ابراهيم محمد
الحوار المتمدن-العدد: 5247 - 2016 / 8 / 7 - 01:30
المحور:
الادب والفن
علاقة الأدب بالمجتمع
إن علاقة الأدب بالمجتمع هي بالذات تشمل علاقة الأديب بمجتمعه ووعيه لما يجري حوله وكشفه ما يخصُّ المجتمع وما يخفى على الآخرين. إذاً ما الأدب ووظيفته؟ وكيف يمكنه أن يحقق الوظيفة التي حملها على عاتقه؟
فالأدب فن من الفنون الجميلة يعكس مظهرا من مظاهر الحياة الاجتماعية. وسيلته في التعبير عن تلك القيم الكلمة المعبرة الموحية، هذا التعريف البسيط يلتقي بتعريف آخر.. " إنه تعبير فني عن موقف إنساني أو تجربة إنسانية ينقلها الأديب ويبغي من ورائها المتعة والفائدة "
فالتعريف يؤكد على دور الكلمة وأثرها في التعبير ومكانتها لما فيها من سحر وقوة مؤثّرة في نفس المتلقي وهذه الكلمة وراءها مبدع مرهف الحس ورقيق الطبع شديد الحساسيّة يستشفّ بريشته الفنية وبوسيلته الخاصة..
فللكلمة دور في بناء المجتمعات وأكثر ما يظهر في المواقف العصيبة والأزمات وصانع هذه الكلمة أديب ملك عقلا واعيا متسلّحا بالوعي والإيمان بالهدف..
ولكن نسأل أنفسنا عن طبيعة العلاقة بين الأديب ومجتمعه، فهل العلاقة طبيعية وعادية كغيره من أفراد المجتمع؟ وهل علاقته علاقة توجيهية بنّاءة؟
في يقيني إنها علاقة توجيهية قياديّة نظرا لما يملكه من صفات وإمكانات تؤهِّله على تحمُّل المسؤولية ولذلك يطلب منه أن يكون أكثر التحاما بقضايا مجتمعه وهو الذي يملك وسيلة مؤثرة، فكل شيء يمكن أن يزول إلا أثر الكلمة ولا يتغيّر شيء إلا عن طريق الكلمة؟ ألم يقل التوراة " في البدء كانت الكلمة "؟
فالأديب يملك القدرة على ربط الماضي بالحاضر وكشفه وترسيخه لقيم الخير وهذه أمور أساسية في الأدب ومن أهدافه. فالأديب له عين تكشف الغطاء عن روح الأمة، ويد تربط بين أجزاء شخصيتها ومراحل تطورها، وله قدم تسعى إلى مستقبل أرحب. وهذا لا يتحقق إلا بتوفُّر أدباء ناضجين مسؤولين واعين لقضايا أمتهم ومؤمنين بمعالجتها، فالأديب له رسالة، وهذه الرسالة تتطلب منه زادا ثقافيا وفكريا يغني تجربته ويعمق رؤيته للمجتمع والإنسان ولا نفهم علاقة الأديب بمجتمعه أنها انخراط بمشاكل المجتمع، بل نفهمها إحساسا صادقا مفعما بالحب والغيرة والرغبة في تطوّر مجتمعه، فعلاقة الأديب بمجتمعه علاقة تفاعليّة يتأثر بالمجتمع وأحداثه ويتأثر بالوسط الاجتماعي ويتفاعل معه مما يزيد انتماءه وإحساسه.
ويأتي إلينا سؤال: ما هي وظيفة الأدب؟ وما هو دوره في حركة المجتمعات؟ فأرى أنّ الأدب انعكاس لرؤية الأدباء وتصوّراتهم المستقبلية، فإليكم ما قاله القاص المبدع يوسف إدريس عن علاقته بالمجتمع.
" أما نحن فإننا ندعو من أجل تدعيم هذا الأدب وتركيزِه وتوضيح اتجاهاته إلى سلوك سبيل الالتزام. سمّوه ما شئتم، ذلك هو الأدب الحيّ الذي ينبع من المجتمع ويصب فيه فيكون صورة حية له، وذلك هو الأديب الذي يصهر عواطفه جميعَها في بوتقة الناس وحاجاتهم، فينفذ إلى أغوار مشكلاتهم فيصدق في الإحساس وفي التعبير عنها والمشاركة في إيجاد حلول لها ".
فالأدب الصادق أدب ليس معزولا عن المجتمع، فعلى الأدباء أن يعيشوا تجربة عصرهم، ويعكسوها في أعمالهم متوخّين ترسيخَ الجديد ونفي الفاسد. وللأديب وظيفةٌ اجتماعية نحو قضايا مجتمعه دون أن تخرجه عن إطار ومقومات العمل الفنية لأن ما يقوله ليس عاديا. ولو كان عاديا لما تميّز الأديب عن باقي أفراد الشعب ولا يمكن للأدب أن يؤدي وظيفته بعيدا عن مقومات الإبداع الفنية من خيال ورؤية وأسلوب مناسب وتصور لما يعبر عنه، ويرسمه بحريته بعيدا عن الإلزام. فهو مسؤول أمام التاريخ عن كل كلمة عبّر عنها.
ويخطر على بالي سؤال يلحُّ عليّ كثيرا: الأدب موجِّهٌ أم قائد؟ وهل للأدب وظيفة سياسية مباشرة؟ إلى ما هنالك من تساؤلات؟ وأجيب عن هذه الأسئلة بما تمليه قناعتي معتمدا على بعض التصريحات التي أدلى بها الأدباء في مقابلاتهم، فقد سُئل توفيق الحكيم لماذا تكتب؟ فكان جوابه: " لأن الفنّان لا بد ّأن يكون له وجهة نظر في الحياة وفي الناس وفي الأفكار. الفنان ليس مجّرد متفرّج. إنه متفرج وصانع لمجتمعه في وقت واحد ".
وهناك قول يقول: " النفس بحاجة إلى رخاء في غذائها الفكري والعاطفي كحاجة الجسم إلى شيء من النعيم في حياته المادية، والأدباء والفنانون يجلبون هذه الحقيقة، ويقدّمون هذه الوجبة الغنية للمجتمع "
ونحن نقول: يقدِّمونها وجبة أوّلية، ويرشدون إليها، ويلفتون الأنظار نحوها موضّحين أهميتها دون أن يلقِّنوها بالفم.
فوظيفة الأدب محصّلة لوعي الأديب وإيمانِه بدور الكلمة. فالأدباء رسُل المجتمع، وهداة البشر بما يملكون من قدرات ومواهب، فالأدب ليس حزبا سياسيا أو قيادة عسكرية أو حلفا. بل مؤشّرا لزرع قيم نتوخّاها، ونسعى لتحقيقها. فدوره دور تهذيبي تكوينيّ تحريضيّ، فرسالة الكاتب الكشفُ للناس عن الحقيقة، وهذا ما عبر عنه الفيلسوف الألماني (نيتشه):
" فمن لم يكن يحيا لكشف الحقيقة كاملة فليستمعْ ما طاب له من نعيم الدنيا لن يكون ذلك كاتبا وإنما هو أفّاك مزِّور لا قدْرَ له ولا مقام له ".
إن هذا الإدلاء الصريح يُبيّن وظيفة الأديب ودورَه، وهذا لا يأتي إلا بتحرّر الأديب. فالحقيقة وكشفُها وتعريتها تحتاج لتحرّر الأديب سوى من فكرِه وقناعاتِه ولا نفهم حياديَّة الأديب إنّها تخلٍّ عن رسالته ومجتمعه. فالأدب ألصق الفنون بالحياة الإنسانية وأقدرُها على الإبداع والإمتاع، وأحبّها إلى الأذواق وأشهرُها شيوعا بين الناس، وهذا ما يحدّد مسؤولية الأديب أمام هذه الثقة الممنوحة له من فئات المجتمع المختلفة. فلا أدب من دون هدف ورسالة، يصبو إليها الأديب فالأديب الحرُّ مسؤول أمام ضميره عمّا يكتب ويقدِّم من إبداع.
ومن الأسئلة التي تتردّد في المجالس الأدبية: ما دور الأدباء أمام الأدباء الشباب الذين ينطلقون بعفويّة وحرارة، ويبحثون عن مكان لهم؟ فالأدباء الشباب لا تختلفُ الآراء حول أهميتهم ودورهم الأساسي لحمل عبء من سبقهم ومتابعة الدرب برؤية واقعية تفاؤلية متسلّحة بالحفاظ على القيم والمثل، متمسكين بتراثهم دون تناسي معاصرتِهم ومتطلباتهم. فعليهم أن يجدّدوا ما شاء لهم التجديد، ولكن داخل إطار الإتقان والقواعد والتجويد والمعقولية وحسن النية بالدرجة الأولى. بعيدين عن الاستخفاف والابتذال والاستهتار، وهذه الأمور لا تتحّق إلا بتعميق الصلة والعلاقة بين الأجيال وزرع الاحترام المتبادل، فعلى الأدباء أن يفتحوا صدرَهم لتجارب الشباب، ويناقشوها، وعلى دور النشر أن تأخذ بأيديه، تساعدهم على النشر، وتوجِّهُهم وتبحث عن وجودهم. وهذه مسؤولية ضرورية لئلا تكون هناك قطيعة ٌ، وعندها الطامة الكبرى.
فالأدباء الشباب لهم حقوق وعليهم واجبات، ويجب أن نتوجه إليهم لنحافظ عليهم، فالمحافظة عليهم تمسّك بوحدتنا وأصالتنا.
فواجبنا – معشر الأدباء – أن نرسّخ فيهم إيمانَهم بعروبتهم ومثلِهم، ونمكّنهم من الوقوف بثقة وثبات، وهذا لا يأتي بالخطابات والكلمات الجوفاء، بل بالإيحاء وتنمية الحسّ بالمسؤولية. فهم بحاجة لمن يأخذ بأيديهم قبل أن تستهلكهم الأفكارُ الدخيلة والأغاني السخيفة والأزياء المتدفقة من المفاهيم، فإني على ثقة بأن بذرة الخير والعمل مغروسةٌ في أعماقهم، لكنها محتاجة لمن يمدّها بالماء والعطاء، لكي ينعشها ويخرجها من الأزمات والمواقف العصيبة.
وأترك سؤالا مطروحا أمام أدبائنا: ماذا قدّمتم لشبابنا وأطفالنا في المرحلة الراهنة؟ وما قُدِّم لهم هل يكفي ويغني؟1
http://annabaa.org/arabic/literature/943انظر
كثير من الدارسين في فروع الآداب لا يعرفون أهمية الأدب ودوره في الحياة، ولذلك لا يقبلون على المادة الأدبية برغبة وشوق، فيقلّ الابتكار والإبداع بينهم
بل إنّ الفكرة العامة في مجتمعاتنا تبخس حقّ الأدب. هناك استثناء طبعًا ولكنّ ذلك لا ينافي وجود هذه الحالة.
لذلك كان من الضروري أن يتعرّف طالب الآداب على دور الأدب في الحياة، ليكون على معرفة بأهمية دراسته، بل من الضروري أن تتحوّل هذه المعرفة إلى ثقافة عامة بين أبناء الأمّة.
بداية نذكر أن أية نهضة في الأمّة تنطلق من «الشعور».. والشعور هو المنطقة الساخنة التي تحرّك الإنسان نحو أهدافه، ثم يأتي دور «العقل» ليكون المصباح الموجّه لهذه الحركة، والهادي إلى سواء السبيل.
من هنا نفهم دور الأدب باعتباره لغة مخاطبة «الشعور».. ومن هنا أيضًا نفهم دور الأدب في نهضة الشعوب وحركتها الحضارية.
النهضة الإسلامية الأولى بدأت بخطاب قرآني أدبي، هذا الخطاب استنهض الشعور، وحرّك الأمة في إطار التصوّر الإلهي للكون والحياة، وبلغ بها مدارج سامية من الإنتاج الحضاري المعنوي والمادي.
والنهضة الأوروبية الحديثة انطلقت مقرونة بنهضة أدبية وفنية، فحركت الأوروبيين باتجاه بناء حضارتهم المادية وفق التصوّر الأوروبي للكون والحياة.
