|
كي لا ينام الدم
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1404 - 2005 / 12 / 19 - 05:07
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
متأخراً من المشفى حيث أمي تنتظر عملية ما ، ما إستطعت النوم ؛ أو مقاوماً إياه بالحقيقة ، مقلباً الأقنية الفضائية العربية على أوجاعي . كان حدث إغتيال شهيد الكلمة ، جبران تويني ، هو المهيمن على جميع تلك الأقنية ؛ طبعاً بإستثناء الفضائية السورية ، التي سهّرت متابعيها على كلاسيكيات موسيقية عالمية ! ولكي يتناهى العبث إلى أقصى تطرفه ، فهاهي إطلالة " فيروز" ، على ذات الفضائية المحتفية بميلادها السبعين ؛ إبنة لبنان ، الجريح ، النازف مبدعيه ورموزه الوطنية ، على مذبح القتلة ، البعثيين . فضائيتنا الرسمية ، نفسها ، تمعنُ إستهتاراً بهذا اليوم الحزين ، حينما تختار أغنية لوديع الصافي ، مواكبة بها الجريمة المخزية ؛ إغنية يقول مطلعها : " ضميري مش مرتاح " ! أتابع هكذا ، ومنذ إفاقتي ، مشهدَ جنازة جبران ، المطوفة كسفينة على بحر من البشر ؛ مشهدٌ مؤلمٌ ، لايمكن نسيانه أبداً : أبُ الصحافة اللبنانية ؛ غسان تويني ، المتهالك على سنواته التسعين وجروحه المتفتحة ، مجدداً ؛ بالطعنة إثر الاخرى ، بالولد بعد الآخر : وكأنما قدره أن يصبح أبناءُ موطنه ، جميعاً ، أبناء له .
كأنما الضحايا ، الشهداء ، ساروا في جنازة جبران ، مشيعين أنفسهم . ضحايا الحرب الأهلية ، التي شاء لها مفجروها أن تكون الأشرس في تاريخ المنطقة ، مادامت ساحتها هي لبنان ؛ الجنة المتفردة ، الملعونة ، للحرية والجمال والإبداع . منطقة عربية ، مباحة لعسف الأنظمة الديكتاتورية وآلهتها المقدسة ، والمنذورة لعالمهم الأسفل ؛ حيث مخابيء الأموال المسروقة متجاورة مع أقبية التعذيب وبواطن رمم المجازر الجماعية . ثمة مشى ، أيضاً ، خلف نعش شهيد الكلمة ، ضحايا آخرون لزمن الوصاية ، المتصل عقوداً ثلاثة ، مريرة ، بكل فواحشه المتفشية كسرطان في الجسد الطريّ لوطن صغير ، مستضعف : كل اولئك الضحايا كانوا هناك ، تنعكس نظراتهم الحزينة ، التائهة ، في عينيّ الأب ، غسان تويني ، المثبتتيْن بإصرار ، عبر الكاميرا ، في عين القاتل الجبان .
شهداءٌ أحياء ؛ ضحايا يتقبلون التعازي بأنفسهم . هناك ، تحت قبة البرلمان ، إرتفع صوت أحدهم ، مروان حماده ، مندداً بفرقة يتسلل من خلالها شبحُ إرهاب النظام الأمنيّ ، العريق في إجرامه ، ليمعن إستهتاراً بأمن الوطن المتخلص للتوّ من إحتلاله العسكري المخابراتيّ . كأنما هو صوتٌ آتٍ من تاريخ بعيدٍ ، محكوم بوصايات مختلفة ، متلاحقة ؛ مذ عُرف جبل لبنان كمقاطعة عثمانية ، لا يتفق أبناؤه إلا على ما يفرق طوائفهم ؛ جبلٌ مبخوس الحظ بما قدّر له من جغرافيّة محصورة بين برّ شرق ٍ مستبدّ ، وبحرغربٍ غير مبال . عبر فلوات هذا الموقع الجغرافيّ ، الفريد ، إمتدت ولاءات اللبنانيين وفقا لعصبياتهم الضيقة ، فتحالفوا وتخاصموا مع هذه الدولة أو تلك تنكيلاً ببعضهم البعض . فلا غرو ، والحالة كذلك ، أن يفتح آخر الأوصياء ، البعثيّ ، ملفات الساسة اللبنانيين بحكم محالفاتهم السابقة له ، هادفاً إلى التشهير بهم ، إنتقاماً من صحوة الإستقلال الجديدة . على أن فريقا يمثل إحدى أهم مكونات الجسد اللبنانيّ ، ما فتيء اليوم مصراً على التمسك بخصلة الفحشاء هذه ؛ أي التبعية للوصيّ المدحور ، الظاهر قبح تاريخه ، آملاً في الإحتفاظ بمكاسب واهية يشرْعنُها بما يسميه " سلاح المقاومة " .
