|
نحو خطاب ما بعد أصولي
مجدي عزالدين حسن
الحوار المتمدن-العدد: 5227 - 2016 / 7 / 18 - 11:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
صدر لي خلال هذا العام 2016، كتاب ( العقل الإسلامي المعاصر إلى أين؟ نحو خطاب ما بعد أصولي)، والكتاب يتضمن مجموعة من الدراسات أُنجزت في فترات متباعدة بدءاً من العام 2011م، وقُدمت كأوراق بحثية في مؤتمرات ومناسبات عديدة. وهو محاولة لمعالجة قضايا كبرى ظلت في التاريخ القريب، ولا زالت، تؤرق الفكر الإسلامي المعاصر، وتمس أوضاع مجتمعاتنا بشكل مباشر. وهو عمل نقدمه للقارئ الكريم، ولا ندعي أنه بلغ مرحلة الاكتمال، بل ننظر إليه بوصفه لازال في طور التكون والتشكل، مفتوحاً مستقبلاً للمراجعة والاستدراك. نشير ابتداءً إلى أن مصطلح ( العقل الإسلامي)، لم يظهر، لا في التراث العربي الإسلامي القديم، ولا في الفكر العربي الإسلامي الحديث، إلا في بداية الثمانينيات من القرن العشرين. ومنذ ذلك الوقت بدأ المصطلح يكثر تداوله بشكل ملحـوظ، خاصة مع مشروع (نقد العقل الإسلامي) عند محمد أركون، ومشروع (نقد العقل العربي) مع محمد عابد الجابري. لم نحبذ في عنوان الكتاب استخدم عبارة (الفكر الإسلامي المعاصر)، بدلاً من (العقل الإسلامي المعاصر)، فالعبارة الأولى ليس في وسعها ما يمنحنا إضاءة في استكشاف طرائق التفكير داخل المجال الإسلامي، على عكس العبارة الثانية. أضف إلى ذلك أن استخدام كلمة (فكر) يُحيل، كما أشار الجابري، إلي، " مضمون هذا الفكر ومحتواه، أي جملة الآراء والأفكار التي يعبر بها، ومن خلالها، عن اهتماماته ومشاغله، وأيضاً عن مثله الأخلاقية ومعتقداته المذهبية وطموحاته السياسية والاجتماعية". وهذا ليس موضوعنا وليس هو هدفنا، فمدار التركيز ليس الوقوف عند المضامين العقائدية والمذهبية والفقهية بحدِّ ذاتها، وإنما نهدف بالأحرى إلى التركيز على بنية العقل الديني الإسلامي، والأدوات التي أشتغل بها، والآليات التي قام بتوظيفها، في إنتاج هذه المضامين والأفكار. (العقل الإسلامي المعاصر)، إذن، نشير من خلاله إلى الأدوات المعرفية والعدة المنهجية التي تشيّدت على أساسها طرائق التفكير داخل الثقافة الإسلامية، والتي يبلور من خلالها المفكر المسلم المعاصر رؤى وتصورات ونظم معرفية عن الله، والطبيعة، والمجتمع، والإنسان، والتاريخ. وعن العلائق التي يقيمها بين هذه الأقطاب. الإسلام كدين يحدد هنا هوية هذا العقل، ويمنحه المبادئ والمسلمات القبلية التي من خلالها يفكر ويصدر أحكامه ويتخذ مواقفه تجاه الواقع. نرصد في هذا الكتاب الأدوات المعرفية والعدة المنهجية، وكذلك المسلمات الضمنية اللا مفكر فيها، التي يوظفها (العقل الإسلامي المعاصر) في تكوين رؤى وتصورات عن الإسلام، والكيفية التي يتم عبرها تمثله وتأوله والتعاطي معه، عن الحياة السياسية بمختلف مكوناتها وتراكيبها وعناصرها، وعلاقة الدين بالدولة، والديمقراطية، والحريات وحقوق الإنسان. والملاحظ أن طرائق التفكير في هذه الموضوعات، تبين أن (العقل الإسلامي المعاصر) لازال يدور في فلك الفضاء الذهني الوسطوي، ويستمد مقولاته ومفاهيمه من هذا الفضاء الابستيمي. الأمر الذي يعكس حالة من التأزم والانسداد لا يزال يعيشها الفكر الإسلامي المعاصر، فقد معها القدرة على تجاوز حالة التردي والتدهور التي يعيشها وتعيشها معه المجتمعات المسلمة على أرض الواقع الحياتي المعاش. وأصبح عاجزاً عن ممارسة