"النهار"
الثلثاء 28 كانون الثاني 2003
يقف المرء حائراً مندهشا امام الاصرار والتسرع في عقد المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي اللبناني وذلك بحجة الاستحقاق الدستوري، مع العلم ان الحرص الدستوري هذا، تقابله خروقات جمة للنظام الداخلي منذ المؤتمر الثامن حتى الآن. كأن وراء الاكمة ما وراءها.
من هذه النقطة يبدأ التساؤل، مع علمنا ان موضوع عقد المؤتمر التاسع مطروح من الناحية الزمنية منذ فترة غير قليلة، ولكن المسألة تتوقف عند ازمة الحزب الشيوعي، واضحت اكثر من مراقبة روزنامة الايام والاشهر، بل هي استحقاق مهم في الحياة الحزبية لدى الشيوعيين، سيما ان هذه المحطة تتوقف عليها النقطة الابرز في مسار الحزب، الا وهي وحدته. ولا يستخفن احد بذلك، لما شكلته مسألة الانقسام في الاحزاب اللبنانية، وفي الحزب الشيوعي نفسه، منذ فترة زمنية، وكأن في ذلك قدراً محتوماً لهذه التجمعات، فمن ذا الذي يقف اليوم وراء تفتيت حصن آخر من حصون المجتمع المدني اللبناني؟
ان حدة الانقسامات بين المتصارعين والتي وصلت في بعض مساراتها الى حد العداء الشخصي قد اعمت بصر اصحاب الشأن والقرار، في الحزب، عن رؤية المخطط الذي فتّت القوى الحية في الشعب اللبناني ويفتتها، وجعل منها طوائف ومذاهب وقبائل وعشائر وافخاذا ومللا، مما يهدد جسم المجتمع اللبناني تهديدا حقيقيا. وهنا نسأل هل وصلت هذه العدوى الى الحزب الشيوعي نفسه؟ ومن هو المساهم في نقلها؟
ان هذا المخطط التفتيتي يصاغ اليوم ويتوسع، بعدما سلك طريق التحجيم، منذ ما قبل سلطة الطائف. واذا عدنا بالزمن الى الوراء، الى مرحلة مؤتمري جنيف ولوزان، حيث اتفق على تركيبة جديدة للنظام الطائفي اللبناني، بثياب وطنية مما افترض حتما ازالة القوى الوطنية غير الطائفية، الا يجوز لنا ربط ذلك بما حل باليمين اللبناني، على اختلاف انواعه، من هزائم في ظل حجج مختلفة؟ حينها وقف اليسار اللبناني متفرجا، وربما حائرا في قراءة المشهد السياسي.
يبدو ان الامور اختلطت وقتها على اليسار في شكل عام وعلى الحزب الشيوعي في شكل خاص، فكان مزيج من الآراء فيها، حيث وقف البعض شامتا ولم يطرح على نفسه السؤال الكبير، كيف سيكون المجتمع بدون يمين؟ ولمن؟
هذا اليسار يساق اليوم الى المشنقة نفسها، التي عُلقت لليمين لكي يصبح المجتمع بدون يسار ولا يمين، وذلك مساهمة في خطة ما لاخلاء الساحة امام القوى الهشة، والفوقية والازلام والمحاسيب، والاطر الفارغة، تمهيدا لاقامة نظام سياسي توتاليتاري، فيما تستمر حفنة من قوى اليسار تتقاذف كرة الاتهامات في غير ملعب، ولغير اهداف.
الا تستدعي هذه النقطة، بالتحديد، وقفة نقدية جريئة لتصحيح المسار ووقف الانهيار، ولاعادة وضع تصور لكيفية ترتيب صفوف المجتمع اللبناني، ولمنع الانحدار الخطير، في الحياة السياسية، عند شعب يمتلك تقاليد عريقة متمثلة بالديموقراطية والحرية، ولادارة صراع حقيقي في البلاد، وفق قواعد ديموقراطية، ولرفع مستوى الصراع في القضايا الجوهرية، خصوصا تلك المتعلقة بالسيادة والاستقلال والخلل البنيوي للانقسامات المجتمعية الخطيرة، الى العديد من القضايا المهمة التي يواجهها الشعب اللبناني في مرحلة مصيرية تعيشها البلاد على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والوطنية كافة.
