|
عن ظاهرة المسرح والمسابقات التنافسية
عبد الناصر حنفي
الحوار المتمدن-العدد: 5249 - 2016 / 8 / 9 - 16:53
المحور:
الادب والفن
تشهد الساحة المسرحية في مصر حاليا انتشارا متزايدا لتلك الآراء التي تجافي سياقات التنافس المسرحي، إن لم نقل أنها تناهضها وتزدريها، وبغض النظر عن أن هذا التوجه يعود منشأه إلى "جماعة ضغط مسرحية" بعينها، إلا أنه نجح في احتلال مكانة ملحوظة في نقاشات الرأي العام المسرحي، وصحيح أنه قد خسر معركته في محاولة إلغاء التنافس في المهرجان القومي للمسرح، إلا أنه تمكن من فرض سيطرته على نظام مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر، وبات يطرح نفسه كبديل -تتبناه بعض مجموعات المسرحيين- يمكن تسميته بعقيدة "المشاهدة الخالصة". ومؤخرا فرض هذا البديل نفسه على نقاشات، ومشاحنات، مسرح الثقافة الجماهيرية ليس فقط بوصفه أحد الحلول التي ينبغي أخذها في الاعتبار عند الحديث عن تردي احوال هذا المسرح، ولكن أيضا بالتنادي أن التنافس هو السبب الأهم والرئيسي في مشاكله المزمنة والتي لا يمكن المساس بها أو علاجها إلا بعد الخروج بشكل شبه كامل من هذا النظام. وأن تحظى تلك الفكرة بمساحة انتشار واسعة على هذا النحو دون أن تمر بمرحلة نقاش معلن ومدقق يراجع ما يعاد تدويره باستمرار في الحوارات الجانبية والإشارات العابرة التي تؤكد نفسها على حواف بعض ما هو منشور، ويرصد تناقضاتها والمفارقات التي تنطوي عليها، فهذا أحد تبديات أو بالأحرى تبعات وعي "البروليتاريا الرثة" الذي يهيمن على ظاهرة المسرح المصري، والذي يجعلها هدف سهل أمام أي خطاب قادر على تنظيم مقولاته وتكراراها بإلحاح المرة تلو الأخرى لفترة كافية، وذلك بغض النظر عن مدى اتساق أو تهافت ما يقدمه. 1- نمط حضور النوع المسرحي: المسرح هو الفن الوحيد -على سبيل الحصر- الذي جاءت بدايته ومراحل تطوره الأكثر أهمية عبر سياقات تنافسية، وعندما توقفت هذه التنافسيات دخل المسرح في حالة تحور بطيء صاحبته موجة ركود تاريخي طويل لم يتم التخلص منها إلا مع نهايات العصور الوسطى، ولذلك يبدو أن ثمة علاقة قوية تفرض نفسها بين المسرح والتنافس، وهي اكثر عمقا من حصرها في نتائج تاريخية منقضية، فالعروض المسرحية بطبيعتها هي مجرد "حدث" محدد ومنتهي، أو جزر منعزلة في الزمان والمكان، محصورة على من ينفذونها ويشاهدونها، وهي تتلاشى تماما مع لحظة الختام، لتخلف أثرا أو تبدلا ما في روح مشاهديها يتعلق بعلاقتهم بأنفسهم، وبالعالم، وهذا الأثر أو التغير الطارئ أيا كان عمقه، وأيا كانت الاختلافات حول تفسيراته وتحديداته، يمثل العطاء الأساسي لما هو مسرحي، والمبرر الوحيد تقريبا لاستمراريته الجمالية بوصفه حالة خاصة –وفريدة- من حالات الممارسة الإنسانية، ولكن بالمقابل، فهذا العطاء فور صدوره يتم استنفاده واستغراقه بالكامل في مسارات إنسانية واجتماعية غير مسرحية بالضرورة، وبمعنى آخر، فهذا العطاء يصبح ما يخص الآخر لا ما يخص المسرح، وبرغم أنه صحيح تماما أنه يشكل المهاد لما هو مسرحي، ولحثه على العودة مرة أخرى من بوابة الفناء التي انزلق إليها، وأنه يؤسس ويدعم منصات