أبو القاسم الشابي أدرك أهمية الشعور في حياة البشر حين أنشد قصيدته «فكرة الفنان»:
عش بالشعـــور، وللشعور، فإنما
شِيدت على العطف العميق، وإنها
وتظـــلّ جـامـدةَ الجمـال، كئيبةً
دنياك كــون عواطف وشعـــور
لتجفّ لوشيــدت علــى التفكيرِ
كالـهيــكل المتــهــرّم،المهجــورِ
بل إنه يرى أن العقل صغير جدًا أمام الشعور إذ يقول:
واجعل شعورك في الطبيعة قائدًا
والعقل رغم مَشيبه ووقــــاره
فهــو الخبيــر بتيهها المسحور
مازال فـي الأيـام جــدُّ صغير
ويدعوالإنسان أن يقتحم بشعوره بحار الأمواج والظلمات والأهوال حتى تعانقه الحياة وتستقظ مشاعره ويتحرك في فضاء الكون الفسيح:
وافتح فؤادك للوجود وخلّه
للثلج تنشُرُه الزوابع، للأسى
حتى تعانقه الحياةُ، ويرتوي
فتعيش في الدنيا بقلب زاخر
فـي نشــوة، صــوفية، قدسيّة
لليمّ للأمواج، للديجور
للهول، للآلام للمقدور..
من ثعرها المتأججّ، المسجورِ
يقظ المشاعر، حالم، مسحور
هـي خيــر مافي العالَم المنظورِ
هذا يعني أن الأدب الحقيقي هو الذي يدعو إلى «يقظة الشعور». وهذه اليقظة هي بداية الحركة نحو الكمال في جميع مجالاته.
ومن الطبيعي أن الأديب الذي يستطيع أن يخاطب الشعور هو الذي يصدر أدبه عن «تجربة شعورية» حقيقية، أي أن يكون ذا شعور ملتهب فيّاض متدفّق، عندئذ يكون أدبه موحيًا مؤثرًا محركًا، وهذا معيار نقديّ جيد لمعرفة مكانة هذا الأديب أو ذاك في سلّم الأدباء.
هل من واجب الأدب أيضًا أن يقدّم لنا حقائق عقليّة أو فلسفيّة؟ هل من واجبه أن يخوض المعارك السياسية والاجتماعية؟ هل الأدب مكلّف بالوعظ عن الفضيلة والرذيلة؟ هذه أسئلة هامّة لها علاقة بدور الأدب في الحياة. سيد قطب يجيب عنها بقوله:
«ليست غاية العمل الأدبي إذن أن يعطينا حقائق عقلية، ولا قضايا فلسفية، ولا شيئًا من هذا القبيل؛ كما أنه ليس من غايته أن يحقق لنا أغراضًا أخرى تجعله محصورًا في نطاقها مصبوبًا في قوالبها. ليس الأدب مكلفًا أن يتحدث مثلاً عن صراع الطبقات، ولا عن النهضات الصناعية، كما أنه ليس مكلفًا أن يتحول إلى خطب وعظية عن الفضيلة والرذيلة، ولا عن الكفاح السياسي والاجتماعي في صورة معينة من الصور الوقتية الزائلة. ذلك إلا أن يُصبح أحد هذه الموضوعات «تجربة شعورية» خاصة للأديب، تنفعل بها نفسه من داخلها، فيعبر عنها تعبيرًا موحيًا مؤثرًا.
وليس معنى هذا أن العمل الأدبي لا غاية له. فالواقع أنه هو غاية في ذاته، لأنه بمجرد وجوده يحقق لونًا من ألوان الحركة الشعورية. وهذه في ذاتها غاية إنسانية وحيوية، تدفع عن طريق غير مباشر إلى تحقق آثار أخرى أكبر وأبقي.
وقد يتبادر إلى الذهن أن الأدب محظور عليه أن يقصد إلى أي غرض من أغراض الحياة العملية، أو أن يلّم بأية حقيقة عقلية في طريقه.. وهذا وهم، فإنما قصدنا بمؤثر ما (أي التجربة الشعورية) ومناط الحكم هو كمال تصويره لهذه التجربة، ونقلها الينا نقلاً موحيًا يثير في نفوسنا انفعالاً مستمدًا من الانفعال الذي صاحبها في نفس قائلها. اما الأغراض الاجتماعية والسياسية والخلقية وما إليها، وأما الحقائق العقلية التي يتضمنها، فهي شيء آخر لا يحدد مكانة العمل الأدبي. والعبرة هي بمدى الانفعال والوجداني بها، وامتزاجها بالشعور، بحيث تدخل في صميم التجربة الشعورية وتنطوي فيها».
ثم يطرح سيد قطب سؤالاً على غاية من الأهمية يرتبط بدور الأدب في الحياة ويجيب عنه:
«ولكن إذا كانت غاية العمل الأدبي هي مجرد التعبير عن تجربة شعورية تعبيرًا موحيًا مثيرًا للانفعال في نفوس الآخرين، فهل تراه يستحق من الإنسانية أن تشغل به نفسها فترات من هذه الحياة المعدودة الأيام؟
والجواب: أن نعم! فليس بالقليل أن يضيف الفرد الفاني المحدود الآفاق إلى حياته صورًا من الكون والحياة، كما تبدو في نفس إنسانٍ ملهمٍ ممتاز هو الأديب.
وكل تجربة شعورية يصوّرها أديب تصبح ملكًا لكل قارئ مستعد للانفعال بها، فإذا انفعل بها فقد أصبحت ملكه، وأضاف بها إلى رصيده من المشاعر صورة جديدة ممتازة.
ولحسن حظّ الإنسانية التي لا تملك من العالم المادي المحسوس إلا حيزًا ضئيلاً محدودًا أن في استطاعتها أن تملك من العوالم الشعورية آمادًا وأنماطًا لا عداد لها. وكلّما وُلد أديب عظيم وُلد معه كون عظيم، لأنه سيترك للإنسانية في أدبه نموذجًا من الكون لم يسبق أن رآه إنسان!
وكل لحظة يمضيها القارئ المتذوق مع أديب عظيم، هي رحلة في عالم، تطول أو تقصر، ولكنها رحلة في كوكب متفرد الخصائص، متميّز السمات».
ثم يذكر سيد قطب نماذج من أعمال أدبية لطاغور والخيام وتوماس هاردي، ويبيّن ما تمتاز به أعمال كل منهم من عالَم خاص، فالأول عالَمه راضٍ سَمِح، والثاني عالَمه حائر، والثالث عالم يائس من الخير في الدنيا، ثم يقول:
«وما دمنا قادرين على أن نعيش تجارب هؤلاء الأدباء ـ مرة أخرى ـ وننفعل بها كما انفعل أصحابها، فإن هذا رصيد يضاف إلى أعمارنا، وزاد يضاف إلى أزوادنا في الرحلة القصيرة المحدودة على هذاالكوكب الأرضي الصغير!»2
http://www.farhang.gov.ir/ar/literary/literary5
يقول الدكتور جميل حمداوي إذا كان المنهج الاجتماعي الوضعي يعقد ربطا آليا بين مضامين الأدب والمجتمع, باعتبار أن الأديب لا يعكس سوى بيئته ووسطه الاجتماعي, فإن البنيوية التكوينية تعقد تماثلا من نوع آخر ليس بين مضمون الأدب والمجتمع, بل بين الأشكال الأدبية وتطور المجتمع بطريقة غير آلية. ويتم هذا الترابط بواسطة التناظر أو التماثل بين البنى الجمالية أو الفنية والبنى الاجتماعية . ويمكن التمييز كذلك بين بنيوية تكوينية وظيفية يمثلها لوسيان كولدمان , وبنيوية شكلانية غير تكوينية يمثلها كل من جاكبسون وكلود لفي شتراوش ورولان بارت وﮔريماس وألتوسير وفوكو ولاكان .....
هذا، وإن البنيوية التكوينية عبارة عن تصور علمي حول الحياة الإنسانية ضمن بعدها الاجتماعي. وتمتح تصوراتها النفسية من آراء فرويد , ومفاهيمها الإبستيمولوجية من نظريات هيــجل وماركس وجان بياجي . أما على المستوى التاريخي والاجتماعي , فتعود تناصيا إلى آراء هيجل وماركس وكرامشي ولوكاتش والماركسية ذات الطابع اللوكاتشي .
ويستهدف لوسيان كولدمان من وراء بنيويته التكوينية رصد رؤى العالم في الأعمال الأدبية الجيدة عبر عمليتي الفهم والتفسير بعد تحديد البنى الدالة في شكل مقولات ذهنية وفلسفية . ويعد المبدع في النص الأدبي فاعلا جماعيا يعبر عن وعي طبقة اجتماعية ينتمي إليها، وهي تتصارع مع طبقة اجتماعية أخرى لها تصوراتها الخاصة للعالم. أي إن هذا الفاعل الجماعي يترجم آمال وتطلعات الطبقة الاجتماعية التي ترعرع في أحضانها , ويصيغ منظور هذه الطبقة أورؤية العالم التي تعبر عنها بصيغة فنية وجمالية تتناظر مع معادلها الموضوعي "الواقع".
وتنبني منهجية لوسيان ﮔولدمان السوسيولوجية على اعتبار العمل الأدبي أوالفني عملا كليا , أي دراسته كبنية دالة كلية . وهذا يستلزم تحليل النص بطريقة شمولية وذلك بتحليل بنياته الصغرى والكبرى من خلال تحليل عناصره الفونولوجية والتركيبية والدلالية والبلاغية والسردية والسيميولوجية دون أن نضيف ما لا علاقة له بالنص , إذ علينا أن نلتزم بمضامين النص دون تأويله أو التوسع فيه , وبعد ذلك نحدد البنية الدالة وهي مقولة ذهنية وفلسفية تستخلص من كلية العمل الأدبي عبر توارد تيماته المتواترة . ويشكل كل هذا عملية الفهم LA COMPREHENSION. وعندما نحدد البنية الدالة والرؤية للعالم المنبثقة عن الوعي الممكن, نقوم بتفسير تلك الرؤية خارجيا أومايسمى لدى ﮔولدمان EXPLICATION ، وذلك بتحديد العوامل المؤثرة في هذه البنية وكيف تشكلت من خلالها رؤية العالم . ويعني هذا أنه لابد عند إضاءة النص الأدبي وفهمه فهما كليا وحقيقيا من الانتقال إلى خطوة أساسية وهي تفسير النص خارجيا بالتركيز على العوامل التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية على الرغم من الطابع الفردي لما هو نفسي . ويعني كل هذا أن البنية الدالة ذات الطابع الفلسفي لا يمكن أن تبقى ساكنة, بل لا بد من إدراجها ضمن بنية أكثر تطورا لمعرفة مولداتها وأسباب تكوينها؛ لذلك سميت بالبنيوية التكوينية3 Structuralisme génétique
يقول الدكتور جميل حمداوي
تعتمد البنيوية التكوينية على مصطلحات إجرائــية لا بد من التسلح بها لتحليل النص الأدبي تحليلا سوسيولوجيا للأشكال الأدبية ويمكن حصر هذه المصطلحات فيما يلي :
1 ـ الفهم والتفسير: La compréhension et l’éxplixation
إذا كان الفهم هو التركيز على النص ككل دون أن نضيف إليه شيئا من تأويلنا أو شرحنا, فإن التفسير هو الذي يسمح بفهم البنية بطريقة أكثر انسجاما مع مجموع النص المدروس. ويستلزم التفسير استحضار العوامل الخارجية لإضاءة البنية الدالة1 .
2 ـ الرؤيــة للعالم: La vision du monde:
هي" مجموعة من الأفكار والمعتقدات والتطلعات والمشاعر التي تربط أعضاء جماعة إنسانية (جماعة تتضمن، في معظم الحالات, وجود طبقة اجتماعية) وتضعهم في موقع التعارض في مجموعــات إنسانية أخرى"2. ويعني هذا أن الرؤية للعالم هي تلك الأحلام والتطلعات الممكنة والمستقبلية والأفكار المثالية التي يحلم بتحقيقها مجموعة أفراد مجموعة اجتماعية معينة.
إنها باختصار تلك الفلسفة التي تنظر بها طبقة اجتماعية إلى العالم والوجود والإنسان والقيم . وتكون مخالفة بالطبع لفلسفة أو رؤية طبقة اجتماعية أخرى . فمثلا رؤية الطبقة البرجوازية للعالم تختلف عن رؤية الطبقة البروليتارية ، ورؤية شعراء التيار الإسلامي مختلفة جذريا عن رؤية شعراء التيار الاشتراكي في أدبنا العربي المعاصر .
