الأحد 02 فبراير 2003 12:32
يحتدم السجال منذ إعلان الإدارة الأمريكية عن نيتها في إحتمال شن حرب لإسقاط النظام البعثي الحاكم في العراق. ويصر المناوؤون لها أن أمريكا تريد قتل أطفال العراق ونسائه وشيوخه من أجل السيطرة على منابع النفط فقط. فهل حقاً النفط هو هدف أمريكا الأساسي لإسقاط النظام؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، هناك مجموعة أخرى من الأسئلة جديرة بالطرح، مثلاً: هل هناك شح في النفط في العالم؟ وهل أمريكا فعلاً متهالكة على النفط العراقي إلى هذا الحد بحيث تلجأ إلى شن حرب من المحتمل أن تكلفها الكثير في الأرواح والإقتصاد والسمعة؟ وحتى لو افترضنا جدلاً أن أمريكا وراء النفط، فهل يقف صدام حسين في وجهها للحصول على النفط العراقي، علماً بأن القسط الأكبر من النفط العراقي المسموح بتصديره الآن وفق برنامج الأمم المتحدة (نفط مقابل الغذاء) يصدر إلى أمريكا، فما الذي يمنع أمريكا من شراء هذا النفط دون حرب إذَنْ؟ وهل أمريكا تريد أن تأخذ النفط مجاناً؟ وماذا سيصنع العراقيون بنفطهم إن لم يبيعوه على أمريكا واليابان والدول المستوردة الأخرى؟
والسؤال الآخر الأهم هو: ماذا استفاد العراقيون من ثرواتهم النفطية تحكم البعث؟ فالعراق لا يطفو على بحر من النفط فحسب، بل ويطفو على بحر من الدم أيضاً. ويخطأ من يعتقد أن بحر الدم هو نتيجة لبحر النفط. إذ نعتقد أن معاناة العراقيين هي ليست بسبب النفط، كما يرى البعض من المخلصين العراقيين، إذ هناك نفط غزير في بلدان كثيرة في العالم، مثل دول الخليج وسلطنة بروناي ونايجيريا والمكسيك ودول عديدة في أمريكا الجنوبية ودول آسيا الوسطى والنرويج وروسيا وبريطانيا وحتى أمريكا نفسها تنتج 50% من احتياجاتها النفطية، فلم يصب شعوبها ما أصاب الشعب العراقي من ويلات. فلماذا نعزي كوارثنا إلى النفط؟ كما إن هناك دول حلت بها الكوارث دون أن تمتلك أي بئر للنفط مثل أفغانستان والصومال ولبنان.. وغيره.
إذن لماذا تعرض العراق إلى هذه الكوارث؟ السبب وبإختصار شديد هو آيديولوجية السلطة الحاكمة الفاشية العدوانية ليس غير. وقد أثبت التاريخ أن الآديولوجيات القومية لا بد وأن تنتهي بالفاشية وبالتالي تؤدي إلى شن الحروب العدوانية ضد دول الجوار وتقود شعوبها إلى الدمار وتشكل خطراً على السلام العالمي. وهذا ما حصل للنازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية والحركة القومية الأسبانية الفرانكوية والآن البعثية الصدامية في العراق.
فرغم أن العراق هو أول دولة عربية حقق استقلاله السياسي ودخل عصبة الأمم، وهو أول بلد عربي تم استثمار نفطه في أواخر الحكم العثماني، ولكن مع ذلك بقي الشعب العراقي يعاني من الفقر والحرمان مقارنة بدول الخليج التي استثمرت ثرواتها النفطية بعد العراق بعشرات السنين وذلك لأن الحكومات الخليجية تصرفت بعقلانية حيث خصصت هذه الثروات للبناء والتقدم ورفع المستوى المعيشي لشعوبها وحافظت على علاقات ممتازة مع الدول الغربية والعالم، بعيدة عن الشعارات الثورية والعنجهية القومانية التي تبنتها الحكومات العراقية القومية المتعاقبة والتي أوصلتنا إلى ما نحن عليه الآن. وإنصافاً للتاريخ، حقق العراق في العهد الملكي والعهد الجمهوري الأول القاسمي تقدماً ملحوظاً في إستثمار النفط لخير البلاد والعباد رغم قلة الموارد النفطية آنذاك مقارنة بالموارد الهائلة في العهد الجمهوري البعثي الصدامي. ولكن محنة العراق وحرمان شعبه من موارده بدأت منذ اغتصاب حزب البعث للسلطة عام 1968.