استقباله وتكريسه، إلا أن هذا يتم عبر ذلك الداخل العميق والصامت صمتا مطبقا لتلك الذات المتلقية التي تعاني أثر ذلك العطاء المسرحي دون أن تعاينه بالضرورة، أي أنها تشعر ذلك الأثر وتعيشه ولكن دون أن تعيه، وبالتالي فتلك الحالة البكماء، التي يمكننا أن نطلق عليها حالة "المشاهدة الخالصة"، أو "التلقي المحض"، ليس بوسعها أن تنفي او تتجاوز توحد أو عزلة ذلك "الحدث" المسرحي المفرد، بحيث تخلق فضاءه الخاص الذي يلاقي فيه ذاته على نحو يتيح تشكيل ظاهرة ما هو مسرحي بوصفه ما يتمايز عن غيره. وهذا التحليل يجد ما يؤيده في تجربة المسرح الكنسي، ذات الانتشار والعمق التاريخي الذي لا يستطيع منازعته أي نوع مسرحي آخر، والتي تتمتع بجلال المشاهدة، وعظم التأثير الذي يكاد يحول ما هو مسرحي من ممارسة جمالية إلى طقس تعبدي، ولكن عبر ذلك العثور السهل للمسرح على مصيره ووظيفته، فإنه يبقى "في ذاته" أسيرا لها، ومختنقا بها، ليواصل تكرارها، دون أن يستطيع إخضاعها للتأمل أو المساءلة، أي يمتنع عليه التحول إلى "ظاهرة لذاتها"، وعبر هذا المسار لا يسقط المسرح في حالة من الركود والسبات الطويل فحسب، بل يتجمد على نحو شبه كامل وينزلق مع الزمن والتكرار إلى فضاء ما هو غير فني. إذا: فمن أجل تحول ما هو مسرحي إلى ظاهرة لذاتها فهو يحتاج إلى ما يتجاوز مجرد التبدي أو العطاء المتقطع في الزمن، أي يحتاج إلى منصات ما قادرة على استحضاره وحفظ غيابه ومقاومته في نفس الوقت عبر سعيها إلى رأب ذلك التصدع بين الأحداث المسرحية من خلال خلق وتحديد تلك المسافات الفارغة التي تفصل بين كل حدث وآخر على نحو يتيح في النهاية تحويل تلك المسافات إلى ما يشبه المسارات التي تسري بين ما هو مسرحي، هاهنا فقط يمكن للمسرح أن يلاقي ذاته، وأن يتطابق معها وينفيها، ويتجاوزها، ليتحول إلى ظاهرة نوعية مفعمة بالحياة، والحركة. 2- منصات حضور ما هو مسرحي: هناك عدة آليات، أو عناصر أمكنها تاريخيا أن تخلق فضاء حضور ما هو مسرحي، وكلها ترتكز على "الاختلاف" في العرض المسرحي ذاته، والاختلاف حوله، والاختلاف به أو بواسطته وعبره، وهذا الاختلاف هو ما يمنح فضاء حضور ما هو مسرحي خرائطه ومعالمه، ويمنعه من التحول إلى مجال مصمت ومعتم وبلا تمايز، ولذلك فكلما ركدت أو ضمرت حركية الاختلاف فقدت ظاهرة المسرح شيئا من معالمها. وأول هذه العوامل بالطبع هو اهتمام الجمهور أو المتلقي، فبدونه لا يمكننا الحديث عن أي شيء آخر، ولكن هذا المستوى الصفري من تأسيس الحضور يظل كذلك ما لم تخترقه حركية الاختلاف وتحوله إلى كتل متباينة ومتمايزة، عابرة لمحلية مكان وزمان العرض نفسه، فكما رأينا مع تحليل تجربة المسرح الكنسي والذي لا يمكن المزايدة على اهتمام جمهوره، إلا ان ضمور وتآكل مساحات الاختلاف سواء فيما تقدمه العروض أو في نمط الاهتمام قد أدت به إلى ذلك الركود التاريخي الطويل. أما ثاني هذه العوامل فهو حراك نقدي فاعل وجاد ومنتشر على نحو يكفل له خلق وتعزيز مساحات الاختلاف ومنحها خطابا متعينا يجلبها إلى حيث يحضر الوعي لذاته ويعيد تكوين موضوعاتها وتحليلاتها بصفة مستمرة بحيث يتمكن من مداعبة