|
هل هي بالفعل أدوات تواصل؟
وليد الحلبي
الحوار المتمدن-العدد: 5242 - 2016 / 8 / 2 - 01:47
المحور:
المجتمع المدني
ليس مفيداً ولا ضرورياً في مطلع هذا المقال الحديث عن بدايات تكون المجتمع الإنساني بدءاً من تكوُّن الأسرة وصولاً إلى عصر الفضاء، لكن البديهي في الموضوع أن الأسرة، الخلية الأولى المكونة للمجتمع، هي التي عليها تتقرر نوعية المجتمعات، قوة أو ضعفاً، تماسكاً أو تشتتاً. وقوة الأسرة، وبالتالي قوة المجتمع، تتناسب طرداً مع نوعية العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة، ومن غرائب الأمور أن التطور الحضاري الذي أحرزه الإنسان عبر تاريخه الطويل، بدا كما لو أنه في سباق محموم مع الزمن لإضعاف العلاقات الأُسَرية وتقطيع أواصرها، بحيث وصلت اليوم إلى حد من الهلهلة لا يخفف من وطأتها سوى المظاهر الأخرى من التطور العلمي ومنجزاته. فقبل عصر النهضة الصناعية والكهرباء، كان الترابط الأسري غير محل جدل، فعَمَلُ كافة أفراد الأسرة، سواء في الحقول أو في المراكز الحرفية، كان دافعاً رئيسياً لتوطيد العلاقات بينهم بشكل لا يقارن مع ما نراه هذه الأيام، فكانت الأمسيات تجمع العائلة من كبيرها إلى أصغر حفيد فيها حول مائدة واحدة، يتجاذبون الحديث، ويتذاكرون ما مر بهم في أوقات عملهم، أو ما يبتكرونه من طرق لتطوير إنتاجهم وزيادة دخلهم، واستمر حال الأسر على هذا المنوال إلى أن جاء عصر المذياع (الراديو)- والذي قبله كانت حكايات الجدات في الأمسيات الطويلة تقوم مقامه - ، فانصرف قسم من وقت العائلة للإصغاء إلى ما تذيعه محطاتها المختلفة، ومع ذلك فقد بقي لتواصل الأفراد متسع الوقت لكي يستمر. بعد ظهور التلفاز، أصيبت وحدة الأسرة وتواصلها في مقتل، وأصبح أفرادها يتسمرون أمام شاشته معظم وقت أمسياتهم، ولئن تكلم أحدهم، فلن يجد أذناً صاغية من الآخرين إلا من باب التظاهر بالتبجيل والاحترام، ناهيك عن تحكم التلفاز بالآراء السياسية والاجتماعية للأفراد، مما أوجد التنافر بين من ساد التواؤم بينهم سنين طِوالاً، بحيث وصل أثر مشاهدة التلفاز في تقطيع أواصرالعلاقات الأسرية حداً دفع بإحدى البلدات الأمريكية منذ عدة سنوات – قبل ظهور الشبكة العنكبوتية -، إلى أن تطلب من سكانها تخصيص أسبوعٍ معينٍ لا يشغِّلون فيه أجهزة التلفاز، ثم ليجتمعوا بعد ذلك الأسبوع في قاعة مسرح البلدة لمناقشة النتائج. وبالفعل وفَّى جميع السكان بالوعد، فأقفلوا أجهزتهم لمدة أسبوع كامل، ويوم مناقشة النتيجة، كان الأمر مفاجئاً للحضور، فقد أجمعوا على أن ذلك الأسبوع كان واحداً من أسعد الأوقات التي قضتها الأسرة منذ بدأ البث التلفزيوني، فقد جلس جميع أفرادها يتناقشون في أمورهم العامة والخاصة: الأب تحدث عن خططه لتطوير مصنعه الصغير والعقبات التي تواجه والإنجازات التي حققها، وناقش الأبناءَ في خططهم المستقبلية للدراسة، والأبناء تحدثوا عن الصعوبات التي يلاقونها في مدارسهم من حيث مواد الدراسة ومكامن القوة والضعف فيها، وعلاقتهم بالإدارة والمدرسين، ونبهت قلة منهم إلى وجود البعض من مروجي المخدرات بين الطلاب، وأسرَّت الفتيات إلى أمهاتهن بعلاقاتهن مع أصدقائهن من الإناث والذكور، وباحت الأمهات بما يشتكين من سلوك أبنائهن واقتراحاتهن لتعديل ذلك، وغير هذا الكثير الكثير من الإيجابيات التي حصدها سكان البلدة نتيجة قيامهم بإقفال أجهزة التلفاز لمدة أسبوع واحد فقط، وكما علقت إحدى الأمهات: (شعرنا أن أسرتنا قد وُلِدت من جديد). بطبيعة الحال، لا ينكرنَّ أحد حجم المعلومات التي قدمتها الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، والتي بدت كأي وسيلة أخرى، تٌستخدم بوجهيها السلبي والإيجابي، واليوم لن يفكر عاقل، مهما بلغ من الجرأة، أن يقترح إقفال هذه الشبكة كما أقفل سكان البلدة المذكورة أجهزة التلفاز، لكن الطمع في الربح المادي الصرف، والذي تجاهل – كما هو متوقع منه – أية أضرار جانبية، دفع الطامعين فيه إلى ابتكار مواقع على الإنترنت تغري مميزاتها وفوائدها – التي لاينكرها أحد - إلى اشتراك أكبر عدد من الناس فيها، وكلما ازداد عدد مشتركيها، ازداد تدفق الدعايات التي تنشرها الشركات عبر تلك المواقع، وبالتالي حصد المليارات من الدولارات. ولئن قربت تلك المواقع البعيدَ من الأصدقاء، غير أنها أبعدت القريب من العائلة، فالفردية التي أفرزتها هذه المواقع بابتعاد روادها عن الاختلاط المباشر بالآخر، أفرزت شخصية انعزالية لا تشعر بأنها تَمُتُّ إلى وسطها المحيط بصلة، والطريف هنا أنك قد تراسل صديقاً لك في قارة نائية، بينما لا تعرف اسم جارك، وندر أن تبادلتما التحية، كما يندر أن تجد أفراد أسرة واحدة يجلسون في صالة واحدة دون أن تجد في يد كل واحد منهم هاتفه الجوال الذي يحلق من خلاله عبر آلاف الأميال، بينما لا يتبادل ولو عبارة واحد مع أي من أفراد أسرته، أما أن يصل الإدمان على تلك المواقع إلى الحد الذي يطلب أحد الزوجين الطلاق من الآخر، فهذه قمة مأساة هذا الإدمان. وبمناسبة الحديث عن الإدمان، فقد افتُتِحتْ حتى الآن أربع عيادات على مستوى العالم للعلاج من الإدمان على النت – إحداها في الجزائر – على غرار تلك التي تعالج الإدمان على التدخين والمخدرات والمشروبات الكحولية، حيث يجري تحذيرطالبي العلاج من مخاطر الأمراض النفسية والجسدية والاجتماعية الناجمة عن هذا الإدمان، مع وضع برامج زمنية لفترات التفرغ للنت، يتم التدرج في تقصيرها إلى الحد المعقول الذي يسمح للمُعالَج الشعور بأنه قد أقلع عن إدمانه ذاك. أما عن مستوى العلاقات العامة مع الآخرين، فالخلاف والاختلاف الذي يقع على صفحات تلك المواقع قد يصل أحياناً إلى حد تبادل الشتائم والألفاظ النابية، والتي طبعاً لم توجد تلك الصفحات من أجلها. جميع ما ذكر لا يلغي المميزات الهامة للشبكة العنكبوتية، والتي ليس أولها أنك تعثر على قريب أو صديق بعد افتراقكما بعشرات السنين، أو صديق طفولة باعد الزمن بينكما، وليس آخرها أنك تحصل على أية معلومة خلال ثوانٍ، مروراً بمواصلة التعلم في جامعات تبعد عنك آلاف الأميال، أما قدرتها على تحريك الملايين من الناس للمطالبة بحقوقها المهضومة، وانتزاعها من قبضة مغتصبيها، فهي قدرة تقترب من حد الإعجاز، ويبقى بعد ذلك حسن استخدام هذه الوسائط، التي أحياناً ما تكون وسائط تواصل اجتماعي، وأحياناً أخرى تتحول إلى وسائط تنافر اجتماعي، وهما احتمالان قائمان مع الصديق البعيد، أما مع القريب القريب وداخل الأسرة الواحدة، فالمؤكد الثابت هو أنها ألغت التواصل بين أفرادها، واقتصرت على أن تصبح وسيلة لتحنيط تلك العلاقات الأسرية، وتكريس الانعزالية المقيتة بين أفرادها، لا شك عندي في ذلك. وأخيراً، بما أنني لست خبيراً نفسياً ولا عالماً اجتماعياً، فعلى أولئك المختصين في هذين المجالين توصيف هذه الحالة بأحسن مما فعلت، ووضع حلول لها بأفضل مما أستطيع.
#وليد_الحلبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دردشة في السياسة السعودية
-
حاولت جهدي أن أكون حماراً ... ونجحت
-
الكلمة الطيبة
-
مشاهد منسية، من أيام دمشقية +60
-
حوثيو العراق!، ودواعش اليمن!
-
صدق من قال: الكونغرس الأمريكي أرض إسرائيلية
-
جاري صاحب الكيف: علاقة آثمة مع الخليفة البغدادي
-
عنجهية فرنسية فارغة
-
لا أحد يستطيع معاندة الحكومة،،، يا بُني
-
جاري صاحب الكيف تاجر كراسٍ
-
الحمار الفلسطيني، وجزرة الدولة الوهمية
-
سائق القطار
-
اللاشيء
-
جاري صاحب الكيف تاجر سيارات مستعملة
-
جاري صاحب الكيف يتاجر بالمسؤولين العرب
-
جاري صاحب الكيف، طائفي ماكر
-
جاري صاحب الكيف يكشف سر داعش
-
-روديو أنغولا-
-
جاري صاحب الكيف ينضم إلى مشاة البحرية
-
أبو السبع
المزيد.....
-
في يومهم العالمي.. أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة ألهموا الع
...
-
سويسرا تفكر في فرض قيود على وضع -أس- الذي يتمتع به اللاجئون
...
-
كاميرا العالم ترصد خلوّ مخازن وكالة الأونروا من الإمدادات!
-
اعتقال عضو مشتبه به في حزب الله في ألمانيا
-
السودان.. قوات الدعم السريع تقصف مخيما يأوي نازحين وتتفشى في
...
-
ألمانيا: اعتقال لبناني للاشتباه في انتمائه إلى حزب الله
-
السوداني لأردوغان: العراق لن يقف متفرجا على التداعيات الخطير
...
-
غوتيريش: سوء التغذية تفشى والمجاعة وشيكة وفي الاثناء إنهار ا
...
-
شبكة حقوقية: 196 حالة احتجاز تعسفي بسوريا في شهر
-
هيئة الأسرى: أوضاع مزرية للأسرى الفلسطينيين في معتقل ريمون و
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|