المعرفة، ومن ثم ظل يدور في حلقة مفرغة، معيداً إنتاج وترديد نفس مقولات الفكر الإسلامي الوسيط، الأمر الذي يدل على أنه يعاني أزمة حقيقية جعلت كل محاولات الإصلاح والتجديد، منذ رواد السلفية الإصلاحية في القرن التاسع عشر وإلى اليوم، تراوح مكانها، والمحصلة النهائية هي استحكام الأزمات وإعادة إنتاج المآزق. من هنا الحاجة الملحة إلى مساءلته وتفكيكه، من أجل تشخيص معضلاته العالقة، على نحو يتيح إعادة بناء خطاب على نمط مغاير وعلى أسس وقواعد جديدة، ما يعني بدوره ضرورة حدوث قطيعة معرفية تؤدي إلى انبثاق عقل جديد، ما يرسي بدوره نظاما معرفياً بمسلمات وأدوات معرفية ومناهج جديدة. فلا سبيل إلى حدوث تغيير ترتقي معه المجتمعات المسلمة من وضعية التخلف والتأخر إلى مجتمعات حديثة، ما لم يطرأ (تحديث) و(تجديد جذري) على مستوى بنية الخطاب الإسلامي المعاصر ينتقل معها من خطاب أصولي إلى خطاب (ما بعد أصولي). الأمر الذي يدعو بدوره لطرح التساؤل بصدد خطاب (التجديد) نفسه، ووضعه موضعاً للفحص والنقد. وفق أية معايير وأسس يكون بوسعنا تصنيف خطاب ديني ما بوصفه خطاباً تجديدياً؟ وهل من الإنصاف وصف أي خطاب (في التجديد) بأنه خطاب تجديدي فعلاً؟ وعلى ماذا تتوقف الرؤية التجديدية أياً كانت ـ في مداها وعمقها واتساعها أو في ضيقها وسطحيتها وضحالتهاـ على الرائي؟ أم تتوقف على المرئي؟ أم على أداة الرؤية نفسها؟ وهل هناك إمكانية لإخضاع النص الديني الإسلامي للتفكير العقلاني الرصين؟ وكيف نفكر عقلانياً، وكيف نفكر نقدياً فيه؟ ونحن في مجتمعات لم تعرف ما معنى التفكير النقدي! مجتمعات سلطوية وأبوية وقبلية وعشائرية وطائفية. والسؤال: كيف لمجتمعات قائمة على ثقافة النقل والإتباع والتقليد أن تتصالح مع التفكير النقدي؟ هذه في اعتقادي هي أهم الأسئلة التي يجب على أصحاب وأنصار مشاريع التجديد والإصلاح الديني الانشغال بها والاشتغال عليها؟ ما الموقف من الحداثة، والعلمانية، والعقلانية، والديمقراطية، والليبرالية، والتي أصبحت من أهم التحديات التي تواجه الوعي السياسي للفرد المسلم وللمجتمعات المسلمة، للدرجة التي تجعلنا نقرر أن مصير العالم الإسلامي يتوقف على مدى قدرة النخب الفكرية والسياسية والدينية، على مواجهة هذه الإشكالات النظرية. نقول المواجهة بدلاً من حالة الهروب إلى الماضي، والاكتفاء بالنقل البليد، الذي لم، ولن يفيدنا في مواجهة ما يفرضه العصر علينا من تحديات، ولذلك ينطرح السؤال من جانبنا عن الكيفية المثلى التي يجب أن تتم بها عملية علمنة هذا الوعي وعقلنته ودمقرطته. وهذا ما حاولنا تتبع جذوره في هذا الكتاب، ابتداء من فقه (السياسة الشرعية) في العصر الإسلامي الوسيط، لإبراز جملة العوائق التي تقف حائلاً دون الدمقرطة والعقلنة والعلمنة. ولذلك كان محور تركيزنا في الفصل الأول متعلقاً بالكيفية التي يفكر بها العقل الفقهي الإسلامي وتحديداً فيما يختص بموضوع (الثورة) و(ثقافة الديمقراطية). وطرحنا التساؤل بصدد صيغة التفكير هذه، وأوضحنا إلى أي مدى قد أسهمت سلباً في تكوين طرائق تفكير العقل الإسلامي المعاصر فيما يختص بالمسألة السياسية. فالتراث الذي خلفه لنا فقه (السياسة الشرعية) لا يدعم إلا إيديولوجيا التراجع والتضييق على الحريات، وليس بوسعه الإسهام في الجهود الرامية إلى تجذير وترسيخ ثقافة الديمقراطية في بلداننا ومجتمعاتنا، التي ما زالت ترزح تحت هيمنة أنظمة شمولية، وليس