واستثارة مخزون -أو حتى بقايا- العطاء المسرحي القابع هناك في عتمة الذات المشاهدة، وربطه بفضاء الظاهرة المسرحية على نحو يكسبها عمق وتباين كثافة ما هو حي، وذلك قبل أن يربط هذا كله بالفضاءات المتعددة للعالم المعاش (لا يمكن المبالغة في دور ما هو نقدي طالما كان الحديث منصبا عن تحولات الوعي، مثلما لا يمكن في هذه العجالة التوقف عنده كما يليق). ويشكل تآزر وتلاقي كل من الاهتمام الجماهيري الذي يتمتع بمستويات متميزة من الاختلاف مع حراك نقدي فاعل الحالة المثلى لحضور ما هو مسرحي وانتشاره وتطوره وتخطيه لذاته. أما ثالث هذه العوامل فهو آلية التسابق التنافسي، والتي لا تتطلب حفظ الاختلاف كشرط لعملها فحسب، بل أيضا تستحدثه، وتعيد إنتاجه، وتطور من تباين مستوياته القائمة فعليا وتعيد تنظيمها على نحو أو آخر عبر ما تقوم به من اصطناع ما يشبه حالة الاصطفاف التي تضم كافة العروض المسرحية الخاضعة لها داخل إطار تراتبي مشترك. ولكن ما هو آليات التسابق والتنافس أصلا؟ وكيف يمكن وصفها؟ 3- المسابقات التنافسية، تحليلات أولية: التنافسية بحكم التعريف هي أحد مشتقات آلية الاختيار بين ما هو متعدد، ومختلف، والتي تضم أيضا المفاضلة والتسابق. والمفاضلة هي آلية اختيار عامة وذاتية في نفس الوقت، بمعنى أنها يمكن أن تكون معلنة أو غير معلنة سواء في مساراتها أو شروطها واجراءاتها ونتائجها، كما يمكن أن يقوم بها فرد أو كيان. أما التسابق، فهو آلية مؤسسية تستخدمها الكيانات لا الأفراد، وبالتالي فهو بالضرورة يستلزم تعدد أطرافه، مثلما يستلزم تعيين هدفه النهائي، عبر شروط واضحة ومعلنة، وإطار زمني محدد، ولكنه لا يتطلب الحضور الآني لأطرافه، أو مواجهتهم لبعضهم البعض، ولا علنية إجراءاته العملية التي تفاضل بين طرف وآخر، بقدر ما يتطلب علنية وحسم نتيجته النهائية. وتأتي التنافسية بوصفها حالة آنية وحاضرة ومعاشة ذاتيا في مواجهة الآخر الذي يتم جلبه إلى ساحة حضور الذات عبر تكريسه بوصفه خصما ينبغي تجاوزه من أجل تحقيق الهدف النهائي (في آلية المسابقات، قد لا تصبح الأطراف معروفة أبدا إذا لم تتضمن تقاليد المسابقة الإعلان عمن تقدم إليها)، ويمكن للتنافس أن يمتد في الزمن دون حسم بات، ولكنه يتلاشى تماما مع غياب الآخر، وفي كل الأحوال يؤدي التنافس إلى توسيع وخلخلة وإعادة تشكيل تصور الذات عن نفسها حيث يصبح الآخر هنا –بكافة اختلافاته وتغيراته الممكنة- جزءا من هذا التصور، وهكذا فبقدر ما يبدو التنافس عصيا على الذات المنغلقة على نفسها والتي لا تبارح عالمها الخاص، فإنه أيضا يقدم نفسه بوصفه قادرا على خلق حالة من المراوحة بين التمثلات الذاتية، وتمثلات الآخر، مما يخلق حالة من التخارج الإيجابي (أي رؤية الذات لنفسها عبر الآخر، والعكس)، وهو ما قد يفضي في النهاية إلى اكتساب الذات لإمكانية تخطي نفسها والانفتاح على ما يتجاوز عالمها، أو ارتكاسها وانسحابها نحو هذا العالم الذاتي الذي قد يبدو أكثر أمنا! وفي النهاية تأتي "المسابقات التنافسية"، تلك الآلية الهجينة التي تقع في منطقة التقاطع بين خصائص التسابق والتنافس، وتدمجهما معا، أي أنها مؤسسية