نعم، يتمتع الشعب العراقي بحضارة عريقة عمرها ستة آلاف سنة وبموقع جغرافي ممتاز جعلته قبلة للغزاة الطامعين وينعم بمناخ معتدل وثروات طبيعية من نفط وزراعة ومياه وأنهار وبحيرات وجبال وسهول ومهبط الأنبياء وقبور الأئمة والآثار التاريخية..الخ. كما يتمتع العراق بإمكانيات بشرية جيدة تفوق الكثير من شعوب المنطقة من حيث التعليم والمستوى الثقافي وعدد الجامعات والخريجين الجامعيين وحملة الشهادات العليا والكوادر العلمية. ولكن مع ذلك يعيش هذا الشعب دون مستوى خط الفقر حتى وفق مقاييس دول العالم الثالث ودون مستوى الشعوب الأفريقية المتخلفة، ليس بسبب الحصار المفروض عليه بعد حرب الخليج الثانية كما يعتقد البعض ويروِّج له النظام الحاكم، بل كان العراقي يعاني من الأزمات الإقتصادية بشكل دائم منذ استلام البعث للسلطة كما أسلفنا. والآن يعتبر الشعب العراقي أفقر شعب في أغنى بلد في العالم.
فالمواطن العراقي كان ينظر بحسرة إلى ما يتمتع به نظيره في البلدان الخليجية النفطية من رفاه وقدرات شرائية وتوفر المواد الإستهلاكية. ففي السبعينات وحتى بعد تأميم النفط والقفزات الهائلة في أسعاره وواردات العراق التي بلغت عشرات المليارات من الدولار الأمريكي، والتطبيل لكذبة "الخطة الإنفجارية"، كان أغلب العراقيين محرومين من شراء الأجهزة الكهربائية مثل الثلاجة والتلفزيون والراديو وغيره وحتى المواد الغذائية وكان العراقي لا يحصل عليها إلا بشق الأنفس ناهيك عن أزمة السكن والنقل والأمن وغيره. وكنا نحصل على راديو ترانسستر أو جهاز المسجل بمجازفة من المهربين الذين يترددون على الكويت والدول الخليجية الأخرى. وفي تلك الفترة أذيع عن جنرال عراقي قام بزيارة إلى الكويت وعند عودته تم القبض عليه في نقطة التفتيش في صفوان حيث عثر بحوزته على ثلاجة صغيرة حاول تهريبها من الكويت لإستعماله الخاص طبعاَ، وتم التشهير به في الإعلام وطرده من الجيش. فلو كانت المواد متوفرة في العراق الثري بالنفط، فهل اضطر هذا الجنرال، الناجح في وضيفته كعسكري، أن يلجأ إلى تهريب ثلاجة صغيرة؟ هذا غيض من فيض مما كان يجري في العراق، فإذا كان هذا وضع الجنرال العراقي، فماذا عن المواطن العراقي العادي؟
لقد صارت القضية الفلسطينية حجة الحكام لحرمان الشعب من ثرواته. ولما اغتصب حزب البعث السلطة للمرة الثانية بعد إنقلاب عسكري عام 1968 أدعى أن قضيته المركزية هي تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. وقد رفع الحزب شعاره المعروف (كل شيءٍ من أجل المعركة) والذي حوله الكاتب المصري أنيس منصور بذكاء إلى : (كُل شيئاً من أجل المعركة!). ومنذ ذلك التاريخ تم حرمان الشعب العراقي بشكل كامل من ثرواته النفطية. وفرضت عليه سياسة التقشف وشد الأحزمة على البطون من قبل السلطة الحاكمة تطبيقاً للآيديولوجية البعثية. فدائماً كانت هناك عدة مواد غذائية ضرورية مفقودة من الأسواق والمواطن يقضي ساعات طويلة في الطوابير لشراء هذه المادة الضرورية أو تلك. أما المواد الكمالية فكان مجرد الحديث عنها يعتبر نوع من البطر.