وإذ تسمو قامة لبنان ، رغم كل شيء ، بأناقة ديمقراطيته و بحرية إعلامه وصحافته ؛ فلا عجب أن يبدو خطراً داهماً ، وشراً مستطيراً ، بالنسبة لجاره المدفون في القمقم البعثيّ ، الراسخ في أوهام زعيمه الأوحد وحزبه القائد وطائفته المختارة وعائلته المقدسة : فكل مقالات الصحف اللبنانية ، المعلقة على الجريمة الجديدة وما سبقها ، هي عبارة عن " فاكسات " إسرائيليةّ ، بعرْف إفتتاحية صحيفة " الثورة " ؛ وهي إحدى ثلاث صحف رسمية سورية ، مؤبدة .. وكل المقالات التي ينشرها معارضون سوريون في الصحافة اللبنانية ، نفسها ، لابد أن تكون ، وفق العرف المتخلف ذاته ، مقبوضة الثمن بشيكات آل الحريري ، من العملات الصعبة ! عملاء في الداخل والخارج ، معاً . النظام الأمنيّ ، الطائفيّ ، الملتحف غطاءً قومياً قصيراً على قامته القميئة ، هو وحده المخول بخلع النعوت على الآخرين ؛ مخوناً هذا وسابغاً العطف على ذاك . بالمقابل ، كم كانت خجولة أصوات المثقفين السوريين لهذه الجناية المسلسلة في " قائمة الموت " ، البعثية ، سواءً بالبيانات أو المقالات . وكم كان بائساً جبن معارضاتنا المختلفة ، حينما لم يجرؤ أحد من وجهائها ، في الداخل أو الخارج ، على الظهور في الجنازة الشعبية المهيبة لجبران تويني ؛ موسعين هكذا من الهوة الفادحة ، التي يحفرها النظام الأمنيّ بين الشعبين الشقيقين . هوة ، يتعمق بها يوماً بيوم عبر جوقة صحافته ، المدجنة ، والإعلام العربيّ ، المأجور ، المستعار لخدمته من لدن رفيقه البعثيّ العراقيّ ، المدحور . هذا ، على الرغم من الصيحة الأكثر جدة وقوة للزعيم اللبناني ، وليد جنبلاط ؛ الداعية إلى إسقاط نظام " الرجل المريض " ، بحسب وصفه لرأس النظام السوريّ : فهل يتلقف معارضونا السوريون إشارة التضامن هذه ، فيبادرون إلى مد الجسور فوق تلك الهوة ، تحدياً لنظام الإجرام البعثيّ ، الوالغ في الدم اللبناني والسوري والضالع في إرهاب شعوب المنطقة كلها ؟
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سنوات النهضة الكردية: مدرسة الشام
-
المصادر الاسطورية لملحمة ياشار کمال ..جبل آ?ري
المزيد.....
-
بعد زيارة وزير خارجية أمريكا.. بنما لن تجدد اتفاق -الحزام وا
...
-
اتهامات بالتحريض وترهيب الشهود.. النيابة الإسرائيلية تفتح تح
...
-
سوريا تحت قيادة الشرع تفتح صفحة جديدة مع الخليج، فهل تنجح بإ
...
-
إسرائيل تصعد عملياتها العسكرية في جنين: نسف 21 منزلا وسقوط خ
...
-
لقطات جوية تكشف حجم الكارثة.. أحياء بأكملها تغرق في كوينزلان
...
-
كيف تتلاعب روسيا بالرأي العام في أفريقيا؟
-
هل نجح نتنياهو بتغيير ملامح الشرق الأوسط؟
-
الأطفال الفلسطينيون المرضى والجرحى يصلون إلى مصر بعد فتح معب
...
-
المتمردون من حركة -إم 23- يدعون حكومة الكونغو الديمقراطية لل
...
-
مصر.. خطاب للسفارة الأمريكية اعتراضا على تصريحات ترامب
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|