وتعددية وذات مدى زمني محدد وشروط واضحة ومعلنة، ولا تكتمل إلا بتحقق الهدف النهائي لأحد أطرافها، باعتبارها تسابقا، مثلما هي أيضا تجربة معاشة آنيا تعمل على تحويل الأطراف إلى خصوم متواجهين يعي كل منهم حضور الآخر، باعتبارها تنافسا، أما باعتبارها "مسابقات تنافسية" فهي تعمل على تحويل أي مجموعة تطرح نفسها كطرف تنافسي إلى ذات، وذلك عبر دمجهم إلى هذا الحد أو ذاك في إطار ما يخلقه هدف التسابق من اهتمام مشترك، وصحيح بالطبع اننا نتحدث هنا عن "ذات جمعية" متقطعة الظهور، ولكنها رغم ذلك ستسلك طبقا لنفس السيناريوهات التي تطرحها الذات الفردية على نفسها، بما في ذلك النظر إلى أطراف المنافسة الآخرين بوصفهم "ذوات" غيرية. 4- عن الممارسة المسرحية والمسابقات التنافسية: لا يمكن بداهة تصور أي ممارسة مسرحية دون حضور آليات الاختيار التي حللناها هنا، فجزء كبير من القرارات الاخراجية مثلا هي في النهاية مجرد "مفاضلة ذاتية" صامتة نادرا ما تعلن عن نفسها أو تبرر حضورها، أما "الكاستنج"، وقرارات الجهة الإنتاجية بإنتاج عرض ما دون غيره فهما في جوهرهما فعل من أفعال التسابق، والتنافسية "الذاتية" عادة ما تفرض نفسها على العلاقة بين بعض عناصر العرض، وخاصة الممثلين باعتبارهم أكثر هذه العناصر قابلية للاستبدال أو الاقصاء، ولكن برغم هذا الحضور التكويني لتلك الآليات داخل بنية العرض المسرحي تظل "المسابقات التنافسية" شيئا مختلفا تماما لأنها تعمل من خارجه بالكامل، حتى وإن كانت لديها فرص –مع الاستمرار- للتأثير علي مسارات تكوينه. وبوصولنا إلى هذه النقطة من التحليل نستطيع بناء تصور نظري واضح حول الأثر والدور الذي تلعبه "المسابقات التنافسية" في أي مجال مسرحي يتم اخضاعه لها، فهي بالمقام الأول تقضي على أي حالة عزلة قائمة أو محتملة لدى فرق أو مجموعات تقديم العروض وتحفز التفاعل فيما بينهم، وتجذب كل منهم نحو مسار التحول إلى ذات جمعية، إن لم يكونوا كذلك، مثلما تجبر عروضهم على الاصطفاف في فضاء تراتبي موحد على نحو يتيح كشف نقاط التلاقي والاختلاف وتثمينها وجلبها إلى حيث تصبح موضوعا للالتفات الجماهيري والنقدي. ومن جهة أخرى فهناك ما يمكن اعتباره بمثابة مخاطر أو أعراض جانبية تنتج عن هيمنة مبالغ فيها لآلية "المسابقات التنافسية"، على ظاهرة المسرح، وهو ما يحدث بصفة خاصة في حالة اجتماع الغياب المفرط للاهتمام الجماهيري والضمور اللامبالي للحراك النقدي، ففي هذه الحالة يمكن أن تتحول تلك الذات الجمعية التي توالي تقديم عروضها في سياق تنافسي إلى وضعية تخارج بلا رجعة، بحيث يتم تكوين هذه العروض انطلاقا من رؤية الآخر الذي يحدد معايير التنافس ومن أجله فقط، مما يؤدي ليس فقط إلى التباعد أكثر فأكثر وعلى نحو يائس عن محاولة الذهاب هناك حيث الاهتمام الجماهيري المحتمل! فضلا عن أن تلك الذات التي ربما ساهم التنافس في بلورتها ستفقد اختلافها وسيذهب معه كل ما يخصها في علاقتها بعالمها، أي أنها عمليا تسجل انتحارها كذات مسرحية لتصبح أشبه بكارت بوستال تنطبع عليه "رغبة" الآخر، وبالتالي تخلق الآلية هنا مجال تشابه أو تطابق تافه يزيد من عجز