أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - شمس الدين ضوالبيت - عتبات للإفلات من عجزنا الديمقراطي















المزيد.....


عتبات للإفلات من عجزنا الديمقراطي


شمس الدين ضوالبيت

الحوار المتمدن-العدد: 5229 - 2016 / 7 / 20 - 22:09
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في السنوات القليلة السابقة لانتفاضات الربيع العربي قاد د. ابراهيم البدوي الاقتصادي السوداني المرموق, الذي عمل خبيراً رفيعاً بالبنك الدولي ود. سمير المقدسي, الذي شغل منصب وزير المالية في لبنان عام 1992 ضمن وزارة رشيد الصلح, ونجل الأديب اللبناني المعروف من جذور فلسطينية أنيس الخوري المقدسي– قاد هذان الاقتصاديان البارزان بحثاً ميدانيا واسعا لتقصي السبب أو الأسباب التي حالت بين العالم العربي والالتحاق بالنادي الديمقراطي الدولي, ولاختبار مدى صحة مقولة فرانسيس فوكوياما إن "الإسلام كان عقبة كبرى أمام عملية الدمقرطة" . فرانسيس فوكوياما هو المفكر السياسي الامريكي من أصل ياباني, الذي يعد من أشهر أساتذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الولايات المتحدة الامريكية.
موضوع البحث الميداني, والسؤال الذي يطرحه حول السبب في العجز الديمقراطي البائن في العالم العربي ليس جديداً كليا, ولم يبدأ بمقولة فوكوياما, وإنما يتردد فيه بقوة صدى السؤال التاريخي الذي ألقى به في وجه العالم الإسلامي عامة, شكيب أرسلان, الملقب بأمير البيان, المولود في بداية الثلث الأخير من القرن التاسع عشر, وهو السؤال حول: "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟". في الواقع يمكن اعتبار البحث الميداني الجديد إحياءاً لسؤال أرسلان القديم, على اعتبار أن نظام الحكم الديمقراطي هو اليوم الدلالة الأبرز على التقدم والنهضة والارتقاء.
جاء البحث والسؤال المطروح بعد أن أن أكدت مجريات الأحداث أصل المشكلة مرة بعد أخرى: فقد حقق أكثر من نصف دول العالم انتقالا ديمقراطياً في موجتين ديمقراطيتين كبيرتين أعقبتا طرح أمير البيان سؤاله الشهير, لتكملا ما كان قد بدأ في الموجة الديمقراطية العالمية الأولى .. فبحسب تصنيف واسع الانتشار لصمويل هنتجتنتون بدأت هذه الموجة الأولى في القرن التاسع عشر وانتهت عام 1922, وتمخضت عن 29 نظاما ديمقراطياً, أبرزها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. تلتها موجة ثانية بدأت بعد الحرب العالمية الثانية وانتهت عام 1962, أستعادت فيها بعض الدول ديمقراطياتها التي فقدتها للانظمة الفاشية مثلما كان الحال في ايطاليا, وانضمت إليها دولاً استقلت حديثا مثل الهند وماليزيا والبرازيل. أما الموجة الثالثة فبدأت عام 1972 واستمرت حتى عام 2010 وكانت الأكبر من حيث العدد, وشملت دولاً عديدة في امريكا الجنوبية وأسيا وافريقيا, وصل بنهايتها عدد الدول التي حققت انتقالا ديمقراطيا إلى 100 دولة. طوال هذه الموجات الديمقراطية المتتالية لم تتمكن أي من الدول العربية - باستثناء لبنان الذي يشكك كثيرون في ديمقراطية نظام الحكم فيه ويقصرونه على حريات صحفية - وغالب الدول الإسلامية, من ركوب أي من هذه الموجات وتأسيس ديمقراطيات راسخة, والانضمام إلى هذا الركب الدولي الحديث.
