يوسف الصفار
الحوار المتمدن-العدد: 5266 - 2016 / 8 / 26 - 03:01
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يوسف الصفار
اغتيال الثقافة
مع قيام ثـورة 14 تمـوز 1958 تفتحت عقول فتية لكثير من العراقيين بتوجهات ادبية وعلمية وسياسية متنوعة وكانت هناك موجة عاتية من القراءة المتواصلة عند جيل كان لا يزال في طور التشكيل والتكوين ,فقد تناول كتب طه حسين, والعقاد, ونهروا, وغاندي, وغيرهم بحماسة لا نجدها هذه الايام عند كثير من شبابنا. ولعل كتاب لمحات اجتماعية من تاريخ العالم التي وجهها نهروا كرسائل لابنته انديرا غاندي وهو في السجن ,وكتاب تجاربي مع الحقيقة لزعيم الهند الروحي غاندي او مختارات سلامة موسى للمفكر المصري القبطي..... كل هذا ساهم بتكوين وعي لجيل تميز بنزعات انسانية واخلاقية عالية ورؤية واقعية لمشاكل الوطن والمواطن استمرت مع بعضهم لغاية الان , حيث نجدهم في كثير من الاحيان متواجدين في المنتديات العلمية والثقافية والفنية ..ذاك الجيل الذهبي من المثقفين. عانى فيما بعد من ارهاصات فكرية وانسانية مهولة جعلت اكثرهم سجناء ضمير ورأي, فمع مجيء سلطة البعث في (17ــ30) تموز مورست بحق هذه الكوكبة اساليب متعدة من التهميش والملاحقة, وتعرضت نزعاتها الفكرية للتشويه والتشكيك , وحلت محلها ادبيات البعث وتنظيراته البائسة حول الامة والقومية التي تخفي في طياتها كل اشكال العنصرية اخذت مفاهيمها الاساسية من ادبيات الفاشية والاحزاب النازية, فغدا للعراقيين ثقافة وحدانية النظرة تبناها العديد من الشعراء والمغنون والوعاظ الانتهازيون ليؤكدوا مفاهيم الفرد الواحد والحزب القائد حتى وصل بهم الامر ليتغنوا بالحرب بروح رومانسية فغدا التوجه للحرب حالة من حالات العشق والهيام ... وكادت الثقافة الحية والملتزمة بالقيم الانسانية والرؤية الشمولية للحياة تطويها مدارج النسيان لولا عناد الخيرين من مثقفي المجتمع, والذين استمروا رغم ذلك بالمحافظة على روح الحقيقة التي تمجد الانسان المتطلع دائما" الى بذر عناصر الخير , فعانوا من العزل والتهميش والتهجير الطوعي حتى اتهم بعظهم بالجنون ,ومورست معهم كل اساليب التنكيل, وكانت هذه احدى النتائج الخطيرة التي افرزها انقلاب( 17 ــ30 ) تموز الذي قامت به مجموعة من المغامرين الطموحين وبمباركة الدوائر العالمية المعروفة ..
الثورة البيضاء وتجلياتها الحمراء
في اول بيان لقادة الانقلاب تفاخر منفذوه .بانها ثورة بيضاء حدثت بدون اراقة قطرة دم واحدة, معلنين انهم فتحوا للعراقيين بوابة المستقبل بكل توجهاته, متجاوزين اخطاء الماضي وارهاصاته ,ولم تمر سوى ايام حتى بدأ الدم القاني يتدفق في شوارع بغداد وازقتها .حيث مورست اعتى صنوف الاغتيالات وحين زكمت اعمال القتل التي نفذت بأيادي مجهولة الانوف, وبدأت الشكوك تساور العقول . برر المقبور وقتها اغتيال المعارضين وبأساليب ملتوية تخفي تحت طياتها ثقافة التخويف وقال بالحرف بما معناه ( اذا دهست دراجة يقودها بعثي احد الاطفال هل هذا يعني ان حزب البعث هو المسئول عن قتله.). ,ثم بدأت عمليات ادراج الجميع تحت مضلة ثقافة البعث بسياسة الترهيب والترغيب المعروفة , حينها بدأت عملية الاختزال على طريقة تطور الانواع ولكن بشكل معكوس . اصبح المجتمع جزء من الدولة واختزلت ارادة العراقيين بالحزب القائد كمقدمة لاختزال الحزب بعائلة القائد. حتى وصلنا بالنهاية وعلى طريقة الحتمية البعثية باختزال الكل ..الشعب, الوطن , الدولة , والحزب بشخص القائد الى الحد الذي اصبحت شعارات من قبيل .. اذا قال صدام قال العراق ..وبلد بلا شمس كعراق بلا صدام من المسلمات ...وبهذه الثقافة وضعوا الفرد اسفل مهاوي الاذلال . فاشتد الالم وطفح كيل ذوي الضمائر اليقظة و ازدادت مصائبهم مما ادى في النهاية الى انكماش العقول الخيرة وانزوائها بعيدا"..
