|
عملية سياسية مندحرة ولكنها مستمرة
عبدالحميد برتو
باحث
(Abdul Hamid Barto)
الحوار المتمدن-العدد: 5267 - 2016 / 8 / 27 - 22:15
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن الإفراط في إستخدام مصطلح "العملية السياسية" الغامض والإصرار عليه يُشكلان جزءاً من التضليل الفكري والسياسي والدعائي الذي رافق الإحتلال الأمريكي للعراق عام 2003. ولا شك في أن دوافع إستراتيجية وسياسية وإقتصادية تقف خلف شن الحرب على العراق، وكان من بين تلك الدوافع قطع دابر، أو التصرف بطريقة إستباقية ضد أي إحتمال ـ حتى ولو كان ضعيفاً ـ في أن يتولى الشعب العراقي التغيير بنفسه. ولم يكن خافياً حتى قبل الإحتلال لمن عنده ذاكرة، أن الهدف المعلن للإحتلال، هو تدمير العراق كبلد مهم في المنطقة؛ (إعادة العراق الى عصر ما قبل المجتمع الصناعي ـ جورج بوش)، وليس معاقبة النظام الدكتاتوري القائم فيه فقط.
ما نراه اليوم من بؤس ولصوصية وجرائم وداعش ومليشيات ومسرحيات سياسية رديئة الإعداد والشكل والمضمون، هو مجرد هزات إرتدادية للغزو الأمريكي والتدخلات الخارجية، الدولية منها والإقليمية. وأقول بصدد التدخلات الإقليمية إنها فعلة رعناء، تمثلت بدعم الإحتلال ومساندته، ومواصلة ذلك النهج سراً وعلانية الى يومنا هذا. ولم تدرك تلك الدول أنها هي الهدف اللاحق، ولو بعد حين. كل ما فعلته الأطراف الإقليمية تجاه شعب العراق، هو محاولة لإسترضاء الولايات المتحدة، ولإبعاد تهديدها عنها، حتى ولو لبعض الوقت. وبناء هرم زائف لإيهام شعوبهم بأنهم تحولوا الى قوى إقليمية ذات بأس وذات تأثير في السياسة الدولية.
ومن المعلوم أن اللصوصية بدأت قبل الإحتلال من خلال العقود الفردية والسياسية مع "أبناء الوطن"، الذين يدعون بأنهم يمثلون أطيافاً واسعة من العراقيين؛ عقود مع البنتاغون والخارجية الأمريكية وغيرهما. ومنحت الجهات الأمريكية المتعاونين معها من خيرات الشعب العراقي وخبزته وعلى حسابه إمتيازات غير متوفرة حتى لنظرائهم الأمريكيين في واشنطن نفسها. حولت تلك الإمتيازات المتعاقدين من حالات أقرب الى التسول الى الرفاهية المفرطة وغير المشروعة. والهدف واضح، حيث سعى المحتل تحولهم الى أصحاب مصلحة معه من خلال "العملية السياسية" التي صممها بنفسه.
إعتمد الإحتلال إسلوب ومنهج اللصوصية كأداة فعالة ليس فقط في تدمير الدولة العراق، بل من أجل إنهاك ومحاولة تدمير القيم الإجتماعية والإخلاقية أيضاً، وذلك لتعطيل عمليات إنقاذ البلاد المحتملة الى أبعد فترة ممكنة، ومن أجل عرقلة عمليات النهوض الجماهيري. بدأت "العملية السياسية" على يد المحتل نفسه بعمليات تعميم اللصوصية من خلال سرقة دوائر الدولة العراقية، ونهب كل ما يمكن نهبه من الملكية العامة، بما فيها التاريخية ـ التي تستحيل عملية إعادة إنتاجها ـ المتاحف والمكتبات ووثائق الدولة التي تخص المواطنيين، وكان كل ذلك يجري أمام الكاميرات.
ليس التدخل والإحتلال الأمريكي للعراق الأول من نوعه في العالم، حيث كانت لواشنطن تجارب كبرى في الإحتلال المباشر وغير المباشر وفي تنظيم الإنقلابات العسكرية. وكذلك تمتلك خبرات في دعم التحولات ببعض الدول، كما حصل في شرق اوروبا. كان للتحولات في شرق أوروبا خصوصيات غير مسبوقة، ولم ترافقها عمليات تدمر لتلك الدول، ولم تبسط واشنطن نفوذها من خلال العقود الفردية والسياسية. هنا لعب مبدأ إتفاق المصالح دوراً رئيسياً في تحريك التحولات بصورة أساسية، والناس الذي ساهموا في تحويل شرق أوروبا، كانت صداقتهم لأمريكا تنطلق من رؤية، تفيد بأن واشنطن والغرب عامة يقف مع مصالح بناء نظام جديد في تلك اللحظة بتلك الدول. وبالمقابل كان كل ما تريده الإدارة الأمريكية من تلك الدول، هو إبعادها عن الإتحاد السوفيتي ـ طبعاً المقصود روسيا تحديداً.
