أحمد محمد منتصر
الحوار المتمدن-العدد: 5267 - 2016 / 8 / 27 - 11:29
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
كنا قد إنتهينا في الفصل الأول إلي الكارثة التي تكمُن في مماثلة الحزب البلشفي مع الدولة علي حد تعليق بوخارين , وسنستكمل في هذا الفصل سلسلة من الإجراءات البلشفية ولاسيما القرارات القاداتية وخصوصاً من رجل الثورة الأول ليون تروتسكي , فبعد المعركة والسجال علي التفاوض من أجل حكومة إئتلافية بين البلاشفة في طرف ويبن المناشفة والإشتراكيين الثوريين في طرف آخر , توقفت المفاوضات بناء علي توصية لينين - البلاشفة - ثم قرار مارتوف - المناشفة - النهائي بوقف المفاوضات لطالما لم تتوقف التوقيفات من قِبل الحكومة البلشفية وأيضاً عدم السماح للصحف المعلقة من معاودة الصدور , وقد برر تروتسكي هذه التدابير أمام السوفييتات قائلاً : " إن طلب وضع حد لكل قمع خلال فترة الحرب الأهلية يعادل المطالبة بوضع حد للحرب الأهلية , لم يعرض خصومنا السلم علينا , وفي فترة الحرب الأهلية من الشرعي حظر صدور صحف العدو "
و من هنا بدأ البلاشفة عملية تضمين و ضم لكل الأطراف الغير متحالفة معهم ومع سلطتهم بجانب العدو , فكيف تفتح الحكومة باب التفاوض ثم تغلقه وتلقي بالعداء علي الأطراف المتفاوضة , و من ثم نرجع إلي الفصل السابق ونجد تبريرات لصالح الثورة من أجل إستخدام الضباط القيصرين لخدمة أغراض الثورة , تباين فج في المكيال !
ثم ننتقل إلي بداية مشئومة وممتلئة بالوعيد والتهديد من خلال تروتسكي أعقاب بداية الهجوم من قِبل الحرس الأبيض بقيادة كورنيلوف ودنيكين وكاليدين فبعد حظر حزب الكاديت و طرده من الجمعية التأسيسية نجد تروتسكي ملوّحاً بكل الهول لأعداءه قائلاً : " ليست هذه غير بداية متواضعة , فلقد أوقفنا قادة الكاديت وأمرنا بمراقبة أنصارهم في المقاطعات , وفي فترة الثورة الفرنسية كان اليعقوبيون يقطعون رؤوس الذين فعلوا أقل مما يفعل هؤلاء لمعارضة إرادة الشعب , أما نحن فلم نعدم أحداً وليس في نيتنا أن نفعل ذلك , إلا أن غضب الشعب يثور في بعض الأحيان والكاديت أثاروا هذا الغضب بذاتهم " .
إذا تناولنا وعيد تروتسكي هذا تجاه الحراس البيض فهو مقبول لأن في هذه الحالة فإن الثورة بأكملها في خطر أمام جيوش الثورة المضادة و واجب علي قادتها أخذ كل الإحتياطات والتدابير القمعية لكبح حركاتهم , أما في الحقيقة فإن عبارة " ليست هذه غير بداية متواضعة " فقد كانت بمثابة نبوءة الشؤم , فالبلاشفة صانعو الثورة لن يتمكنوا يوماً عن التخلي عن الإرهاب الثوري , فهم كان بمخيلتهم أن عمليات الإرهاب الثوري لن تتخطي سوي قمع بعض النشاطات التي يقوم بها حفنة من طغاة ومستغلين المجتمع , ولكن هذه الحفنة الأقلية لها روابط عديدة ووثيقة بشرائح عليا و دنيا ومتغلغلة بشكل أو بآخر في أوساط المجتمع الروسي , وبالتالي فإن جسم مجتمع من المجتمعات ليس بسيطاً أبداً بحيث نستطيع أن ننتزع منه عبر عملية جراحية عضواً ما من دون إصابة باقي الأعضاء , وهذا ما حدث , فطال القمع الأعداء ومجاوريهم وأصبح حزب الثورة يُثير ضده كل الأحزاب السياسية والحركات التي كانت تحتل في السابق المشهد السياسي .
