أ.د. داخل حسن جريو عضو المجمع العلمي العراقي
الحوار المتمدن-العدد: 5227 - 2016 / 7 / 18 - 15:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يلاحظ كل من تابع احداث الإنقلاب العسكري التركي في الخامس عشر من شهر تموز الجاري, الفزع الذي إنتاب بعض الحكام العرب وبخاصة حكام قطر والسعودية وبقية دول مجلس التعاون الخليجي, حيث لم يدر في خلد أيا منهم أن حكومة أردغان يمكن أن تهزها ريح , ناهيك إنقلاب عسكري يقوده قادة عسكريون من مختلف الصنوف , في الوقت الذي تصور فيه هؤلاء الحكام أن مالهم السحت الذي وظفوه لزعزعة الأمن القومي العربي بدعم من السلطان العثماني الجديد أوردغان سيمكنهم من لعب دور قوى إقليمية فاعلة في المشهد السياسي العربي.
وبرغم فشل هذا إلإنقلاب لأسباب شتى لسنا بصدد بحثها هنا , إلاّ أنه قد أحدث شرخا في منظومة الحكم التركي , أبرزها فقدان الثقة بين حكومة أردغان والقادة العسكريين وتربص كل منهم بالآخر لتصفية الحسابات بأقرب فرصة ممكنة , وجميعها لا تصب في مصلحة تركيا , فضلا عن تسببه بإضعاف الدور التركي إقليميا ودوليا وربما الإنكفاء نحو الداخل التركي لتعزيز أمن النظام ودرء المخاطر التي ستبقى تهدده حيث يتوقع أن يبقى الهاجس الأمني شغل النظام الشاغل .
يتوقع أن يقود تسلط أوردغان في الداخل التركي المتمثل بإقصاء بعض كبار قادة حزبه ممن لا يتفقون مع توجهاته وتسلطه ورغبته بالإنفراد بالسلطة , وإقصائه لنواب حزب الشعوب الديمقراطية المناصر للكرد ورفع الحصانة عنهم تمهيدا لمحاكمتهم بتهم مساندة الإرهاب , وتدخله السافر بالقضاء بإقصائه مئات القضاة في مختلف أنحاء البلاد كان آخرها إبعاد نحو ثلاثة آلاف قاض كما تناقلت ذلك مؤخرا وسائل الإعلام بدعوى تعاطفهم مع الإنقلابيين , فضلا عن توقيف بضعة آلاف من العسكرين بضمنهم قادة عسكريين كبار ,ومحاولته أسلمة المجتمع التركي من جهة ومحاولة إدماجه أوربيا من جهة أخرى , إلى تملل داخل الشعب التركي وقواته المسلحة قد تفضي إلى نتائج لا تحمد عقباها , وقد يجعل من تركيا الساحة الرئيسة للإرهاب , وهذا ما تخشاه دول العالم وبخاصة الدول الأوربية التي تحرص على مداراة تركيا ومساعدتها على التعقل وإنتهاج سياسة حكيمة تضمن أمنها وأمن الدول الأخرى.
وحيث أن عالم اليوم عالم مصالح , لذا ينبغي أن تراعي الدول العربية مصالح شعوبها في المقام الأول والنأي بنفسها عن مشاكل الدول الأخرى , وأن تكون عونا لبعضها البعض الآخر لضمان أمنها الوطني. ولو راجعنا سجل العلاقات التركية العربية سابقا ولاحقا حتى يومنا هذا، لوجدنا أن تركيا أوردغان ما زالت تقوم بإنشاء السدود لحجز مياه دجلة والفرات شريانيي حياة العراق دون أية مراعاة لحقوق العراق المائية التي كفلتها القوانين الدولية لضمان حصص مائية عادلة لدول الأنهار المشتركة، وبسبب شحة مياه حوضي دجلة والفرات تحولت الكثير من أراضي العراق إلى أراض قاحلة، بينما تسعى تركيا العدالة والتنمية إلى المتاجرة بهذه المياه ومقايضتها بالنفط، ومحاولة تصديرها إلى إسرائيل وبعض دول الخليج عبر مشروع أنابيب أطلق عليه مشروع أنابيب السلام. ولا عجب أن نرى أن تركيا كانت الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط وربما عموم قارة آسيا والعالم الإسلامي التي إعترفت بإسرائيل منذ قيامها وإستمرت بعلاقاتها حتى يومنا هذا حيث ترتبط معها بعلاقات تجارية وعسكرية واسعة جدا تماشيا مع رغبة الدول الغربية بعامة والولايات المتحدة الأمريكية بخاصة .