3ـ التماثــــل Homologie:
إن العلاقة بين الأدب والمجتمع ليست علاقة آلية أوانعكاسية أو علاقة سببية دائما، بل على العكس , فإنها علاقة ذات تفاعل متبادل بين المجتمع والأدب , وبتعبير آخر إن الأشكال الأدبية - وليست محتويات الأدب- تتماثل مع تطور البنيات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية , ويعني هذا أن هناك تناظرا بين البنية الجمالية والبنية الاجتماعية بطريقة غير مباشرة ولا شعورية ، وأي قول بالانعكاس بينهما يجعل الأدب محاكاة واستنساخا وتصويرا جافا للواقع , ويعدم في الأدب روح الإبداع والتـتخييل والاسطيطيقا الفنية . إذاً، " هناك تناظر دائم في كل عمل إبداعي... بين واقعه وموضوعه، بين بنية شكلية ظاهرة، وبنية موضوعية عميقة, بين اللحظة التاريخية والاجتماعية واللحظة الإبداعية, بين سياقية الجدل الروائي، وسياقية الجدل الاجتماعي "
4 ـ الوعي القائم والوعي الممكن:La conscience réelle e t la conscience possible
الوعي القائم هو الوعي الواقعي الموجود لدى الشخصية في الحاضر. وهو الوعي الموجود تجريبيا على مستوى السلب . ويعني هذا أن الوعي القائم هو " وعي آني لحظي وفعلي , من الممكن أن يعي مشاكله التي يعيشها , لكنه لايملك لنفسه حلولا في مواجهتها والعمل على تجاوزها".4 أي إنه وعي ظرفي, فكل مجموعة اجتماعية تحاول فهم الواقع وتفسيره انطلاقا من ظروفها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والدينية والتربوية, دون أن يكون لها تصور مستقبلي وإيديولوجيا لاقتراح بديل إيجابي ومثالي لحياتها المعيشية. وإذا كان الوعي القائم هو وعي الحاضر والآني والمرحلي, فإن الوعي الممكن هو وعي إيديولوجي مستقبلي يتجاوز جدلا الوعي القائم والوعي الزائف المغلوط. وإذا كان الوعي القائم هو وعي التكيف والمحافظة على الواقع, فإن الوعي الممكن هو وعي التغيير والتطوير, ويصبح الوعي الممكن في كلية العمل الأدبي المنسجم رؤية للعالم وتصورا فلسفيا وإيديولوجيا للطبقة الاجتماعية.
" وإذا كان الوعي الفعلي يرتبط بالمشكلات التي تعانيها الطبقة أو المجموعة الاجتماعية , من حيث علاقاتها المتعارضة ببقية الطبقات أو المجموعات , فإن هذا الوعي الممكن يرتبط بالحلول الجذرية التي تطرحها الطبقة لتنفي مشكلاتها, وتصل إلى درجة من التوازن في العلاقات مع غيرها من الطبقات أو المجموعات
5 ـ البنية الدالــــة أو الدلاليةStructure signifiante:
البنية الدالة هي عبارة عن مقولة ذهنية أو تصور فلسفي يتحكم في مجموع العمل الأدبي. وتتحدد من خلال التواتر الدلالي وتكرار بنيات ملحة على نسيج النص الإبداعي, وهي التي تشكل لحمته ومنظوره ونسقه الفكري. وتحمل بنى العالم الإبداعي دلالات وظيفية تعبر عن انسجام هذا العالم وتماسكه دلاليا وتصوريا في التعبير عن الطموحات الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية للجماعة. ويحدد ﮔولدمان الدور المزدوج للبنية الدالة باعتباره مفهوما إجرائيا بالأساس . فهو" من جهة الأداة الأساسية التي تمكننا من فهم طبيعة الأعمال الإبداعية ودلالاتها , ومن جهة أخرى , فهو المعيار الذي يسمح لنا بأن نحكم على قيمتها الفلسفية والأدبية أوالجمالية , فالعمل الإبداعي يكون ذا صلاحية فلسفية أو أدبية أو جمالية بمقدار ما يعبر عن رؤية منسجمة عن العالم إما على مستوى المفاهيم وإما على مستوى الصور الكلامية أو الحسية وإننا لنتمكن من فهم تلك الأعمال وتفسيرها تفسيرا موضوعيا بمقدار ما نستطيع أن نبرز الرؤية التي تعبر عنها ".6 إذاً، فالبنية الدالة هي التي تسعفنا في إضاءة النص الأدبي وفهمه, كما تساعدنا فلسفيا وذهنيا على تحديد رؤية المبدع للعالم ضمن تصور جماعي ومقولاتي.
6ـ البطل الإشكاليLe héro problématique :
ورد هذا المفهوم عند جورج لوكاتش في نظرية الرواية ، وهذا البطل ليس سلبيا ولا إيجابيا , فهو بطل متردد بين عالمي الذات والواقع ، يعيش تمزقا في عالم فض. إذ يحمل البطل قيما أصيلة يفشل في تثبيتها في عالم منحط يطبعه التشيؤ والاستلاب والتبادل الكمي . لذلك يصبح بحثه منحطا بدوره لاجدوى منه . ويصبح هذا البطل مثاليا عندما يكون الواقع أكبر من الذات كرواية دون كيشوط لسيرفانتيس ، كما يكون البطل رومانسيا عندما تكون الذات أكبر من الواقع وخاصة في الروايات الرومانسية ، ويكون كذلك بطلا متصالحا مع الواقع عندما تتكيف الذات مع الواقع ولاسيما في الروايات التعليمية . وهذا التصنيف أساس نظرية الرواية لجورج لوكاتش ، وقد استفاد منه ﮔولدمان كثيرا وخاصة في كتابه :( الإبداع الثقافي في المجتمع الحديث) الذي يقول فيه عن هذا البطل:" يتمتع هذا الشكل - رواية البطل الإشكالي ـ بوضع خاص في تاريخ الإبداع الثقافي : إنها حكاية البحث المتدهور لبطل لا يعي القيم التي يبحث عنها داخل مجتمع يجهل القيم ويكاد أن ينسى ذكراها تقريبا . فالرواية، ربما, كانت الأولى بين الأشكال الأدبية الكبيرة المسيطرة في نظام اجتماعي, التي حملت، جوهريا طبيعة نقدية...".7 ويضيف أيضا " من خلال بحثه المضطرب ينتهي البطل إلى وعي استحالة الوصول وإعطاء معنى للحياة ".8
إذاً، فالبطل الإشكالي ليس بطلا إيجابيا مثل البطل الملحمي الذي نجده في الإلياذة أوالأوديسا لدى هوميروس حيث تتحقق الوحدة الكلية بين الذات والموضوع ،بل هو بطل يعيش اضطرابا مأساويا، ومأزقا يجعله يتردد بين الذات والموضوع وبين الفرد والجماعة،ويفشل في تحقيق أهدافه وقيمه الأصيلة في مجتمع لا يعترف بالقيم الكيفية ولا يؤمن سوى بقيم التبادل والسلع والمعايير المادية .
2- القــــــســـم التـــحليـــلــي:
لمعرفة البنيوية التكوينية إجرائيا وتطبيقيا آثرنا أن نحلل دراسات نجيب العوفي الأدبية والنقدية حول القصة القصيرة المغربية الحديثة ؛9 إذ تتمظهرفيها البنيوية التكوينية نظريا وتطبيقيا، وهي بنيوية ذات أساس مادي جدلي .
ينطلق الناقد المغربي والأستاذ الجامعي نجيب العوفي في كتابه" مقاربة الواقع في القصة القصيرة" أو في مقاله" القصة القصيرة والأسئلة الكبيرة" من التصور البنيوي التكويني .إذ يصرح الباحث قائلا :
" وبموازاة هذا التفكيك أو ضمنه كنا نقوم بتفكيك البنى الذهنية ذاتها الثاوية في طيات البنى السردية والمنتجة لها . كنا نقرأ الأسئلة المضمرة من خلال الأسئلة المظهرة . نقرأ واقعية النصوص من خلال قصصيتها وقصصيتها من خلال واقعيتها . كنا نقرأ بعبارة , واقع القصة المغربية وقصة الواقع المغربي .
يمكن أن نعتبر العملية الأولى( تفكيك البنى السردية) حسب المصطلح الـﮔولدماني فهما ... كما يمكن أن نعتبر العملية الثانية (تفكيك البنى الذهنية) وحسب المصطلح الكولدماني أنها (تفسيرا)".
يقسم نجيب العوفي رسالته الجامعية إلى بابين : الباب الأول خاص بالبحث عن الهوية (التأسيس)، والباب الثاني متعلق بإثبات الهوية (التجنيس). ويركز نجيب العوفي في بحثه على أهمية القصة القصيرة في عصرنا، ويعتبر هذا الجنس على الرغم من قصر حجمه يطرح أسئلة وقضايا كبرى . وينتقل بعد ذلك ليحدد مراحل القصة المغربية في مرحلتين أساسيتين:
1ـ القصة القصيرة بين التأسيس والبحث عن الهوية والهم الوطني.
2ـ القصة القصيرة بين التجنيس وإثبات الهوية والهم الاجتماعي .
إذاً، يحدد نجيب العوفي نشأة القصة القصيرة بالمغرب ويبرز مراحلها وتطوراتها على غرار أحمد اليابوري وأحمد المديني في رسالتيهما الجامعيتين حول نفس الجنس بالمغرب .
وتمتاز القصة المغربية القصيرة حسب نجيب العوفي بميزتين أساسيتين :
أ ـ التأسيس.
ب- التجنيس.
في مرحلة الحماية، كان الصراع حادا بين المغاربة والمستعمر في إطار ثنائية " نحن ـ الآخر "، وامتدت هذه الفترة ما بين 1940ـ1956. وكان سؤال القصة القصيرة آنذاك هو سؤال الوطن والبحث عن الهوية، وأصبحت الوطنية طابعا مميزا لتلك القصة . وكان البطل بالضرورة وطنيا . ولا يعني هذا أن السؤال الاجتماعي مغيب , بل كان ثانويا بالمقارنة مع السؤال الوطني . ولم يتبلور مفهوم الطبقة الاجتماعية بشكل جلي؛ لأن الأمة هي المبتغى والرهان الأساس. ويعني هذا أن القصة الغالبة في مرحلة الحماية كانت قصة وطنية أكثر مما هي قصة اجتماعية؛ لأنها انتقدت الاستعمار ونددت بكل أشكال الظلم الاستعماري حتى الاجتماعي منه. وكان أبطال القصة يحلمون بالحرية ويعملون على تحقيقها , لذلك كان الوعي عند الشخصيات وطنيا والرؤية للعالم رؤية وطنية قوامها الكفاح والتحرر من الاستعمار . أما البطل فكان بطلا بروميثيوسا يقارع الاستعمار ويحاول مجابهته قصد تحقيق الحرية لأبناء وطنه .
ويتجلى الهاجس الوطني من خلال فعل الدفاع عن الهوية ( البطل البرومثيوسي الوطني )، وفعل الهجوم على الهوية ( البطل الاستعماري المضاد). وقد نتج عن هذا الصراع الوطني صدع اجتماعي كان يؤجج الصراع الداخلي لطرد المستعمر من البلاد. ويمكن تفسير هذا المتن القصصي بما كانت تقوم به الحركة الوطنية من دفاع عن الهوية الوطنية ونشر الوعي الوطني بين أبناء هذا الوطن وتأطير الطبقة الاجتماعية الكادحة لتنسيق المواقف لمواجهة المستعمر . لذلك كان الوعي الوطني ـ في طابعه السلمي والعسكري ـ مهيمنا على هذه المرحلة .
ويمثل هذه المرحلة كل من عبد المجيد بن جلون و عبد الرحمن الفاسي وأحمد بناني وعبد الكريم غلاب و أحمد بناني وأحمد عبد السلام البقالي ومحمد الخضير الريسوني .
إذاً، انطلق نجيب العوفي من عملية التفسير ليحدد العوامل التي أفرزت القصة القصيرة الوطنية إبان المرحلة الاستعمارية , وحصرها في عوامل تاريخية واقتصادية واجتماعية وثقافية , وبين أن الهاجس الغالب على هذه المرحلة هو الهاجس الوطني الذي يتمثل في البحث عن الاستقلال وبناء مغرب جديد متحرر ومستقل . وهذا يتماثل مع مكونات عملية الفهم إذ استخلص بنية دالة ألا وهي البحث عن الهوية والشروع في تأسيسها . وأبرز بعد ذلك نمط الوعي لدى الشخصيات الذي يكمن في الوعي الوطني كما أن رؤية الشخصيات إلى العالم رؤية وطنية محضة .
إذا كانت الدلالة القصصية مبنية على تيمة الوطن /الهوية، فإن البنية الشكلية تتسم بالحفاظ على البنية التقليدية الموبسانية ( البداية و الوسط و النهاية)، وعدم الاهتمام باللغة القصصية , وغلبة أسئلة المضمون على الشكل تماثلا مع هيمنة السياسي على الثقافي من حيث التـفسير .
