|
بؤس الإعلام الشمولي
إبراهيم إستنبولي
الحوار المتمدن-العدد: 1404 - 2005 / 12 / 19 - 10:00
المحور:
الصحافة والاعلام
غداة جريمة اغتيال جبران تويني تم الإعلان في الصحف الرسمية عن " محاضرة " يلقيها وزير الإعلام السوري مهدي دخل الله ... فقلت لعلي سأسمع من فم الوزير المتفاصح بعض ما يبرد أعصابي في هذه الأيام العصيبة من تاريخ شعبنا .. إذ تتعرض سوريا ، سواء عن حق في أغلب الأحيان أو عن غير حق في بعض الأحيان ، لقصف إعلامي مركز . و ذهبت . إلى المركز الثقافي بطرطوس ، الذي لا يمتلأ بالحضور إلا في حالة كان المحاضر شخصاً مسؤولاً قادماً من دمشق أو من لبنان ( وئام وهاب مثلاً ) ، أو أن تكون المناسبة رسمية فيتم جلب المواطنين أو حشدهم من مختلف المؤسسات أو ممن هم " يحلبون هذه المؤسسات " . و أول ما يلفت نظرك و أنت تقترب من المركز الثقافي ، خصوصاً إذا كان الضيف مسؤولاً حكومياً أو حزبياً كبيراً من دمشق ، هو ذلك الكم الهائل من السيارات الفخمة التي تقف عند مدخل المركز " مستعدة للانطلاق " حتى ليكاد المواطن العادي يخشى أن تزمجر عليه في حال هو اقترب منها أكثر أو لامسها خطأ . دخلت إلى المركز ( و هذه أول مرة أحضر فيها " محاضرة " لمسؤول ) و إذ بالقاعة تغص بالناس ... فصعدت و أخذت مكاني في الصفوف الأخيرة .. و أنا " سعيد " لهذا الكم من المهتمين بالإعلام . كان قد مضى حوالي ربع ساعة على بدء " المحاضرة " . و رحت أستمع . و انتظرت كي التقط خيطاً يربط بين ما يقوله الوزير لأقرر ما هو موضوع المحاضرة . و انتهت المحاضرة و لم أتمكن من تحديد عنوان لها . لقد تحدث الوزير أكثر من ساعة كاملة و لم يقل أي فكرة واحدة . لقد كرر عبارات يرددها دورياً من نوع : ربما سيتهمون سوريا بمقتل كينيدي أو بزلزال تسونامي ... و ما هو أسخف من ذلك . أو ردد أفكاراً نسمعها يومياً في الفضائيات . أي أن " محاضرته " اقتصرت على سرد أخبار و أفكار و آراء ممجوجة و مكررة عن كل شيء إلا عن الإعلام فلم يقل شيئاً مهماً . و الأنكى أنه كان يتحدث باستسهال لكل ما يجري و كأنه لا تواجه سوريا أية مشاكل . و انتهت " المحاضرة " ليبدأ " النقاش " .. النقاش ، الذي لم يكن أقل خفة و أقل جدية من " المحاضرة " . و تم التركيز من قبل منظمي " السهرة " على أنه يجب التقيد بطرح الأسئلة . و لكن المشاركين لم يتقيدوا .. و يا ليتهم تقيدوا . لأن النقاشات كانت مرآة للثقافة الشمولية . أحدهم اتهم الإعلام السوري بأنه كان نائماً عندما قدّم ميليس تقريره الأول فأجاب الوزير بأنه أيقظ مدير عام الثورة فائز الصايغ و طلب منه وقف طباعة الجرائد و اقترح عليه الوزير افتتاحية كتبها بنفسه للتو و قدمها باسم صحافي مناوب ؟! و هذا دليل عافية و صحة حسب رأي الوزير .. آخر طالب بالانتقال من الدفاع إلى الهجوم ! لكنه لم يوضح ما المقصود بالهجوم و على مَن و أين ! آخر هاجم مدير تحرير الملحق الثقافي لجريدة الثورة