|
العودة إلى الوطنية الديمقراطية
بدر الدين شنن
الحوار المتمدن-العدد: 1405 - 2005 / 12 / 20 - 11:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم يحدث أن طرح في المشهد السياسي السوري ، منذ الاستقلال حتى الآن ، تعارض ا ستبدالي بين ركني السياسة الأساسيين الوطنية والديمقراطية ، كما يطرح الآن ، سواء كانت الغايات حسنة أو سيئة ، ، إن على مستوى النظام أو على مستوى فرقاء من المعارضة . فالنظام ، في أي وقت لم يعدم ذريعة المعركة مع الخارج ، أكان ذلك تحت عنوان تحرير الأراضي المحتلة أو كان لمواجهة المؤامرات الإمبريالية لاستخدام حالة الطوارئ والأحكام العرفية ، وتكريس " الوطنية " المطلقة كصيغة بديلة للديمقراطية ، واعتبر مغالطاً ، أن الديمقراطية التي تلغي احتكار السلطة وتتيح تداولها حسب إرادة الشعب ، تعني ا سقاط النظام ، وتعرقل خوض المعارك الوطنية والإنتصار فيها ، ووضع ، تعسفياً ، المطالبة بها في خانة الخيانة الوطنية . وإزاء ا شتداد الأزمة الشاملة في البلاد وبلوغها حداً بات معه من المستحيل الاستمرار ، وإزاء ا ستعصاء النظام على الاصلاح ، بدأت تسمع أصوات تنادي بحل للخروج من الوضع الراهن عن طريق الخارج . لأنه حسب زعمها هو الطريق الوحيد للحصول على الديمقراطية ، مبررة ذلك ، بانه لم يعد هناك ، بعد ارتهان العالم للقطب الواحد وتماهي الدول ومنظماتها الدولية بهذه الحقيقة ، وبعد انتشار العولمة والتجارة الحرة ووحدة السوق العالمية ، لم يعد هناك خارج وداخل متعارضين ، وأصبح ما يسمى بالسيادة والحدود الوطنية جزءاً من ذاكرة التاريخ . بمعنى أن الوطنية لم تعد ا شكالية في طريق وحدة العمل مع الخارج من أجل الديمقراطية
ومما زاد وعمق ما يمكن تسميته أزمة العلاقة بين الوطنية والديمقراطية في عهد " الحركة التصحيحية " هو مجانبة الحقيقة والمصالح الوطنية لدى قطبي المشهد . فمن جهة النظام تحضر عملية شخصنة الدولة . أي تكثيف وتركيز الدولة بشخص الرئيس المعرض لماهيته البشرية للخطأ والصواب والنزعات والانحرافات مكان المؤسسات والقانون ، التي وضعت قوى المجتمع أمام إحراج مركب وصل حد القمع العاري في التعاطي السياسي . إذ أنه في حالة شخصنة الدولة يشخصن الوطن أيضاً . أي أن تعاطي السياسة يصبح ملتزماً بمصلحة الشخص الرئيس تعبيرأ عن الالتزام بمصلحة الوطن . وإذا ما تعارضت المواقف والسياسات للأفراد والجماعات مع الشخص الدولة .. مع سياساته وتوجهاته ، تكون هذه المواقف في حالة تعارض مع الوطن .. والعكس صحيح . أي أن الديمقراطية التي تنظم العلاقات بين أفراد وطبقات المجتمع تصبح نافلة .. تصبح ملغاة .. ويسود فقط الشخص .. الوطن .. والوطن المشخصن .وعلى خلفية هذه الوطنية المشوهة ينهض التنابذ بين الوطنية والديمقراطية . وتصبح السياسة فاقدة للوطنية وللديمقراطية معاً ومن جهة القوى التي انحازت إلى خيار الخارج لتحقيق التغيير تحضر عملية التفريط بالدولة .. بالوطنية حاضنة الكرامة والسيادة ، التي بدونها يتحول الوطن إلى تابع في فضاء سيادة القطب الدولي الأوحد ، وينتقل الخضوع من الدولة المشخصنة إلى الخضوع لمركز الاستقطاب الدولي ، حيث يتلاشى الوطن والوطنية مقابل الحصول على لعبة ديمقراطية مجردة من الوطن ، عديمة الوزن والقيمة والفاعلية ، وتلتقي هنا هذه الديمقراطية المشوهة مع الوطنية المشخصنة . وتصبح السياسة أيضاً فاقدة الديمقراطية والوطنية معاً
