أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - حزب العمال التونسي - بعد انتهاء إضراب 18 أكتوبر: كيف نحافظ على وحدة العمل من أجل الحريات ونطوّرها















المزيد.....



بعد انتهاء إضراب 18 أكتوبر: كيف نحافظ على وحدة العمل من أجل الحريات ونطوّرها


حزب العمال التونسي

الحوار المتمدن-العدد: 1407 - 2005 / 12 / 22 - 11:24
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


أنهى يوم الجمعة 18 نوفمبر 2005، قادة الأحزاب والجمعيات الثمانية، إضراب الجوع الذي كانوا بدأوه قبل شهر. وقد بات من الواضح اليوم أن هذا الإضراب خلق ديناميكية سياسية جديدة بالبلاد، بل يمكن القول، دون مبالغة، إنه وفّر مستلزمات الانتقال بالحركة السياسية من مرحلة تتميّز بالانكماش والتّشتّت وحتى الحيرة والارتباك أمام الهجوم الأخير الذي شنته الدكتاتورية النوفمبرية على قوى المجتمع المدني، إلى مرحلة تتميز باستعادة هذه القوى للمبادرة سياسيا وميدانيا وحصر الدكتاتورية في زاوية ضيّقة وطنيّا ودوليا.

1 – عوامل النجاح

ومن المؤكّد أن هذا المكسب ما كان ليتحقق لولا جملة من العناصر التي ميّزت ذلك الإضراب عن الطعام. فبالإضافة إلى كونه جاء في الوقت المناسب مستجيبا لانتظارات العديد من المناضلات والمناضلين، بل كذلك لانتظارات فئات واسعة من المجتمع التونسي ما انفكّت تشعر باحتقان شديد جرّاء تفاقم القمع والمظالم الاجتماعية والفساد وهدر الكرامة الوطنية، فإن هذا التحرّك تميّز أيضا بتجاوز إشكالات عدة كانت إلى حدّ الآن سببا في تعطيل تطور المعارضة السياسية وتنامي تأثيرها في مجرى الأحداث. ويمكن حصر تلك الإشكالات في النقاط التالية:

أولا: تجاوز الحاجز الذي كان قائما بين الأحزاب والجمعيات. فالمضربون عن الطعام ينتمون إلى أحزاب وجمعيات مختلفة وهم يلتقون لأول مرة على مطالب دنيا مما يؤكّد الوعي بأن المطالب السياسية التي تضمنتها الأرضيّة لا تهم الأحزاب فحسب بل كذلك الجمعيات والمنظمات وبأن كلا الطرفين يوجد في نفس الخندق ومعنيّ بنفس الدرجة بتحقيق تلك المطالب.

ثانيا: تجاوز الحاجز القائم تقليديا بين مختلف النزعات الفكرية والسياسية. فالمضربون عن الطعام ينتمون إلى نزعات مختلفة ولكنهم اتفقوا لأول مرة على مطالب دنيا، هامة وحيوية بالنسبة إلى الجميع، دون أن يعني ذلك طمس خلافاتهم العقائدية والسياسية التي تتطلب مسارا آخر من الصراع والحوار مع العلم أن المشاورات التي سبقت الإضراب شملت معظم الأحزاب والتيارات السياسية والجمعيات والمنظمات المستقلة بدون استثناء [1]، وقد شاركت في الإضراب الأطراف التي وافقت عليه وتبنّتْ مطالبه، بينما رفضته بقية الأطراف سواء لتحفظها عن الإضراب كشكل نضالي أو عن توقيته (ضعف التعبئة في شهر رمضان) أو عن تركيبة القوى المشاركة فيه (الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين المحسوبة على "حركة النهضة"، علما وأنها تنتمي إلى "التشبيك الجمعياتي" وساهمت من قبل في العديد من أنشطته).

ثالثا: تجاوز الصراعات التي كانت تقوم في كل مرة يطرح فيها عمل مشترك حول سقف هذا العمل وما يصحب ذلك من مزايدات لا طائل من ورائها سوى التوترات ومزيد تشتيت الصّفوف. فقد اتّفق المضربون عن الطعام حول ثلاثة مطالب فحسب مثـّلت بالنسبة إليهم الحدّ الأدنى من الحريّات (أو "سميق الحريات" كما أسماه البعض) وهذه المطالب هي: حرية التنظّم الحزبي والجمعياتي وحرية التعبير والصحافة وإطلاق سراح المساجين السياسيين وسن قانون العفو التشريعي العام. ويتميّز هذا الحد الأدنى بطابعه المجمّع والموحّد الذي لا لبس فيه، إذ في ما عدا الحزب الحاكم وأذنابه من أحزاب وجمعيات الديكور التي يرتبط وجودها بوجوده، فإن البقية الباقية، وهم الأغلبية السّاحقة، المعبّرة عن طموحات أوسع الطبقات والفئات الشعبية، لها مصلحة متأكدة في إقرار ذلك الحد الأدنى من الحريات.

إن هذه العناصر الإيجابية الثلاثة التي ميزت هذا التحرّك قد ساهمت، إلى جانب توقيته المناسب بل وتزامنه مع القمة العالمية حول مجتمع المعلومات، في إعطاءه الحجم الذي عرفه والذي تجاوز ما كان يتوقّعه المضربون عن الطعام أنفسهم، وهي ميزة من ميزات كل التحرّكات التي تستجيب في لحظة ما لمتطلبات الواقع وتطلعات الناس المتعطشين لتغييره. فخلافا لتوقعات المضربين الذين كانوا يعتقدون أنه ينبغي انتظار انقضاء أسبوعين أو ثلاثة أسابيع لتتحرك "الساحة" وتأتيهم المساندة، فقد انطلقت التعبيرات المساندة منذ اليوم الأول وكانت تتزايد من يوم إلى آخر لتشمل كل القوى السياسية المعارضة والجمعيات والمنظمات المستقلة وفئات واسعة من المواطنات والمواطنين.

2 – مكاسب هامة

لقد غذى الإضراب الذي كان الشكل النضالي المناسب الذي تمليه موازين القوى، الآمال وحرّك طاقات عديدة في مختلف الجهات والقطاعات وميادين النشاط وأخرجها من انكماشها وسلبيّتها فلم تكتف ببيانات المساندة بل بادرت بتكوين لجان وطنية وجهوية وقطاعية تبنّت مطالب المضربين وعملت على تفعيلها ميدانيا فنظمت التجمعات وإضرابات الجوع ودعت إلى الإضراب عن الدراسة وأدرجت بعض القطاعات المهنية (الأساتذة والمعلمون) مطالب المضربين في تحرّكاتها تنديدا بزيارة الوفد الصهيوني لتونس بمناسبة قمة المعلومات. وفي كلمة فقد تقبّل المتتبعون للشأن العام إضراب الجوع بارتياح كبير ورأوا فيه تضحية من المضربين دفاعا عن كرامة التونسيات والتونسيين المهدورة.

ولعلّ من أهم المكاسب المسجلة في خضم هذه الحركة بداية ردم الهوّة التي كانت قائمة، بفعل ضغوط الدكتاتورية وخيانات البيروقراطية النقابية المتتالية، بين الحركة النقابية من جهة والأحزاب والجمعيات والمنظمات المستقلة من جهة أخرى. فقد هبّ النقابيّون منذ الأيام الأولى للإضراب، بأعداد كبيرة، للتّعبير عن مساندتهم للمضربين وللمطالب المشروعة التي رفعوها. ولا ينتمي هؤلاء النقابيون إلى هياكل قاعدية فحسب بل كذلك إلى هياكل قيادية وطنية وجهوية (نقابات وجامعات عامة، اتحادات جهوية...).

ومن المكاسب المسجّلة أيضا تحرّك الجهات واتخاذها العديد من المبادرات التي تتميز بنوع من الاستقلالية حتى وإن كانت تندرج في النطاق العام لحركة الإضراب من حيث دوافعه وأهدافه. وقد أعطت المبادرات المستقلة في الجهات دفعا للحركة بشكل عامّ.

وإلى ذلك فقد استعادت الحركة الشبابية والطلابية منها بالخصوص حيويتها إذ تحركت معظم الكليات والمؤسسات الجامعية الكبرى في مختلف أنحاء البلاد رافعة شعار الحرية السياسية.

كما سجّل المثقفون والجامعيون والمبدعون من كتّاب وشعراء ومسرحيين وفنانين حضورا هاما في الحركة المساندة للمضربين.