كما لا زالت عيون تركيا أوردغان تتطلع إلى مدينة الموصل التي يعتقد حكام تركيا أن الإنكليز قد استقطعوها من الأراضي التركية أثناء فترة انتدابهم على العراق في مطلع القرن العشرين، متجاهلين الاستفتاء الذي تم تحت أشراف دولي، الذي أكد بموجبه سكان الموصل عراقيتهم وانتمائهم للعراق، ولا ينكر وقوف الإنكليز حينذاك إلى جانب العراق من منطلق الحفاظ على مصالحهم حيث كانت الموصل تضم حقولا نفطية مهمة في منطقة عين زالة في محافظة الموصل. ولم تقتصر أطماع تركيا على الموصل فحسب بل تذهب أبعد من ذلك إلى محافظة كركوك الغنية بالنفط محاولة توظيف بعض مكونات سكانها لهذا الغرض في الوقت المناسب.
وتتخذ تركيا ذرائع شتى للتدخل بشؤون العراق، منها استضافة نائب رئيس جمهورية العراق طارق الهاشمي الهارب من العدالة، المتهم بضلوعه في قضايا إرهابية، حيث صدرت بحقه مذكرات إلقاء قبض وحجز أمواله المنقولة وغير المنقولة، ألا يفترض بحزب العدالة المساعدة بتشجيعه للمثول أمام العدالة لإثبات براءته من عدمها من منطلق أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته، بدلا من تهريبه من وجه العدالة، هذا إذا افترضنا حسن النوايا التركية برغم تدخلها غير المقبول في شؤون الدول الأخرى، ولم تكتفي تركيا بكل هذه التدخلات بل ذهبت أبعد من ذلك حيث أنها تبيح لنفسها استباحة أراضي العراق متى وكيف تشاء بدعاوى مطاردة عناصر حزب العمال الكردستاني. وتخترق العراق ارضا وسماءا متى شاءت , بينما أقامت الدنيا ولم تقعدها عندما زعمت أن طائرة روسية إخترقت حدودها لبضعة دقائق , حيث أسقطتها بدعوى عدم جواز المس بحرمة أراضيها , لتتلقى بعدها ضربة قاضية روسية أفقدتها صوابها , ولم تفق منها إلاّ بعد أن إضطر أوردغان صاغرا معتذرا للدب الروسي وطلب الصفح من الخطأ الفادح الذي إرتكبه , وكذا الحال مع إسرائيل حيث أدار ظهره للفلسطينيين والتصالح مع حكومة نتياهو, بينما يستمر حتى الآن بمعادة مصر بصرف النظر عن توجهها السياسي , لمجرد رفض الشعب المصري حكم الأخوان المسلمين, وربما ستجبره أوضاعه الحالية للتصالح مع النظام المصري في وقت ليس بالبعيد.
ولم تكتف حكومة أوردغان بتدخلها السافر بشؤون العراق بل أنشأت قاعدة عسكرية في الموصل بدعوى تدريب مقاتلين لتحرير الموصل دون طلب من الحكومة العراقية لا بل وخلافا لرغبتها , وإمتناعها عن الإنسحاب برغم مطالبة مجلس الأمن بذلك , وهو أمر يؤكد نواياها التوسعية بضم محافظة الموصل إليها بعد أن تحررها القوات العراقية من براثن داعش, دون أن تحرك الإدارة الأمريكية ساكنا برغم إرتباطها بإتفاقية أمنية مع العراق لضمان أمنه وسيادته في أرضه وسمائه ومياه من أي عدوان داخلي.
