموعة من قصائده في أول أمسية شعرية يشارك فيها، وكان الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي آنذاك يبدي تشددا كبيرا في وجه أي تحرك مضاد للستالينية, على غرار ما حدث في موسكو. كما ان الأمسية أتت مزامنة مع اجتياح بودابست، حيث وقف الشبان المجريون يتحدون الدبابات السوفييتية بصدورهم وسواعدهم العارية, وقد استغل هافل كل ذلك ليوجه للحاضرين أسئلة من دون جواب تتعلق ظاهريا بقضايا أدبية ولكن مغزاها كان واضحا يحمل بذور ثورة ضد ما يحدث.
وفي عام 1969، وبعد اشهر قليلة من الاحتجاجات المتنامية ضد الممارسات القمعية التي تعرض لها أهالي براغ أثناء الاحتلال السوفييتي للمدينة، نشرت الصحف المحلية عدداً من المقالات لهافيل يطالب فيها الرئيس التشيكي الكسندر دوبتشك بإحلال الإصلاحات الديمقراطية في المؤسسة السياسية لاعتقاده بان ذلك سيقود إلى تجنب حالة الانقسام الأخلاقي في المجتمع التشيكي، وكانت تلك المرحلة هي بداية الثورة الحقيقية على نحو عملي، وقبل ذلك كان هافيل يذكر على انه الكاتب المسرحي والشاعر التشيكي البارز واحد أهم الشخصيات الثقافية والسياسية الشديدة الأثر في أوروبا الشرقية.
وفي أعقاب تلك المرحلة التي شهدت إقصاء دوبتشك، تعرض هافيل لمضايقات المخابرات والشرطة، واعتقل مرات عدة، واضطر للقيام بأعمال متنوعة كسبا للرزق، حيث عمل في إحدى المرات عاملا يدويا في أحد المعامل.
ولد هافيل عام 1936 في أسرة ثرية من براغ، وبسبب انتمائه للطبقة البرجوازية كان ممنوعاً من الدراسة في الجامعة. وفي سن الخامسة عشرة برزت موهبته الشعرية. وكان انتقاله من المعتقل الذي أمضى فيه حوالي خمس سنوات إلى سدة الرئاسة لا مثيل له في القرن العشرين إلا في حالة نلسون مانديلا. وكان بذلك يمثل طرازا فريدا من القادة الذين وصلوا إلى السلطة بعد نضال مرير ضد الأنظمة التي أقامتها موسكو في دول أوروبا الشرقية أو في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق. وقد اكتشف بسرعة, بعد انتخابه رئيسا, ان مقاومة السلطة وفضح أساليبها القمعية, أسهل بكثير من الوصول إلى قمة الهرم، كما أدرك ان الديمقراطية ليست مجرد حرية أي كان, سواء أكان شخصا أم مؤسسة أم سلطة, في فعل أي شيء, وإنما الحرية المشروطة بمجموعة قيود يسنها الإنسان المطلق, وبحيث لا تغدو ممارستها عملا ضارا بالآخرين, ولا بالذات.
يقول هافيل في إحدى مسرحياته: "على كل إنسان أن يتعلم كيف يتقبل الخسارة"، لكنه ربما لم يخطر بباله يوما ما انه سوف يحتاج شخصيا إلى هذا الدرس البليغ، وان يكون هناك، في هذه اللحظة الراهنة، من هو بحاجة إلى تعلمه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(*) صحفي عراقي ـ كندا