وأخيرا وليس آخرا فقد وثّق الإضراب علاقة الهجرة التونسية في أوروبا وأمريكا الشمالية بالبلاد وقضاياها، إذ تحرّك المهاجرون التونسيون في باريس وليون ولندن وبرلين ومونريال وجينيف وأمستردام وروما لا ليساندوا المضربين فحسب بل ليطالبوا كتونسيين بحق شعبهم في الحرية ويذكّروا أنهم طرف فاعل في النضال من أجل تحقيق هذه الحرية.

وقد كسب الإضراب مساندة قوى ديمقراطية وتقدمية في العديد من البلدان العربية والإفريقية والأمريكية اللاتينية والآسوية والأمريكية الشمالية إضافة إلى مساندة كل المنظمات الدولية الكبيرة التي تعنى بحقوق الإنسان وعديد البرلمانيين والشخصيات الديمقراطية في بلدان عديدة (فرنسا، بلجيكا، سويسرا، إيطاليا، ألمانيا...).

وقد أحرج هذا الإضراب وحركة المساندة التي التفّتْ حوله أصدقاء نظام بن علي في واشنطن وباريس والعديد من العواصم الأوروبية الأخرى فلم يجدوا بدّا، تحت ضغط المنظمات الدولية الحقوقية ووسائل الإعلام والرّأي العام ببلدانهم من مطالبة ديبلوماسييهم المعتمدين في تونس بزيارة المضربين ومن توجيه انتقادات لـ"حليفهم" بن علي ودعوته إلى "احترام الحريات وحقوق الإنسان". وقد زاد بن علي أصدقاءه إحراجا بما ارتكبه من حماقات عشية القمة وأثناءها كالاعتداء على الصحافيين الأجانب والنشطاء الحقوقيين التونسيين ومنع انعقاد قمة موازية لمنظمات المجتمع المدني وصنصرة الخطب التي انتقد أصحابها بشكل مباشر أو غير مباشر أوضاع الحريّات في تونس (خطاب رئيس الكنفدرالية السويسرية، خطاب شيرين عبادي المناضلة الحقوقية الإيرانية الحائزة على جائزة نوبل ...) ومنع بعض المشاركين في القمة من دخول تونس (روبار مينار، رئيس جمعية "صحافيون بلا حدود") وقطع خطوط الهاتف والفاكس والمراسلات الإلكترونية لكل النشطاء الحقوقيين التونسيين وغلق عديد مواقع الأنترنيت التابعة لمنظمات حقوقية أو أحزاب أو وسائل إعلام تتعرّض بالنقد للنظام التونسي.

وفي كلمة وجد نظام بن علي نفسه في عزلة دولية متزايدة. وخلافا لما كان يخطط له، فإن القمة التي أرادها فرصة لتلميع صورته في الخارج شكّلت مناسبة لا تعوّض لفضح طبيعته البوليسية الغاشمة. فقد نجح المضربون عن الطعام وحركة المساندة في الداخل والخارج في طرح "القضية التونسية"، قضية الحرية والديمقراطية، بشكل غير مسبوق. ومن الملاحظ أن معظم رؤساء العالم، وخاصة الأوروبيين منهم، لم يحضروا القمة ولم يرسلوا إليها رؤساء حكوماتهم ولا حتى وزراءهم للخارجية بل أرسلوا وفودا ذات تمثيل أدنى حتى لا يظهروا بمظهر المزكّي لما يمارسه نظام بن علي من قمع سياسي.

3 – الإضراب يحقق هدفه

إن الإضراب عن الطعام، منظورا إليه من هذه الزاوية السياسية حقق أهدافه بالكامل. ولم يكن لدى المضربين عن الطعام منذ البداية أي وهم حول إمكانية استجابة السلطة لمطالبهم الثلاثة بصورة مباشرة بحكم طبيعتها الدكتاتورية المتغطرسة. الهدف الذي رسموه منذ البداية، لتحرّكهم هو إخراج الحركة السياسية من انكماشها وارتباكها وفتح آفاق جديدة لها تمكنها من مراكمة القوى الضّرورية لخلق ميزان قوى يمكّن من فرض تنازلات جوهرية على الدكتاتورية إن لم يمكّن من هزمها.

لقد حقق المضربون هدفهم هذا، بل يمكن القول إن تحركهم وما خلقه من تعبئة داخلية وخارجية وما سببه لنظام بن علي من عزلة يمثل أحرج مواجهة يواجهها هذا النظام خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة تقابلها ألمع صورة تتجلى بها حركة المجتمع المدني خلال نفس الفترة. لقد كان الاستقطاب واضحا، فمن جهة حركة سياسية ومدنية تطالب بالحريـّات وتلقى تعاطفا واسعا داخل المجتمع ومن جهة أخرى نظام متغطرس يرفض الاستجابة لأبسط حقوق المواطنين والمواطنات.

إن إضراب الجوع لم يكن مجرّد إضراب انتهى مفعوله بمجرّد الإعلان عن توقيفه، بل إنه تحوّل منذ الأيام الأولى إلى حركة لها أرضيتها السياسية الواضحة، وهي المطالب الثلاثة التي رفعها المضربون عن الطعام ولها امتداداتها في كل الجهات والقطاعات تقريبا وفي أوساط الهجرة علاوة على استقطابها اهتمام وسائل الإعلام العالمية واكتسابها بعدا ديبلوماسيا باعتبار أن عديد الدول حليفة نظام بن علي اضطرّت إلى انتقاد وضع الحريات وحقوق الإنسان في تونس والاعتراف بشرعية مطالب المضربين وضرورة "الإصلاح السياسي" في تونس.

4 – كيف ننظر إلى المستقبل؟

ومن الضروري اليوم بعد أن حقق الإضراب الهدف المرسوم له، التفكير في المستقبل بكل جدية. وفي هذا الإطار نعتبر أن مسؤولية كل الفعاليات أو الأطراف التي ساهمت في إنجاح هذا الإضراب بدء بالمضربين عن الطعام أنفسهم ووصولا إلى الأحزاب والجمعيات والمنظمات والشخصيات وكافة المناضلات والمناضلين الذين ساندوهم وتبنوا مطالبهم، التي هي مطالب وطنية، وعملوا على تفعيلها ميدانيا وخلقوا كل تلك الحركة التي نشهدها اليوم، إن المسؤولية تقتضي منهم مواجهة مستقبل الحركة بنفس الروح وبنفس النظرة التي انطلقت على أساسها.

وما ينبغي اجتنابه هو النوازع الفئوية التي قد تطفو على السّطح مجددا وتسعى إلى ترك الحركة حبيسة الحسابات الضيقة لهذا الطرف أو ذاك وبالتالي إجهاضها وتخييب طموح كل الذين علقوا عليها آمالا عريضة على اختلاف نزعاتهم الفكرية والسياسية وميادين نشاطهم، وبالتالي فإن ما ينبغي أن يقود في التعاطي مع مرحلة ما بعد اّلإضراب هو التحلي بأكبر قدر من المسؤولية من أجل دفع الحركة التي نشأت حوله وتطويرها.

إن هذه الحركة التي بينا جوانبها الإيجابية لها حدودها التي من الضروري أن تُؤخذ بعين الاعتبار حتى نعرف كيف نتعاطى معها بصورة موضوعية ونمسك الحلقة التي من شأنها أن تمكننا من الارتقاء بها. وفي هذا الصّدد فإن ما نودّ تأكيده هو أن هذه الحركة لا تزال في بدايتها وأن عودها لا يزال طريّا، وقد جمعت في معمعان النشاط قوى متعددة ومتنوعة انخرطت فيه وهي تحمل معها خلافاتها وتحفظات بعضها عن بعض إن لم نقل شكوك بعضها ببعض، بل إنه لئن يوجد من شارك في هذه الحركة وهو يعي أبعادها فإنه يوجد أيضا من التحق بها التحاقا أو انجر وراءها انجرارا لأنها فرضت نفسها عليه أو شارك فيها دون اقتناع وهو ينتظر نهاية الإضراب ليلتف عليها وعلى ما حققته من مكاسب ويحاول العودة بالحركة السياسية إلى وضع ما قبل 18 أكتوبر.