وتبتدئ المرحلة الثانية من أعقاب الاستقلال إلى غاية 1970، وسيمتاز الظرف التاريخي بالصراع الاجتماعي والطبقي(نحن ــ نحن )، ويمثل هذه المرحلة مجموعة من القصاصين المغاربة أمثال محمد إبراهيم بوعلو , ومحمد بيدي , ومبارك ربيع , وعبد الجبار السحيمي , ورفيقة الطبيعة , ومحمد زفزاف , وإدريس الخوري , ومحمد شكري , والأمين الخمليشي، ومحمد زنيبر، ومحمد برادة، ومحمد القطيب التناني , ومحمد عزيز الحبابي، وخناتة بنونة، ومحمد أحمد شماعو، وحميد البلغيثي، ومحمد التازي، ومحمد الصباغ .
وفي هذه المرحلة، أصبح السؤال الاجتماعي يطرح نفسه بإلحاح بعد تغير مغرب الاستقلال تاريخيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا, وحلت الطبقة محل الأمة، واتخذ الصراع طابعا طبقيا واجتماعيا بين المغاربة أنفسهم، بين الطبقة الكادحة والطبقة المسيطرة, على وسائل الإنتاج والثراء المادي.
أما عن شخصيات القصة فهي عادية، يمكن حصرها في شخصية الكادح من فلاح وعامل وشخصية المثقف اللتين تعانيان من القــهر الاجتماعي والقهر الروحي , ومن سمات شخصيات هذه القصة الاجتماعية أنها كائنات إشكالية مهمشة تعبر عن مجتمع مشتت .
هذا، وإن العوفي بدأ هذه المرحلة الثانية بعملية التفسير إذ حدد العوامل التي تحكمت في متن التجنيس وجعلها في ما هو تاريخي وسياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي . وإذا كان الواقع يعج بالصراع الطبقي والاجتماعي ,فإن هذا يتناظر مع ذلك الصراع الذي نجده في المتن القصصي , إذ تهيمن تيمة المجتمع / الهوية التي تتمثل في السعي الجاد نحو إثبات الهوية الاجتماعية وتأسيس المغرب الاجتماعي . ويعني هذا أن تطور القصة القصيرة المغربية متواشج ومتفاعل مع تطور البرجوازية الصغيرة وتطور الأحداث المرجعية أي إن القصة المغربية في بعديها : الوطني والاجتماعي كانت مرآة عاكسة للواقع المغربي بطريقة غير مباشرة أو غير آلية. فبعد القصة الوطنية والبحث عن الهوية الوطنية ننتقل إلى القصة الاجتماعية والبحث عن الهوية الاجتماعية , وبعد البطل الوطني البرومثيوسي، نجد البطل الكادح والمثقف الإشكالي ، كما ننتقل من وعي وطني إلى وعي اجتماعي، ومن رؤية وطنية إلى رؤية اجتماعية . وإذا كانت دلالة القصة في المرحلة الثانية دلالة اجتماعية , فإن بنية الشكل ترتكز على بطولة هامشية مقهورة، وعلى اختلاف في المنظورات الواقعية لدى القصاصين , والمحافظة إلى حد كبير على بنية السرد الكلاسيكي مع تنويع البنى والأغاريض السردية , واستخدام مكثف للمنولوج والميل نحو الاقتصاد في توظيف الشخوص والفضاءات واللغة القصصية.
مآخذ الدكتور جميل حمداوي على الدراسات الأدبية والنقدية التي قام بها نجيب العـــوفي :
1ـ التلفيق المنهجي: إذ يجمع العوفي بين الواقعية التجريبية والبنيوية التكوينية والبنيوية الشكلانية السردية والسيميائيات. فكيف يمكن الجمع بين مناهج متعددة ومتعارضة إبستيمولوجيا وفلسفيا ؟!
2ـ ترجيح كفة الواقعية المباشرة على كفة البنيوية التكوينية والسقوط في الانعكاس والافتراض الآلي المسبق.
3ـ ضعف الإحالات الببليوغرافية التي تحدد التصور النظري والمنهجي للبنيوية التكوينية لدى لوسيان ﮔولدمان .
4ـ تمييع المصطلح النقدي وعدم احترام مفاهيم كل جنس أدبي، إذ يقارب القصة القصيرة بمفاهيم الشعر على غرار الدكتور أحمد المديني الذي عاب عليه كثيرا في كتابه" جدل القراءة"11 لغته البيانية والإنشائية في رسالته حول القصة القصيرة المغربية.
5ـ توظيف لغة بيانية إنشائية يغلب عليها التسيب بدل الإتقان والتحكم في الحقل الاصطلاحي؛ إذ تصبح لغته ذاتية تنقصها الموضوعية والطابع الوصفي العلمي.
6ـ التضحية بالنص لحساب المرجع الواقعي وإديولوجية الرؤى والطبقات الاجتماعية وتصورات المبدعين .
7ـ كيف يمكن الحديث عن تجنيس القصة القصيرة المغربية وتأسيسها من خلال مقاييس القصة الغربية الموباسانية( نسبة إلى غي دي موباسان الكاتب الفرنسي المشهور في مجال القصة القصيرة) , مع العلم أن التجنيس القصصي بدأ مع السرد العربي القديم ( كليلة ودمنة , المقامات ....)، وأن أهم مرحلة قصصية يمكن اعتبارها هي مرحلة التأصيل التي نجدها عند مجموعة من القصاصين العرب والمغاربة( كجمال الغيطاني مثلا ....).
8 ـ عدم دقة مفهوم التأسيس والتجنيس لأن معناهما واحد، فالتجنيس هو إرساء قواعد جنس معين وتأسيس النصوص اعتمادا على هذه المعايير الفنية .
وعلى الرغم من هذه الملاحظات , فتبقى دراسة نجيب العوفي المنهجية والتطبيقية دراسة جادة , ولا سيما أنه يطرق موضوعا بكرا متشعبا ألا وهو موضوع القصة القصيرة ومحاولة تحقيبها تاريخيا وفنيا . لذلك تعد دراسات نجيب العوفي الـــبداية الحقيقية والفتح الأول لعالم القصة القصيرة في المغرب إلى جانب أعمال عبد الرحيم مودن12 . أما أعمال أحمد اليابوري13 وأحمد المديني14 فلم تكن إلا دراسات انطباعية ومحاولات جنينية فرضتها ظرفية تاريخية معينة.4
جميل حمداوي مدخل إلى البنيوية التكوينية
http://www.3rbi.info/Article.asp?ID=11598
الأدب ظاهرة اجتماعية, ونفسية, وميتافيزيقية (ودعائية إذا شئت), لكنه من حيث هو عمل فني يتعدى كل تلك المقومات ويصدر عنها كلها فإذا هو شيء آخر مستقل يتجاوزها إلى طبيعة أخرى له, طبيعته كعمل جمالي لا تنطبق عليه إلا المعايير الجمالية.
الفن للفن, فالفن قطعًا ليس للفن, كما أنه ليس للتحليل النفسي, وليس للدعوة الاجتماعية, وإنما هو كل ذلك وشيء آخر فوق كل ذلك وغير كل ذلك, أي أن العمل الفني عملية معقدة متعددة الأبعاد
والناقد الفني إذ يأخذ في اعتباره كل تلك الجوانب إنما ينتهي - أو ينبغي أن ينتهي إذا أراد أن يسلم له منطقه - إلى القيم الجمالية, وهي القيم التي تتعلق على سبيل المثال باتجاه الحركة الدرامية في داخل العمل الفني, في داخل القصيدة أو الرواية مثلاً, وبالسلامة الصياغية فيها, وبالعلاقات بين أجزائها, وحدود بنائها, ومطابقة أسلوبها وموضوعاتها, وقواعد التعبير فيها, وإيقاعات سرعة تطورها, والصلات بين كل تلك العناصر كلها وغيرها بعضها بعضًا
أن كل عمل فني توافرت فيه قيم جمالية عالية, توافرت له أيضا بالضرورة في كل حالة, قيم أخرى قد نسميها قيمًا نفعية في سياق النظر إلى جدواها, ولكني لا أجد وصفًا لها خيرًا من أنها قيم أخلاقية - لا بالمعنى التقليدي للكلمة, بل بالمعنى الأوسع والأكبر. والقيم الأخلاقية في نهاية الأمر إنما هي قيم اجتماعية - ليس بالمعنى الدعائي ولكن على نمط يتصل بالتكامل والتواصل
والقيم الاجتماعية بعد ذلك, أي قيم الجدوى, من أكبر همومنا, باعتبارنا (حيوانات اجتماعية) وباعتبارنا ننتمي إلى العالم الثالث
التعبير الفني يفي بتلك النزوعات العميقة في الإنسان (نحو الإنسان), وأنا إذ أتلقى العمل الفني أشارك في تجربة الفنان التي يصوغها في عمله, أو أخلقها من جديد على الأصح, لست أشارك فقط في تجربة فردية, أو أخلقها من جديد, بل أمارس تجربة إنسانية أشمل وأعرض, فترضى من ذلك عندي صبوات داخلية للتلاقي مع الناس, مع معاصريّ ومع من سبقوني ومع من يأتي بعدي على الأرض من نوعي: النوع الإنساني. هنا تداعمٌ يشبع فيّ شوقًا أصيلاً أوليا من أشواق كياني, ويهدّ الحيطان التي تحيط بفرديتي, ويفتح لي باحة التواصل والتلاقي, تلك هي فيما أتصور جدوى الفن والأدب. وتلك هي مهمة الفن والأدب الاجتماعية بمعناها الدقيق العميق. المهمة التي يُخفِق فيها لو أنه قام فقط يدعو إلى طرازٍ من طرازات السلوك أو التشكيل الاجتماعي المحدّد والمحدود, لو أنه قام فقط بالدعوة
فلنقل إذن أن هيمنة الصورة - من داخل هيمنة الأجهزة التقنية والمؤسسات الإعلامية والسلطوية - مازالت موضع سؤال. وأظن أنها ستظل دائمًا موضع سؤال. ولنقل أن الأدب المكتوب مهما بدا مظهره عتيقًا عفى عليه الزمن, سيظل فعالاً, ومثيرًا للخيال, وحافزًا للمشاركة الإيجابية وللجهد الخلاّق من جانب القارئ, دعك - طبعًا - من الإشارة المفصحة التي تقول إن عدد كتب الأدب والشعر المطبوعة يزداد يوما بعد يوم في عصر السينما والتلفزيون والفيديو, في البلاد الصناعية المتقدمة, وحتى في بلادنا, وأن عدد قرّاء الرواية بحكم آليات اجتماعية واضحة يزداد, بل إن الروايات ودواوين الشعر (بغض النظر الآن عن مستواها الفني) يزداد عدد صفحاتها ويكبر حجمها, ودعك من أن التلفزيون أحيانًا, وعلى الأخص في المجتمعات المتحضّرة, يسهم في اجتذاب القرّاء إلى عدد أكبر من هذه الكتب, سواء بأن يقدمها مصوّرة أو بأن يخدمها بالندوة والتقديم والتعليق.. إلخ, هذه الظواهر كلها جديرة بأن تجعل هذه المشكلة موضع سؤال دائم.
أظن أن أجهزة الإعلام الجماهيرية بذاتها, وأجهزة إنتاج وتوظيف الصورة بشكل أخص بذاتها, ووحدها, محايدة, كيف تُوجّه? ماذا تقول? ماذا تفعل? هذا هو السؤال. من الممكن أن نتصوّر أن (الجهاز) وحده, له سيطرته, كما لو كان له حياة أخرى مستقلة, لكننا لم نصل بعد, وأرجو ألا نصل أبدًا, إلى عالم (الرواية العلمية) الذي تسيطر فيه الأجهزة, ويسود الروبوت والكمبيوتر دون منازع. قد يحدث هذا في مستقبل قريب أو بعيد, لا أدري, ولكن أميل إلى أن أنفيه.
هناك وراء الجهاز دائمًا عامل إنساني! وهناك أيضًا المؤسسة ذات السلطة, والمصلحة الاجتماعية, هناك التوجيه السياسي, هذا صحيح! ولكننا لا يمكن أن ننفي تمامًا أن هناك, وراء الجهاز, هذا الوجد والصبابة والنزوع نحو التواصل الإنساني
إن الخاصية الخلقية في العامل الجمالي خاصية متصلة به اتصالاً وثيقًا, وهي خاصية - لاشك - تعني التمرّد على القيود التي تصفّد حرية الأديب, فلست أرى في القيم الجمالية مجرد زينات جمالية خارجية, ولا بهرة مكسوبة غربية, بل إن قوامها هو الاختيار, والضبط, والاستغناء عن الفائض, ونُشْدان الجوهري, والتضحية بالزائد مهما كان إغراؤه, وتلك كلها قيم خلقية, أو إذا شئت هي قيم براجماتية تدخل في إطار الجدوى الاجتماعية والحياتية بشكل عام, قيم تفرض السيطرة على الإثرة, ومقاومة الإغراء, وكبح الفتنة العارضة في سبيل ضبط أعلى, والاسترشاد بحس أساسي يضع الجوهري والضروري فوق الزائد والمغري, ويضع الحرية والتمرّد فوق الانصياع والخضوع.