كما أنه ليس بعيدا عن الأذهان احتلال تركيا لميناء الإسكندرونة السوري بالتواطؤ مع المستعمرين الفرنسيين المنتدبين على سورية وذلك قبيل إعلان استقلال سورية في عقد الأربعينات من القرن المنصرم.وها هي أردغان تركيا تستكمل عدوان الأمس بعدوان أقسى وأشد بالقضاء على الدولة السورية بأكملها وتشريد شعبها, وتمن عليهم بمنح بعض اللاجئين الجنسية التركية بعد أن أذاقتهم كل صنوف الذل والهوان.
فإذا كان أردوغان حقا من دعاة الحرية والحق والديمقراطية ونصيرا للعرب والشعوب المظلومة كما يشاع في بعض وسائل الإعلام العربية وبخاصة وسائل الإعلام الخليجية من منطلق قناعاته الإسلامية، أليس الأجدر به إعادة حقوق الآخرين المغتصبة إلى أهلها، والكف عن التدخل في شؤون الدول الأخرى، وكلنا نتذكر كيف أن تركيا في عقد التسعينات من القرن المنصرم أقامت الدنيا ولم تقعدها بطلب إخراج عبد الله كول زعيم حزب العمال الكردستاني التركي من الأراضي السورية لتقوم بعدها بخطفه في أحدى الدول الأفريقية وسجنه في تركيا إلى يومنا هذا بعد أن أصدرت حكم الإعدام بحقه والذي لم تنفذه منعا للاحتجاجات الأوربية، بينما تقوم الآن بإيواء عناصر مناهضة لحكومات بلدانها على الأراضي التركية ودعمها بكل الوسائل بصرف النظر عن وجهة النظر بمشروعيتها، فالأمر سيان في الحالتين.
ومن مفارقات السياسة التركية أنها تحرص أشد الحرص على مناصرة أقلياتها التركية في البلدان الأخرى إلى حد تقسيم بعض تلك البلدان والمخاطرة بشن الحروب من أجلها، بينما تتنكر لحقوق الأقليات الأخرى من الأكراد والعرب وغيرهم من مكونات سكان تركيا لدرجة عدم الاعتراف بوجودهم كمكونات ذات ثقافات ولغات خاصة بهم، إذ تحرمهم حتى التعليم بلغاتهم القومية, كما حاصل الآن في جمهورية قبرص بإقامتها جمهورية قبرص التركية التي لم يعترف بها أحد سوى تركيا.
وتركيا التي تستعرض عضلات القوة أمام العرب اليوم، عجزت عن انتزاع اعتذار بسيط من إسرائيل عن اغتيالها مواطنين أتراك بهجومها على سفينة الحرية التي كانت تنقل بعض المساعدات الإنسانية لسكان غزة المحاصرين. ولم تجرؤ ولن تجرؤ على قطع علاقاتها الوطيدة مع إسرائيل، لما يترتب على ذلك من أثار وخيمة على علاقاتها بدول حلف الناتو الذي تمتلك فيه أكبر جيوش الحلف وعلاقاتها الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، ناهيك عن المؤسسة العسكرية التركية ذاتها التي ترتبط بعلاقات تعاون وطيدة مع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. وتركيا كما هو معروف كانت من أولى الدول التي اعترفت بإسرائيل وأقامت معها علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية واسعة.وقد أعادت تركيا الآن علاقاتها مع إسرائيل بعد أن تعهدت الأخير بتقديم تعويضات لذوي ضحايا السفينة الأتراك التي أغرقتها إسرائيل.
ويتوهم من يعتقد أن بإمكان أحزاب الإسلام السياسي في البلدان العربية تطبيق نموذج حزب التنمية والعدالة التركي، وذلك لسبب بسيط يتمثل باختلاف البنية السياسية في تركيا عن ما سواها في البلدان العربية، كونها محكومة بإرث مصطفى كمال أتاتورك مؤسس جمهورية تركيا العلمانية الحديثة، حيث يقوم هذا الإرث على ثقافة علمانية قوية تفصل الدين عن الدولة بهدف مجاراة الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في بلدان أوربا الغربية سعيا منها لقبولها ضمن منظومة الدول الأوربية. وترتكز هذه السياسة على دعامتين أساسيتين قويتين هما: المؤسسة العسكرية ذات الصلاحيات الواسعة، والمؤسسة القضائية الدستورية التي تمتلك صلاحيات واسعة بضمنها حل الحكومات وإلغاء الأحزاب إذا ما ارتأت خروجها عن نهج الدولة العلماني. وقد عطلت هاتان المؤسستان أكثر من مرة الحياة السياسية سواء عن طريق الانقلابات العسكرية وترتيب الأمور باتجاه إعادتها نحو المسار الذي يرضاه العسكر، أو بإلغاء بعض الأحزاب وحرمانها من العمل السياسي، كما أن رغبة تركيا الشديدة بتقبل البلدان الأوربية لها المشروط بانتهاج الديمقراطية والعلمانية حالت وتحول دون تمسك العسكر بالسلطة واضطرارهم لتسليمها إلى حكومات مدنية منتخبة.