بعبارة أخرى فإن ما حصل هو من قبيل "وحدة العمل" حول مطالب محددة، أملاها، إن شئنا، تقاطع مصالح ظرفي باعتبار مصلحة الجميع بقطع النظر عن الخلفيات الإيديولوجية والسياسية، في تحقيق تلك المطالب، وليس هو من قبيل التحالف أو الجبهة السياسية التي تتأسس، مضمونا وإطارا، عبر مسار من الحوار والصّراع وهذا معناه أن وحدة العمل هذه يمكن أن تنفصم وتتلاشى بسهولة إذا لم نعرف كيف نحافظ عليها ونطورها بروح مبدئية ولكن بمرونة كبيرة أيضا، ديدننا العمل على توفير كافة الشروط اللازمة لإضعاف الدكتاتورية والقضاء عليها.

ومن هذا المنطلق فإنه من واجب كل الفعاليات المعنية اجتناب السقوط في أحد انحرافين من شأنهما أن يعرّضا التجربة للانتكاس. وهذان الانحرافان هما: أولا: التعامل مع الإضراب كلحظة فاتت وانتهت أو كقوس فتح وأغلق وبالتالي التفريط في المكاسب التي حققها، وهي مكاسب تنضاف إلى ما سبقها من تراكمات نضالية تحققت خلال الـ15 سنة الأخيرة. ثانيا: القفز على كل الخلافات والتحفظات والمطالبة مباشرة ودون مقدمات بعقد "مؤتمر وطني" أو "ندوة وطنية" لـ"القوى الديمقراطية"ّ أو لـ"المعارضة الوطنية" بعنوان "تجميع كافة الفرقاء في جبهة واحدة ضدّ الاستبداد".

إن من شأن هذا التمشي أن يجهض الحركة و"يفرقعها" من الداخل ويعطي ذريعة لكل من شارك في الحركة دون اقتناع كي ينسحب ويتهم الأطراف الأخرى بالمغالطة ومحاولة جرّ الغير إلى تحالفات أو جبهات سياسية (خاصة مع "النهضويين" باعتبارهم مدار تحفظات أكثر من طرف) لا يقبلها أو هو غير مستعد لها قبل إجراء نقاش عميق وعلني حول القضايا الخلافية الأساسية التي تندرج ضمن ما يعتبر حدّا أدنى لأيّ تحالف أو جبهة سياسية.

فكيف يمكن اجتناب هذين الانحرافين للحفاظ على الحركة وتطويرها؟

5 - التقدم بثبات

إن الشرط الأول لتجنيب الحركة التلاشي من جهة والإجهاض والفرقعة من جهة ثانية هو الحفاظ في الوقت الراهن وبشكل لا لبس فيه على ما حققه الإضراب فعليا من مكتسبات وأهمها وحدة العمل حول الحد الأدنى من الحريات المتكوّن من المطالب الثلاثة المُجَمّعة والموحدة التي رفعها المضربون والتي لم تعد تثير جدلا في كافة أوساط المعارضة إذا استثنينا أحزاب الديكور وقلة قليلة من الناس الذين أصبحت مواقفهم، خصوصا من مطلب إطلاق سراح المساجين السياسيين وسن قانون العفو التشريعي العام مهمّشة إلى أقصى حدّ.

كما ينبغي الحفاظ على الصيغ التنظيمية التي كرست هذه الوحدة الميدانية (لجان المساندة...) مع إدخال التعديلات الضرورية عليها توافقا مع المرحلة الجديدة. ولكن مهما كانت هذه التعديلات فمن الضّروري أن تحافظ أية هيكلة جديدة على الروح التي طبعت الحركة منذ بدايتها أي التنوع والتعدد والمرونة. وفي رأينا فإن أفضل طريقة لنجاح هذه الهيكلة في المرحلة الراهنة هي أن تتخذ إلى حدّ كبير شكلا أفقيا، قاعديا مع ضمان حد أدنى من المركزة والتنسيق ضمانا للفاعلية على الصعيدين الوطني والجهوي.

ومن البديهي أن السبب الأول الذي يدعونا للحفاظ على وحدة العمل هذه وفي الأطر المذكورة هو أن مطلب الحريات لم يتحقق وأن الإضراب عن الطعام لم يكن سوى لحظة أو محطة في النضال من أجل تحقيق هذا المطلب من الضروري أن تتبعه محطات أخرى.

6 - اعتراضات في غير محلها

ولكن علينا أن ندرك من الآن أن هذه المهمة لن تكون يسيرة، فنحن سنسمع، بل إننا بدأنا نسمع بعض الاعتراضات على مواصلة وحدة العمل حول الحريات، ويتمثل السبب الأساسي لهذه الاعتراضات في مشاركة عناصر إسلامية – نهضوية فيه، لا يرى البعض ضرورة لها، مثيرا مواقف "النهضويين" و"الإسلاميين" عامة التقليدية من قضية الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة ومعبّرا عن تخوفه من مناوراتهم ومحاولة استعمالهم لـ"الحركة الديمقراطية" مطية للعودة إلى الساحة ثم الانقلاب عليها لاحقا لما يستعيدون "قوّتهم".

ولا يسعنا هنا إلا أن نؤكّد أن طرح المسألة بهذه الطريقة هو طرح مغلوط لا لأنه يضع محل سؤال الأسس التي انطلق عليها الإضراب وحركة المساندة التي التفت حوله وهي أسس قائمة على الوحدة حول الحريات، ولا يوجد اليوم ما يدعو إلى مراجعتها بعد أن ثبتت عمليا نتائجها الإيجابية، بل لأنه مغلوط من الناحية النظرية والسياسية أيضا. فالطرح الصحيح للمسألة، والذي بينته التجربة الملموسة هو التالي:

أولا: هل أن وحدة العمل المذكورة يقتضيها الظرف السياسي وبالتالي مصلحة الغالبية العظمى من المجتمع التونسي أم لا؟ لا نعتقد أنه يوجد ديمقراطي واحد اليوم حقيق بهذه الصفة يمكنه أن يجيب عن هذا السؤال بالسلب لأن حاجة الشعب التونسي إلى الحرية السياسية حاجة ملحة لا جدال فيها خاصة في هذا الظرف الذي يشتد فيه نهب خيرات البلاد وثرواتها من قبل أقلية فاسدة وتتفاقم فيه البطالة والتهميش وتدهور المقدرة الشرائية دون أن يكون للشعب الحق في مواجهة هذه الأوضاع والحرية في الدفاع عن مصالحه ومصالح بلاده.

ثانيا: هل أن المطالب الثلاثة التي التقى حولها المضربون عن الطعام يمكن أن تكون سببا للتفرقة لأن هذا الطرف أو ذاك سيستفيد منها وتحديدا لأن "النهضويين" سيستفيدون منها؟ كلاّ ! !

إن مطلب العفو التشريعي العام مطلب مشروع ولا يمكن لأي ديمقراطي حقيقي أن يقوم ضده بدعوى أن هذا الطرف أو ذاك سيستفيد ولا يرى ما في أساس المطلب من رفض للقمع السياسي، والمحاكمات الجائرة، والتعذيب الوحشي، الذي لم يطل "الإسلاميين" وحدهم ولكنه طال الجميع، وكان لكل طرف في كل مرحلة تاريخية نصيبه الأوفر، وفقا لحجمه وللمخاطر التي يمثلها على الدكتاتورية. وإن من يرفض المطلب يجد نفسه حليفا للدكتاتورية، عن وعي أو عن غير وعي.

كما أن حرية التنظم دون قيد أو شرط فيها مصلحة للجميع لأن الجميع متضرر من غيابها. ولا يمكن لعاقل أن يرفضها لأن الإسلاميين سيستفيدون منها لأنه وقتها لن يحرم منها الإسلاميون فحسب بل بقية القوى أيضا لأن الدكتاتورية لا تفرّق في قمعها لحرية التنظم بين طرف وآخر، بل هي تقمع كل تنظيم سياسي أو جمعياتي لا يصطف وراءها مهما كانت توجهاته الفكرية والسياسية وهي لا تفرق في ذلك بين تنظيم معترف به أو غير معترف به، ولا بين تنظيم يساري أو إسلامي أو قومي أو ليبيرالي إلخ.. بل إن هدفها واحد.

وما قلناه عن حرية التنظم ينطبق على حرية التعبير. فالدكتاتورية تكمم الأفواه لتمنع كل تعبيرة حرة ومستقلة عنها مهما كانت طبيعتها الفكرية والسياسية والنقابية والثقافية.