حروب بلا سياسة
اذا كانت السياسة لها وسائلها ومبرراتها لتقود الى غايات معينة فما ذنب الشرائح الاجتماعية حين تصادر مواهبها وطموحاتها المشروعة في الحرية والعيش الكريم ..ففي غفلة من الزمن سيق الاف العراقيين الى حرب لا ترحم ..ولم يكتفوا بحرق الجيش النظامي والذي تكون ونمى بميزانية الدولة النفطية الغنية وانما حركوا شرائحهم المتخلفة لتقود اعداد هائلة من ذوي المواهب والامكانيات الى اتون هذه الحرب الظالمة باسم الجيش الشعبي وكل شيء من اجل المعركة فاخذ النسيج الاجتماعي والثقافي القائم على مبدأ تكافؤ الفرص يتفكك وينهار فتمزقت وتباينت توجهات المجتمع وغاياته.... وقد تجد حروب عادلة تؤدي نتائجها الى سياسات متوازنة لكن حروب صدام الهوجاء ادت نتائجها الى مأساة , وهذا ما حدث في حروبه المتعدة ابتداء من حربه مع المثقفين في السبعينيات الى دخوله الكويت في التسعينيات و بأسماء باطلة كالكرامة والدفاع عن البوابة الشرقية والامة العربية ..
ثقافة العناد
قد لا نجد غرابة حينما يشعر الانسان وهو يشرف على الانهيار او على شفا الهاوية من ان يراجع كثير من مفاهيمه فيتراجع الى رؤية واقعية جديدة تعزز سلطته او تسلطه وهذا ما لا نجده في ثقافة (الرجل المتعنت ) فما ان هدأت رحى الحرب وسكنت النفوس رغم الخسائر المادية والمعنوية في الحرب العراقية الايرانية حتى جرّنا الطاغية صدام الى متاهة اخرى تمثلت بدخوله دولة الكويت وعلى اسلوب غزوات القبائل الرحل في عصور الجاهلية الاولى ..حينذاك بدأ اسلوب جديد لتشويه صورة الفرد والتنكيل بثقافة مجاميع الخبراء واصحاب الكفاءات ,حينما زج بهم في عملية منظمة لتفكيك مصانع ومنشئات البلد المحتل وجلبها الى الوطن ليدفع الشعب ثمنها لاحقا" ذهبا" امتصت من جيوب الجماهير . وبنفس الرؤية المبتورة ادخلنا في حصار ظالم.. اتى على ما تبقى من معنوياتنا واخذ يلعب مع لجان التفتيش لعبة القط والفار ويصنع الهياكل الحديدية الفارغة على شكل قواعد الصواريخ ليعطي الانطباع للأقمار الصناعية من انه يمتلك منظومات دفاع جوي متكاملة ..فدفع الجميع الثمن على حساب كرامتهم فسحقت الطبقة المتوسطة بغير رحمة وأتى بهذا الفعل على ما تبقى من ثقافة الشارع حين زج الجميع في ركضة مارثونية من اجل لقمة العيش فاصبح الكتاب ترفا" والمثقف نكرة في عرف المتصارعين من اجل البقاء للأصلح بتوفير القوت اليومي ولم يتوقف عند هذا الحد فاخذ يغدق على ازلامه بطبع اوراق (عملة )غير مغطاة فيكرمها للدجالين ومزوري الحقائق ما شاء له كرمه ومكرماته فتصاعدت وتيرة التضخم لتزيد من معاناة المهندس والطبيب والمدرس والاستاذ الجامعي والشاعر والاديب على السواء ويستثنى من ذلك اللصوص الكبار والصغار..
الهدف و التغير
ان دراسة جادة للمجتمع والفرد العراقي ومعاناته ,لا تكون صادقة اذا اخذناها بمعزل عن سنوات القهر والبؤس والحرمان , فقد تشكلت في ذهنه صياغات جاهزة تربت او تعودت عليها الاجيال طيلة العقود الماضية واصبحت له كمسلمات لا يمكن ان يحيد عنها مما جعل الفساد والتشوش وضبابية الرؤيا والاستكانة من معالمها الرئيسية ,وهذا لا يمكن اصلاحه الا بالرجوع الى قيم ثقافية جديدة قائمة على الانفتاح وتقبل الآخر والتجديد مبتعدين ما امكن عن التحديد والتهميش , وبدون هذه الثقافة لا يعي المواطن مسئولياته وفهمه للحرية التي تكاد تكون اثمن شيء يناضل من اجلها الانسان المعاصر فهي وحدها التي تجعل العقول مثمرة وهي من نتاج التاريخ الانساني آمنت بها معظم الفلسفات الوضعية و السماوية وان اي طمس لحرية الفرد او تحديده يؤدي اخيرا" الى تكريس نزعة التفرد والانحطاط وهذا يتطلب منا ان نتخلى والى الابد عن مقولة( العراقيين لا ينفع معهم غير الحجاج ) التي استثمرتها ثقافة البعث المهزوم وكلنا نتذكر احد بيانات المقبور الحربية حينما نوه لمقولة الحجاج (ان رؤوسا" اينعت وحان قطافها )فعمل في المجتمع ما عمل من التهجير و الذبح والتقتيل وغيب اعداد غفيرة في المعتقلات والسجون ترك اثارها البائسة فينا لحد الآن ..
انتهت
#يوسف_الصفار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