إن تحقق التناسق في داخل إطار العمل الفني, ونُشدان التكامل, وتصميم البناء, بحيث يتوافر لأجزائه كلها التضافر بين بعضها البعض الآخر, هذه كلها تشترط وجود الحسّ الأخلاقي الذي بمقدوره مقاومة القمع, والتضحية في سبيل هدف أعلى من مجرد إشباع النزوعات القريبة والجري وراء كل تخييل وسراب, تلك كلها قيم جدوى اجتماعية, كما أنها قيم جمالية خُلُقية في الوقت نفسه.
أظن أن هناك, في الواقع, تمرّدًا أساسيًا فنيّا أستمدّه من الاستبصار الداخلي كما أستمده من استقراء التاريخ, بقدر الإمكان, تمرد على قمع الأجهزة, وعلى قمع المؤسسات, بل أضيف إلى هذا التمرّد على قمع (الواقع) نفسه, سواء كان هذا الواقع اجتماعيًا أو حتى كونيًا, هذه الحاجة الأساسية تكاد تبدو ثابتة, كأنها خالدة في وسط هذه الظاهرة العرضية أساسًا, ظاهرة الإنسان.
هل أرى في التاريخ ما يقول إن هناك قمعًا مستمرًا, ومحاولة دائمة لكسر هذا القمع? وأن كليهما يسيران جنبًا إلى جنب, وأن هذه الجدلية, القمع واللاقمع, القمع والحرية, قد تكون هي التصوّر الذي لا يمكن أن ننكره? لست - بالطبع - أتصوّر وجود (يوتوبيا) يتم فيها انتفاء القمع. فإذا وُجد قمع اجتماعي أو فكري أو ميتافيزيقي, فلا يُتصوّر أيضا أن تظل لهذا القمع - بكل مستوياته - الكلمة الأخيرة. لم يحدث هذا في وقت من الأوقات, ولا أظن أنه سيحدث, هناك في مقابل القمع, دائمًا صرخة الحرية المحرقة, تخفت أحيانًا, وتجلجل أحيانًا, ولكنها لا تموت ولا تنطفئ. الفن, الأدب, يقوم بهذه المهمة.
إن القيم الجمالية بذاتها ليست فنّا للفن, بل إن توافرها يكسب العمل الفني قيمًا أخرى يرتبط بها تحقق القيم الاجتماعية والخلقية, وهو إذ يحققها يوفر لك المتعة الغريبة الصافية التي هي من خاصياتها في الوقت نفسه, وسعادة خلقية عالية مترتبة على الوفاء والتعبير, على الخلق والتحقق والإكمال. قيمة التضافر والاستغناء عن الحشو ومقاومة الإسراف.
ومن هنا ندرك أن الأعمال الفنية الغارقة في اليأس الصارخ المتشنج الذي لا جماح له - مثلاً - أعمال فاسدة, لأنها أعمال هابطة من الناحية الجمالية, إذ ينحرف الفنان دون ضبط, في يأسه الفردي, ويقترف خطيئة الإسراف والرخاوة, خطيئة مزدوجة جمالية خلقية واجتماعية, بل تكاد تكون خطيئة بيولوجية.
إن العلاقة بين المثقف - والكاتب والشاعر خاصة - وبين المجتمع لها آليات معقدة جدا, من حيث تحوّل الهامشيّ إلى مركزيّ والعكس, ولكنني في الوقت نفسه وفي هذا الميدان بالذات أترك للمبدع الفرد, ولحساسيته الخاصة وتكوينه, دورًا مؤثرًا, ففي النهاية مازال للفن سرّه الذي لا يُستباح, لا بوسائل التحليل النفسي وحدها, ولا بوسائل التحليل الاجتماعي, ولا بوسائل التحليل النصيّ وحدها.
الأدب له دوره وله جدواه, بطريق غير مباشر, في التغييرات الاجتماعية التي تهدف إلى تأكيد القيم الأساسية - الحرية, العدالة والحب والكرامة ونحوها - أي أن الأدب له دور حيوي بمحض وجوده, بمجرد الكشف عن حقيقة ما للإنسان, بمجرد السعي الدائب نحو الوفاء بحقيقة ما, هي حقيقة له, هذا السعي قد يتخذ في المدى البعيد, وفيما نأمل, أشكالاً اجتماعية مختلفة, تحددها ظروف اللحظة المتغيرة, الاقتصادية والاجتماعية والثقافية5
إدوار الخراط مجلة العربي مايو 2004
يقول أستاذ الدكتور أحمد صقر قراءة في النقد المعاصر
عن البنيوية التوليدية Genetic Structuralism عند تعرضنا لهذا الاتجاه فإن أول ما يلفت الأنظار حيال المسمى هو حجم الخلاف الذى يثيره هذا الاتجاه فيما يتعلق بصحة المسمى بالمعنى المعاصر، مقابل المعانى الأخرى التى يرى بعض النقاد- وعلى رأسهم د/جابر عصفور- أنها لا تحقق المعنى الصحيح المقصود من وراء إخضاع الإبداع الأدبى عند التحليل البنيوى التوليدى، بغية التعرف على بنية العمل ودراسته "دراسة تكشف عن الدورة التى يجسد بها هذا العمل بنية الفكر عند طبقة، أو مجموعة اجتماعية، ينتمى إليها العمل. وتحاول دراساته- يقصد جولدمان صاحب هذا الاتجاه- من هذه الزاوية، أن تتجاوز الآلية التى وقع فيها التحليل الاجتماعى التقليدى للأدب، وذلك من خلال التركيز على بنية فكرية، تتمثل فى "رؤية للعالم" تتوسطها ما بين الأساس الاجتماعى الطبقى، الذى تصدر عنه، والأنساق الأدبية والفنية والفكرية التى تحكمها هذه الرؤية".
إن الأساس الذى ينطلق منه جولدمان يختلف عن الأسس النظرية الأخرى التى ينطلق منها رواد التحليل الاجتماعى للأدب "أو "علم اجتماع الأدب" أو "سوسيولوجيا الأدب والمسرح"، ذلك أن العديد من نقاد الأدب سبق لهم أن اهتموا بالمضامين الاجتماعية للروايات المختلفة، وركزوا اهتمامهم على صلة المضامين بالمجتمعات التى تعبر عنها، وبالمراحل التاريخية التى تجرى أحداثها فى ظلها" .
إن علم اجتماع الأدب يتميز بأنه يسعى من أجل إقامة علاقة بين الإبداع الأدبى والمسرحى وبين فترة من فترات هذا المجتمع أو ذاك، إذ يسعى المؤلف من أجل إظهار أبعاد الملامح الاجتماعية فى أعماله، بل أكثر من ذلك فإن المؤلف يحرص أيضاً على ضرورة إحداث التغيير فى هذا المجتمع غالباً ما يكون لصالح أبناء الطبقات المغلوبة وبطبيعة الحال فإن هذا المنهج لا يعد جديداً، ذلك أن نقاد القرن التاسع أمثال "مدام دوستال وهيبوليت تين" وغيرهما سعوا من أجل ضرورة إظهار جوانب التأثير والتأثر بين المجتمع وجوانب الإبداع.
انشغلت كل هذه الدراسات السابقة سواء عند أصحاب "الاتجاه المسمى" علم اجتماع الأدب" ويسمى أحيانا بـ "سوسيولوجيا الأدب" أو السابقين عليهم- فيكو- مدام دوستال- هيبوليت تين- بمضمون الأعمال الأدبية من ناحية، وبالعلاقة بين هذا المضمون والوعى الجماعى من ناحية أخرى. أى أنها شغلت بالطرق التى يفكر بها البشر ويسلكون تبعاً لها فى حياتهم اليومية".
إن العلاقة بين الأدب والمجتمع لا يمكن أن "تحكمها قوانين التشابه السطحى الساذجة، ولا حتى مفاهيم الانعكاس المختلفة وإنما تتشكل أواصرها على مستوى أعمق من هذا بكثير، هو مستوى هذه الأبنية العقلية أو المقولات التى يقول بها جولدمان".
إن الدكتور جابر عصفور يتفق كلية مع لوسيان جولدمان فى أن مصطلح "البنيوية التوليدية" هو أقرب المسميات اتساقاً مع منهج التحليل الاجتماعى للأدب، فهو لا يركز بشكل سطحى فى محاولة ربط نتاج هذا الأديب أو ذلك بفترة محددة فى المجتمع بشكل ضعيف دون أن تضع فى "اعتبارها" بنيوية المنهج، "بنية الظاهرة الأدبية التى يعالجها المنهج لابد أن يقود الحديث إلى أمر مهم يرتبط بإلحاح المنهج على التقاط "كليات" الظاهرة الأدبية" و "أقسامها" و "نظمها" وتحليلها تحليلاً يؤكد أن الظاهرة الأدبية تنطوى على خاصية لا يمكن اختزالها من الأجزاء المنعزلة.
ومن هنا يستبعد المنهج أى محاولة "ذرية" أو تجزئيية" للاقتراب من الظاهرة كما يستبعد أى محاولة سوسيولوجية تنحو منحاً أمبريقياً خشناً يتوقف عند مشابهات مضمونية أو شكلية منعزلة، بل يؤكد المنهج التعامل مع الظاهرة الأدبية باعتبارها بنية متلاحمة، لا يمكن أن يساوى معناها المجموع المتناثرة لأجزائها، بل يرتد معناها إلى العلاقات التى تصل ما بين هذه الأجزاء لتمنحها دوراً داخل البنية".
وعليه فإن ما استقر من قبل فى أذهان الكثيرين عن طبيعة العلاقة بين المسرح والمجتمع أمر بحاجة إلى توضيح، ذلك أن بنية العمل الداخلية هى التى تخضع للتحليل دون أن تعتمد على تجزئتها، أو نعتمد على بعض العناصر الشكلية أو الضمنية الواردة فى العمل لمحاولة ربطها ببعض الظواهر الاجتماعية بهدف إظهار نقاط التشابه أو الاختلاف بين النتاج موضوع التحليل وظروف المجتمع فى فترة محددة.
يتفق د.جمال شحيد مع الدكتور جابر عصفور فى استخدام مصطلح "البنيوية" غير أنه يقترح مسمى البنيوية التركيبية وهى تعادل "البنيوية التوليدية" وهو منهج يربط بين دراسة عمل مبدع ما وبين مجموع البنى الدلالية التى تتيح للمحلل أن يفهم أن الكاتب لا يعبر عن رؤيته الفردية للعالم، بل يعبر عن الرؤية الجماعية للعالم من قبل هذه المجموعة أو تلك، ذلك أن الوعى الفعلى هو الوعى الناجم عن الماضى ومختلف حيثياته وظروفه وأحداثه فكل مجموعة اجتماعية تسعى إلى فهم الواقع انطلاقا من ظروفها المعاشية والاقتصادية والفكرية والدينية والتربوية، فإذا درسنا وعى الفلاحين الروس مثلا سنة 1912 وجدنا أنه يختلف كثيراً عما قاموا به سنة 1917 وسنة 1921".
ثم يستمر د. جمال شحيد فى عرض آراء جولدمان فى الوعى الممكن بقوله أن الوعى الممكن "هو ما يمكن أن تفعله طبقة اجتماعية ما بعد أن تتعرض لمتغيرات مختلفة دون أن تفقد طابعها الطبقى. فالفلاحون الروس الذين تحولوا إلى عمال بعد 1912 هم الذين أنجحوا ثورة أكتوبر، ذلك أن تطلعاتهم قد تغيرت".
إن حدود الوعى الممكن والوعى الفعلى، باعتبارهما شكلين من أشكال الوعى الذى ركز عليهما جولدمان يؤكدان بشكل أو بآخر أن هذه الطبقة محل التحليل، إنما تعبر عن رؤيتها للعالم، وبالتالى فإن المسرحية التى نحن بصدد تحليلها تجسد وتوضح لنا رؤية العالم" لدى هذه الطبقة، وهو بذلك يمكنها من الانتقال من مرحلة الوعى الممكن إلى الوعى الفعلى، كمثال على ذلك عند أبناء الطبقة المتوسطة من أبناء الشعب المصرى الذى مروا بهاتين المرحلتين عندما أجتاح الانفتاح الاقتصادى مصر، مر أبناء هذه الطبقة بداية بمرحلة الوعى الفعلى وعجزهم الاقتصادى وتردى أحوالهم المعيشية، هذا إلى جانب تردى القيم الفكرية والتربوية لدى أبناء هذه الطبقة، كل هذه الحيثيات كانت عاملا مساعداً دفع هذه الطبقة إلى التحرك فكانوا هم نواة التحول بل، وأصبحوا ممثلى طبقة الانفتاح الاقتصادى فى مصر. وبذلك تحول الوعى الفعلى إلى وعى ممكن نظراً لما تعرضت له هذه الطبقة من متغيرات. ونستطيع أن نرصد ذلك فى أعمال كثير من كتاب مسرحنا العربى أمثال سعد الدين وهبه، نعمان عاشور، سعد الله ونوس (ملحمة السراب)... وغيرهم.