وفي كلمة فإن ما نريد تأكيده هو أنه لا يوجد طرف ليست له مصلحة في المطالب الثلاثة المذكورة سواء في الحركة السياسية أو الجمعياتية أو في صفوف الشعب. وما دام الأمر يتعلق بـ"النهضويين" خاصة و"الإسلاميين" عامة فهم ذاتهم من ضحايا استبداد السلطة ولهم مصلحة في تلك المطالب وذلك بقطع النظر عن الموقف من خلفيتهم الإيديولوجية ونواياهم السياسية.

ولكن يمكن لبعض الأطراف أن تجيب أنه وإن كانت لكل القوى بما فيها "النهضويون" مصلحة في هذه المطالب فإن ذلك لا يعني بالضرورة وجوب النضال من أجلها بصورة مشتركة، وبعبارة أخرى فإن هذه الأطراف ترى في انخراط "الإسلاميين" في المطالبة بالحرية السياسية سببا مشروعا لتقسيم الحركة السياسية وهي تنسى أو تتناسى حقيقة تكتيكية لا تتعلق فقط بالطابع المجمّع والموحّد لمطلب الحرية السياسية من خلال المطالب الثلاثة والذي يقتضي موضوعيا تجميع كافة القوى المنبثقة عن تلك الأرضية، كما تنسى أو تتناسى أنّ تبني "الإسلاميين" لتلك المطالب الديمقراطية يمثل كسبا للحركة الديمقراطية التي رفعت تلك المطالب منذ عقود وليس العكس، بل تنسى أو تتناسى أيضا أن قدرات الحركة السياسية والجمعياتية في تونس ضعيفة حتى وهي مجتمعة فما بالك وهي مشتتة، فما بالك واليساري يناضل وحده من أجل الحرية السياسية والقومي وحده، والليبيرالي وحده، فإذا كان العمل الجماعي سيأتي بنتائج أفضل للشعب التونسي وللحركة الديمقراطية والتقدمية بالذات فلماذا نرفضه؟ إن ضيق الأفق وحده بل عقلية الدكاكين وحدها هي التي ترفضه لأنها لا تفكر في النتائج العامة الإيجابية منظورا إليها من زاوية مصلحة الشعب التونسي بأسره ولا تهمها سوى المصلحة الفئوية.

لقد بين حزب العمال منذ أكثر من عشر سنوات في رده على الذين كانوا ينتقدون مبادرته بمعية قوى وشخصيات سياسية وحقوقية أخرى بالمطالبة بإطلاق سراح المساجين السياسيين وسن قانون العفو التشريعي العام إلى جانب دفاعه عن الحريات السياسية، وخاصة حرية التنظم للجميع دون قيد أوشرط، بين أن وضعا تتوفر فيه الحريات السياسية، هو، حتى وإن انتفعت منه "حركة النهضة" أو أي تنظيم سياسي آخر رجعي، أفضل بكثير للشعب التونسي من الوضع الحالي، المتسم بقمع منهجي وبتكبيل تام لطاقات المجتمع والشعب التونسي، تحت غطاء التصدي لـ" التطرف والإرهاب" "الإسلامي" أو "اليساري" لأنه في الحالة الأولى توجد فرصة للصراع الفكري والسياسي ضد البرامج والمقترحات التي لا تخدم تلك المصالح والطموحات، أما في الحالة الثانية فإن التلجيم تام ولا توجد إمكانية لا للشعب ولا للقوى السياسية والجمعيات والمنظمات للتعبير عن مواقفها وممارسة أنشطتها بأي شكل من الأشكال [2].

وفي هذا الصدد فإن ما لا يدركه المعترضون اليوم على وحدة العمل من أجل الحريات وهم يبدون خوفهم من انتشار الفكر الغيبي (الشعوذة، الخرافة، التطرف الديني ...) في المجتمع ومخاطر انعكاساته السياسية لما يمثله من احتياطي موضوعي لـ"الإسلام السياسي" عامة و"حركة "النهضة خاصة" هو أن غياب الحريات وسيادة القمع الفاشستي في بلادنا اليوم هو أحد أهم العوامل التي ساعدت وتساعد على انتشار ذلك الفكر الغيبي الظلامي بسبب انعدام إمكانية مصارعته بمختلف الوسائل والأساليب الفكرية والفنية والثقافية عامة. إن الفكر الغيبي والظلامي ليس في حاجة إلى الحرية كي ينتشر بل إلى غيابها لأن النور يحاصره ويدكه دكّا. وليس أدل على ذلك من أن أكثر فترة انتشر فيها هذا الفكر هي الـ15 سنة الأخيرة من حكم بن علي التي شهدت فيها تونس تصحرا ثقافيا غير مسبوق، دون أن ننكر بالطبع المناخ الدولي الذي ساعد على ذلك.

ومن هنا تأتي ضرورة تكتيل كافة القوى في وحدة عمل من أجل الحريات السياسية لما في ذلك من مصلحة وللحركة الديمقراطية والتقدمية ولتونس عامة.

7 - في مصلحة الحركة والشعب

قد يبدو للبعض، أن حزب العمال تحول إلى لسان دفاع عن "النهضويين" وهذا محض هراء. فنحن حين دافعنا وندافع إلى اليوم عن وحدة العمل التي حققها الإضراب حول مطلب الحريات ليس منطلقنا كما ليس هدفنا أن نكون لسان دفاع عن "النهضويين" أو غيرهم من أطراف "الإسلام السياسي" بل إن ما نضعه نصب أعيننا هو مصلحة الشعب التونسي بعماله وفلاحيه، وموظفيه الصغار وحرفييه، ومثقفيه وطلابه، بنسائه ورجاله الذين تمثل الحريات السياسية المفتاح الذي سيخرجه من السجن المظلم الذي تحبسه فيه الدكتاتورية. وما دام تحقيق هذا الهدف يقتضي الآن وهنا وللأسباب التي ذكرنا تجميع جميع القوى التي لها مصلحة فيه، بقطع النظر عن خلفياتها الإيديولوجية، ونواياها السياسية وتكتيلها في وحدة عمل، فنحن لم نتردد في القيام بأعمال مشتركة معها دون استثناء، ولم نتذرع بإمضاء "نهضويين" على عريضة حتى نرفض الإمضاء أو مشاركتهم في ندوة أو في اعتصام أو في إضراب حتى نعارضها أو نقاطعها بل حضرنا طالما أن الأرضية ديمقراطية، طالما أن المطلب أو المطالب ديمقراطية وعملنا بل حرصنا على أن يكون هذا الطابع الديمقراطي بارزا وغير قابل للتشويه والتوظيف الحزبي الضيق حتى يكون لبنة في نشر الوعي الديمقراطي في صفوف القطاع المعني أو الشعب التونسي عامة.وذلك إيمانا منا بأن قيادة النضال الديمقراطي يقع إحرازها ميدانيا، لا برفع الشعارات الجوفاء داخل مكتب أو صالون أو مقهى، وأن الاستفادة من نتائج المعارك التي تدور حول الحريات السياسية تكون على قدر الانخراط الجدي فيها وعلى قدر التضحيات التي يقدمها كل طرف والجهد الذي يبذله لنشر الوعي الديمقراطي في صفوف الشعب.

8 - التناقض الرئيسي مع الدكتاتورية

إن ما تنساه أو تتناساه بعض الأطراف المناوئة لمواصلة وحدة العمل حول مطلب الحريات هو أن التناقض الرئيسي اليوم في تونس هو بين غالبية المجتمع التونسي من جهة وبين الدكتاتورية البوليسية الغاشمة والأقلية التي تسندها وتنتفع من وجودها من جهة ثانية وليس بين " العلمانيين" و"الإسلاميين" [3].

إن هذا التناقض هو الذي يحدد أولا وقبل كل شيء موقع أي طرف في الحقل السياسي في تونس، ثم تأتي بعد ذلك بقية المسائل التي تخضع لهذا التناقض أو تعالج في إطاره. فنحن مثلا وهذا نقوله دون لبس، لا يجمعنا أي جامع بأي علماني مزعوم يتواطأ مع الدكتاتورية أو يهادنها ويقدم لها الخدمات بصورة مباشرة أو مقنعة ويبدي في نفس الوقت "معارضة راديكالية" لـ"الإسلاميين" ويزايد بها في الساحة، فهذه المعارضة إن دلت على شيء فهي أن صاحبها يعارض "الإسلاميين" من موقع الدكتاتورية الحاكمة وهو في أية حال رجعي، استئصالي، وليس بأية حال من الأحوال ديمقراطيا. إن العلمانية لا معنى لها من وجهة نظر سياسية إن لم تكن رديفا للحرية والديمقراطية مما يعني أن العلماني الحقيقي لا يمكن إلا أن يكون في قطيعة مع الدكتاتورية لا متواطئا معها أو مهادنا لها.