ما هو نقدي، ويستطيع، إذا ما ترك له العنان، إصابة الظاهرة المسرحية بالجمود. ومن جهة أخرى فإنه يمكن للذات المسرحية أن تقرر مقاومة حالة التخارج تلك عبر عودة أكثر عنفا وانغلاقا نحو الذات وما يخصها بحيث تتلاشى وضعية الانفتاح تجاه الآخر على نحو يمكن أن يدفع الخصومة الذاتية "التنافسية" إلى أبعد مما هو مقدر لها، مما قد يؤدي إلى الانزلاق إلى حالة من الضغينة الذاتية المضادة بطبيعتها لما هو مسرحي، والتي قد تؤدي إلى تآكل الذات وتشويه علاقتها بعالمها، وباختصار فإن الذات المسرحية هنا معرضة إما إلى حالة من التخارج الدائم، أو لحالة مقابلة من التدمير الذاتي. وكل تلك الحالات الخطرة والمزعجة يمكن رصدها بدقة ووضوح في ظاهرة "مسرح الثقافة الجماهيرية" التي تعود انطلاقة فعالياتها التنافسية إلى منتصف القرن الماضي مما يجعلها التجربة الأقدم والأكثر استمرارية وكثافة في هذا المجال على مستوى المسرح المصري، حيث أصبحت المسابقات التنافسية جزءا أساسيا من عقيدتها المسرحية وعامل تاريخي هام أسهم في تكوينها وانتشارها وانفتاحها على ذاتها كحركة ذات فضاء حضور موحد ومتمايز رغم التباعد الجغرافي الهائل بين مراكزها. وهنا نصل إلى التناقض الكامن في فعالية هذه الآلية، فهي من جهة آلية بناءة على نحو لا يمكن انكاره أو تجاهله، ولكنها عند عتبة معينة من انفرادها بالهيمنة على مسارات ما هو مسرحي تتحول إلى النقيض تماما وتبدأ في هدم وتدمير ما أنجزته. وهذا التناقض أخطر بكثير من تلك الاعتراضات التقليدية التي عادة ما تثار ضد تلك الآلية، مثل التنديد بعدم عدالتها أحيانا، وهو أمر واقع بالفعل، ولكن العدل المسرحي هو أحد الأهداف "الواجبة" لهذه الآلية وليس مبرر وجودها بحيث تنتفي بانتفائه في بعض الحالات، ومثل ذلك ما يقال عن أن تلك الآلية تنتهك ما هو فني بإخضاعه للتثمين أمام معايير من خارجه، وهو ما يجد ردا كافيا عبر تحليل ما اسميناه بعقيدة "المشاهدة الخالصة" وما يمكن أن تجلبه من جمود ما هو مسرحي في حالات بعينها. وفي النهاية فمن المؤكد أنه لا يمكننا الارتكان إلى قرار مطلق أو الاطمئنان إلى موقف وحيد وثابت تجاه علاقة آلية المسابقات التنافسية بظاهرة المسرح، وعمليا فبينما كان الموقف المضاد لهذه الآلية آخذ في الانتشار، وبينما كان مسرح الثقافة الجماهيرية يجلب إلى الساحة أسوء مخاطرها، كان القائمين على المسرح الكنسي المصري يسعون في الوقت ذاته بدأب ومثابرة إلى إعادة تكوينه واسترداد فعاليته وحركيته الفنية عبر إدماجه داخل سياق تنافسي عام. إذا: لا يوجد قرار "نظري" بسيط هنا، والأمر بكامله مرهون بحسابات وتحليلات دقيقة وواضحة تستند إلى واقع الظاهرة المسرحية قدر الإمكان، بحيث تتيح استخدام آلية التنافس كأداة بناء، وتمنع اندفاعها تجاه تلك العتبة التي تنقلب فيها على ذاتها، ولكن هذا لا يكاد ينطبق تقريبا إلا على ظاهرة مسرح الثقافة الجماهيرية، نتيجة لتعقيدات تركيبها التاريخي، وتراكم إهمالها عبر سنوات ممتدة، ناهيك عن إلقاء قرارها إلى حيث تنعدم الخبرة بها. ورغم ذلك فثمة سلسلة من السيناريوهات والحلول المتاحة –والمطروحة! - للخروج