مما سبق نجد الخلاف بين المصطلحات المتعلقة بدراسة الأدب والمسرح السوسيولوجى يتمثل فى أن هذه المصطلحات تعد خطوات تمهيدية أوصلتنا إلى مصطلح البنيوية التوليدية (التركيبية)، ذلك أن جولدمان لا ينكر إطلاعه على أعمال لوكاتش ومفهوم الإنعكاس ومفهوم الوعى التاريخى المنبعث عن قراءة الأعمال الإبداعية، كل هذا يؤكد أن جولدمان طور آراء السابقين عليه- لوكاتش- مما أوصله إلى مفهوم البنيوية التوليدية (التكوينية) التى يسعى من خلالها جولدمان إلى إقامة "توازن بين العالم الخارجى (الذى يحيط بالإنسان ويرسل إليه الحروب والفتوحات والنزوحات والاحتلال مثلا) والعالم الخارجى (الذى ينبعث من الإنسان والمجموعة البشرية بغية التفاعل أو الرضوخ أو الرفض...)- ويرى جولدمان أن هذا التوازن يتبدل من مجتمع إلى آخر، ومن حقبة زمنية إلى أخرى".
إن جولدمان أكد الارتباط الحميم بين المبدع الفنان وبين ظروف مجتمعه ذلك أننا عندما ندرس مسرحية "برج المدابغ" لنعمان عاشور، لابد أن ندرك بداية أننا لا ننظر إليها من منطلق رؤى المؤلف الفردية تجاه المجتمع المصرى، وما حدث له من تحولات، بل لابد من دراسة البنى الذهنية لطبقة الانفتاحيين، لكى نفهم جيداً أنه توجد علاقة عضوية بين هذه المسرحية كإبداع فنى وبين المجتمع المصرى الذى نشأت فيه المسرحية.
إن جولدمان يصل بنا إلى تحديد الفروق الجوهرية بين ما يقصده بالبنيوية التكوينية وسوسيولوجية المضامين والأشكال، إذ يقول "إن البنيوية التوليدية مفهوم علمى وإيجابى عن الحياة الإنسانية، وهو مفهوم يتصل مفكروه الأساسيون بفرويد على أساس سيكولوجى، ويتصلون بهيجل وماركس وجرامشى ولوكاتش على أساس تاريخى اجتماعى ذلك أن البنيوية التكوينية لا تعتمد فقط على الرصد السطحى للعلاقة بين الإبداع والمجتمع بشكل ظاهر – كما سبق ذكرنا- ولكن تتضمن جوانب نفسية، معرفية، تاريخية، وهى تختلف بطبيعة الحال عن سوسيولوجية المضامين والأشكال، إذ "يظهر العمل الفنى باعتباره انعكاسا حتميا للمجتمع والوعى الجماعى، بينما يكون عاملا أساسيا من عوامل هذا الوعى الجماعى، فى البنيوية التكوينية".
أسباب رفض د. جابر عصفور للمناهج السوسيولوجية التقليدية:
تحدث د.جابر عصفور عن المناهج السوسيولوجية التقليدية فى التعامل مع الإبداع الأدبى عامة، والتى تعتمد بشكل ساذج على الربط بين هذا العمل الأدبى وبين المجتمع، محققين بذلك منهجا كان سائدا فيما مضى يسمى بنظرية الانعكاس عند "لوكاتش" دون أن يضعوا فى الاعتبار بنية هذا العمل التكوينية مهتمين فقط بمحاولة جعل هذه الأعمال مرآة عاكسة لأوضاع المجتمع، ترصد التحولات متجاهلة القيم الجمالية لهذا الإبداع، وقد أكد المنهج الذى قدمه لوسيان جولدمان فى مقابل المناهج السوسيولوجية التقليدية، الذى يركز على "البنية باعتبارها نقطة الانطلاق وألح على أن البنية الواحدة يمكن أن تتحول إلى محتويات بالغة التباين والتنوع، ومع ذلك لا تفارق بنيتها. وإذا كانت "رؤية العالم" نفسها تؤدى وظيفة فإنها تؤديها على أكثر من مستوى، مما يجعلها تتجلى على أكثر من محور. ومهمة المنهج- من هذه الزاوية- هى البحث عن البنية القارة وراء محتويات متباينة، وعبر مستويات متعددة، ومحاور متعددة" .
إن منهج البنيوية التوليدية يركز فى تحليل الإبداع على وحدته العضوية وهو يتخطى فى ذلك وجهات نظر المنهج السوسيولوجى التقليدية المعتمد على نظرية الانعكاس بحيث أصبحت النظرة كلية للإبداع تشتمل بطبيعة الحال نواحى الجمالية ويحددون لها مكاناً واضحاً فى دراساتهم، ذلك أن هذا المنهج لا يركز على عنصر دون الآخر بل على العناصر متصلة.
إن منهج البنيوية التوليدية بذلك يجمع بين المنهج السوسيولوجيى التقليدى وبين ما قدمته البنيوية بمعنى أن "بنيات الأثر الأدبى فى ظل المنهج الراهن لها مفهوم دينامى وليست مفهوماً جامداً، فهى تعد تعبيراً عن نظرة معينة للعالم، أى تعبر عن موقف جماعة بشرية معينة فى ظل لحظة تاريخية محددة" .
إن هذا المنهج يرفض بذلك النظرة الخاصة بالسيوسيولوجيا التقليدية التى تنظر إلى العمل باعتباره انعكاساً مباشرا للمجتمع- كما سبق القول- هذا من ناحية، ومن ناحية ثالثة فإن لوسيان جولدمان يؤكد فى تحديده طبيعة العمل الأدبى، وكيفية التعامل معه عند التحليل قوله "ليس هناك عناصر سوسيولوجية فى العمل الأدبى وإنما هناك شخصيات فردية ومواقف خيالية فحسب" ذلك أن الأعمال الأدبية أبعد من أن تكون انعكاساً بسيطاً لوعى جماعى. إنها تعبير موحد متلاحم عن إتجاهات ومطامح خاصة بمجموعة بعينها.
مما سبق نكون قد أوضحنا الفارق بين المنهج المعاصر فى تعامله مع الإبداع الأدبى بشكل عام- أقصد منهج البنيوية التوليدية/التركيبية- وبين المناهج السوسيولوجية التقليدية السابقة منذ مدام دوستال وهييلويت تين، وفيكو الذين دعوا إلى ضرورة دراسة العلاقات بين الأدب والمجتمع، إلا أننى أرى أن الاختلاف يأتى من التعامل مع النص دون إغفال أن هذه الاتجاهات جميعاً، تركز على النص الأدبى فى حال ربطه بالتاريخ الاجتماعى الذى ظهر فيه.
أعلام المنهج
إن منهج البنيوية التوليدية الذى يجمع جوانب سوسيولوجية، معرفية وتاريخية اجتماعية- كما سبق أن أشرنا- لم يكن قد استقر بهذه الكيفية عندما ظهر من قبل منذ القرن التاسع عشر عند "مدام دوستال" و "هيبوليت تين"، كما أنه ظهر منذ بدايات القرن العشرين على يد علم من أعلام هذا الاتجاه هو:
1- جورج لوكاتش (1885-1971):
الذى تحدث عن نظرية الانعكاس والذى يعد "خالق المنهج البنيوي التوليدى بلا نزاع".
تناول من خلال قراءاته لأعماله خاصة "الروح والأشكال" و "نظرية الرواية" العلاقة الحميمة بين المبدع والواقع المعاش، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية يركز على الوعى التاريخى المنبعث من قبل المؤلف وكيف استطاع أن يوضحه من خلال أعماله.
يرى لوكاتش "أن الأدب يعكس الواقع الاجتماعى- الاقتصادى، لكنه رفض فكرة وجود حتمية واضحة بين الاثنين. ويحاول أن يبرهن على أن أعظم الآثار الأدبية لا تعيد فحسب إنتاج الأيديولوجيات السائدة فى عصرها، بل تجسد فى شكلها نقداً لهذه الأيديولوجيات.
إن لوكاتش لم ينجح طوال رحلته فى الوصول إلى الاهتمام بتحليل البنى العميقة للأعمال الأدبية، وإنما وصف هو وبلزاك بأن "الأفكار السطحية- عندها- تحل محل وصف البنى العميقة.
2- لوسيان جولدمان:
اعتمد جولدمان على بعض مقولات أستاذه "جورج لوكاتش" مما جعله يصل إلى مكانة جعلته مؤسس المنهج البنيوى التكوينى، إذ نجح خلال دراسته "الإله الخفى" و "مسرح راسين" فى تناول "الرؤية المأساوية فى خواطر باسكال وراسين وسعى إلى الإحاطة (بالبنيات) التصورية للنصوص المدروسة، واستخلاص (الكليات) العقلية والاجتماعية، وتوصل إلى أن (خواطر) باسكال ومآسى راسين ليستا سوى تعبير عن الوضعية المأساوية التى عاشتها نبالة مثقفة موزعة بين أصولها وارتباطاتها البرجوازية، وهى تعبير يتجلى فى رفض العالم لدى الجانسينية".
وعليه نستطيع القول إن جولدمان عندما طبق هذا المنهج ركز على الإبداع الفردى للمؤلف الذى يعد بطبيعة الحال جزءاً من الإبداع الجماعى أى أنه يؤكد أن إبداع الفنان جزء من كل. وعلى هذا فإن دراسة جولدمان لبنية النص الأدبى من منطلق تكوينى (توليدي/تركيبى) يسهم بدوره فى الوصول إلى نتيجة مؤداها أن بنية النص تسهم بدورها فى تحديد بنية ورؤية هذه الطبقة أو الفئة للعالم المحيط، والذى ينتمى إليه المؤلف بطبيعة الحال. أى أن جولدمان عندما يحلل بنية أعمال راسين خلال مسرحياته يصل إلى وجهات نظر المؤلف خلال بنية النص، والتى تأتى معبرة عن العالم المحيط، وبذلك يمكننا القول بأن إبداع نعمان عاشور، وسعد الدين وهبة، وهنريك إبسن على سبيل المثال، إنما هى أعمال كتبها مؤلفاها فى ظل ظروف خاصة ترتب عليها إفراز هذه البنى التى تمثلها أعمالهم. فمن المسلم به أن "ثمة علاقة جدلية بين الفن والواقع، فمن جهة تؤثر التراكيب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على شكل العمل الفنى وتحكم آلياته وتسيطر على صراعاته ومكونات أبطاله، ومن جهة أخرى فإنه يمكن معرفة العالم الخارجى من خلال الإبداع الأدبى والفنى".
إن المفاهيم الأساسية التى يقيم عليها جولدمان ملامح منهجه تتمثل فى وعيه الدائم بضرورة النظر إلى الإبداع الأدبى (والمسرحى) بطبيعة الحال على أساس أنه مجموعة من الظواهر الاجتماعية وسياسى وتاريخى وثقافى، أى أن العمل الأدبى إنما هو نتاج اجتماعى والسياسية والتاريخية والثقافية، أى أن العمل الأدبى إنما هو نتاج اجتماعى بقدر ما هو إبداع فريد، وهو يختلف عن مفهوم السوسيولوجيا كما يراها روبير اسكاربت الذى يربط بين الإنتاج الأدبى وطرق وسبل نشره وتوزيعه وبطبيعة الحال يركز على طرق استقباله من قبل الجمهور. ويختلف عن الاتجاه السيوسيولوجى الآخر الذى يركز على دراسة الإنتاج الأدبى لمجموعات مهنية واجتماعية، ونقل الاهتمام من الفرد المدروس حسب مهنته، إلى السنوات الأولى من طفولته، كما يدرس مضمون الوعى الجماعى فى أعمال عدد من المؤلفين المختلفى الجنسيات".