ولنا في التجارب السابقة ، التي كابد الوطن فيها ما يبرهن على ذلك . إن تارريخ سوريا منذ الاستقلال عام 1946 هو هذه الثنائية المتنابذة ، عدا فترة بسيطة بعد الاستقلال من 1946 إلى 1949 ومن 1954 إلى 1958 ، التي تجاذبت واندمجت فيها هذه الثنائية ، وتفرعت عنها مقومات الوطن الأخرى .. دستور ديمقراطي .. سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية مستقلة ومتكاملة .. وحريات عامة ونقابية وصحافة حرة . أما ما يتعلق بالديكتاتوريات التي اخترقت الحالة الديمقراطية في بدايات الاستقلال ، فلا حاجة للخوض في تفاصيلها في هذا السياق ، ويمكن القول بإيجاز ، أنها لم تكن في منعكساتها على البنية السياسية سوى محاولات .. بروفات .. تمهيدية لقدوم أنظمة الاستبداد التي تحولت لاحقاً إلى أنظمة شمولية
أولى تلك التجارب كانت ، عندما أفرزت تداعيات الظروف السياسية في الخمسينات ضرورة وحدة سوريا ومصر للتصدي للمخاطر الاستعمارية الكبرى التي كان يمثلها حلف بغداد والجوار الموالي للاستعمار ضد سوريا ، حيث تم القبول ، خطأ " بالتنازل عن الديمقراطية ، حسب الشرط المصري ، مقابل ضمان الوطن . واعتمد هذا المعيار السياسي طوال عهد الوحدة . وعنما جرى تفكيك الجمهورية المتحدة سحب هذا التنازل في عهد ما بعد الوحدة ، وعاد التوحد بين الوطنية والديمقراطية . إلى أن جاء انقلاب 8 آذار 1963 وأعاد تعارض الوطنية والديمقراطية ، وتم ا ستبدال الديمقراطية بالتقدمية ، وساد مفهوم الوطنية التقدمية بديلاً للوطنية والديمقراطية . ما أدى إلى نشوء الديكتاتورية المباحثية في عهد الوحدة والديكتاتورية العسكرية في عهد ما بعد 8 آذار . ثم جاء عهد 23 شباط ، الذي حاول اختراق قوس الحكم الديكتاتوري بسلسلة من التوجهات " التقدمية الشعبية " إلاّ أن عدوان حزيران 1967 ، وانقضاض وزير الدفاع على السلطة ، لم يتح المجال لهذه التوجهات أن تأخذ مداها للبرهنة على صحتها أو محاولة تصحيحها
وفي عهد " الحركة التصحيحية " الذي بدأ منذ 16 ت2 1970 ومازال مستمراً حتى الآن ، تجلت " الوطنية " النابذة للديمقراطية بأوضح صورها ، فقد تمت شرعنة هذا التنابذ دستورياً ، بفرض وصاية حزب النظام على الشعب وتنصيبه قائداً للدولة والمجتمع ، وفرض " عقيدته " مرجعية للقانون وهدفاً للأنشطة المجتمعية على الصعد كافة . كما تم تحصين هذه الشرعية من أي حراك يهددها بفرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية ، وتولية شبكة من الأجهزة الأمنية القمعية على الشأن العام بكل مجالاته وتفاصيله ، كما تجلت بصورة أكثر بروزاً شخصنة الدولة .. ومن ثم شخصنة الوطن . خاصة بعد تلاشي الانبهار بحرب تشرين 1973 ونضوب عشرات المليارات من الدولارات ، التي تدفقت على النظام ثمناً للدور الإقليمي الذي قام به لضبط الشرق الأدنى وفق أجندات دولية وإقليمية ، بتدخله في لبنان أواسط السبعينات ، ومشاركته في حرب الخليج الثانية في أول التسعينات ، وبعد انفجار الوضع الداخلي على العنف والعنف المضاد ، الذي جر البلاد إلى أزمة وطنية شاملة طوال خمسة وعشرين وما تزال . وقد زادت شخصنة الدولة ا ستفحالاً ونبذ الديمقراطية مع تلاحق التطورات الدولية والإقليمية المتسارعة ، التي كان أهمها ، خسارة المظومة الاشتراكية ، وحدانية الاستقطاب الدولي ، الإحتلال الأمريكي للعراق ، تعاظم دور إسرائيل الإقليمي وسط ضعف المحيط العربي ، تبدل الاستراتيجيات والأدوار في الشرق الأوسط، حيث وضع النظام أمام ضرورة التكيف مع المستجدات الدولية والإقليمية الجديدة أمام خيارين ، إما أن يندمج في مشروع الشرق الأوسط الصهيو - أميركي ، ويعمل بالوكالة لصالح هذا المشروع ، وإما أن يواجه عرقنة سوريا ، بصيغة أو بأخرى ، مع كل ما يترتب على ذلك من حصار وانهيار ودمار . بكلمات أخرى ، أصبح الوضع السوري بكامله على محك المعيار الوطني . ولأن النظام قد ألغى السياسة في حياة المجتمع بإلغاء الديمقراطية ، وغيب الشعب بالقمع عن الفعل السياسي ، فإن المخاطر المحيقة بالوطن هي أكثر إيلاماً وجدية . فالنظام المعزول لمعاداته الديمقراطية لايمكنه أن يحرك القوى الشعبية ، التي يمكنها وحدها كما حدث في الخمسينات أن تحمي الوطن . والقوى الشعبية التي خسرت قياداتها السياسية بالقمع والإعتقال والتصفيات والمنافي لاتثق بمؤسسات وكوادر النظام التي اكتوت بنار لصوصياتها وقمعها ، ولاهي قادرة بذات الوقت على الحراك بإمكانياتها الوليدة والمتجددة على المبادرات واقتحام المواجهة دون الديمقراطية .. هنا يرد الإعتبار للديمقراطية كضرورة وطنية .. وتتقاطع الوطنية والديمقراطية وتتلاحم عضوياً ومصيرياً بنظر الشعب .. وهنا تتنازع الوطنية والديمقراطية وتتنابذ أمنياً ومصلحياً بنظر أهل النظام