ووسط كل هذا الازدحام، يراد للحزب الرئيسي في قوى اليسار، ان يعقد مؤتمرا لترتيب المقاعد بدل الاولويات السياسية، ولتنظيم الكراسي، بدل الجلوس على طاولة كانت على مدى عقود عديدة مكانا لصياغة البرنامج العام لفئات مختلفة تمثل الشعب اللبناني، من عمال وفلاحين وطلاب ونساء ومثقفين واطباء ومهندسين ومزارعين، سيما ان المؤتمر كان يشكّل في اذهان الشيوعيين وثقافتهم محطة نضالية مهمة، فكيف يتم عقده اليوم على خلاف وانقسام وفي وقت خطير حيث البلاد والمنطقة بأسرها امام تحديات جسام.
ان ضخامة ما يواجهه الحزب الشيوعي اليوم، لم يعد ممكناً معه، فقأ الدمامل تحت الجلد، خصوصاً بعدما خطا المؤتمر السادس خطوات ايجابية نحو التنوع وتعدد الآراء وحرية التعبير، والتي كانت خطوات ضرورية لتطور الحزب وفاعليته. وكان لذلك أهمية تكمن في ان يحتفظ الحزب بكل الطاقات من اصحاب الرأي. وعليه يمكننا الافتراض ان وجود جسم موحد في كل الجوانب الفكرية والسياسية اصبح امراً بعيد الافتراض. بل ان وجود العديد من الآراء والاجتهادات في كل القضايا المطروحة هو الامر السائد الآن. ولا يجد المرء الا سيلاً من الاسئلة حول تلك القضايا لا جواب لها. باعتبار ان المسعى، منذ المؤتمر السادس، في اطلاق المناخ لتنوع هذه الآراء وتفاعلها، كان هدفه ان تنتج آراء جديدة تشكّل قواسم مشتركة بين الشيوعيين، مع الاستمرار في الحوار الراقي الذي يتناول القضايا الاخرى العالقة. وهذا من دواعي عناصر القوة في مؤسسة تقوم على جملة من التفاعلات. وهذا هو منطق الحياة الحزبية التي اخترناها طوعاً في المؤتمر المذكور أعلاه.
ان الصراع في الحزب الشيوعي، منذ ما قبل المؤتمر الثاني، ما كان ليحسم، حتى آن الاوان لحسم جملة من المواقف السياسية العامة والتنظيمية، في ظل اوضاع سياسية بالغة الاهمية في المنطقة آنذاك. وآلية الصراعات حينها كانت تختلف عنها في مرحلة ما بعد انهيار جدار برلين، والتفاهم على آلية جديدة تحكم علاقة الشيوعيين بعضهم ببعض. لذلك من غير الصحيح ان نعود للحنين لعهود أتت بالويلات على الحركة الشيوعية، الى ان اصابها ما اصابها.
ورغم الانتكاسة المؤسفة في المؤتمر الثامن، حيث انتصر الطبع على التطبّع، فليس مطلوباً من أي مؤتمر أن يتصدى للمهمات المستحيلة والتعجيزية التي تبلور رؤية واحدة حول كل القضايا. وعليه يجب ان يدرك البعض ان العهود القديمة التي كانت تفبرك الوصفات ويجري نسخها وتوزيعها وفق الالتزام الحديدي، لم تعد تنفع اليوم. فرغم حصول ذلك شهدت الحركة الشيوعية العالمية انقسامات خطيرة معروفة للجميع. وأهمها داخل الحزب الشيوعي اللبناني وخلال الحقبة الستالينية وما تلاها، حيث شهد هذا الحزب العديد من الانقسامات. ولم تشفع لوحدته حينها لا المرجعيات، ولا القوالب الجامدة، ولا نسخ فتاوى خبراء الفكر السوفياتي التي تسببت بالعديد من الانقسامات الحادة والمدمرة في الحزب الشيوعي السوري.