كانت ملاحظات الباحثين أن النظم الاستبدادية العربية مكثت في الحكم فترات أطول من الفترة المألوفة للنظم المماثلة في بقية العالم, وازدادت وتيرة التخلف الديمقراطي في العالم العربي في الفترة التي تلت سقوط الأتحاد السوفيتي, حينما تبنت دولاً عديدة أنظمة ديمقراطية, واتسعت بالتالي الفجوة بين االعالم والبلدان العربية في مؤشرات نظام الحكم, وصارت هناك هوة هائلة بين المنطقة العربية والمناطق الأخرى من حيث الحريات والتمثيل والمشاركة السياسية. استنتج الباحثون تبعاً لذلك أن هذه "جميعاً توحي بوجود شئ ما فريد في عملية الدمقرطة في الوطن العربي" . لذلك فإن بحث البدوي والمقدسي هو في الحقيقة استئناف لمقولة أرسلان أو سؤاله ذاته, ولكن بعد نحو من مائة عام من صدور كتابه.
إذا كان ثمة جديد في سؤال الباحثين مقارنة بأرسلان, فهو أنه يتخذ في البحث عن الإجابة منهجا يقوم على الاستبيان الاستقصائي لشرائح من المواطنين العرب, ممثلة لجموعهم, ويستخدم نماذج حديثة ومبتكرة في التحليل الإحصائي الاجتماعي, في مقابل التحليل النظري الانطباعي لارسلان, القائم على ما شاهده في أسفاره الكثيرة. إضافة إلى أن البحث يستقصي مجالا محدداً, هو الديمقراطية, في مقابل اتساع المجال الذي يغطيه سؤال التخلف والتقدم لأرسلان.
أنتهى البحث الميداني للبدوي والمقدسي حول أسباب العجز الديمقراطي إلى تفنيد مقولة فوكوياما بمسئولية "الإسلام" عن التخلف الذي أعاق مسيرة العالم العربي في اللحاق بموجات الديمقراطية المتتالية. يقول الباحثان في التقرير الذي تضمن نتائج البحث وصدر في الكتاب المذكور في الهامش الأول: إن التحليلات التجريبية كشفت أن "التوجهات والمعتقدات الإسلامية تمتلك في أقصى تقدير تأثيرأ محدوداً جداً في الآراء المتعلقة بالديمقراطية" (ص 65). ربما يلفت النظر و يثير الإهتمام هنا, أن هذه النتيجة هي على نحو ما ما توصل إليه أيضاً شكيب أرسلان في تحليله النظري المدفوع بتوجهاته الدينية العميقة, حين يقول: "أما الإسلام فلا جدال في كونه سبب نهضة العرب وفتوحاتهم المدهشة ... لكنه لم يكن سبب انحطاطهم فيما بعد كما يزعم المفترون الذين لا غرض لهم سوى نشر الثقافة الاوربية بين المسلمين دون ثقافة الإسلام" !.
أول ما يواجه الدارس هنا, هو هذا التعميم المخل بالمعني لما تقصده كل واحدة من المقولات الثلاث سواء بـ"الإسلام", كما وردت عند فوكوياما وشكيب أرسلان, أو بـ"التوجهات والمعتقدات الإسلامية" كما وردت في نتيجة البحث الميداني .. فمنذ انتهاء الخلافة الراشدة والفتنة الكبرى, وظهور الخوارج والشيعة, ووصول الأمويين ومن بعدهم العباسسيين بقوة السلاح والغلبة إلى السلطة, وصولاً إلى ما يعرف بالإسلام السياسي والجهادي الحالي, لم يعد من الممكن, عند البحث والدراسة, الحديث عن الإسلام معمماً ومعرفاً بهذه الصورة. لأن المذاهب التي ترتبط بكل واحدة من هذه الفرق والحقب تختلف عن بعضها البعض اختلافاً بيناً, وتختلف مجتمعة عن مذاهب أخرى مثل المذهب الصوفي أو المعتزلي الذي لم تتبق منه إلا بعض الآثار المتفرقة. فما هو الإسلام المقصود في هذه المقولات الثلاث؟؟ ما أردت قوله هو إن هناك فروقاً في الأنظمة المعرفية بين هذه المذاهب لا تحيط بها أسئلة إحصائية معممة عن "الإسلام". دلالة ذلك أن شكيب أرسلان نفسه يقر بأن هناك إسلام "لا جدال كان سبب نهضة العرب", وهو حقاً أمر لا جدال فيه بشهادة التاريخ .. ولكنه لا يقول لماذا تخلى عن العرب الإسلام .. أو تخلوا هم عنه .. وكيف .. في مرحلة انحطاطهم الحالية. على كل حال سنعود لهذه المسالة مرة أخرى في سياق هذه الأطروحة.
