|
فاتحةُ القرآن، والصلاةُ الربانية
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 5233 - 2016 / 7 / 24 - 20:40
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في بلادي الطيبة مصرَ، تحتدم الطائفيةُ هذه الآونة، على غير ما سعتِ الثوراتُ وعلى عكس ما صبونا إليه ونحن ساهرون في الميادين نحلُم بدولة مدنية عادلة لا تعترف إلا بقيمة "الإنسان"، بصرف النظر عن عقيدته، التي هي شأن خاصٌّ جدًّا، بين الإنسان وبين ربّه. الإنسان كقيمة عُليا احترمها اللهُ تعالى فمنحه العقلَ/ جوهرة الترقّي، ومنحه حرية الاختيار. لكن كما يقول الواقع المُرُّ: “تأتي الثوراتُ بما لا يشتهي الثوارُ"! سرق أربابُ الفتن ثورتنا الأولى، فاسترددناها، لكنهم مازالوا ينخرون في مفاصل مصر كالسرطان، يُفرّقون بين أبناء الشعب الواحد، وينهشون بأنيابهم رباطنا الوثيق الذي لن تنفرط عُراه بإذن الله. ولأنني أنتمي لعائلة صوفيّة المنزع؛ أؤمن بوحدة الكون، وواحدية الخالق، ورغبته في تعدد سُبل عبادته عبر طرائقَ وعقائدَ عدّة، تصبو جميعُها إلى الإله الواحد الحق. "ولو شاءَ اللهُ لجعلَكم أمّةً واحدة". لهذا تصالحتُ أنا وعائلتي الكبيرة، وأسرتي الصغيرة، مع كافة المعتقدات، لأن الإيمانَ بالله هو غايتُنا، وليس أسلوب الإيمان به. يشغلنا "النورُ" الذي في نهاية النفق، وليس النُفُق. في حفل تدشيني لإحدى المجلات الجديدة بمصر، دعوتُ اثنين من أحبّ فنانّي مصر إلى قلبي. صديقان عزيزان، أحدهما مطربٌ شجيّ الصوت ذو حنجرة عزّ نظيرُها، والثاني موسيقارٌ مبدع سابقٌ عصرَه قدّم لمصر نُسغَ فنّه ورحيق موسيقاه. وكلاهما مثقف العقل رفيع الخلق. في ختام الحفل، وبعدما شدا المطربُ أغنياته، فاجأ الجمهور بقوله: "أبانا الذي في السماوات، ليتقدسِ اسمُك، ليأتِ ملكوتُك، لتكنْ مشيئتُك كما في السماء كذلك على الأرض. خبزَنا كفافَنا أعطِنا اليوم. واغفرْ لنا ذنوبَنا، كما نغفرُ نحن أيضًا للمذنبين إلينا. ولا تُدخلنا في تجربة، لكن نجِّنا من الشرير. لأن لك الملكَ والقوة والمجدَ إلى الأبد. آمين." هكذا قرأ المطرب المسلم كلمات "الصلاة الربّانية" التي قرأها السيد المسيح عليه السلام فوق الجبل؛ فترسّخت مكانتُه في قلوب جمهوره الذي أدرك مغزى رسالته. فما كان من الموسيقار المسيحيّ إلا أن نهض عن مقعد العزف على الأورج الكهربائي، واختطف الميكروفون من يد صديقه المطرب الواقف فوق خشبة المسرح، ثم بدأ يقرأ فاتحة الكتاب قائلا: "الحمدُ لله ربِّ العالمين، الرحمَن الرحيم، مالكِ يوم الدين، إياكَ نعبدُ وإياك نستعين، اهدِنا الصراطَ المستقيم، صراطَ الذين أنعمتَ عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين. آمين." فاشتعل الجمهورُ تصفيقًا وقد اكتملت رسالة الصديقين الآسرين. اللهُ نورٌ. وكل من يحيا فوق هذا الكوكب من بشر يسعون إلى هذا النور عبر أنفاق عديدة، كلٌّ حسب رؤاه، ووفق معتقده. كان هذا المشهد المؤثر هو ال Master Scene الذي أجّج مشاعر خمسمائة مصري ومصرية من صفوة المجتمع المثقف من حضور هذا الحفل الذي أقيم على شرف إطلاق مجلة وليدة تهتم بقضايا المرأة المصرية والعربية. أما المطرب فهو سمير الإسكندراني، وأما الموسيقار فهو هاني شنودة. خيوطٌ عديدة تجمع بين هذين الفنانين المثقفين. ليس أول تلك الخيوط كونهما زميلي مهنة ورفيقي مشوار جمع بينهما النغمُ العذب