من أزمة هذه الظاهرة على نحو فعال، وكلها تنبني على الحد من هيمنة آلية التنافس عبر إحداث بعض التوازن في "منصات الحضور المسرحي" من خلال ضخ بعض الإجراءات التي من شأنها تحفيز الاهتمام الجماهيري والحراك النقدي المصاحب للظاهرة، أما "الادعاء" بأن إلغاء التنافس كفيل بحد ذاته بإعادة الظاهرة "إلى ما كانت عليه" وإنقاذها من أزماتها، فهو مجرد وهم غير مدروس، أو هو في أفضل الأحوال مجازفة في غير موضعها وغير أوانها. وفي النهاية، فباستثناء مسرح الثقافة الجماهيرية، لا زال لدى آلية التنافس ما تقدمه لكافة تجليات المسرح المصري، حيث تبدو بعيدة عن تخطي عتبة الانقلاب على ذاتها، ولذلك فمن الصعب أن نجد تفسيرا مسرحيا خالصا لمحاولات بترها من فعاليات مهرجان المسرح القومي، أو لذلك "النجاح الغامض" في طردها خارج نظام مهرجان القاهرة للمسرح المعاصر! -------------- نشرت بالعدد الخير من نسرة المهرجان القومي- الدورة التاسعة- 2016
#عبد_الناصر_حنفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تقرير فني حول عرض -قول يا مغنواتي-
-
عن الشوق الاجتماعي للمسرح .... ومخاطر خيانته!
-
عن الأمل الهيجلي .. ورهاناته
-
أغنية البجعة الليبرالية
-
في إنسانية المسرح الجامعي
-
من -ماكبث- إلى -بير السقايا- .... تأملات أولية في تحولات الد
...
-
عن اليوم العالمي للمسرح ورسالته ... تأملات حول تقليد آن مراج
...
-
المسرح المصري: ظاهرة تأبى أن تعي ذاتها (2-2) .... نمط الوعي
...
-
المسرح المصري: ظاهرة تأبى أن تعي ذاتها!! (1-2) 1- -عن احصاءا
...
-
عن الضغينة في مسرح الثقافة الجماهيرية
-
نحو أعادة بناء حركة نوادي المسرح (5) الدعم اللوجستي
-
الصعود بديلا عن الخلاص ....... عن اضطرابات مسرح ما بعد يناير
...
-
ظاهرة المسرح: بين العطاء الجمالي، والعطاء الاجتماعي *
-
نحو أعادة بناء حركة نوادي المسرح (4) خلق مساحات جديدة للعرض
-
نحو إعادة بناء حركة نوادي المسرح (3) من العروض إلى الفرق
-
نحو أعادة بناء حركة نوادي المسرح (4) من العروض إلى الفرق - خ
...
-
نحو إعادة بناء حركة نوادي المسرح (1)
-
نحو إعادة بناء نوادي المسرح (2) استعادة الأمل
-
حالات مسرح ما بعد يناير: من الاندفاع إلى التبدد .. -فرضيات أ
...
-
عن انهيار مسرح الثقافة الجماهيرية 1- نوادي المسرح
المزيد.....
-
دانيال كريغ يبهر الجمهور بفيلم -كوير-.. اختبار لحدود الحب وا
...
-
الأديب المغربي ياسين كني.. مغامرة الانتقال من الدراسات العلم
...
-
“عيش الاثارة والرعب في بيتك” نزل تردد قناة mbc 2 علي القمر ا
...
-
وفاة الفنان المصري خالد جمال الدين بشكل مفاجئ
-
ميليسا باريرا: عروض التمثيل توقفت 10 أشهر بعد دعمي لغزة
-
-بانيبال- الإسبانية تسلط الضوء على الأدب الفلسطيني وكوارث غز
...
-
كي لا يكون مصيرها سلة المهملات.. فنان يحوّل حبال الصيد إلى ل
...
-
هل يكتب الذكاء الاصطناعي نهاية صناعة النشر؟
-
-بوشكين-.. كلمة العام 2024
-
ممثلة سورية تروي قصة اعتداء عليها في مطار بيروت (فيديو)
المزيد.....
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
المزيد.....
|