يقدم الباحثان البدوي والمقدسي في تقريرهما حول نتائج البحث الميداني وجود النفط والصراع مع اسرائيل بوصفهما العاملين المسئولين عن العجز الديمقراطي في المنطة العربية, ومن بينها السودان الذي كان مشمولاً بالدراسة, والذي جمعته مع هذه المنطقة عملية "المشرقة" التدريجية لمعظم أنحائه, والتي بدأت مع غزو الاتراك المصريين في 1821. النفط لأنه عندما يكون لديك اقتصاد نفطي (أو ريعي أو كنت مستفيدأ من تدفقات النفط بشكل ما)؛ فأنت لا تعود بحاجة لأن يدفع لك المواطنون ضرائب, وبالتالي لا يستطيعون مساءلتك عن الطريقة التي تصرفت بها في أموالهم. في أوربا كانت أموال الضرائب هي المدخل إلى الديمقراطية, لأن الناس بوسعهم الامتناع عن دفع الضرائب التي تحتاجها الدولة, إذا لم يكن لهم رأي في الوجهة التي تذهب لها ضرائبهم. كذلك تستطيع إذا كان لديك اقتصاد نفطي أن تشتري دعم الناس ببساطة, سواء بالإعانات المالية أو بتوفير السلع الاجتماعية, كما يمكنك شراء أدوات القمع لقهرهم والسيطرة عليهم . أما الصراع مع اسرائيل فلأنه يوفر ذريعة جيدة للقادة المستبدين كي يتجنبوا المواجهة الفعلية للمشاكل القائمة بسبب غياب الديمقراطية, بحجة أن"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" . هذا ما توصل إليه البحث الميداني من أسباب حول ذلك الشئ "الفريد في عملية الدمقرطة في الوطن العربي" الذي حال دون المنطقة واللحاق بالعالم المتمدين.
لكن لم تمض إلا أشهر قليلة على إكمال البحث الميداني, حتى وقبل أن يخرج تقريره النهائي في الكتاب المذكور عن مركز دراسات الوحدة العربية (2011), إلا وكانت أنتفاضات “الربيع العربي” قد قضت على النتائج التي توصل إليها: من جانب لم يمنع تدفق أموال النفط وعائداته العابرة للحدود من الدول النفطية الغنية المجاورة كالسعودية والكويت, ولا الآلة الأمنية الشرسة التي كدسها الحكام عبر العقود – لم يمنع كل ذلك الشعوب التونسية والمصرية واليمنية والسورية والبحرينية من الخروج إلى الشواراع وميادين التحرير بمئات الألوف, مطالبة برحيل الأنظمة الاستبدادية. بالمثل, لم يوفر الصراع مع اسرائيل وصلفها المتزايد وصولانها وجولانها دون كابح أو رادع في المنطقة – مظلة واقية, حتى لما عرف بـ"دول الممانعة" مثل سوريا, تتجنب بها الانتفاضات الشعبية الكاسحة.