ثم نأتي للمرة الأولي لروسيا السوفياتية التي ستتناقض للمرة الأولي فيها مصالح الثورة مع مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها ولا سيما سنجد العديد من التناقضات لاحقاً حول مصالح الثورة التي ستقتضي قمع الطبقة العاملة بل ومباديء الماركسية التي ستصوّغ للتكيّف مع الطبيعة البلشفية الجديدة , في 26 أكتوبر 1917 أي في اليوم التالي للثورة الروسية أصدر لينين مرسوم السلام الشهير الذي بموجبه تم إعلان السلام فوراً وخروج روسيا السوفياتية من دائرة الحرب الإمبريالية وكما أقر أيضاً بمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها , وسيظهر هذا التناقض الجلي في غضون جلسات صلح – بريست ليتوفيسك – الذي تم بين الحكومية السوفياتية والألمان ولن نخوض في تفاصيل الصلح وجلساته التي أخذت طابع التحدي والسجال الدبلوماسي بين حكومة أعقاب الثورة وممثلوها القادة الثوريين المقاتلين وحكومة الأوتوقراط والعسكرية الألمانية , فحينما قررالألمان في النهاية الضغط علي السوفيتات بقبول الصلح بالشروط المجحفة الألمانية قرروا اللعب بأوراق تقلب طاولة الثورة ومبادئها علي الثوريين الحقيقيين , ففي هذه الجلسة كان الملف البولوني والأوكراني بمثابة سلاح مصوّب في صدور الحكومة السوفياتية بل في صدر الثورة ومبادئها , لقد تم تغيير رهيب في المواقف داخل الأحزاب الأوكرانية , فأولئك الذين كانوا يناصرون في ظل القيصر وحدة أو إتحاداً فيدرالياً مع روسيا غدوا يميلون الآن لصالح الإنفصال , والبلاشفة الذين شجعوا الإنفصالية في السابق – إنطلاقاً من مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها – أصبحوا يؤيدون الإتحاد الآن , وكانت الدول المركزية – مثل ألمانيا - تأمل الإستفادة من هذا الإنقلاب في المواقف , وبطرح أنفسهم كحماة للإنفصالية الأوكرانية كانوا يأملون وضع أيديهم علي موارد أوكرانيا الزراعية والمواد الأولية فيها , وكانوا يأملون أن يردوا إلي نحر روسيا حجة تقرير المصير .
وبالفعل عقد الألمان إتفاقاً مع الرادا – حكومة كييف العميلة للألمان – وتم حضور ممثلي الرادا للجلسة الحالية في بريست ليتوفيسك , ولم يعترض تروتسكي علي مشاركتهم في الجلسة بل وأقرّ بأن روسيا لن تعترف بأي إتفاقات منفصلة بين هؤلاء والدول المركزية , وهنا تم توجيه إتهام قوي لتروتسكي وفي الحقيقة ليس لتروتسكي وحده بل لكل ما يمثله من حكومة سوفياتية ومباديء ثورية , ذاك الإتهام بدوس حقوق أوكرانيا بالأقدام وبفرض حكومات مصطنعة بالقوة , ذاك الإتهام الذي صوّر علي أثره كزرنين مشهد وقعه علي تروتسكي قائلاً : " كان تروتسكي مبلبلاً لدرجة أن رؤيته تثير الرثاء , علاه شحوب غير معتاد وكان ينظر أمامه بتحديق , وتسيل نقاط عرق ضخمة من جبينه , ومن البديهي أنه كان يحس بخجل عميق وهو يتلقي هكذا شتائم من مواطنين له بحضور العدو " .
ومن هنا هنا كانت بالفعل هي المرة الأولي لتناقض مصالح الثورة مع مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها , وما كان في وسع تروتسكي بعد ذلك الحين أن يتمسك بهذا المبدأ بضمير مرتاح مثلما كام يفعل بالسابق .
ثم لا تكمن المأساة الحقيقية في ذلك التناقض حول المباديء بل أيضاً حول تلك الأحاسيس التي سكنت محل الوقائع , وكيف أن ممثل حكومي و ثوري من الدرجة الأولي ينساق وراء تصوراته ويرفض الواقع وما يمليه من دسائس , انهمك تروتسكي في جلساته وخطبه العديدة في بريست ليتوفيسك بإعلاء قيمة الثوري العظيم بأخلاقه المستمدة من قلب النضال علي حساب حقيقة ما يدور في روسيا وما يهددها من خارجها من الألمان , استرسل في أعمق وأبلغ وأنقي التوصيفات والهتافات علي حساب الفقر والتأخر الذين يقتلون العامل الروسي و رصاص الحرب التي فتكت بالجندي الروسي .