وبعد فإن لوسيان جولدمان ينس ذكر أهمية دراسة البنى الذهنية الخاصة بمجتمع ما بفترة محددة بغية الوصول إلى أسباب انتشار وسيطرة اتجاه أدبى ما خلال فترة معينة كالواقعية فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر (ممثلة فى مسرحيات إبسن) وأسباب تبنى إبسن لهذا الاتجاه، كذلك لابد من دراسة الطبقة الاجتماعية التى تبنت هذا الاتجاه والطبقات الأخرى (مثل أبناء الطبقة الارستقراطية الذين مثلتهم الكلاسيكية من قبل) أو أسباب تحفظها عل سيطرة هذا الاتجاه، وقد حدد جولدمان مجموعة من الضوابط المنهجية لإدراك هذا المنهج، وقد ميز بين جانبين من عملية واحدة للدرس الأدبى هما "التفسير" أو الفهم "و "الشرح"، أما التفسير فهو الكيفية التى يفهم بها الدارس العناصر المكونة للعمل الأدبى، أى الكيفية التى نكتشف بها بنية هذا العمل. أما الشرح فهو يرمز إلى هذه البنية الأدبية نفسها باعتبارها وظيفة لبنية اجتماعية أوسع وإذا كان التفسير درساً على مستوى فهم البنية الداخلية للعمل، فإن الشرح أيضا درسا اجتماعيا على مستوى البنية الخارجية الأشمل أى أن الشرح يرتبط بما هو خارج حدود النص لينفتح على المجتمع، أما التفسير فيظل يدور فى داخل النص.
1- ميخائيل باختين (1895-1975)
يعد باختين من المنظرين الذين ناقشوا قضايا الفن خاصة فيما يتعلق بالرواية وفلسفة اللغة، وقد ضمن أفكاره وتصوراته خلال كتابه الذى نشره عام 1975 وأسماه "علم الجمال ونظرية الرواية" حيث ناقش عددا من القضايا الهامة المتعلقة بفصل الشكل عن المضمون المعرفى للعمل الفنى، وقد عدد نقاط ضعف الشكليين الذين ركزوا على الشكل على حساب المضمون.
يعد باختين "المؤسس الأول لعلم اجتماع النص الأدبى، أو حتى لعلم اجتماع الشكل الأدبى"، وقد تعرض باختين فى دراساته لنظرية الانعكاس المباشر التى كانت شائعة فى الاتحاد السوفيتى فى مرحلة الثلاثينيات، وأكد أن الأدب ليس انعكاساً آليا للمجتمع بقدر ما يكون الفن "تعبيراً اجتماعياً مرتبطاً بما هو خارج الوعى الفردى، وأن الوعى الذاتى لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الوعى الجماعى".
وعليه نستطيع القول إن باختين أدرك أهمية الرواية باعتبارها عملا فنياً، نستطيع من خلاله أن ندرك جميع فئات المجتمع الدنيا، وهو ما جعله يرى أهمية الأشكال الشعبية والدونية كمادة توضح نظم الصراع الموجودة داخل المجتمع. هنا نجد أواصر الصلة بين لوسيان جولدمان وبين ميخائيل باختين وبين لوكاتش فيما يتعلق بالكلية الاجتماعية التى قال بها لوكاتش و "رؤية العالم" التى قال بها جولدمان، وهو بذلك مصطلح يعنى بتقديم مفهوم تاريخى، إذ يصف الطريقة أو المنهج الذى تفكر به طبقة معينة لفهم واقعها الاجتماعى ويستخدم جولدمان هذا المصطلح "باعتباره مصطلحاً له ارتباطاً بما قاله لوكاتش، غير أن جولدمان "يطور هذا المفهوم عندما يتعامل مع "الرؤية" باعتبارها "بنية" لا تفهم إلا فى تحقيقها لوظيفة، وعندما يفهم هذه البنية فى ضوء السيكولوجية المتطورة التى ثقفها عن أساذه جان بياجية فينظر إلى "رؤية العالم" باعتبارها متولدة عن مشكلات تتطلب حلاً وباعتبارها نسقاً متلاحماً يضع المشكلات فى مقابل حلولها، فتصبح "رؤية العالم"- بنية شاملة تهدف بنسقها المتلاحم إلى تطويع الموقف الذى تعانيه الطبقة أو المجموعة، تماماً، كما ينبع نسقها المتلاحم من الرغبة فى تطويع الموقف".
تحدث باختين عن الموضوع الجمالى- الذى تحدث عنه أيضاً جولدمان- كما يحدد ذلك د. محمد على الكردى حيث رأى أن الموضوع الجمالى "ليس مبدأ ميتافيزيقياً سابقاً على الخلق الفنى، إذ أنه الواقع الحى والملموس لحركة الوعى الخلاقة، وهى حركة تتشكل على الطريقة الظاهراتية، داخل مواقف معرفية وأخلاقية ماثلة دائماً من قبل. إن الوعى الخلاق يدمج، فى تكوينه للموضوع الجمالى بين اللحظة التقويمية أو المعيارية، ووضعية الحدث أو الظاهرة التى يتناولها بالمعالجة فى إطار لغة رمزية.
طبق باختين آراءه على أعمال رابليه فى رسالة دكتوراه التى قدمها عام 1965 وعلى دستوفسكى، واستخلص من خلال دراسته شكلين من أشكال الرواية هما:
1- الشكل الكرنفالى.
2- شكل الرواية المتعددة الأصوات (أى الحوار الذى على شكل ديالوج بين الكاتب وشخوصه الغائبة وشخوصه الحاضرة).
4- بيبر زيما (1946):
استطاع زيما أن يتخطى مرحلة التأثير بباختين إلى مرحلة الإضافة والابتكار والتفسير فلم يعد همه من دراسة النص فقط دراسة المتجمع وحسب، بل نجده يهتم بمسألة "معرفة كيف تتجسد القضايا الاجتماعية والمصالح الجماعية فى المستويات الدلالية والتركيبية والسردية للنص".
حرص "زيما على ضرورة تجسيد جوانب الصراعات الطبقية وتحديدها فى المجتمع الواحد، وهو يذكرنا بأعمال الكثير من كتاب مسرحنا المصرى إذ حرصوا أمثال سعد الدين وهبه، نعمان عاشور، نجيب سرور، لطفى الخولى، يوسف ادريس فى مجال المسرح- من خلال مسرحياتهم على ضرورة إيضاح أوضاع الطبقات الاجتماعية وصراعاتها، كما تمثل عندنا فى ظهور طبقات واختفاء طبقات أعقاب ثورة 1952 والانفتاح الاقتصادى 1978م.
إن دخول طبقات جديدة إلى أماكن لم يكن من حقهم من قبل دخولها أدى إلى إنقلاب معايير اللغة المتداولة فى هذه الأوساط الاجتماعية، وهو ما حدث فى مصر فى أعقاب الانفتاح الاقتصادى حيث وجدنا الازدواجية تظهر فى الشخصية وفى الحوار وفى السلوك.
إن زيما لم ينس أن النص الأدبى- ونحن نرى أن هذا ينسحب على النص المسرحى أيضاً- ليس كالوثيقة التاريخية التى يعتمد فيها المؤرخ على التأكيد على صحة هذا الأمر من عدمه، بل يظل الأدب قادراً على تجاوز هذه المرحلة، ونستطيع أن نتلمس ذلك فى مسرح الكثير من كتابنا المصريين أمثال الفريد فرج فى مسرحيته "سليمان الحلبى" وعبد الرحمن الشرقاوى فى مسرحيته "الحسين ثائراً" و "الحسين شهيداً" و سعد الله ونوس فى مسرحية "ملحمة السراب" على سبيل المثال.
تطبيق منهج البنيوية التوليدية على مسرحية
"ملحمة السراب" لسعد الله ونوس
إن دراسة مسرح سعد الله ونوس تطلعنا على انتهاجه لمنهج محدد فى الكتابة تمثل فى ارتباطه الحميم وتفاعله العميق بقضايا المجتمع العربى، وقيمه السائدة التى حاول طوال رحلة كتاباتها المسرحية أن يبلورها فى مسرحية تلو الأخرى، وإن عكست كتاباتها منذ بداياتها وصولا إلى أواخر مسرحياته التى مثلتها مسرحية "ملحمة السراب" منمنمات تاريخية "اقترابا- خاصة" ملحمة السراب"- من واقع الحياة اليومية العربية فى سوريا، ولم يحرص على الإحالات والتلميحات والإسقاطات التى اشتهر بها فى مسرحياته.
تقدم هذه المسرحية دراسة تفصيلية عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التى أصابت بنية المجتمع السورى فى أعقاب إقرار سياسة الانفتاح الاقتصادى، من هنا حرص سعد الله ونوس على الارتباط برصد تلك التحولات الاجتماعية والاقتصادية من خلال مسرحيته "ملحمة السراب" سعيا -كما يستضح باستخدامنا لمنهج البنائية التوليدية- إلى الغوص فى أعماق المجتمع لتحديد أبعاد هذه التحولات. وهو ما رصده د. نديم معلا "بقوله" أراد – سعد الله ونوس- أن يهبط إلى القاع ليغوص وينبش ويعرى، مؤثرا إماطة اللثام عن الواقع عن الجمالية وتجلياتها المشهدية أو اللغوية (الحوار)، ولكنه يعرف بالمقابل عن الخطاب المباشر والعرض الآلى للواقع".
عند تطبيق المنهج على هذه المسرحية، فلابد أن نعى جيدا أننا لسنا بحاجة إلى دراسة كافة آثار سعد الله ونوس لنحدد الرؤية الكلية للعالم، بل نستطيع من خلال هذه المسرحية أن نحدد رؤية المؤلف التى لا تعد بحال من الأحوال رؤية فردية- كما سبق القول- بل هى رؤية جماعية، تمثل مرحلة تحول طبقة الفقراء من أبناء الضيعة "القرية" وهم يتحولون من مرحلة الوعى الفعلى إلى مرحلة الوعى الممكن. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإننا من خلال التحليل سنفترض لهذا المنهج عدة نقاط سنحاول أن نحققها من خلال التحليل:
1- تحديد بنية النص الكلية (البنيات ذات الدلالة).
2- صلة هذه البنية الكلية للنص بالبنى الذهنية.
3- رؤية المؤلف للعالم فى مقابل رؤية الجماعة للعالم.
4- بناء المؤلف وفكره يعادل فكر هذه الطبقة ووعيها- موضوع المسرحية.
إن البنية الكبرى للمسرحية تتمثل فى تركيز المؤلف على رصد التحولات الاجتماعية والاقتصادية التى مرت بأهل الضيعة خاصة، وبالمجتمع السورى عامة، إذ يسعى ونوس من خلال عرضه لهذه المسرحية أن يحقق ما يسمى برؤية العالم، تلك الرؤية التى لا تعد هنا رؤية فردية خاصة بالمؤلف، بل رؤية تحقق البنى الذهنية للمجتمع السورى خاصة طبقة الفقراء البسطاء من أبناء الشعب من منطلق تخيلى للمؤلف، نجح فى رصدها دون أن يغفل بطبيعة الحال القيم الجمالية للنص والمتمثلة فى البناء الدرامى، ولغة الحوار القريبة من لغة الحياة اليومية وشخصياته المسرحية الكثيرة التى حرص على رسمها بمهارة، كما تمثل هذا فى شخصية "عبود التى جعلها شخصية" براجماتية"، تنمو فى تربة خاصة فى وسط خاص، يتلائم وأجواء المسرحية الانفتاحية، دون أن تفقد الشخصية هذه، بعد تشكيلها الفنى، أى تخييلها، إذا صح التعبير".
إن ونوس هنا يحقق مقولة جولدمان التى سبق ذكرها وتمثلت فى كيفية رؤية هذا العالم الإبداعى التخيلى ليصبح مسرحية.
سعى ونوس من خلال هذه المسرحية المكونة من خمسة فصول ليشتمل كل فصل على عدد من المشاهد إلى تقديم لوحة متعددة الأبعاد لقرية (ضيعة) تعصف بها سياسة الانفتاح الاقتصادى فتزلزل بناؤها الاجتماعى والاقتصادى والأخلاقى والجمالى، وتلقى بها فى فوضى القتل والنهب وعالم من الوحشية، مما يذكرنا بصدمات الانسان الأول- هابيل وقابيل.
إن الصدام الذى يقع بين هذه الفئات عبود الغاوى، الخادم وانضمام بعض أهل القرية بعد ذلك إليهما مثل: الشيخ عباس، أديب الناطور وآخرون ضد ياسين والزرقاء، رباب، مروان وآخرين، هذا الصدام يؤدى إلى تحديد رؤية العالم لهذه الفئة، والتى تعجز مؤقتا عن الاندماج فى بنية المجتمع الجديد، إلا أنها سرعان ما تنسجم.