بعبارة أخرى: كانت مقولة المشروع, إن الانتقال الديمقراطي لكي يحدث يجب أن تثور جماهير البلدان العربية على حكامها الطغاة, وتسقط أنظمتهم المستبدة, ولكن ذلك لن يحدث لأن دكتاتوريات المنطقة توافر لها عاملان, أولهما أموال النفط أو الأموال العابرة للحدود من الدول النفطية, وثانيهما الصراع مع اسرائيل, استغلتهما لعقود طويلة لتأبيد أنظمة حكمها, وبالتالي فهذان العاملان هما اللذان يفسران تخلف المنطقة عن اللحاق بقطار الانتقال الديمقراطي العالمي .. الذي حدث هو على وجه التحديد ما توصل البحث إلى أنه لن يحدث: ثارت الجماهير في عدد من أكبر البلدان العربية وتمكنت في بعضها من أسقاط طغاة عتاة, وزلزت أركان الحكم في أخرى ... أما ما كان يجب أن يحدث في تلك الحالة, وفقاً لفرضية البحث, فلم يحدث: برغم رحيل بعض الطغاة, فما حل محلهم لم تكن الديمقراطية, وفقاً لما كان متوقعاً أعلاه. في الواقع أنحدرت مجتمعات الربيع العربي "باستثناء الحالة التونسية الهشة", مسرعة في كل اتجاه .. ما عدا ذلك الذي يؤدي إلى الانتقال الديمقراطي.
في الحقيقة, كانت انتفاضات الربيع العربي تكرارا يكاد يكون حرفيا لما حدث لدينا هنا في السودان في اكتوبر 1964 وابريل 1985, ففي كل واحد من هذين الحدثين خرج الشعب السوداني إلى الشوارع والميادين بمئات الألوف .. وتمكن في النهاية عبر مزيج ثوري عبقري شمل التظاهرات الجماهيرية والإضراب السياسي والعصيان المدني متوجاً بانحياز الجيش إلى المتظاهرين - تمكن من اسقاط النظام العسكري الحاكم في كلتا الحالتين. لكن وبرغم أن الحراك الجماهيري أحدث تغييرات جذرية في نمط تفكير الشعوب في السودان وفي المنطقة العربية, وبرغم رفعه من منسوب تفاعلها مع قضايا بلدانها, إلا أن الإنتقال الذي تمخض عن هذه الحراكات كان انتقالاً سياسياً محدوداً, عبرت عنه ديمقراطيات إجرائية شكلية فاقدة للمضون الديمقراطي الحقيقي, في أحسن الفروض.
يقف شاهداً على غياب المضمون الديمقراطي للانتقال الذي أعقب الانتفاضاتين في السودان, وفي فكر النخبة التي قادتهما أن حل الحزب الشيوعي السوداني وطرد ممثليه من الجمعية التأسيسية تم تحت سمع وبصر وربما بإشراف اسماعيل الأزهري مؤلف كتاب "الطريق إلى البرلمان" ومحمد أحمد محجوب رئيس الوزراء الأسبق الذي قال في كتابه "الديمقراطية في الميزان" إن علاج مشاكل الديمقراطية لا يكون إلا بالمزيد من الديمقراطية . أيضاً وكما كان الحال مع انتفاضات الربيع العربي تحولت إنتفاضة أبريل 85 في السودان لتكون البوابة الرئيسية التي وصلت منها السلفية الدينية المتشددة, ممثلة في الجبهة الإسلامية القومية, إلى الحكم, وتمكنت من فرض دكتاتورية شمولية دينية لأكثر من ربع قرن من الزمان. في الحالتين السودانية والعربية تحققت على نحو ما النبؤة الماكرة للجنرال الاسرائيلي إيال آيزنبرغ, القائل: "إن ما اعتبر بمثابة ربيع الشعوب العربية يمكن أن يتحول إلى شتاء إسلامي راديكالي" .
أعادت انتفاضات الربيع العربي, محنة العجز الديمقراطي في مجتمعاتنا إلى الواجهة بحدة ووضوح كما لم تكن من قبل ... ومع انهيار فرضيتي البحث المذكور انضم النفط والصراع مع اسرائيل إلى قائمة طويلة من التفسيرات المجهضة التي قدمها الماركسيون والقوميون, أوالإسلاميون, بالإضافة إلى التفسيرات العنصرية لبعض المستشرقين, والتي لم تستطع جميعها تفسير هذا العجز, بدءاً بأنه نتيجة اللآثار التاريخية للاستعمار مروراً بالتخلي عن الشريعة (وشوراها), عطفاً على غياب التنمية أو تلك المدينة الحاضنة للبرجوازية عند الماركسيين, وحتى غياب الوحدة العربية أو التدخلات الدولية سلباً كانت أو إيجاباً.