لم يأخذ بالحسبان تحذير لينين له وإتفاقه المسبق بقبول شروط السلم في حالة التهديد الحقيقي و ها هو تروتسكي يمتطي جواد وينطلق مرة أخري في ساحة بريست ليتوفيسك قائلاً : " إننا ننسحب من النزاع ونحن نعلن ذلك لكل الأمم وكل الحكومات , نصدر الأمر بالتسريح العام لجيشنا ... إلخ "
وقبل أن يمضي تروتسكي عائداً لروسيا وقع ما يثبت أشد مخاوف لينين , فأعلن الألمان بعد الذي حصل أنه قد يُستأنف القتال , واعتقد تروتسكي أن هذا الكلام ليس أكثر من تصريح فارغ , لذلك فدعوني أقول أن تروتسكي أعطي البشرية درسها الأول الكبير في الدبلوماسية العلنية حقاً , لكنه استسلم في الوقت ذاته لتفاؤله , فقد كان يسيء تقدير العدو ويرفض حتي الإصغاء لتحذيراته وأخذها بمجمل الجد , فقد كان غائصاً في ذاته ومثاله الأعلي , لدرجة أنه تجاهل عيوبه بخفة , ولعل هذا هو خطأه – الأضخم – علي حد وصف لينين الذي تمثل في الإعتقاد بسهولة بالغة أن الألمان لن يهاجموا وبالتالي أدت تصريحاته وأخباره التي كانت يرسلها للحزب من بريست غلي دغدغة الحزب داخلياً وإنقسامه بوهم تأكيدات الأمان المتكررة بأن الألمان لن يهجموا .
هكذا لم يبلغ تروتسكي بتروغراد حتي أعطي الجنرال هوفمان تعليماته ببدء هجوم القوات الألمانية , وقد كتب هوفمان عن بداية الهجوم قائلاً : " إنها الحرب الأكثر هزلية التي رأيتها في حياتي , فقد تمت بصورة شبه حصرية بواسطة القطارات والسيارات . توضع في القطار حفنة من المشاة المسلحين ومدفع ويتم الإندفاع نحو المحطة اللاحقة فيُجري الإستيلاء علي المحطة وتوقيف البلاشفة ويوضع فوج آخر في القطار وتستمر الرحلة " .
في 19 فبراير طلبت الحكومة الصلح رسمياً , وتأسست في المدينة لجنة دفاع ثورية برئاسة تروتسكي , وسنشهد حادثة مماثلة بتلك التي استدعي خلالها الجنرال مورافييف وأمثاله من الضباط القيصريين بسم نصرة الثورة , سيبدأ تروتسكي بجس نبض السفارات والبعثات العسكرية الحليفة ليعرف إذا كان بإمكانهم مساعدة السوفييتات في حالة إسئناف الحرب , وبالفعل عرض تروتسكي أمام اللجنة المركزية تلميحاً فرنسياً-إنجليزياً لإمكانية تعاون عسكري , وكم كان مخجلاً بالنسبة إليه حين رفضت اللجنة المركزية علي الفور بجناحيها هذا الإقتراح الذي أوصفه بكامل الإنحطاط , فأنصار السلام كانوا يخافون أن يفسدوا فرصة سلام منفصل إذا وافقوا علي مساعدة الحلفاء , وأنصار الحرب لأن مباديء الأخلاق الثورية التي كانت تدفعهم لمعارضة اي إتفاق مع ألمانيا دفعتهم أيضاً لإدانة كل تعاون مع الإمبرياليين الفرنسيين والإنجليز .
في نهاية المشهد المأساوي الناجم عن مفاوضات بريست وبإتضاح إنتصار الطغمة الإمبريالية الألمانية لم يعد أمام تروتسكي إلا الإعتراف الصريح بخطأه الفادح وبدأ يتطرق لملاحظة مقلقة جداً فقال : " إذا كان الحزب عاجزاً إلي حد الإضطرار للتخلي عن عمال أوكرانيا وفلاحيها , فربما يكون من واجبه أن يعلن ما يلي : لقد جئنا قبل أواننا , وسوف نعود للسرية , تاركين تشيرنوف وغوشكوف وميليوكوف يتفاهمون مع أوكرانيا , لكنني اعتقد أنه إذا اضطررنا للإنسحاب , علينا أن نتصرف كثوريين حقيقيين وأن نناضل حتي آخر نقطة في دماءنا "
وكانت تلك هي المرة الأولي أيضاً التي يلمح فيها تروتسكي أنه ربما لمت كن الثورة الروسية غير قفزة فاشلة , وقد تكلم ماركس وانجلز علي القدر المأساوي لأولئك الثوريين الذين يأتون قبل أوانهم .
يُتبع ...
#أحمد_محمد_منتصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