<<الحرب بأي ثمن>>.. هذا هو العنوان الأوفق او الأليق <<لخطبة العرش>> الاميركي التي ألقاها <<بوش الثاني>> ليلة الثلاثاء الماضي...
لكنه ايضا كان عنوان كل خطب العرش الاميركي التي ألقاها رؤساء اميركا المتعاقبون تباعا منذ الحرب الاميركية الاسبانية (1898) التي صعدت بالولايات المتحدة الى مرتبة قوة امبريالية عالمية تتواصل حروبها بلا توقف خارج حدودها.
<<الحرب بأي ثمن>> هو ايضا وهذا أهم عنوان كل خطاب وكل تصريح وكل بيان وحديث أدلى به مسؤول اميركي منذ 11 ايلول/ سبتمبر 2001، بل منذ تولي <<بوش الثاني>> الحكم في بداية ذلك العام.
ولا بد من ان نتذكر والوضع على ما هو عليه ان <<الحرب بأي ثمن>> كان عنوان وشعار رسالة <<حالة الاتحاد>> لأربعة رؤساء اميركيين تعاقبوا على حرب اميركا ضد فيتنام، اثنان ديموقراطيان كيندي وجونسون واثنان جمهوريان نيكسون وفورد اي ان <<الحرب بأي ثمن>> ظل يتصدر معاني خطبة <<حالة الاتحاد>> حينما كانت اميركا تتلمس طريقها بقدر من التردد الى وراثة تركة فرنسا الامبريالية في الهند الصينية، ثم وهي تمارس اقصى قدراتها العسكرية في حقبة هيمنتها الجوية في سماء فيتنام حيث فقدت اكثر من خمسة آلاف نعم خمسة آلاف طائرة حربية، بمعدل 333 طائرة سنويا، بينما كانت تفقد سيطرتها العسكرية، ومن ثم السياسية، على الارض تحت هذه السماء نفسها ويسقط بها 58 الف قتيل بمعدل لا يقل عن خمسة آلاف سنويا... وظل الشعار نفسه حتى حينما كانت تنسحب مهزومة غير مصدقة أنها نجحت في وضع نهاية لهذه <<الورطة>> الأخطر والأكثر دموية في تاريخها.
وطوال العقود الثلاثة/ منذ انسحاب اميركا من فيتنام الذي لم تسمه اي وثيقة رسمية اميركية هزيمة وان شاعت التسمية في كل ما عدا ما هو رسمي، في كتابات المؤرخين والمحللين والنقاد الاجتماعيين ظل شعار <<الحرب بأي ثمن>> بأي صياغة اخرى له، يتكرر، ورؤساء أميركا يؤكدون حرصهم على تجنب <<فيتنام اخرى>> بكل ما تعنيه الكلمتان الأكثر تأثيرا في سياسة اميركا الخارجية منذئذ، والى ان شكلت اميركا استراتيجيتها على النحو الذي حول حروبها الى <<حرب من طرف واحد>>. لقد استطاع التحالف الذي اسماه ايزنهاور في خطبة وداعه المجمّع الصناعي العسكري ان يؤمن لأميركا ترسانة عسكرية تضمن هذا النوع من <<الحرب من طرف واحد>>، بالأخص صواريخ كروز...
مع ذلك فان الخوف الاميركي من فيتنام اخرى لم يكن يكفي لتهدئته اظهار غلبة هذه الاسلحة الاستراتيجية. كان لا بد من ان تختار اميركا اعداءها من مرتبة من لا يملكون اسلحة تواجه هذه الترسانة: لبنان غرينادا العراق الصومال بقايا يوغوسلافيا افغانستان والعراق مرة اخرى.
على الرغم من كل التحولات السياسية والاستراتيجية على مر السنين بقيت <<رسالة حال الاتحاد>> دائما الحكاية ذاتها تتكرر سنويا، واحدة من ابرز طقوس الديموقراطية الاميركية. بالاحرى هي اكثر هذه الطقوس دلالة على حدود هذه الديموقراطية:
السياسة الخارجية، وبالأخص قضايا السلام والحرب اي الحياة والموت تبقى خارج نطاق المشاركة، سواء في رسم خطوط وخطط هذه السياسة او في صنع القرارات المتعلقة بها. هذا من اختصاص صانعي القرار، المنتخبين منهم وغير المنتخبين. لتكن نتائج استطلاعات الرأي بشأن السياسة الخارجية ما تكون، ولتكن صيحات الشارع الاميركي ما تكون، فالوطنية الحقة في صيغتها الاميركية تتمثل في اعلى تجلياتها في <<الالتفاف حول الرئيس في ظروف الحرب>>. وهناك دائما ظروف حرب... او فلنقل انه لهذا لا بد من ان تكون هناك باستمرار ظروف حرب. فاذا لم تتوفر فلا بد من توفيرها.. بأي ثمن.