بديهي أن مَنْ خدم الإحتلال أو مَنْ تواطأ معه في بلادنا، أو حتى الذين نشأت لهم مصالح مع المحتل في وقت لاحق، يحرصون على مواصلة "العملية السياسية" الفاشلة لحماية مصالحهم. هذا بغض النظر عن الثمن الباهض الذي يدفعه الشعب العراقي، حيث باتت درجة فساد "العملية السياسية" تمثل غطاءً مهلهلاً، وصل الى درجة لم تعد فيه حتى واشنطن نفسها تقبل بذلك الإخراج الرديء للديمقراطية المصدرة إلينا، إنهم يواصلون التمسك بـ"العملية السياسية" لإعتبارات كثيرة، من أبرزها حماية المصالح الشخصية.
وتواصلت عمليات تدمير الوعي الإجتماعي الى درجات لم تعد الحالة تخدم سوى شلة من اللصوص، على حساب العراق وأغلب شعوب المنطقة. إن المثل الصارخ على إنهيار الوعي في صفوف القوى السياسية والدينية والمثقفين بصفة خاصة، إنهم لا يكترثون بل يأملون خيراً في التدخلات الخارجية بمسألة تقرير مصائرنا، ويتجاهلون أي تدخل لا يستهدف مصالحهم.
كيف يمكن لوطني أن يفرح أو يساند تحول بلداننا الى ساحات لتمرينات عسكرية وإخبارات أسلحة إستراتيجية، وصراعات وعمليات إعادة تقاسم النفوذ، وأن لا يجد أي طرف دولي أو إقليمي حرجاً أو مانعاً محلياً في طريق طموحاته ونشاطاته لإعادة رسم مكانته على رقعة الجغرافية الإستراتيجية لعالم اليوم فوق أراضينا. كما إن القوى الكبرى تريد لبعض الدول الإقليمية أن تعمق تدخلاتها أكثر فأكثر في جوارها، بما يحول تلك التدخلات الى حجة في المستقبل لتمرير تكرار تجربة العراق أو غيره عليها. إن دول الجوار تنفش ريشها الخادع والفارغ من أية قوة بإستثناء ما تسمح به الدول الكبرى، وهي لا تحتسب لما ينتظرها عندما تتغول على العراق أو غيره.
إن كل أنواع التضليل الفكري والسياسي والتعمية والإفساد متواصلة، ولكنها مجتمعة عجزت عن تغطية ما جرى ويجري ضد الشعب العراقي. وعلى جبهة الشعب يفترض وجود درجة عالية من الحرص والحذر والشجاعة، خاصة فيما يتعلق بأساليب مواجهة الأوضاع الشاذة الحالية، والوقوف ضد زراعة الأوهام، ومن أخطر تلك الأوهام التطبيل لإسلوب واحد في النضال من أجل إنتزاع الحقوق.
أن كل الأحداث التي تجري في الدائرة المغلقة لدولة اللادولة في العراق، وآخرها كانت عملية سحب الثقة من وزير الدفاع العراقي، تعكس الكثير من الحقائق، ولكنها لا ترتقي الى مستوى عملية إنقاذ حقيقي تكون شعبية الأداة والطابع والهدف النهائي. وهنا لا أدخل في جزئية تقويم وزير الدفاع أو خصومه من أعضاء البرلمان الفاسد ثمرة ما يسمى بـ "العملية السياسية" الفاشلة، لأنها ليست ذات بال فيما يتعلق بالتحولات الجذرية الضرورية. ولكنها في الوقت ذاته أظهرت بجلاء أكبر، حقيقة وطبيعة الدولة الفاشلة والطغمة السياسية الفاسدة التي تهيمن عليها، إنها دولة فاشلة الى درجة باتت فيها كل مدينة عراقية بحاجة الى برنامجها الخاصة بها لحماية مواطنيها. ولكن والحق يقال أن مبادرة وزير الدفاع خالد العبيدي بغض النظر عن الظروف أو الدوافع التي أجبرته على المجابهة المباشرة، فهي مبادرة نقلت التهديدات بفتح ملفات فساد "العملية السياسية" التي يلوح بها الفاسدون منذ أكثر من عقد لأول مرة، من التهديدات الى التطبيق الفعلي، وهذا ليس قليلاً بكل الأحوال.