ومن هذه الزاوية فإن التناقض مع "النهضويين" وغيرهم من "الإسلاميين" ينبغي أن يخضع للتناقض الرئيسي مع الدكتاتورية، وليس لاعتبارات أخرى إيديولوجية إنعزالية. وفي هذا الصدد نذكّر بذلك الموقف الذي ما انفك حزب العمال يردده منذ منتصف التسعينات، ومفاده أن من يريد حقا التصدي لقيام دكتاتورية متغلفة بالدين محل الدكتاتورية الحالية عليه أن يكون أولا وقبل كل شيء في مقدمة النضال ضد هذه الأخيرة وأن يعطي المثال في مقاومتها. وعليه ثانيا: أن يخوض صراع أفكار وبرامج ومقترحات، صراع قيادة، داخل المجتمع عامة وفي صفوف الشعب خاصة ضد أفكار "حركة النهضة" وبرامجها ومقترحاتها حتى تنتصر الأفكار والبرامج والمقترحات الديمقراطية ولا يكون مصير تونس كمصير بعض البلدان الأخرى التي عوضت فيها دكتاتورية متغلفة بالدين دكتاتورية بوليسية أو عسكرية ذات لبوس عصراني [4].

أما أن يتواطأ المرء أو يهادن الدكتاتورية القائمة فعلا، والتي تنيخ بكلكلها على المجتمع وتدمّر طاقاته ومستقبله، وذلك بدعوى التصدي لدكتاتورية محتملة، لدكتاتورية قد تقوم أو لا تقوم فتلك هي عين الانتهازية السياسية، بل هي الاستقالة بعينها من النضال الديمقراطي، وخلافا لما يزعمه أصحاب هذا السلوك، فإنهم بموقفهم هذا يُقوّون ولا يُضعفون التيار الذي يزعمون مقاومته، ويتركون له المجال كي يظهر بمظهر "المقاوم الوحيد للدكتاتورية" ويُضعفون ولا يـُقوّون موقفهم هم، لأنهم يظهرون، وهم كذلك، في موقف المهادن إن لم نقل الخادم للدكتاتورية، المتخلي عن النضال الديمقراطي وعن قيادته.

لقد ظهر في التسعينات خصوصا، موقف لا زلنا نسمع أصداءه إلى الآن رغم ضموره، يتحفظ على كل تحرك ميداني ضد الدكتاتورية إن لم نقل يندد به بدعوى أن "النهضويين" خاصة و"الإسلاميين" عامة سيستفيدون منه. إما لأنهم "الأقوى" أو يمثلون أحد طرفي "الاستقطاب" (سلطة/إسلاميين) وتارة أخرى "لأن الظرف الدولي موات لهم" (وجود "دولية" أصولية في خدمتهم). وبعبارة أخرى فإن المطلوب فعلا هو عدم "إزعاج" بن علي في حربه على "النهضويين" لأن أصحاب ذلك الموقف يعتبرون ضمنيا أن نظام بن علي "أقل خطرا عليهم" من "النهضة" وهو ما يبرر تحالفهم معه أو مهادنتهم له.

9 - التجربة شاهدة على صحة مواقف حزب العمال

لقد بينت التجربة الملموسة خور هذا الموقف بل إنها بينت أنه لا يخدم إلا الدكتاتورية. كما أنها بينت سداد موقف حزب العمال وباقي القوى الديمقراطية التي استمرت في مواجهة الدكتاتورية حول محور الحريات. إن الذي استفاد من المكتسبات النسبية المحققة هو أولا وقبل كل شيء الشعب التونسي وكذلك الحركة الديمقراطية التي بدأت تخلق استقطابا حقيقيا وفعليا بينها وبين الدكتاتورية بدل الاستقطاب المزعوم سلطة/أصولية التي حاولت السلطة الترويج له داخليا وخاصة خارجيا لتبرير القمع الذي تسلطه على المجتمع وتأمين بقائها كـ"سد منيع ضد التطرف الأصولي".

إن حزب العمال الشيوعي التونسي حين ندد في مطلع التسعينات بالمحاكمات الجائرة التي استهدفت أتباع "حركة النهضة" وغيرها من التنظيمات "الإسلامية" وطالب بإيقافها وبإطلاق سراح كافة ضحاياها، لم يفعل ذلك لسواد عيني "النهضة" أو خدمة لها ولم يأخذ بعين الاعتبار إن كانت "حركة النهضة" ستعترف له بذلك أو تكف عن صراعها الإيديولوجي مع اليساريين ورميهم بـ"الكفر والإلحاد" و"العلمانية الفاسدة" بل فعل ذلك انطلاقا من قناعاته الديمقراطية الثابتة التي ترفض العسف الذي تمارسه الدكتاتورية مهما كانت الضحية، لأن في هذا الموقف دفاعا عن الشعب والمجتمع وتحصينا لهما وتأسيسا لثقافة سياسية جديدة هي الثقافة الديمقراطية المؤسسة على احترام الحريات الفردية والعامة التي ما أن تتجذر في وعي الشعب حتى تصبح هي السد المنيع ضد أي نزعة دكتاتورية مهما كان الغلاف الذي تتغلف به، أرضيا أو سماويا، ليبيراليا أو قوميا، إسلاميا أو اشتراكيا.

ومن الملاحظ أن حزب العمال الذي اتخذ في مطلع التسعينات هذا الموقف، هو ذاك الذي كان في صراع فكري وسياسي وميداني لا هوادة فيه مع "حركة النهضة" في أواخر الثمانينات، عندما كان يوجد هامش من حرية التعبير ومقارعة الرّؤى والمشاريع المجتمعية والمواقف وكانت "حركة النهضة" و"حزب العمال" مسموحا لهما بشيء من التحرك بحكم ظروف سلطة بن علي الجديدة التي كانت تبحث عن تثبيت نفسها، وكان الصراع قائما بشكل مباشر على قيادة هذا القطاع أو ذاك، ولكن عندما انقلب الوضع، وقضي على هامش الحرية الذي كان موجودا وأصبح الجميع، بقطع النظر عن انتمائه الفكري والسياسي، يواجه نفس الخطر والمصير، فمن الطبيعي أن يغير حزب العمال سلوكه السياسي، ويرد على كل الذين كانوا ينتقدونه على تنديده بقمع "النهضويين" بأن انتظروا سيأتي دوركم لأنكم لا تدركون أن بن علي لا يقمع "الإسلاميين" دفاعا عن الحرية والديمقراطية بل حماية لنفسه من أية معارضة جدية مهما كان لونها.

10 – وحدة العمل لا تطمس الخلافات ولا تنفي العمل المستقل

ومن الطبيعي أنه يحق لأي ديمقراطي أن يحتاط وهو ينخرط في أي عمل مشترك ضد الدكتاتورية من محاولات الاحتواء والتوظيف ولكن ينبغي أن لا يتحول ذلك إلى ذريعة لرفض العمل الجماعي. فالالتقاءات حول مطالب أو مهام معينة في ظرف من الظروف ليست مسألة نابعة من الرغبات الذاتية ولكن الواقع الموضوعي هو الذي يفرضها على كل الأطراف. وعلينا أن ندرك أنه ما من طرف ينخرط في عمل مشترك إلا وله حساباته التكتيكية والاستراتيجية. وهذا هو جوهر العمل السياسي. ولكنّ المهمّ بالنسبة إلى أي ديمقراطي متماسك هو أن يحرص على أن تكون أرضية سليمة ديمقراطية وأن يكون الالتزام بها شرطا أساسيا للانخراط في ذلك العمل. فلا يمكن مثلا الالتزام بالدفاع عن الحريات السياسية في إطار العمل الجماعي والقيام بما ينافي ذلك في العمل الخاص حزبيا كان أو جمعياتيا أو شخصيا، مثل مهادنة السلطة أو محاولة عقد صفقات انفرادية معها على حساب الاتفاقات المشتركة أو التهجّم على هذه الحرية أو تلك مثل حرية التعبير وذلك بتكفير من يمارسها بدعوى أنه مسّ ما يعتبره هذا أو ذاك من باب "المحرّمات" . لذلك ومن أجل ضمان نجاعة أكبر لوحدة العمل حول الحريات لا بد من تعميق النقاش حولها وحول محتوياتها وآليات الالتزام بها.