الملاحظ على هذه التفسيرات – وهو ما قد يفسر قصورها - أنها ركزت على الدولة, وعلى السبب في عدم قيام أنظمة حكم ديمقراطية على مستوى الدولة, بينما المنطقي هو البحث عن السبب في غياب حركات اجتماعية ديمقراطية على المستوى الجماهيري .. حتى لو لم تنجح في إرساء أنظمة حكم ديمقراطية على مستوى الدولة.. هذا هو الأمر الأكثر أهمية, لأن الحركات الاجتماعية الديمقراطية هي التي تشكل القاعدة التي تقوم عليها المستويات الأخرى. السائد في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي الأوسع - بما في ذلك السودان طبعاً - هو غياب حركات اجتماعية ديمقراطية قاعدية راسخة. . صحيح أن كثير من الحركات الاجتماعية ومن بينها الحركات الجهوية والثقافية تستبطن مكوناً ديمقراطياً كامناً مصدره التطلع إلى المشاركة في إدارة الشأن العام, وهو مكون ديمقراطي بأعتبار أن المشاركة هي دافع ديمقراطي في جوهرها... غير أن هذه الحركات لم تطور ثقافة ديمقراطية واعية ومتطورة, لا في الفكر ولا في الممارسة. لذلك فإن ما يتطلب التفسير إنما هو الأسباب التي تكمن خلف ضعف أو غياب ثقافة الديمقراطية في حركاتنا ومجتعاتنا العربية والإسلامية بالدرجة الأولى, قبل الانتقال إلى مستوى الدولة..
من حسن الطالع أن هناك وعي متزايد الآن بأهمية هذه الجوانب والأبعاد, وذلك بعد أن تكفل الفكر الماركسي لعقود طويلة بحجبها والتقليل من شأنها بنعوت "اقتصادوية" تبسيطية مثل "البنية الفوقية التابعة لعلاقات الانتاج", و"الثقافوية", وغيرها من مقولات المفكرين الماركسيين.
من أمثلة هذه المشاريع التي شقت الطريق في هذا المجال مشروع بحثي قاده فوكوياما أستاذ العلوم السياسية المذكور, استمر لعدة سنوات, وأنشغل فيه بقضية أساسية أعطاها اسما طريفاً هو: "الوصول إلى الدنمارك". المشكلة التي يعالجها المشروع هي: كيف يمكن أن تتحول مجتمعات منقسمة في بلدان مثل الصومال وافغانستان والعراق, وطبعاً السودان إلى مكان سحري رمزي يُدعى "الدنمارك", يتمتع بمؤسسات ديمقراطية سليمة وفاعلة, واقتصاديات مزدهرة ومستويات فساد منخفضة ... الخ . ولأن الموضوع مرتبط بحكم القانون فقد كان السؤال الرئيسي الذي بدأ به المشروع هو: من أين جاء حكم القانون؟ .. وكيف بدأ؟ التعريف الذي اعتمده المشروع للقانون هو أنه مجموعة من القواعد حصلت على إجماع أخلاقي لتنظيم العدالة, بما في ذلك تقييد صلاحيات السلطة التنفيذية, في مجتمع ما. هذا التعريف ينطبق على الديمقراطية أيضاً باعتبار أن حكم القانون هو أحد مقوماتها الأساسية, ولأنها أيضاً مجموعة من القيم والمبادي والقواعد والقوانين حصلت على أجماع أخلاقي في المجتمعات الديمقراطية.