فليس غريبا اذن ان التغيير لا يطال السياسة الخارجية أبدا، الا اذا فرضه الشارع. وهذا حدث مرة واحدة: فرضته مسارات حرب فيتنام وتحركات الشارع في مدن اميركا. أما تغيير الادارات بين الحزبين العتيدين الجمهوري والديموقراطي وتبدل الاغلبيات في مجلسي الكونغرس، فلم يغيرا أبدا أبدا السياسة الخارجية الاميركية.
انما تتغير الاسماء اسماء الاعداء الذين يتربصون بأميركا ويهددون أمنها وطريقتها في الحياة وتسميات الاخطار المحدقة: الجنس الأصفر النازية والفاشية الخطر الشيوعي الارهاب الدولي الدول المارقة اسلحة الارهاب البيولوجية والكيماوية... أسلحة الدمار الشامل. ويبقى وصف <<التطرف>> ليصف سلوكيات الآخرين وأهدافهم، وقضاياهم.
وتبقى <<حالة الاتحاد>> حالة اميركا دائما <<رائعة>>، <<قوية>>، <<عادلة>>، <<ذات رسالة سامية>>... مهما كان المحتوى الذي تمليه احداث سنة مضت ومهما كانت احوال الأميركيين المعيشية، ومعدلات البطالة ومعدلات الافلاس ومعدلات الانكماش او الركود. وخطبة <<حالة الاتحاد>> هي اهم المناسبات للرد على تحركات الشوارع من تلك المحيطة بالكابيتول والبيت الابيض وعلى امتداد مسافة الميل الفاصلة بين مقر السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية.
تصفيق الشيوخ والنواب والنخبة المنتخبة وغير المنتخبة للرئيس وهو يلقي هذه الخطبة، هو اللافتات المؤيدة التي يرفعونها تحت قبة الكابيتول بكل أبهتها ردا على اللافتات المعارضة والمنددة التي يرفعها الاميركيون تحت قبة السماء تحت المطر والثلوج...
وعلى طريقة ولع الاميركيين بالارقام لا بد من ان نلاحظ ان خطبة حالة الاتحاد 2003 قد تخللها تصفيق للرئيس 73 مرة، وقد استغرق القاؤها 42 دقيقة. واذا حسبنا ان كل تصفيق استغرق في المتوسط 25 ثانية فان كلمات الخطبة تكون قد استغرقت 18 دقيقة... بينما التهم التصفيق 24 دقيقة.
وعلى الطريقة نفسها لا بد من ان نلاحظ ان كلمة افغانستان (بما في ذلك كابول وقرضاي) ذكرت في الخطبة 14 مرة... في حين ان اسم <<العراق>> موضوع الساعة ومصدر الخطر الأعظم على الأمة الاميركية ذكر مرة واحدة وثلاث مرات فقط ورد اسم صدام حسين، ربما لأن بوش الثاني طلب تجنيبه النطق بالاسم الذي يجد صعوبة كبيرة فيه.
وعلى الطريقة نفسها ايضا علينا ان نلاحظ ان الاقتصاد الاميركي الهم الاول للأميركيين بشهادة كافة استطلاعات الرأي لخصه الرئيس بوش في كلمة: وظائف. وظل يكررها ويكررها حتى كاد عدد مرات تكرارها يتجاوز عدد مرات تكرار كلمة <<الأمن>>.
كل كلمة محسوبة...
لكن هذا لا يعني ان المعاني محددة او مفهومة.
هذه الخطبة التي انتظرها الاميركيون وأصدقاؤهم وأعداؤهم ومجلس الأمن والأمم المتحدة ومنظمات الدفاع عن حقوق الانسان والحريات العامة ومنظمات مناهضة الحروب ومناهضة الميزانيات العسكرية ذات الارقام الفلكية، بدأت بتناقض صارخ:
<<بينما نلتقي الليلة فان امتنا في حالة حرب، اقتصادنا في حالة انكماش والعالم المتحضر يواجه اخطارا لم يسبق لها مثيل. مع ذلك فان حالة اتحادنا لم تكن ابدا اقوى منها الآن>>.