وإلى ذلك فإن الالتقاء حول أهداف معينة لايعنيطمس الخلافات القائمة بين الأطراف المعنية ولا تجاهلها أو وقف الجدال حولها كما يتوهم البعض. فالخلافات بين حزب العمال وحركة النهضة لا تزال قائمة ولن يزيلها عمل مشترك حول الحريات. وهو ما نقوله أيضا عن خلافات حزب العمال مع الأطراف الليبيرالية والإصلاحية المساهمة في هذا العمل. ولكن هذه الخلافات لا تنفي وحدة العمل المحققة حول الحد الأدنى والتي فيها مصلحة للجميع. وبعبارة أخرى فإن وحدة العمل هذه لا تعني تفريط كل طرف في ذاتيته واستقلاليته ولكن المطلوب أن لا يضر ذلك أرضية العمل المشترك.

كما أن العمل المشترك على واجهة الحريات لا ينفي حق الأطراف القريب بعضها من بعض في عقد تحالفات أوسع لأن الواقع لا يتطلب تدخلا في مجال الحريات فحسب بل كذلك في المجالات الاجتماعية والثقافية والقومية والدولية.

إن اليسار الديمقراطي التقدمي مثلا من حقه أن يتكتّل على أرضية خاصة. ولكنّ ذلك لا يمنعه، بل يوجب عليه الانخراط في جبهة العمل من أجل الحريات والعمل على أن يكون فاعلا فيها، طليعيا بصحة مواقفه وسلامة مقترحاته وتطابق أقواله مع ممارساته. إن القيادة في العمل الديمقراطي المشترك لا تهدى ولا تفتكّ بل يقع إحرازها عن جدارة بالنضال الميداني.

وخلاصة القول إن من لا يدرك اليوم أهمية الحفاظ على وحدة العمل المحققة في إضراب جوع 18 أكتوبر 2005 حول الحريات ويحاول عرقلتها لهذا السبب أو ذاك فإنه يضيع في حقيقة الأمر فرصة على الحركة السياسية كي تطور فاعليتها في مواجهة الدكتاتورية كما يضيع فرصة على الشعب التونسي كي يتقدم خطوة على درب تحرره من كابوس هذه الدكتاتورية الغاشمة ويضيع فرصة على الحركة الديمقراطية والتقدمية ذاتها كي تطبع ذلك التحرّر بطابعها.

11 – فتح نقاش عام وعلني للارتقاء بوحدة العمل

وإذا كانت المهمة الأولى والأساسية المطروحة اليوم على كل القوى السياسية والجمعياتية هي كما قلنا ضمان مواصلة النضال أو "وحدة العمل" من أجل تحقيق الحريات فبالإمكان بل من الضروري أن يرفق ذلك بحوار عامّ وعلني، جدي وعميق يتناول مستلزمات المرور من "الحد الأدنى الحريّاتي" الذي يوحد العمل حاليا إلى "الحد الأدنى الديمقراطي" أو إن شئنا "السميق الديمقراطي" الذي من شأنه أن يشكل أرضية لبعث تحالف أو جبهة سياسية ضد الاستبداد والدكتاتورية.

إن هذه المهمة تمليها حقيقة غير قابلة للجدال وهي أن الحركة الحالية ستبقى محدودة التأثير إن لم يضبط لها أفق عام وواضح. فمن المؤكد أن النضال من أجل الحريات الأساسية من شأنه أن يخلق فلولا في جسم الدكتاتورية. ولكن علينا أن لا ننسى أن ما تحتاجه تونس ليس مجرد "إصلاحات" في النظام الدكتاتوري الحالي بل نظام جديد ديمقراطيا مما يعني ضرورة الاتفاق على أرضية ديمقراطية دنيا تكفل تحقيق هذا الهدف. وعلى كل طرف يعي مسؤوليته أن يستثمر المناخ الإيجابي الذي وفره إضراب 18 أكتوبر 2005 لإجراء النقاش المطلوب حول هذه الأرضية. فلأول مرة تتوفر فرصة جادة لإجراء صراع داخل الحركة السياسية من أجل تحديد الملامح العامة أو الدنيا للمشروع الديمقراطي في تونس التي يمكن أن يتم على أساسها فرزٌ بين قطبي الديمقراطية والدكتاتورية. وهو أمر يمكن أن تحتضنه "ندوة وطنية" أو "مؤتمر وطني" يتوّج النقاش المشار إليه.

وليس خافيا أن هذا النقاش سيتمحور خاصة حول العلاقة بين الحركة الديمقراطية من جهة وبين "حركة النهضة" والحركة "الإسلامية" عامة من جهة أخرى. ولكن هذه العلاقة لن تكون المحور الوحيد للنقاش والجدال. فالخلافات الأساسية تشق أيضا الأطراف الأخرى سواء في ما يتعلق بالموقف من الدكتاتورية وبالموقف من المشاريع الامبريالية الهيمنية.

إن الإطار السياسي العام والطبيعي للحوار الواجب فتحه، له في رأينا ثلاثة أبعاد كبرى:

أولا: الموقف من السلطة الحاكمة حاليا.

ثانيا: الموقف من المشاريع الامبريالية التي تعرض حاليا بعنوان "الإصلاح الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط الكبير".

ثالثا: الموقف من القواعد الدنيا التي يمكن أن يقوم عليها أي مشروع ديمقراطي بديل لنظام الحكم الدكتاتوري الحالي.

وسنحاول في ما يلي تقديم موقفنا العام من هذه النقاط إثراء للنقاش.

12 – القطيعة مع الدكتاتورية شرط لوحدة النضال الديمقراطي

فبالنسبة إلى النقطة الأولى فإن المسألة واضحة وهي تطرح كما يلي: هل أن الديمقراطية ستتحقق في تونس بواسطة النظام الحالي أو عن طريق التعاون معه أم مهادنته أو بالقطيعة معه والنضال ضده وعلى أنقاضه. فقد آن الأوان بالنسبة لكل طرف يزعم أنه يريد فعلا التغيير الديمقراطي في تونس أن يجيب عن هذا السؤال مستخلصا الدّرس من تجربة نصف قرن من حكم حزب الدّستور والنظام الدكتاتوري البوليسي الذي أقامه على القهر ودوس إرادة الشعب. ولا تقتضي الإجابة عن هذا السؤال أن يكون المجيب راديكاليا ثوريا، بل تقتضي منه أن يكون ديمقراطيا فحسب يرفض الحكم الفردي المطلق في شكل رئاسة مدى الحياة مقنّعة أو غير مقنّعة كما يرفض المؤسسات النيابيّة القائمة على التزوير المنهجي والتلاعب بالانتخابات ويتمسك بمبدأ السيادة الشعبية التي تعبّر عن نفسها في مناخ من الحرية السياسية التي تمكّن كل مواطن/مواطنة من إبداء رأيه في قضايا وطنه ومجتمعه واختيار من يحكمه ومراقبته ومحاسبته.

ومن البديهي أننا حين نطرح هذا السؤال فليس ذلك من باب التّرف الفكري، بل لأن الجواب عنه يحدد الموقع الحقيقي لكل طرف في النضال الديمقراطي: معه بتماسك أو بغير تماسك أو ضدّه فـ"الديمقراطي" ليس إعلانا أو صفة يطلقها المرء على نفسه بل موقف وممارسة في مجتمع محدد وظرف محدد، وبعبارة أخرى موقف من الدكتاتورية التي تحكمنا وممارسة مؤسسة على ذلك الموقف. ومن النافل أنه رغم كل الخيبات التي مُني بها الواهمون بإمكانية مقرطة النظام القائم فإننا لا نزال نسمع من يدعو إلى التّصالح معه" أو مهادنته أو الانخراط في المؤسسات الصّوريّة التي يقيمها والتي يُعيّنُ أعضاءها في قصر قرطاج وفي مصالح الأمن بوزارة الداخلية أو يدافع عن التحالف معه في أحلك فترات القمع التسعيني إلخ.. وفي كلمة فإنه لا حديث عن حركة ديمقراطية جادة وبديلة دون أن يكون لها موقف واضح من الدكتاتورية القائمة. بل دون أن يكون المستهدف من نضالها هذه الدكتاتورية ذاتها، باعتبار أن الديمقراطية تقتضي دستورا جديدا ونظام حكم جديدا ومؤسسات تمثيلية جديدة. مما يعني أن الديمقراطية ستنشأ من القطيعة مع نظام الحكم الحالي وليس من رحمه. وبالطبع فإن ما يبقى من قضايا تكتيكية أخرى يسهل أمره إذا تمّ الاتّفاق على المسألة الجوهرية سابقة الذّكر ونقصد بالقضايا التكتيكية الأخرى كل ما تمليه موازين القوى الملموسة من سلوك سياسي سواء في علاقة بنظام الحكم أو بجماهير الشعب.