والموسيقى الراقية. بل أوّلُ تلك الخيوط وأهمُّها، أنهما مصريان. ولدا، كلاهما، فوق هذه الأرض المباركة، وكبرا، كلاهما، في حضنها الواسع. هي الأمُّ الطيبة، التي لم تفرّق يومًا بين أبنائها، ونحن، بغفلتنا، الذين نُفرّق! ارتويا، كلاهما، من نيلها الخالد، العظيم "حابي". وأكلا، معًا، من ثمرها الحلو، الذي أطعمَ من قبلهما الأنبياءَ والرسل عليهم جميعًا السلام. وآوتهما، كليهما، غصونُ أشجار حنون، آوت من قبلهما أجملَ وأطهرَ نساء الأرض، العذراءَ البتول مريم، وطفلَها، رسولَ السلام، من غلاظة هيرودس وبطشه. أما أقوى تلك الخيوط الوثقَى، التي تجمع بينهما، وأشدها متانةً، فهو كونهما "إنسان". قيمةٌ عليا أن تكون "إنسانا"! فقط حين تدرك مدى ضعفها، تعلو. وإن تماديتَ في الغلواء وتعاليتَ، ضعفتَ وتضاءلتَ وأغضبتَ السماء. الإنسانيةُ هي "العقيدةُ" الأشملُ التي تجمعنا جميعًا، نحن البشر" تحت مِظلّتها. لماذا أسميها عقيدة؟ لأنها تضعنا جميعًا في الخانة الوحيدة التي تليق بنا، ويجب أن نقف داخلها: جميعنا عبادٌ فقراءُ إلى الله. هذه المِظلة (الإنسانية)، هي التي تُنبئنا، نحن البشر، وتُنبِّهنا ألا نسيء الأدبَ ونتجرأ، بمجرد النظر، إلى الخانة العليا التي لا يقف فيها إلا "الله"، وحدَه جلّ شأنُه وعلا وتعالى. حين ندرك أننا: إنسان"، لن نُدينَ لكيلا نُدانَ. لن يتجاوزَ أحدُنا حدودَ الأدب، فيقول المرءُ لأخيه: أنت كافرٌ! لأن كلَّ مَن تراه كافرًا، سوف يراكَ كافرًا بالتبعية. فينتهي بنا الحالُ إلى بحار الدم. المطلق الوحيد في الكون هو: (الله)، الذي سيفصل بين عباده. لهذا، دعونا نلتقي حول حبّ هذا "المطلق" الوحيد ونسكب أمامه قلوبنا، ونُرجيء "النسبيَّ"، حتى يفصلُ فيه الله "المطلق"، يومَ القيامة.
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كل سنة وأنت طيب يا أبا زيد
-
جيشُ مصرَ شعبُ مصرَ
-
البجعة
-
قلادتك
-
الماكينة بتطلع قماش!
-
وكرُ الأشرار
-
المسجد النبوي .... هل غادرَ الإرهابُ من مُتردَّم؟
-
هل احترام حقوق الأقباط عداءٌ للإسلام؟
-
شيءٌ من العبث لن يفسد العالم
-
حقلُ الألغام
-
مصرُ التي نشتاق إليها
-
يومٌ من عمري، وشموعٌ كثيرة بعد لم تُقَد
-
موسم تسريب الامتحانات
-
كيف سمحنا بأن نسقط؟
-
ناضجون ومراهقون
-
عين الطائر ودو كيخوتي
-
البابا شنودة يرفض اعتبار أقباط مصر أقليلة، هل سينال سبابكم م
...
-
كل سنة وأنت طيب أيها الصندوق الطيب
-
جنونٌ أمْ كفر؟ 1/3
-
أمّة تقرأ | ماذا تقرأ هذه الأيام؟
المزيد.....
-
القوى الوطنية والاسلامية في طوباس تعلن غدا الخميس اضرابا شام
...
-
البابا فرنسيس يكتب عن العراق: من المستحيل تخيله بلا مسيحيين
...
-
حركة الجهاد الاسلامي: ندين المجزرة الوحشية التي ارتكبها العد
...
-
البوندستاغ يوافق على طلب المعارضة المسيحية حول تشديد سياسة ا
...
-
تردد قناة طيور الجنة على القمر الصناعي 2024 لضحك الأطفال
-
شولتس يحذر من ائتلاف حكومي بين التحالف المسيحي وحزب -البديل-
...
-
أبو عبيدة: الإفراج عن المحتجزة أربال يهود غدا
-
مكتب نتنياهو يعلن أسماء رهائن سيُطلق سراحهم من غزة الخميس..
...
-
ابو عبيدة: قررت القسام الافراج غدا عن الاسرى اربيل يهود وبير
...
-
المجلس المركزي لليهود في ألمانيا يوجه رسالة تحذير إلى 103 من
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|