وقد أثبتت التجربة التاريخية المريرة ، أن فصل الوطنية عن الديمقراطية ووضعهما في حالة تعارض تبقي الوطنية ناقصة ومهددة بالهزيمة دون الديمقراطية . وأن الديمقراطية المعزولة عن الوطنية تبقى لعبة سياسية عديمة الكرامة وفاشلة ، ففي عهد الوحدة السورية المصرية مثلاً ورغم وجود سطوة قبضة المباحث على الدولة والمجتمع فقد تمكن حفنة من الضباط السوريين من تفكيك دولة الوحدة بسبب إنعدام الديمقراطية في المجتمع . وفي عهد 23 شباط تمكن وزيرالدفاع آنذاك من الإطاحة بقيادة العهد والسطو على السلطة دون أية مقاومة تذكر بسبب إنعدام الديمقراطية أيضاً . ونرجو ألاً يثبت نبذ الديمقراطية الآن تجربة جديدة تضاف إلى سلسلة تجاربنا التاريخية المريرة . إذ لاتزال شخصنة الدولة وشخصنة الوطن تفعل فعلها في ا ستمرار الوطنية المشخصنة النابذة للديمقراطية ، ما يغلق فرص داخلية للتغيير الديمقراطي ، ويفتح المجال للديمقراطية المشوهة النابذة للوطنية عبر فعل تغييري تدميري قد يأتي من الخارج
إن التنابذ المنطقي العقلاني هو الذي يقوم بين الوطنية الحقة والديمقراطية الملغمة بمصالح الخارج .. وبين الديمقراطية المعبرة عن مصالح الشعب وبين الوطنية الملغمة بمصالح الاستبداد فقط العودة إلى حالة التوحد والإندماج بين الوطنية والديمقراطية في نظام وطني ديمقراطي هي التي تؤمن حماية وا ستقرار سوريا . . وتفتح أمامها سبل العزة والكرامة والإزدهار
#بدر_الدين_شنن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحوار المتمدن في عيده الرابع
-
الاستبداد والاحتلال .. والانسان المستباح في العراق
-
الحرية الغائبة بين الذريعة والضرورة .. سوريا للجميع
-
مريم نجمة في - مدارات الكلمة
-
النظام السوري ورهاب الشبهة
-
من هو
-
حتى يدفع الجلاد الثمن
-
جولات ووعود ا ستعراضية
-
سوريا أمام الامتحان الأخير
-
إعلان دمشق .. والاستحقاقات الملحة
-
الخارج والاصلاح السياسي في العالم العربي
-
القاضي ميليس ومعجزة التغيير
-
التحرك السياسي السعودي .. إلى أين .. ؟
-
من المسؤول عن التغيير الديمقراطي في سوريا
-
إفساد - مكافحة الفساد - .. !! من يحاسب من ؟
-
المشهد الألفي ..على جسر الأئمة
-
معادلة الخبز والحرية
-
ومضة نبيلة في حراك الحرية
-
من أجل حركة نقابية عمالية جديدة
-
مع أحرار موريتانيا
المزيد.....
-
الجمهوري أرنولد شوارزنيجر يعلن دعمه للديمقراطية كامالا هاريس
...
-
وفد روسي يصل الجزائر في زيارة عمل
-
كوريا الشمالية: تصرفات الولايات المتحدة أكبر خطر على الأمن ا
...
-
شاهد.. ترامب يصل إلى ولاية ويسكونسن على متن شاحنة قمامة
-
-حزب الله- ينفذ 32 عملية ضد إسرائيل في أقل من 24 ساعة
-
بريطانيا وفرنسا وألمانيا تدعو إلى التجديد العاجل للخدمات الم
...
-
وسائل إعلام: تقدم في المفاوضات حول وقف إطلاق النار بين إسرائ
...
-
وفد روسي يصل الجزائر في زيارة عمل (صور)
-
إعصار كونغ-ري يقترب من تايوان والسلطات تجلي عشرات الآلاف وسط
...
-
ما هي ملامح الدبلوماسية الأميركية المستقبلية في الشرق الأوسط
...
المزيد.....
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
-
الخطاب السياسي في مسرحية "بوابةالميناء" للسيد حافظ
/ ليندة زهير
-
لا تُعارضْ
/ ياسر يونس
المزيد.....
|