وتبع هذا التناقض الذي لا تخفف وطأته كلمتا <<مع ذلك>> انذار للأميركيين بأن يتوقعوا ما هو أسوأ لحياتهم الاقتصادية:
<<ان خوض هذا الحرب يكلف الكثير... لقد أنفقنا... بمعدل 30 مليون دولار في اليوم وعلينا ان نستعد لعمليات المستقبل... ان ميزانيتي تتضمن الزيادة الأضخم في الانفاق الدفاعي في عقدين... فبينما ثمن الحرية والأمن مرتفع، فانه لا يكون أبدا مرتفعا اكثر مما ينبغي. وأيا كان ما يكلفنا اياه الدفاع عن بلدنا فاننا سندفع>>.
في هاتين الفقرتين يظهر الشرطان اللازمان للحرب: القوة متوفرة، والمال لا بد من ان يتوفر... اما اصلاح الحالة الاقتصادية فمؤجل، الحرب هي التي لا يمكن ان تؤجل. <<ما ان نكون قد موّلنا أمننا القومي وأمننا الداخلي، فستكون الأولية الأولى لميزانيتي هي أمن اقتصادي للشعب الاميركي... لا بد اولا من تحقيق هذه الأهداف القومية الكبرى ان نكسب الحرب، ان نحمي الأمن الداخلي، وان نعيد الحيوية الى اقتصادنا...>>.
هي اذن الحرب بأي ثمن. وما يقوله بوش الثاني للأميركيين هو بوضوح ادفعوا ثمن الحرب تأتِكم أرباحها.
وهذا ما قاله رؤساء اميركيون كثيرون قبله.
في مرات أصابت المعادلة... ومرات خابت. في مرات أخرجت الحرب اميركا من دورة كساد اقتصادي، وفي مرات نقلتها من كساد الى كارثة. ولم يبد في اي وقت ان النخبة الحاكمة الأميركية مستعدة لاستطلاع طريق آخر غير طريق الحرب.
لماذا؟
لأن النخبة الحاكمة لم تخسر ابدا في اي من المرات... بما فيها تلك التي سببت فيها الحرب بأي ثمن كوارث للأميركيين. النخبة الحاكمة الاميركية بجناحيها الصناعي والعسكري تربح دائما. وان تغير منهجها، استراتيجيتها، فلن يتغير شيء من هذا الا اذا تغيرت النخبة الحاكمة نفسها. قد نقول انه لا يبدو في الأفق المنظور شيء من هذا.
لكن هل كان يبدو <<في الأفق المنظور>> شيء من هذا في معظم حالات تاريخ الامبراطوريات القوية؟
لعل الأمر الوحيد المؤكد ان تغييرا جذريا في اميركا يطال النخبة الحاكمة التحالف الصناعي العسكري لم يعد شأنا داخليا اميركيا. التفاعلات في عالم العولمة اليوم ألقت حدودا كثيرة، بينها حدود الولايات المتحدة.
هل نزعم ان <<تغيير النظام>> في اميركا هو هدف مرهون بالآخرين بقدر ما هو مرهون بالأميركيين؟
نعم، وعلى الأقل فانه هدف ممكن اذا تخلى الآخرون عن مواجهة سياسة <<الحرب بأي ثمن>> الاميركية بسياسة <<السلام بأي ثمن>>... وهي الآن استراتيجية العرب والروس والفرنسيين (كل الاوروبيين باستثناء اسرائيل وبريطانيا) واليابان (كل الآسيويين ربما باستثناء كوريا الشمالية، وبعض القوى الهامشية...).
إذا ظلت استراتيجية <<الحرب بأي ثمن>> في مواجهة مع استراتيجية تطلب <<السلام بأي ثمن>>، تصبح الأولى مرشحة لفوز بلا حرب كذلك الذي تحقق لها بتفكك الاتحاد السوفياتي... الذي انتهج في مواجهتها ايضا سياسة <<السلام بأي ثمن>> على الأقل في سنوات عمره العشر الأخيرة.
تبقى ملاحظة: ان <<تغيير النظام>> في اميركا ليس هدفا عسكريا على الطريقة التي تطرح بها اميركا اليوم هدف <<تغيير النظام>> في العراق. انه بالأحرى هدف استراتيجي سياسي وثقافي، وحتى حضاري، للأميركيين والآخرين.
لهذا فهو هدف بعيد المدى... الوقت فيه ليس لصالح <<الحرب بأي ثمن>> (...).
كاتب وصحافي مصري
©2002 جريدة السفير