وإن الأزمة الأخيرة (سحب الثقة من وزير الدفاع) كان لها أصداء مهمة، من بينها: التأكيد على إتساع نطاق النبذ الشعبي للطائفية، كأخطر سلاح تدميري غذاه الإحتلال وعمقته "العملية السياسية" الفاشلة، كما إن سحب الثقة أظهر للشعب بشكل ساطع فساد السلطات الثلاث: البرلمان، الحكومة والقضاء، وأكد وجود تحالف عميق بين القيادات الطائفية في البرلمان والحكومة ضد كل الشعب المستباح بكل طوائفه. وإن الطائفية بالنسبة لأطراف "العملية السياسية" جسر الى المال والنفوذ والسلطة والأمن الشخصي على حساب حق الشعب في حياة آمنة. وما يمكن إستخلاصه على عجالة من تلك التجربة ما يلي:
ـ لا يمكن أصلاح النظام الذي ركبه الإحتلال، وهو عاجز عن المواصلة الحكم، فالحل الحقيقي في إزالته. ـ مصارحة الشعب من قبل القوى الوطنية والمثقفين الوطنيين بأن إسقاط التجربة الفاسدة لا يتم عن طريق إسلوب نضالي واحد بل من خلال إعتماد كل الأعمال وأساليب المشروعة التي تقرّب الشعب من يوم الخلاص. ـ لا توجد قوة واحدة قادرة على إسقاط التجربة الحالية على الرغم من كل فسادها ورخاوتها، وعليه ينبغي إعادة الإعتبار الى التعاون الشعبي بأبسط أشكاله بين تلك القوى التي تعتقد أنها وطنية بحق. ـ وقف كل عمليات إستنفاذ الجهد الوطني بعمليات ومواقف وحزازات لا معنى لها بين الأطراف الوطنية صاحبة المصلحة في عراق مستقر ومتقدم وآمن. ـ القوى التي تعتقد بأنها تملك مشروعاُ إجتماعياً أن ترص صفوفها، وتعيد تقويمها لنهجها السياسي والإعتراف بالأخطاء أمام الشعب، وتحديد المسؤوليات وإبعاد العناصر الرخوة. ـ إن تجارب كل الشعوب التي أعادت بناء نفسها تشير الى أهمية تعمق واجب المسؤولية الشخصية تجاه الشعب، من خلال مصارحة الذات، وطرح كل مواطن على نفسه السؤال التالي: ما هو دوري كشخص في معالجة الأوضاع التي تمر بها البلاد؟ ـ تعميق الوعي بما يساعد على منع مرور اللعب السياسية. ـ النزعة اللاوطنية سمة رئيسية ومشتركة بين "العملية السياسية" الفاشلة وقوى الشر الإرهابية، وهذا الوضع بدوره يُعد مصدراً رئيسياً لدعم الإرهاب وفساد الحياة السياسية، وتعطل كل العمليات الإنتاجية، وإضعاف إبداع الروح الوطنية. وينبغي الإدراك موضوعياً أن هناك مصلحة ومنفعة بين "العملية السياسية" والإرهابيين تتمثل بخلق مبرر وجود وبقاء الطرفين. ـ الإعتماد على الدعم الخارجي أقصر طريق الى جهنم ـ أعني تدمير الروح الوطنية. ـ إن شعار العمل والدعوة الى إقامة بلد آمن كفيل بحشد تيار عارم في الحياة السياسية، ولكن لن يتحقق ذلك إلا عبر قوى نزيهة، وغير مستنفذة، وتحظى بمصداقية بين الناس.
#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)
Abdul_Hamid_Barto#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
موجعة ذكرى الشهداء
-
ثورة 14 تموز
-
الفقراء يتضامون ... ويتبرعون أيضاً
-
31 آذار يوم مجيد لكل كادحي العراق
-
وداعاً أبا نصير؛ المناضل عبد السلام الناصري ...
-
ألف مبروك لكل من يهمه الأمر!
-
الوطنية الحقة وحروب التدخل (5)
-
الوطنية الحقة وحروب التدخل (4)
-
الوطنية الحقة وحروب التدخل (3)
-
الوطنية الحقة وحروب التدخل (2)
-
الوطنية الحقة وحروب التدخل (1)
-
حملة التضامن مع إبراهيم البهرزي
-
التصدي للفكر الظلامي المتعدد الأقطاب (3)
-
التصدي للفكر الظلامي المتعدد الأقطاب (2)
-
التصدي للفكر الظلامي المتعدد الأقطاب (1)
-
نظرة الى دراسة إستطلاعية
-
بين القرم ودمشق الشام
-
التظاهرات نشاط سياسي حقق منجزاً
-
ملاحظات موجزة حول كتاب آرا خاجادور
-
بوتين و نيمتسوف
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
المزيد.....
|