جاءت نتائج هذا المشروع في إجابتين مفتاحيتين مرتبطتين ببعضهما البعض, الأولى, هي أن حكم القانون بلا شك بدأ من الدين ... فهناك تعاليم رئيسة في المسيحية والإسلام والهندوسية ... الخ, اشتملت نصوصاً قانونية, لم يضعها الحاكم السياسي, بل لديها قوام ووجود واعتبار واتباع وحراس خارج الدولة, على مستوى المجتمع. أما النتيجة المفتاحية الثانية فهي أن "القوانين لا بد أن تجاري قيمنا الثقافية" لتكون فاعلة. هذه الأخيرة وبرغم الجدة التي تكتنفها بخلفية السياق التي ترد فيه هنا, إلا أنها أمر بديهي. لأنه إذا كان هناك تناقض بين مضمون القانون وتقاليد الناس الثقافية, فلن يكون هناك حكم قانون, لأنه من الطبيعي أن "لا أحد سوف يتبع مجموعة أجنبية من المعايير تملي عليه كيف يتصرف". ولا جدال, في تقديري, أن الديمقراطية - بوصفها قواعد وقوانين - غريبة على تقاليدنا الثقافية السياسية بحكم منشئها الخارجي.
في المقابل تعد منظومة الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يتمتع فيها جميع أعضاء المجتمع بحقوق متساوية وفعالة للمشاركة في صنع القرار وحكم أنفسهم بعدالة على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية – تُعد على نحو متزايد اليوم تاج المسيرة الإنسانية في تخلقها الصاعد على عتبات التقدم والرقي. لذلك فإن عجزنا الديمقراطي المستعصي, وبناءاً على ما سبق, هو في الحقيقة مؤشر على أن المشكلة تكمن في ثقافتنا السياسية, وفكرنا السياسي, وأن مجتعاتنا لم ينعقد لها إجماع أخلاقي ثقافي يرقى لمطلوبات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
من الطبيعي ان يكون السؤال التالي هو كيف؟ ولماذا؟ مما يتناول قوام قيمنا الثقافية وإجماعاتنا الأخلاقية. وهذا يعيدنا مرة أخرى لسؤال الدين, وكنت قد ذكرت أنه ليس من المنطق في شئ أن نتحدث عن "الإسلام" معرفاً, لأن ما لدينا هو مذاهب إسلامية عديدة, وهناك اتفاق بين الدارسين أن المذهب السائد على مستوى العالم السني الذي ينتمي إليه السودان هو المذهب السلفي بظلال متعددة. ولن يتطلب الأمر إلا قليلاً من الجهد لنجد أن المقولات والقواعد التي تشكل قوام الفكر السياسي في مجتمعات المذهب السلفي, لا تحتضن قيم ومبادئ الديمقراطية, فحسب, بل تناقضها وتعارضها وتنفيها. دونك من هذه المقولات والقواعد على سبيل المثال لا الحصر: طاعة أولي الأمر, والشورى غير الملزمة, وحاكمية الشريعة, وفقه أهل الذمة وأوضاعهم, وقوامة الرجال على النساء ... الخ. هذه القواعد عميقة ومترسخة في الفكر السياسي للمجتمعات العربية والإسلامية. ويتوجب لذلك أن تكون هي موضوع الجهد الموجه للإفلات من عجزنا الديمقراطي.
وستكون البداية هي الوعي بأهمية الجوانب والأبعاد الثقافية والدينية لقضايا الديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان, وبقابلية الأنظمة الثقافية للتطور والإرتقاء بوصفها العتبة الأولى في مسيرة التقدم نحو بناء إجماع أخلاقي يفتح الطريق إلى الديمقراطية في مجتمعاتنا, وستكون العتبة التالية أو المصاحبة هي العكوف على إنجاز إصلاحات ثقافية ثورية تكون نتيجتها منظومة ثقافية تقدمية بديلة تستأصل أطر الإستبداد والتخلف والانحطاط, من جذورها الميتة.



#شمس_الدين_ضوالبيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
- غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في ...
- بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
- بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
- قائد الثورة الاسلامية آية الله‌خامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع ...
- اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع ...
- إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش ...
- مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
- سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - شمس الدين ضوالبيت - عتبات للإفلات من عجزنا الديمقراطي