ولا عجب أن نرى المجتمع التركي الحالي تمارس فيه الكثير من القضايا المخالفة لمبادئ الدين الإسلامي منها على سبيل المثال قضايا الزواج والميراث والكثير من الأمور التي تنظمها القوانين المدنية، ومن يعتقد خلاف ذلك، ما عليه إلاّ مشاهدة المسلسلات التركية التي تعرضها القنوات التلفازية في البلدان العربية ليتعرف على بعض جوانب هذه الحياة التي تبدو أحيانا حياة ماجنة أوروبية مشوهة. وهذه أمور غير متحققة حاليا في أي من اليدان العربية، ولا يبدو في المنظور القريب إمكانية تحقيقها، كما أن التجارب تؤكد فشل التجارب التي تنسخ من بلدان أخرى في الكثير من الأحيان، إذ أن لكل بلد عاداته وظروفه الذاتية والموضوعية الخاصة به، ودرجة وعي سكانه وتطوره الثقافي والاجتماعي، وتداخل مصالحه مع الدول الإقليمية والدولية. وما تجربة الأخوان المسلمين في حكم مصر التي لم تستمر عاما واحدا إلاّ خير شاهد ودليل على فشل إستنساخ التجربة التركية.
من كل ذلك نريد أن نقول أن تركيا بقيادة رجب طيب أوردغان تتطلع بصورة أو بأخرى إلى إعادة نفوذ الدولة العثمانية الغابرة في المنطقة العربية، وما عقدها مؤتمرا قبل مدة قصيرة لقادة الأخوان المسلمين في العالم إلاّ تأكيدا لنهجها العثماني البغيض بعد أن أدركت بعدم قبول الدول الأوربية لها بوصفها دولة أوربية برغم كل ما قدمته لأوربا من خدمات جمة لاسيما أبان فترة الحرب الباردة ، حيث لم تعد لها الأهمية السابقة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك منظومة حلف وارسو، لذا لم يبق أمامها إلاّ التوجه نحو بلاد العرب الرخوة سياسيا واجتماعيا حيث تعصف بها الأزمات السياسية الحادة وتتلاعب بها الدول الكبرى وتحكمها نظم سياسية فاسدة ومستبدة، وهي فوق هذا وذاك تزخر بثروات هائلة يسيل لها لعاب الطامعين من كل حدب وصوب، فهي إذن مرتعا خصبا للغزاة الطامعين، وما على تركيا العدالة والتنمية سوى ركوب موجة حملة شعارات الحرية والعدالة والديمقراطية وتقديم نفسها الراعي والحامي للديمقراطية، متجاهلين تاريخ بلادهم الأسود في البلدان العربية إبان فترة حكمهم العثماني البغيض الذي حاول بكل الوسائل طمس كل معالم الحضارة العربية بما في ذلك اللغة العربية لغة القران نفسها. أو ليس الأتراك هم من أسقط الخلافة العباسية بعد أن جعلوا من الخلفاء العباسيين ألعوبة بأيديهم.
وخلاصة القول نقول أن الغرض من هذه الدراسة ليس نبش التاريخ لإثارة الضغائن والأحقاد، إنما استنباط العبر وتجنب الوقوع في الفخاخ التي ينصبها لنا الآخرون، وأن كل شعب حر في بلده لتقرير مصيره دون وصاية من أحد كائنا من يكون.
#أ.د._داخل_حسن_جريو_عضو_المجمع_العلمي_العراقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