أتذكر أني كنت في أحد الأيام استقبل المرضى في العيادة الخارجية في إحدى المدن القريبة من بغداد، وفجأة جيء بمجموعة من الجرحى بينهم ثلاثة من الشرطة. ولما سألت عن سبب إصاباتهم قالوا أنهم اشتبكوا في معركة طاحنة إثناء التزاحم على شراء علب الدهن حيث جاءت شاحنة في ذلك اليوم توزع الدهن على المخازن الحكومية التي احتكرت بيع المواد الغذائية وخلقت حالة مستديمة من الأزمات الإقتصادية والنقص في المواد الغذائية بحيث عندما تتوفر مادة معينة يهرع الناس بالمئات إلى هذه المخازن وتتزاحم وتتشابك في معارك من أجل الحصول على حصتها. هذه كانت حالة العراقيين "أيام العز" قبل حروب النظام العبثية والحصار! في الوقت الذي كان الفائض الإحتياطي للدولة حوالي 40 مليار دولار. والجدير بالذكر أن أشيع عن صدام حسين الذي كان (السيد النائب) آنذاك قوله (جوِّع كلبك حتى يركض وراك!) وذلك عملاً برأي القيادة البعثية أنه إذا شبع الناس فسيطالبونهم بالمشاركة في السلطة. فأية حكومة في العالم عاملت شعبها بهذه الطريقة الهمجية؟
لقد حرم الحكم البعثي الشعب العراقي من التمتع بثرواته الهائلة التي كانت تقدر بمئات المليارات من الدولارات واستدان عليها وصرفها على شراء الأسلحة التقليدية وأسلحة الدمار الشامل وعسكرة المجتمع وخاض الحروب الداخلية والخارجية لا لتحرير فلسطين كما ادعى وما يزال، بل ضد دول الجوار وضد الشعب العراقي. والآن يدفع الشعب نفقات باهظة لتدمير تلك الأسلحة وتعويضات الحروب إلى أجل غير معلوم. ومن هنا نعرف أنه ليس النفط بل الآيدولوجية الفاشستية التي قادت إلى هذا المصير الأسود.
نعود للسؤال الأساسي وهو: هل تريد أمريكا شن الحرب من أجل النفط؟ نقول لو كان الأمر كذلك، فصدام حسين مستعد أن يتخلى لأمريكا عن آخر قطرة من النفط وعن كل شيء مقابل إبقاءه في السلطة كما سمح للمفتشين الدوليين في الدخول حتى في غرفة نوم زوجته. بل هناك خوف أمريكي من النفط العراقي في حالة السماح له بالتصدير أن يؤدي إلى تخفيض سعره إلى عشرة دولارات للبرميل، الوضع الذي سيضر بشركات النفط الأمريكية ذاتها. لذلك فالادعاء بأن الحرب من أجل النفط هو إدعاء باطل القصد منه تضليل الرأي العام العالمي لإنقاذ صدام حسين ونظامه الفاشي من الزوال.
إذن لماذا الحرب؟ بإختصار شديد أننا في مرحلة جديدة من التطور الحضاري، مرحلة ما بعد الحرب الباردة وزوال الخطر الشيوعي. فخلال الحرب الباردة اعتمدت أمريكا على الإنقلابات العسكرية لقيام أنظمة ديكتاتورية تحمي مصالحها في العالم ضد المعسكر الإشتراكي وقيام حكومات يسارية. وكذلك خلقت أمريكا ودعمت منظمات إسلامية متطرفة مثل طالبان والقاعدة لمحاربة الخطر الشيوعي في المنطقة كما هو معروف. وبعد الحرب الباردة وزوال الخطر الشيوعي انقلب السحر على الساحر وفصارت هذه الأنظمة الديكتاتورية والمنظمات الإسلامية الإرهابية تشكل خطراً جسيماً على أمن وسلامة أمريكا نفسها كما حصل في كارثة 11 سبتمبر/أيلول 2001. لذلك رأت أمريكا أن من مصلحتها القضاء على هذه المنظمات والحكومات الإرهابية مثل القاعدة ونظام صدام حسين من أجل أن تعيش هي وغيرها من دول العالم بسلام. ونحن نعيش في مرحلة ترى أمريكا من صالحها تشجيع قيام أنظمة ديمقراطية في العالم الثالث بدلاً من الإسلوب القديم في تدبير الإنقلابات العسكرية وخاصة في الشرق الأوسط لتحقيق الإستقرار والتخلص من الإرهاب وتحسين سمعتها والتخلص من شرور الأنظمة المستبدة والمنظمات الإرهابية.
خاص بأصداء