13 – في علاقة المسألة الديمقراطية بالمسألة الوطنية

أما بالنسبة إلى النقطة الثانية فهي تهم تحديدا الموقف من المشاريع التي تطبخ في واشنطن وفي بعض العواصم الأوروبية حول "الإصلاح الديمقراطي في العالم العربي والإسلامي" في نطاق ما يسمّى بـ"مشروع الشرق الأوسط الكبير" أو ما يسمى بـ"سياسة الجوار الأوروبي"، وهي تثير مباشرة علاقة النضال الديمقراطي بالمسألة الوطنية. إن الأسئلة التي تفرض نفسها في هذا الصدد هي التالية: هل أن للولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الأوروبية مصلحة في إقامة أنظمة ديمقراطية في المنطقة المذكورة؟ وبعبارة أخرى هل هما يطرحان مسألة الديمقراطية من زاوية مصالح الشعوب أم أن الأمر لا يعدو كونهما يبحثان عن إعادة ترتيب أوضاع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بما يخدم مصالحهما الامبريالية الاستراتيجية ويدمج الكيان الصهيوني في المنظومة الشرق أوسطية ويجهض تطلعات الشعوب العربية وغيرها من شعوب المنطقة إلى تحقيق تحررها من الاستبداد والهيمنة الأجنبية في الآن ذاته؟

إننا نعتقد تمام الاعتقاد أنه لا يمكن تحقيق الحرية والديمقراطية بمعزل عن حرية الوطن واستقلاله، لأن الحرية والديمقراطية مطلب مشروع يحققه شعب بذاته ولذاته. فحرية الفرد وكرامته من حرية الوطن كما أن حرية الوطن واستقلاله من حرية مواطنيه. ومن باب أولى وأحرى فإن الحرية والديمقراطية لا يمكن أن يهديا من قوى امبريالية استعمارية ترتكب الجريمة تلو الأخرى في مختلف أنحاء العالم وخاصة في الوطن العربي وتسند الدكتاتوريات التي تحكم شعوبها ولا تثير قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان إلا في علاقة بمصالحها مما يعني أنها لا تريد في أفضل الحالات سوى قيام أنظمة ليبرالية على مقاسها لتحمي مصالحها وتشرع هيمنتها وتمرر سياسة التطبيع مع الكيان الصهيوني ولكنها ترفض الديمقراطية كلما كانت وسيلة للتعبير عن إرادة الشعوب في مسك مصيرها بيدها وصيانة استقلالها والتحكم في ثرواتها وخيراتها.

ولكن هل يمكن باسم "الوطنية" التواطؤ مع الدكتاتورية أو مهادنتها كلما تعرضت لضغوط دولية سواء من حماتها أو من مؤسسات أممية للحد من انتهاك الحريات وحقوق الإنسان؟ بالطبع لا، لأن العكس يعني التذيل للدكتاتورية التي تبيع الوطن في كل لحظة وتقدم شتى الخدمات والتنازلات على المستويين الداخلي والخارجي، للامبريالية عامة وللامبريالية الأمريكية خاصة، كي تضمن بقاءها. وهي لا ترفع عقيرتها بالصياح ضد "التدخل الأجنبي"، وتحاول استغلال الشعور الوطني للفئات المتخلفة سياسيا من الشعب، إلا عندما تُثار لها هذه الانتهاكات وتُطَالَب بمعاملة شعوبها بوسائل أقل بشاعة وفظاعة.

لذلك فإن الديمقراطي الحقيقي هو ذاك الذي يربط النضال الديمقراطي بحرية الوطن واستقلاله، ويحسن هذا الربط حتى لا يتحول إلى لعبة بيد الأجنبي تحت شعارات ديمقراطية كاذبة ولا إلى لعبة بيد الدكتاتورية باسم وطنية زائفة. وإذا ما أحسن هذا الربط فإن استغلاله لكل الظروف الدولية والإقليمية التي تخدم قضيته وقضية بلاده يصبح ممكنا بل ضروريا. ونحن إذ نثير هذه المسألة فبسبب ما يوجد في بلادنا من انحرافات في كلا الاتجاهين إذ نرى البعض يعبّر عن يأسه من "الإصلاح من الداخل" ويغترّ بالشعارات الأمريكية البراقة حول الحرية والديمقراطية كما نرى البعض الآخر يهادن الدكتاتورية بدعوى عدم الاستقواء بالأجنبي على تونس والحال أن هذه الدكتاتورية العميلة هي التي تستقوي فعلا بواشنطن وباريس على الشعب التونسي حتى لا يتمتع بالحرية والديمقراطية. وهي التي تمثل عرّاب المشاريع الامبريالية الأمريكية في المنطقة على غرار ما حدث في قمة الجامعة العربية في ربيع 2004، وقتها لم نسمع بعض معارضي مشروع الشرق الأوسط الكبير يرفعون صوتهم ضد نظام بن علي الذي فرض تأجيل القمة بطلب من واشنطن لتهيئة الظروف لتمرير مشروعها المذكور، كما أننا لم نسمع صوتهم حين ربط بن علي تونس باتفاقية شراكة استعمارية جديدة مع الاتحاد الأوروبي في منتصف التسعينات، بل إن هؤلاء زكّوا هذه الاتفاقية من خلال المواقع النقابية التي كانوا يحتلونها في الهياكل القيادية الوطنية والجهوية للاتحاد العام التونسي للشغل.

14 – من الشروط الدنيا لأي اتفاق ديمقراطي

أما بالنسبة إلى النقطة الثالثة المتعلقة بالقواعد الدنيا التي يمكن أن يقوم عليها المشروع الديمقراطي فهي تقابل أساسا بين الديمقراطيين من جهة و"حركة النهضة" و"الإسلاميين" عامة من جهة ثانية. وقبل الخوض في هذه النقطة نرى لزوما التذكير ببعض المبادئ والقواعد التي قادتنا في تعاملنا إلى حد الآن مع "حركة النهضة" رفعا لكل التباس. فإن نحن لم نعقد أي تحالف أو جبهة سياسية مع حركة النهضة فليس ذلك راجعا إلى أسباب إيديولوجية مجردة بل إلى أسباب سياسية تتمثل في أننا لا نعتبر أن الحد الأدنى الديمقراطي الذي ينبغي أن ينبني عليه مثل ذلك التحالف أو الجبهة السياسية متوفر. كما أنه راجع إلى أننا لم نلمس في مواقفها تطورا حقيقيا وجديا يقطع مع أطروحاتها التقليدية الأساسية المعادية للديمقراطية. وعلى هذا الأساس ميزنا في علاقتنا بها بين مستويين، الأول حقوقي يندرج في نطاق مواقفنا العامة والمبدئية المتعلقة بالدفاع عن الحريات ورفض انتهاكها مهما كانت الضحية وهو ما قادنا في رفض القمع الذي تعرّض له أتباع تلك الحركة والمطالبة بإطلاق سراحهم دون قيد أو شرط وتمتيعهم مثلهم مثل غيرهم بحقوقهم السياسية. والثاني سياسي يهم التحالفات وهو مرتبط طبعا بمدى توفر الأرضية المناسبة لذلك، وطالما أن هذه الأرضية لم تتوفر فإننا لم نعقد تحالفا مع "حركة النهضة". ولكن هذا لم يجعلنا نقاطع أي عمل جماعي يهم الحريات يشارك فيه "إسلاميون" إيمانا منا بأنه من الخطأ أن نرفض هذا العمل الذي يمكن أن يعود بالفائدة على الشعب التونسي بسبب تلك المشاركة.

وبما أن مسألة الاتفاق حول حد أدنى ديمقراطي تُثار من جديد وفي مناخ أفضل من قبل فإنه، وكما سبق أن أوضحنا في وثيقة "الأدنى الديمقراطي لتحالفنا اليوم وغدا" [5]، توجد مسائل أساسية تتعلق بحقوق وحريات دنيا غير قابلة للتصرّف ينبغي أن تشكل المضمون الأولي للنقاش الذي ذكرنا باعتبارها ستكون محددة في ما إذا كان من الممكن إقامة تحالف أو جبهة سياسية حول حد أدنى ديمقراطي. وهذه المسائل هي في رأينا التالية:

أولا: مسألة الحريات الفردية وخصوصا حرية التفكير والمعتقد وعلاقتها بالحريات العامة (بما فيها حرية التعبير والتنظيم والاجتماع والتظاهر والانتخاب والترشح ...) فنحن نعتقد أن لا حريات عامة دون حريات فردية وبشكل خاص لا حرية سياسية دون حرية فكرية وعقديّة. ولا يمكن الحديث عن احترام للحريات الفردية والعامة دون القطع التام مع منطق التكفير.