يترتب على انصهار الكثير من أبناء الطبقة القديمة فى هذا الانفتاح إلى فقدانها توازنها، مما يجعلها فى وضع متناقض يترتب عليه فى كثير من الأحوال ردود أفعال سلبية تجاه بعض القضايا الاجتماعية والأخلاقية.
ولعل السبب يعود إلى حرص كل شخصية من تلك الشخصيات وسعيها إلى المراكز الاجتماعية المرموقة بالتقرب من عبود الغاوى، وهذه المراكز تسهم بصورة معينة فى خلق وضعية نفسية مقسمة بين الخوف واللامبالاة وروح المغامرة عند شخصيات المسرحية.
إن هذه الفئة الصغيرة من أهل الضيعة البسطاء تطلعنا على أزمتها الحقيقية وأزمة المجتمع فى وقت واحد، هذه الفئة تبدو فى العالم الخيالى للمؤلف ممثلة فى شخصيات واعية، لكنها عاجزة عن التكيف مع الواقع الاجتماعى الجديد رغم أنها أكثر الفئات إدراكا لهذا الواقع.
إن تأملنا للبناء الكلى للمسرحية يجعلنا ندرك أسباب اندفاع الشخصيات إلى الهاوية- هاوية الانفتاح الاقتصادى- كما لو أن هناك قوة غامضة (قوة الما ل) تدفعهم جميعاً للقيام بأفعال لا معنى لها، وأحياناً أفعال قد تكون ذات معنى ومقنعة من منطلق وجهات نظر الشخصيات.
إذا كنا قد حددنا جميع بنيات المسرحية الكلية ورأيناها تتحدد فى رؤيتها للعالم الخارجى، وتعكس ملامح العالم الخارجى لهذا المجتمع الذى أثرت تراكيبه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على شكله، كما أن رؤية الشخصيات فى هذه المسرحية رؤية عميقة فى قلب العمل وليست سطحية، إلا أننا مع ذلك وبرغم توحد البنية الكلية للعمل إلا أن بعض البنيات الصغرى الممثلة فى بعض شخصيات المسرحية ليس لها صلات وثيقة بالبناء الكلى المسرحية مثلا الشيخ عباس وموقفه من الانفتاح، كذلك شخصيات فضة اسمها ذات دلالة، وإن لم يصل إلى دلالة الذهب إلا أن دلالته تؤكد عشق المال، وفضة هنا لا تمثل صلة وثيقة بالبناء الكلى للمسرحية، إذ أنها تمثل همها وسعيها الشخصى إلى كسب المال على حساب كل القيم بشكل يجعلها بنية منفصلة عن البنية الكلية للمسرحية.
إن بنية الدلالة لهذه المسرحية تتميز بعدة خصائص أهمها أن جميع شخصيات المسرحية تنتمى- وكذا الحال بالنسبة للوسط الذى تدور فيه الأحداث- إلى مكان وزمان محددين هما الضيعة والزمن الحاضر (المضارع) فى أعقاب إقرار سياسة الانفتاح، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن زمن الأفعال للشخصيات فى المسرحية هو أيضاً زمن الحاضر، إن لغة الحوار فى المسرحية جاءت مغرقة فى الواقعية قريبة من السوقية، وهى دلالة على ما أفرزه التغيير والتحول الاقتصادى والاجتماعى والأخلاقى فى أعقاب الانفتاح.
إن رؤية المؤلف حددت بطبيعة الحال الإطار العام للمسرحية بما تعرضه من قضية تبرز لنا دلالة هذه المسرحية، إلا أن رؤية المؤلف للواقع الاجتماعى والتاريخى لا تعد هى الرؤية الفردية التى أفرزت هذا العمل، إنما أيضا وعى هذه الفئة الاجتماعية التى يرتبط بها المؤلف تاريخيا اجتماعيا واقتصاديا، إذ أنه واحد منها، أو بعبارة أخرى فإن الوعى بظهور طبقة جديدة تتشكل من الفئات التى جاءت فى النص والتنبوء بسقوطها ليست رؤية فردية للواقع.
إن بناء فكر الكاتب سعد الله ونوس هنا يأتى متفقا مع بناء فكر هذه الفئة ووعيها أو الجماعة التى يرتبط بها اجتماعياً وتاريخيا، ذلك أن نص مسرحية "ملحمة السراب" يمثل بنية تشكل جوهرا قائما بذاته هذا من ناحية- من ناحية ثانية فإن هذا الجوهر ذو علاقات داخلية متبادلة بين عناصره، ويمثل هذ النص بناء فكر المؤلف الذى يأتى متفقا مع بناء فكر هذه الفئة التى مثلت وعيها- يتضح ذلك من خلال التحليل- مرحلة من مراحل التحول الاجتماعى والتاريخى.
إن سعد الله ونوس لم يغفل فى هذه المسرحية رصد الواقع وتطويره، إلا أنه فى نفس الوقت نبذ الأساليب والأشكال الدرامية الانتقالية الميلودرامية، ووجد أن الشكل الدرامى الواقع فى التناول على مستوى الشكل والمضمون هو أفضل الأساليب فى صياغته التخيلية لهذا العمل، تلك الصياغة التى بلورت رؤيته باعتباره فنانا لهذا العالم- التى سرعان ما أصبحت شكلا فى البنية الداخلية للمسرحية.6
https://ar-ar.facebook.com/permalink.php?story_fbid=324272487726332&id=308513585968889
لأديبة والكاتبة الصحفية: سناء أبو شرار - الأردن - " خاص بـ " وكالة أخبار المرأة "
الأدب ، المجتمع ، المرأة ، مثلث مترابط الأضلاع ولايمكن فصل الأدب عن المرأة ولا عن المجتمع. فالكاتب لا يكتب في كهفه الأدبي المنعزل بل يكتب بنبض المجتمع وبشعور المرأة ، بمعاناة الفقراء ، بفرح المرأة ، بحزنها بقهرها ، وبانتصاراتها ؛ وإلا سيتحول الكاتب إلى مجرد ناقل للأفكار ومصور للأحداث.
لكن هذه العلاقة الوطيدة تستلزم عناصر أساسية وهي الفهم العميق لثقافة المجتمع ، الإطلاع العلمي على كل ما يحدث به من تغيرات ، عدم فرض الكاتب لرأيه عما يكتب إلا إذا كان يمتلك الثقافة الواسعة والمعرفة العلمية والإجتماعية كي يسمح لنفسه بعرض المشكلة ومن ثم إيجاد الحلول لها ؛ وهي مسؤولية كبيرة لأن الكاتب من أحد أهم العوامل المؤثرة في المجتمع ويتعمق هذا التأثير حين يكتب عن المرأة ، لأن المرأة تبدو أكثر تأثراً بالأدب من الرجل لأن الأدب يحاكي مشاعرها وأفكاره خصوصا حين يكون الكتاب يتحدث عن معاناة مشابهه لمعاناتها أو أمالها.
لطالما أثر الأدب بالمجتمع ، بل لطالما منح حلول لمشاكل معقدة خصوصاً فيما يتعلق بالمرأة . أما فيما يتعلق بالمجتمع ككل فالعديد من الروايات العالمية غيرت مجرى الحياة السياسية لدولة ما أو ألقت الضوء على معاناة أجتماعية تم تجاهلها . من هنا تبدو أهمية مسؤولية الكاتب تجاه المجتمع بجميع فئاته .
ولكن المشكلة في عالمنا المعاصر ليس في الرابط ما بين الأدب وبين المجتمع أو المرأة ، المشكلة تكمن في تقلص مساحة الأدب في المجتمع حتى في المناهج الدراسية رغم أن العديد من الدراسات الغربية أثبتت أن الأدب له انعكاس هام على شخصية الأطفال خصوصاً من يعانون من أوضاع اجتماعية صعبة . لقد أسهم التطور التكنولوجي بهذا الإنفصال البطيء والعميق ما بين الأدب والمجتمع .
ومن ناحية أخرى ، وفيما يتعلق بالمرأة ، فقد أفرز المجتمع المعاصر نوع من الأدب يعتمد في عرضه على ترسيخ دور المرأة الضحية مع تهميش نماذج من النساء ممن تفوقن وأثبتن جدارة عالية وذلك بدافع عرض معاناة المرأة بصورة متكررة ومتعمقة ؛ هذا الأدب أغرق المرأة بدور الضحية دون أن يقدم نموذج لامرأة مستقلة معتمدة على ذاتها ولها أهداف في الحياة عدا عن كون الرجل مركز الاهتمام بحياتها ، منه تستمد سعادتها ومنه تستمد تعاستها بل ودمارها أحياناً.
أحد أهم ما أفرزته الحضارة المعاصرة الغربية والتي تنعكس على مجتمعنا الشرقي هو الاعتقاد العميق والمتجذر بأن سعادة المرأة لابد أن تُستمد من الرجل ، ولدى العودة إلى تاريخ المرأة العربية حتى قبل الإسلام لم يكن يوجد هذا التشبث بالرجل ، بل كان للمرأة شخصيتها المعنوية وحياتها حتى ولو كان الرجل غير موجود . كن صاحبات شخصية قوية ، شاعرات وصاحبات حكمة عميقة ولم ترتبط هذه الحكمة بالرجل بل بمنظور الحياة بمجملها. الحضارة الغربية لها إيجابيات كثيرة ولها دور إيجابي أيضا في عديد من الزوايا بتطور المجتمع ، ولكن لابد من الحذر مما تقدمه هذه الحضارة ليس على سبيل الرفض بل التدقيق لوجود ما هو قيم ومفيد بها؛ ولكن الملاحظ حالياً في العديد من الروايات والأفلام والكتب الفكرية وجود إتجاه قوي نحو التشبث بالرجل واعتباره المصدر الأول للسعادة وليس أدل على ذلك من حجم الكتب والمقالات الإلكترونية التي تتحدث عن كيفية الحصول على قلب الرجل ، كيفية الزواج به ، كيفية السيطرة عليه وأن المرأة بدونه مجرد مخلوق هائم وضائع في الحياة . أي أن الحضارة الغربية قدمت الحرية الجسدية والمادية للمرأة ولكنها قيدتها بقيد خطير وهو التعبية النفسية والعاطفية للرجل وهي تبعية مدمرة أكثر من التبعية المادية . إن حرية المرأة الحقيقية تكمن في استقلالها النفسي والفكري وألا تكون إلا مع رجل يقدرها ويحترمها وإلا فالحياة واسعة وجميلة ومفتوحة الأبواب لكل مجتهد سواء امرأة أو رجل.
لابد للأدب المعاصر أن يكون على مستوى التطورات الإجتماعية ، لايمكن الكتابة عن أحداث معاصرة خاصة بالمرأة مع فكر ينتمي إلى عصر التبعية المطلقة للرجل معنويا وفكريا عاطفيا حتى ولو كانت المرأة مستقلة مادياً. لابد أن يتواجد أدب يمنح مساحات أوسع لقضايا اجتماعية انسانية برؤية حديثة منطلقة من أبحاث علمية وحلول حديثة لمشاكل المجتمع . القاريء يريد أن يقرأ عن معاناة تقترب من معاناته ولكنه فعلياً يريد بنهاية الكتاب أن يجد حل ما لهذه المعاناة بل ويريد عرض سليم ومشوق لهذه المعاناة.
حين يصبح الأدب مسؤول وملتزم ومراقب لكل تفاصيل الحياة من حوله سواء للمرأة أو للمجتمع يتحول إلى جزء لا يتجزأ من كينونة المجتمع ، بل يتحول إلى طوق نجاه ، ومهما أحتلت التكنولوجيا مساحة الفكر والوقت في المجتمع ، يبقى كتاب نقرأه في آخر الليل من أمتع وأجمل لحظات اليوم ، لذا كان على الكاتب أن يحب ما يكتب وأن يحترم مشاعر القاريء وأفكاره وعلى القاريء أن ينتقي بعناية ما يقرأ لأن ما يقرأه له عميق الأثر على مشاعره وأفكاره بل وأحياناً على مجمل حياته.7
تأثير الأدب على المجتمع والمرأة وكالة أخبار المرأة 16 سبتمبر, 2015 http://wonews.net/ar/index.php?act=post&id=15543
المراجع
1. http://annabaa.org/arabic/literature/943انظر
2. http://www.farhang.gov.ir/ar/literary/literary5
جميل حمداوي مدخل إلى البنيوية التكوينية
3 http://www.3rbi.info/Article.asp?ID=11598
إدوار الخراط4 مجلة العربي مايو 2004
5https://ar-ar.facebook.com/permalink.php?story_fbid=324272487726332&id=308513585968889
6 http://wonews.net/ar/index.php?act=post&id=15543
#ابراهيم_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