من ناحية اخرى لا بد من استرجاع الذاكرة ولو قليلاً، للدلالة على ما قيل، فالموضوعات التي صدرت عن المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي اللبناني عام ،1987 اي بعد سنتين من اطلاق البريسترويكا السوفياتية، تضمنت في مقدمتها: "ان ميزة العصر لا تزال الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية".
لذلك فالافتراض الصحيح هو ان المؤتمر يجب ألا يقوم وفق تقرير معد سلفاً، هو وأجوبته كلها ولا يحتاج الا الى التوقيع والتمرير. بل يجب ان ينطلق المؤتمر من نقاش حقيقي داخله، باعتباره الهيئة الاعلى للحزب، حيث يتم عرض وجهات النظر كافة، وذلك بغاية الوصول الى قواسم مشتركة، خصوصاً تلك المتعلقة بالبرنامج المقبل. ويجب استمرار الجدل والنقاش في القضايا المتبقية. فطرح الاسئلة، كل الاسئلة، حول قضايا الفكر، والسياسة، هو ملك لأصحابها ومن حقهم. وعلى المؤتمر ان يكوّن هذه الفسحة لتفاعل الآراء على اختلافها.
ونقول انه رغم الملابسات العديدة التي يتسم بها الصراع الراهن داخل الحزب الشيوعي اللبناني، والخلط بين الآراء المتباينة في الفكر، وخصوصاً في السياسة، والرواسب القديمة المكتنزة عند كثيرين، والمكتسبة عند البعض الآخر، أضف اليها العوامل الشخصية، وبين هذه وتلك خطوط طول وخطوط عرض، تبقى الأسئلة المحيرة، والتي تصل في حيرتها الى الاعتقاد وكأن المسائل تختبئ بين التفاصيل.
فالبعض ما زال يختبئ في الزوايا المظلمة، وما زالت الامور تقال في الخفاء. فلماذا كل هذا الهمس، والايحاء الدائم بأن ما يكتب ليس اقتناع هذا او ذاك، وان المسألة في امكنة اخرى.
لذلك اسارع الى القول انه مهما كانت طبيعة الاسئلة، التي ستطرح لاحقاً، أرى انه بالامكان الاتفاق على صيغة يستمر الجميع في كنفها، ولو أدى الامر الى مساومة جديدة تنتج عنها، فقط، وحدة الحزب، وبأي ثمن. وهذه المسألة لم يعد امامها الا سبيل واحد هو قرار تاريخي وجريء يقدم عليه المجلس الوطني، باقتراح من المكتب السياسي، بتأجيل المؤتمر التاسع، افساحاً في المجال، امام حوار هادئ غير محكوم بعملية انتخابية ادارية، وان يترك للزمن الآتي فك الرموز المستعصية، وأن نقتدي بقول ماو تسي تونغ: "عندما تواجهنا ازمة يفترض ان لا تقلقنا بل يجب ان تجعلنا نفكر"، فهل هناك مساحة ما لنفكر سوياً بالحلول الناجعة.
فهل هذا الجسم قادر بعد على التحمل؟ الى حينه نردد قول مهدي عامل: "ان تشاؤم العقل محكوم بالأمل، ولعله يكون محكوماً، عند المناضلين بتفاؤل الارادة". فهل يستجيب من لديهم الحل، باتخاذ قرار جريء فيه بعض من التفاني لمصلحة الحزب العليا؟.
عضو المكتب السياسي السابق، عضو المجلس الوطني الحالي للحزب الشيوعي اللبناني