لأنه بعث له قصيدة منذ شهر و لم تنشر حتى تاريخه . رابع اتهم وسائل الإعلام بالتقصير في حادثة انهيار حائط الكراجات .. و رد عليه القيمون على الأمور ببطلان تهمته . و بأن الصحفي الأول في طرطوس كفّى و وفّى . خامسهم طالب الوزير بالرد القاسي على أصوات المعارضة النشاز .. و جاء رد الوزير كما تمناه متهماً المعارضة بأي شيء إلا بمحبة سوريا .. كما أكد الوزير أن ممثلي " المعارضة الوطنية " يظهرون في وسائل الإعلام الرسمية أكثر ممن هم في " الموالاة " .. كدت أظن أنني في أول يوم من نيسان . اللهم إلا إذا كان السيد الوزير يعتبر ميخائيل عوض و أحمد برقاوي و رفعت سعيد و عماد فوزي شعيبي و أحمد الحاج علي من المعارضة الوطنية . نفس ذلك الخامس ( المنتمي إلى حزب وراثي في الجبهة ) احتج على وضع الستالينية و النازية في كفة واحدة من قبل الوزير .. فجاء جواب الوزير ليعميها بدلاً من أن يكحلها إذ قال : على راسي الستالينية و النازية . موضحاً أنه كان يقصد انتقاد الطريقة الستالينية في الإعلام و ليس ستالين . و كأنه يحق لوزير الإعلام السوري مهدي دخل الله أن ينتقد النظرية الستالينية في الإعلام .. ذلك الإعلام الذي استطاع أن يربي المواطن السوفييتي على حب الوطن و ستالين فكان المقاتلون يذهبون و يحاربون الفاشية و يموتون باسم ستالين . فهل يعتقد وزير الإعلام السوري أن إعلامه يستطيع أن يقنع أحداً بالتضحية ليس بحياته بل بألف ليرة سورية كرمى لعيون القادة ؟؟! باختصار : كان الحديث عن كل شيء إلا عن الأخطار التي تحيق بالشعب السوري . لم يتحدث الوزير عن اغتيال الصحفي و الإعلامي جبران تويني . و أعتقد أنه يجب علينا أن نحمد الله لأنه لم يفعل . فهو يسخّف كل شيء . لم يناقش أحد المخاطر ، التي رافقت جريمة الاغتيال بالنسبة لسوريا . لم يحاول أحد الحديث عن " خبث " الفضائيات في نقل الخبر و الصورة بخصوص هذا الحدث أو ذاك . لم يتكلم أحد عن مهنة الإعلام ، عن حرفية الصحفي و المراسل ، عن التقنيات الحديثة في صناعة الإعلام ، عن دور الإعلام في غسل أدمغة الناس ، عن أهميته في مكافحة الفساد ، في دعم القانون و المؤسسات . فقط طالب أحدهم وزير الإعلام بمتابعة مكافحة الفساد في ... القضاء .. و لم يشر أحد إلى ضرورة مكافحة الفساد في الإعلام ! و عندما حاول الوزير تبرير التقصير و التخلف في الأداء الإعلامي السورية فقد أعاد كل ذلك إلى غياب الكوادر و إلى ضعف الإمكانيات المادية . و سانده في ذلك أحد أعضاء مجلس الشعب المهمين في اللجنة القانونية ، الذي أكد أن ميزانية وزارة الإعلام لا تتجاوز المليارين و نصف المليار من الليرات السورية .. منوهاً بأن هذا الرقم أقل بكثير من ميزانية برنامج واحد أو اكثر في فضائية لبنانية مرموقة . حينئذ تذكرت السيارات الفخمة عند مدخل المركز الثقافي .. و حسبت أن سعر مجموعة من السيارات التي يركبها عدد من الوزراء و المحافظين و أمناء فروع الحزب .. ربما يعادل ميزانية محطة فضائية ؟! فكيف إذا ما تذكرنا الأموال المنهوبة و المهربة إلى بنوك لبنان و أوروبا و الأمريكتين . ثم انفض " الحشد " و ذهب الرسميون إلى العشاء ، بينما جرجر الناس بعضهم إلى البيوت و هم يعبرون عن خيبتهم و راحوا يتهامسون عن هذا " الضرب السخيف الذي أكلوه " و كيف أن لا علاقة لما سمعوه بمفهوم المحاضرة . و مشيت بجانب سور الحديقة .. كان الجو دافئاً بشكل لم نعهده في شهر كانون الأول . و كان الهواء نقياً مما يدفعك لأن تتنفس بعمق . و تشعر بارتياح مشوب بالقلق . بالقلق من أننا مع هكذا إعلام و مع هكذا مسؤولين لا بد سنخسر على جميع الجبهات : جبهة الإعلام و جبهة السياسة و الجبهة الداخلية . لأن الإعلام الشمولي لا يستطيع الارتقاء إلى مستوى المهام و التحديات ، التي تواجهها سوريا في هذه الحقبة من تاريخها . مهما حاول الوزير القفز فوق ذلك . و إذا كنا ما زلنا نخرج سالمين من الأزمات ، فإن الفضل في ذلك بالتأكيد لا يعود إلى نجاحات النظام بإعلامه المريض .
#إبراهيم_إستنبولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحوار المتمدن ما بين الواقع و الطموح
-
أفكار تستحق البوح
-
Osip Mandelshtam - قبر مجهول في معسكر اعتقال
-
من القصائد الأخيرة لرسول حمزاتوف( بمناسبة الذكرى الثانية لرح
...
-
ليرمنتوف : الشاعر – النبي
-
- ضريح لينين في موسكو : صنم من - لحم و دم
-
نشيد الخلود
-
سحر الشرق في الأدب الروسي - ايفان بونين في الأراضي المقدسة
-
من مظاهر ... العهرلمة - نعم العهرلمة و ليس العولمة
-
من هموم المعارضة السورية : مشاركة هادئة في موضوع ساخن
-
شجرة الماس العتيقة ! أو هل ينتصر الغباء ؟
-
تفجيرات لندن : حلقة في - حرب باردة جديدة - ؟
-
الرواية التاريخية و العولمة
-
فارس آخر يترجل : الشيوعي الشهيد جورج حاوي - وداعاً
-
عذراً ، لقمان ديركي : نحن أيضا سوريون
-
موضوع الوحدة عند تشيخوف
-
الحسن يُظهر ضدَه الحسن : عن حوار الطرشان في بلاد العربان
-
من الشعر الروسي المعاصر
-
- قصص من سوريا - بــتجنن
-
لبننة - التيار العوني ... لمصلحة الجميع -
المزيد.....
-
هذا الهيكل الروبوتي يساعد السياح الصينيين على تسلق أصعب جبل
...
-
في أمريكا.. قصة رومانسية تجمع بين بلدتين تحملان اسم -روميو-
...
-
الكويت.. وزارة الداخلية تعلن ضبط مواطن ومصريين وصيني وتكشف م
...
-
البطريرك الراعي: لبنان مجتمع قبل أن يكون دولة
-
الدفاع الروسية: قواتنا تواصل تقدمها على جميع المحاور
-
السيسي والأمير الحسين يؤكدان أهمية الإسراع في إعادة إعمار غز
...
-
دراسة تكشف عن فائدة غير متوقعة للقيلولة
-
ترامب يحرر شحنة ضخمة من القنابل الثقيلة لإسرائيل عطّلها بايد
...
-
تسجيل هزة أرضية بقوة 5.9 درجة قبالة الكوريل الروسية
-
مقتل ثلاثة من أفراد الشرطة الفلسطينية بقصف إسرائيلي لرفح
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|