ثانيا: مسألة المساواة بشكل عام والمساواة بين الجنسين بشكل خاص باعتبار أنه لا يمكن بأي وجه من الوجوه الحديث عن الحرية في المجتمع التونسي دون أن يكون للنساء الحق في التمتع بثمارها على قدم المساواة مع الرجال ولا يمكن الحديث عن ديمقراطية دون أن يكون النساء طرفا فعالا في بنائها وفي التمتع بثمراتها على قدم المساواة مع الرجال. وإن كان لا بد من وفاق حول هذه المسألة فليس ثمة أقل من الوفاق حول ما اكتسبه النساء في تونس من حقوق في العائلة والمجتمع الواردة في قانون الأحوال الشخصية وغيره من القوانين (إلغاء تعدد الزوجات، حق اختيار الزوج، تحديد سن أدنى للزواج، الحق في الطلاق، الحق في إدارة شؤون العائلة على قدم المساواة مع الرجل، التبني، الحق في الشغل والتعليم وفي تولي كافة المناصب العمومية، الحق في الانتخاب والترشح، حرية اللباس ...). وإن كنا في حزب العمال لا نقف في حدود هذه المكاسب فنحن نناضل من أجل المساواة التامة بين النساء والرجال، قانونا وممارسة، باعتبار ذلك من شروط ديمقراطية حقيقية ومتماسكة.

ثالثا: قضية احترام حقوق الإنسان وفي إطارها احترام الحرمة الجسدية للبشر وفقا لما ورد في المواثيق الدولية وهو ما يثير الموقف المبدئي من العقوبات الجسدية وإطارها التشريعي وخاصة مسألة الحدود.

رابعا: مفهوم الديمقراطية، هل هي نظام سياسي له قواعده الثابتة غير القابلة للتصرف بقطع النظر عن الخلافات المذهبية والسياسية أم هي مجرّد آلية انتخابية ظرفية للوصول إلى الحكم وتطبيق مشاريع يمكن أن تكون منافية لتلك القواعد بدعوى أن "أغلبية الشعب" ترفض تلك القواعد (احترام الحريات الأساسية، اعتبار الشعب مصدرا للتشريع دون أي وصاية عليه، احترام الأغلبية لحقوق الأقلية، إلخ.).

خامسا: مسألة العلاقة بين الفضاء السياسي والفضاء الديني وحدود كل منهما في علاقة بالآخر، حتى لا يقمع السياسي الدين والمتدينين ولا يتسلط الديني على السياسي وبالتالي على المواطنين بدعوى تمثيله لسلطة ربّانيّة فوق الأرض.

إن الموقف من هذه القضايا الخمس على الأقل هو الذي سيحسم ما إذا كان من الممكن التوافق على الحد الأدنى الديمقراطي أم لا باعتباره يشمل قواعد غير قابلة للتصرّف في قيام أي تحالف أو بناء ديمقراطي.

ومن البديهي أن النقاش يمكن أن يشمل قضايا أخرى. ومن بين هذه القضايا مسألة الهوية التي ينبغي التوافق بشأنها على رؤية تحول دون استخدامها ذريعة لضرب حقوق التونسيين وحرياتهم وخصوصا حقوق النساء وحريتهنّ وعدم الالتزام بالطابع الإنساني/الكوني لتلك الحقوق والحريات.

ومن البديهي أيضا أن أي توافق يحصل لا يمس من استقلالية أي طرف كما لا ينفي الصراع حول القضايا الأخرى الخلافية المتعلقة بالنواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى السياسية التي تتباين فيها الرؤى والبرامج والمقترحات.

تونس في ديسمبر 2005

[1] في لقاء غير رسمي جمع يوم 11 سبتمبر 2005 مجموعة من المناضلات والمناضلين الحقوقيين والسياسيين طرح أحد المناضلين الحقوقيين المعروفين فكرة إضراب الجوع للرد على الهجوم الذي تشنه السلطة على الرابطة وعلى قوى المجتمع المدني عامة. وقد أيّد هذه الفكرة بعض المناضلين في ما انتقدها البعض الآخر. وبالنظر إلى طبيعة الاجتماع لم يستقر الرأي على أيّ قرار أو مقترح. ولكن فكرة الإضراب تبناها حزبان (حزب العمال الشيوعي التونسي والحزب الديمقراطي التقدمي) وناقشاها مع بقية الأطراف السياسية (التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، المؤتمر من أجل الجمهورية، حركة التجديد، حزب العمل الوطني والديمقراطي، الشيوعيون الديمقراطيون، الوحدويون الناصريون، المستقلون) والجمعيات والمنظمات المستقلة (الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، رابطة الكتاب الأحرار، المجلس الوطني للحريات في شخص كاتبه العام، الجمعية التونسية لمقاومة التعذيب، الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين، مركز تونس لاستقلال القضاء والمحاماة، نقابة الصحفيين التونسيين، الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات). وقد قبل البعض المقترح وانخرط في الدفاع عنه فيما تحفّظ عليه البعض الآخر للأسباب المذكورة في النصّ.

[2] انظر حول هذه المسألة كراس "مرّة أخرى، حزب العمال وحقوق الإنسان (ملاحظات حول تقرير)"، وهو عبارة عن مجموعة مقالات من صوت الشعب ومقتطفات من كراريس صدرت بين 1987 و2001

[3] كما أن التناقض الرئيسي ليس بين "المؤمنين" و"الملحدين" كما يطرح في بعض أدبيات حركة النهضة، لأنّ المسألة هنا سياسية وليست دينية. (انظر رسالة راشد الغنوشي بمناسبة عيد الفطر)

[4] انظر كراس "مرّة أخرى، حزب العمال وحقوق الإنسان (ملاحظات حول تقرير)" وكراس "حزب العمال الشيوعي التونسي: موقف ثابت ومتماسك من انقلاب 7 نوفمبر 1987"

[5] "الأدنى الدّيمقراطي لتحالفنا اليوم وغدا (في الردّ على بيان مواعدة/ الغنّوشي)"، أفريل – ماي 2001



#حزب_العمال_التونسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل مازال للمفاوضات الاجتماعية من معنى ؟
- لنكن جميعا في خدمة أهداف الإضراب
- ماذا جرى بين الاتحاد والحكومة؟
- نحو أزمة اجتماعية حادة
- قانون جديد لتكريس الحكم الفردي المطلق بتونس
- بن علي يخضع جميع الموظفين لشبه مراقبة إدارية
- المنتديات الاجتماعية، إجابة العصر المنقوصة
- الوضع الاجتماعي في تونس الانفجار آت لا ريب فيه
- دفاعا عن الرابطة وعن استقلالية العمل الجمعياتي وحريّته
- النضال هو الوسيلة الوحيدة لمجابهة الدكتاتورية وإرغامها على ا ...
- أزمة النسيج تشتد ونضالات العمال تتصاعد
- لا مستقبل لشباب تونس في ظل الدكتاتورية
- رائحة أزمة نقابية!
- كلمة الرفيق حمه الهمامي في ندوة بروكسيل حول -الشراكة الأوروم ...
- بيان مشترك حول تفجيرات لندن
- مرة أخرى:لا خلاص للعمال إلا بالوحدة والنضال
- في اليوم الوطني لمقاومة التعذيب والذكرى 18 لاستشهاد نبيل الب ...
- طبقة عاملة، منزوعة السلاح، مهدورة الحقوق !
- بمناسبة الانتخابات البلدية: حزب العمال يدعو إلى مقاطعة المهز ...
- من المستفيد من المفاوضات الاجتماعية؟


المزيد.....




- هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب ...
- حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو ...
- بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
- الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
- مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو ...
- مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق ...
- أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية ...
- حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
- تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - حزب العمال التونسي - بعد انتهاء إضراب 18 أكتوبر: كيف نحافظ على وحدة العمل من أجل الحريات ونطوّرها