بوسعه تلبية تطلعاتها إلى الحريات وحقوق الإنسان، وكل ما من شأنه، محاربة الظلم والطغيان واستبداد الأنظمة الحاكمة. وطوال تاريخه الطويل، لم يستطع التراث الفقهي الإسلامي أن ينتج أو يساعد في بلورة خطاب سياسي حديث في المسألة السياسية بعامة ونقد الاستبداد السياسي بخاصة. ولم يراوح مكانه القديم. الأمر الذي يجعلنا نؤكد على ضرورة التجديد في الطرح والمعالجة والرؤية. تأسيساً على ما سبق، يهدف هذا الفصل إلى تفحص تلك المبادئ والمعايير التي قدمها لنا (فقه السياسة الشرعية) وطوّر على أساسها العقل الإسلامي المعاصر مقولاته ومفاهيمه ورؤاه فيما يختص بالمسألة السياسية، وتبيان عدم ملاءمتها وموافقتها لقيم ولمتطلبات الفكر الديمقراطي الحديث، وإبراز المعوقات على صعيد طرائق تفكيرنا المكتسبة - وتحديداً بواسطة التراث الفقهي الإسلامي - والتي تحول دون إنجاز التحول الثوري المنشود نحو الديمقراطية ليس كنظام سياسي فحسب، بل كنظام اجتماعي قيمي وأخلاقي. فمن دون تجاوز هذه المعوقات لن يكون بمقدورنا التجذير للثورة والديمقراطية فكراً وممارسةً. على ذلك فإن انشغالنا النظري في هذا الفصل سيكون موجهاً بمهمتين: ترمي الأولى إلى تبيان الأسس النظرية والمبادئ الأولية ومنهجيات التناول التي قام فقه (السياسة الشرعية)، طوال تاريخه، بتطبيقها وبتوظيفها في إنتاج ثقافة سياسية محددة، نُظر إليها كمنظومة مرجعية شرطت نظرة الفرد المسلم المعاصر وحددتها فيما يختص بالحياة السياسية بمختلف مكوناتها وتراكيبها وعناصرها. وفي المقابل ترمي المهمة الثانية إلى طرح التساؤل بصدد الصيغة السياسية التي يقدمها لنا الخطاب الإسلامي المعاصر وتبيان حجم التأثير سلباً وإيجاباً أو ما اصطلحنا عليه ب( جدلية التعاطي والممانعة) مع الثقافة الديمقراطية الحديثة. وعلى ذلك فالتساؤل المركزي الذي على أرضيته تتبلور وتصدر كافة قضايا ومشكلات هذا الفصل، هو في الكيفية التي تعاطت بها النخب الفكرية الإسلامية قديماً وحديثاً مع قضايا الخروج على الحكام والشورى والديمقراطية والحريات. وبالتالي فهو تساؤل عن إشكالية الثورة والديمقراطية، وكيف تم تمثلها وعياً عند النخب الفكرية الإسلامية وعلى رأسها مؤسسة الفقهاء. وكيف تم التعبير عنها خلال أزيد عن أربعة عشر قرنا. وإلى أي مدى يمكن لهذه الطرائق والمنهجيات أن تُسهم في زرع بذرة ثقافة الديمقراطية في تربة المجتمعات العربية والإسلامية وغرسها في وجدان هذه المجتمعات. وهو الأمر الذي يجعلنا نتساءل: هل الديمقراطية كثقافة وكقيم وكمبادئ وكوعي متجذرة في طرائق التفكير الفقهي وفي المبادئ الأولية التي على أساسها تقوم هذه الطرائق بتشييد منتوجها المعرفي؟ أم أن هذه الطرائق هي بالأصل تناهض ثقافة الديمقراطية وتتخذ منها موقفاً عدائياً؟ وهل غير الخطاب الإسلامي المعاصر من أدوات فهمه وطرائق تفكيره وأساليب تأويله في عملية تعاطيه سواء أكان مع النصوص الدينية أو مع الواقع الحالي لمجتمعات المسلمين وما يستجد فيها من قضايا ومشكلات؟ أم ما زالت عقلية (فقه السياسة الشرعية) القديمة بنفس أدواتها ومفاهيمها ورؤاها تسيطر عليه رغم تقادم العصور؟ يعالج الفصل الثاني التأويل وقضاياه داخل حقل الإسلاميات من خلال تساؤلنا المركزي: هل بالإمكان القول أن ثمة نظرية تأويلية داخل حقل الإسلاميات تعددت صورها واختلفت أشكالها عن بعضها البعض بتعدد واختلاف تيارات الفكر الإسلامي نفسها المشتغلة بهذا الحقل؟ وهل ثمة أي أسس نظرية ومبادئ أولية ومنهجيات تناول قام الفكر الإسلامي بتطبيقها وبتوظيفها في عملية إنتاج المعنى والدلالة بخصوص النص الديني الإسلامي في شقيه القرآني والنبوي؟ وفي سبيل الإجابة على هذا التساؤل، اخترنا الوقوف على التأويل وقضاياه داخل حقل الإسلاميات من خلال درس الإسهام المعرفي لبعض رواد وأعلام هذا الحقل في هذا المضمار، وتحديداً عند اثنين من أهم الأعلام في مضمار التأويل الإسلامي هما: أبو حامد الغزالي وأبو الوليد بن رشد. هذه المهمة تطلبت منّا تتبع تاريخ نشأة وتطور مصطلح التأويل داخل هذا الحقل، ومعالجة مسألة (التأويل) والقضايا المتصلة به: مفهومه وضرورته، صلاحيته وشروطه، مواضعه ومجالاته عند كليهما. واتبعنا في سبيل بلوغ هذا الهدف منهج تحليلي مقارن حيث قمنا بتحليل الطريقة التي عولج بها التأويل وقضاياه عندهما، ومن ثم قارنا أفكارهما ومفاهيمهما في هذا الشأن في ضوء معارف العصر ومن خلال الأفق التاريخي السابق واللاحق لهم، لتبيان مدى اتفاقهما واختلافهما، وحتى نستبين قيمة إسهامهما الحقيقي في هذا المضمار. الفصل كذلك يطرح تساؤلات من منصة الحاضر الهرمنيوطيقي بصدد آليات تأويل النص الديني الإسلامي عند كل من الغزالي وابن رشد، وكيفية اشتغالها والطريقة التي تعمل بها. وذلك بغرض توسيع مواعين النظرية التأويلية الغزالية الرشدية، وتطوير مقولاتها إلى أقصى مدى يمكن أن تصله سواء تم ذلك بالاتفاق معها أو بالاختلاف عنها مستندين في ذلك ومسلحين بكل أدوات الكشف والمقاربة، والعدة المنهجية والأدوات المعرفية التي يمكن أن تمدنا بها الهرمنيوطيقا واللسانيات المعاصرة. وعلى ذلك، يستهدف هذا الفصل تجاوز الإشكالية التي نسجتها وصاغتها النظرية التأويلية الغزالية الرشدية، داخل حقل التأويلية الإسلامية، وتولدت عنها مشاكل عديدة مترابطة. والتجاوز من وجهة نظرنا لا يمكن له أن يتم إلا إذا عملنا على إعادة صياغة أدوات جديدة بما يسمح بتولد طرائق تفكير جديدة أكثر استجابة وتمثلاً لمتطلبات الكشف الألسني والهرمنيوطيقي المعاصر. خاصة أن قضية التفسير والتأويل أصبحت أهم وأشد صعوبة وتعقيداً مما كانت عليه في زمن الغزالي وابن رشد. اخترنا في الفصل الثالث أن نطل على مشاريع (نقد الخطاب الديني) من خلال تفحص المشروع الفكري لنصر حامد أبو زيد تفحصاً نقدياً لا يكتفي بالسرد والعرض وإنما يتجاوزهما للتحليل والمقارنة والنقد. وانصب تركيزنا في هذا الفصل على الطريقة والكيفية التي عالج بها أبو زيد هذا الموضوع. ويتناول الفصل مشروع أبو زيد من خلال ستة محاور: النص وسؤال الفهم، التأويلية وتاريخية النص، ما الإسلام، الموقف من التراث، آليات الخطاب الديني، العلمانية ونقد خطاب الإسلام السياسي. يأتي الفصل الرابع بعنوان (الدين والسياسة جدل الأسلمة والعلمنة)، نعالج هنا الجدل الدائر حول العلمنة والأسلمة، ابتداء من تسليط الضوء على الاختزال المخل بالمعنى الذي لحق بمفهوم العلمانية عند أنصارها، والتشوهات وسوء الفهم الذي تعرض له المفهوم عند مناهضيها، وخصوصاً أولئك المنتسبين للجماعات الإسلامية، الذين نظروا للعلمانية بوصفها معادية للدين الإسلامي ولا تستقيم مع عقائده ومسلماته الدينية. سنحاول هنا التعرض بالفحص والتفنيد لمدى معقولية الحجج التي يسوقها مناهضي العلمانية في تبرير ما سبق، وفي تصوير أن العلمانية والإسلام ضدان لا يجتمعان، وبالتالي فأمام الفرد والمجتمعات المسلمة خياران لا ثالث لهما: إما الإسلام، وإما العلمانية. نتساءل هنا، هل فعلاً توجد علاقة ضرورية بين تبني العلمانية من جانب المتدينين وبين رفض الدين؟ وهل شرط لكي أكون علمانياً أن لا أكون متديناً؟ أم أنه لا توجد علاقة تلازم بين تبني العلمانية وبين رفض الدين وترك التدين. أيضاً الفصل يناقش إدعاءات عديدة تعاطى معها الوعي الديني الإسلامي المعاصر بوصفها مسلمات غير مشكوك في صحتها وغير قابلة للنقاش حتى! والمقصود الإدعاءات التي شاعت وراجت، خصوصاً في أدبيات الخطاب الحركي الإسلامي الحديث والمعاصر، حول طبيعة الإسلام الممانعة للعلمانية، في مقابل طبيعة الديانة المسيحية التي كانت تحمل (أصلاً) بذرة العلمانية في أحشائها، ما أدى إلى نشأة العلمانية وازدهارها في الغرب (المسيحي)، وهو ذات السبب، حسب وجهة النظر هذه، الذي أدى إلى نجاح العلمانية في الغرب. فهل العلمانية، بهذا الفهم، هي فعلاً ظاهرة تخص الغرب (المسيحي) وحده؟ وهل صحيح أن السياق التاريخي الذي أدى إلى نشؤها في الغرب ينعدم في الشرق الإسلامي؟ ما يقودنا بدوره إلى التساؤل عن صحة القول بأن طبيعة الإسلام كدين تختلف عن طبيعة الديانة المسيحية. ونتساءل هنا آلا تتشابه سيطرة الكنيسة على كافة مناحي الحياة في أوروبا العصور الوسطى، والتي أدت إلى نشأة العلمانية في الغرب، عن التصورات التي سادت بالأمس في تاريخ المسلمين، ولازالت ثاوية ومهيمنة إلى اليوم في بنية الخطاب الإسلامي الحديث والمعاصر، والتي تقارب الإسلام كدين شمولي، وتعطي سلطة مطلقة في الاحتكام لنصوصه الدينية، وتدعو في هذا الاتجاه إلى إخضاع كافة مناحي الحياة إلى سيطرته وهيمنته (أسلمة الدولة، أسلمة المجتمع، أسلمة الاقتصاد، أسلمة العلوم، أسلمة الفن والأدب،..الخ)؟ يطرح الفصل، أيضاً، تساؤلات حول ضرورة العلمانية، وحول المسوغات التاريخية والأخلاقية في تبيان ضرورتها. وأبعد من ذلك حول المسوغات الابستمولوجية التي تجد فيه العلمانية مبررها على أساس منطقي عقلاني خالص دون اللجوء إلى أية مبررات تاريخية أو أخلاقية أو حتى دينية مؤيدة لها. وينطرح التساؤل، أيضاً، بشأن (مجتمع ما بعد العلمانية)، وهل هذا الطرح هو تطوير لمفهوم العلمانية أم محاولة لتجاوزه؟ وهل هناك ضرورة تستدعي تجاوز الطابع العلماني للدولة الدستورية الديمقراطية؟ وأخيراً، يناقش الفصل مشروع أسلمة المعرفة، بدايةً من مناقشة المسوغات التي تمنح المشروعية لفكر (أسلمة المعرفة). وطرح التساؤل بشأن الأسلمة وما المقصود بها؟ وبأية آليات وطرائق ومنهجيات يصبح في الإمكان حقاً الكلام عن أسلمة العلوم؟ وهل المعرفة قابلة ل(الديننة) بشكل عام و(الأسلمة) بشكل خاص؟ وهل ثمة نظرية واضحة المعالم بهذا الخصوص؟ وهل ثمة أسس نظرية تم الاتفاق عليها والبدء منها في مشروع الأسلمة؟ وما هي البنى التي على أساسها يتم تشييد المفاهيم (المأسلمة) لتحل محل المفاهيم (المعلمنة)؟ وهل الأفيد للفكر الإسلامي المعاصر بذل جهوده في (تديين) العلم أم أن المصلحة تقتضي التمييز بين مجالي العلم والدين؟ يطرح الفصل الخامس التساؤل حول المهام العاجلة المنوط بالفلسفة والمشتغلين بها في العالم الإسلامي إنجازها والقيام بها وتحمل عبئها، من أجل الإسهام في صناعة مستقبل حضاري إنساني. ويربط هذه المهام بالإمكان الفلسفي المعاصر الذي بوسعه منحنا طرائق تفكير جديدة، بالإمكان استثمارها وتوظيفها من أجل بلوغ مستقبل إنساني أفضل لمجتمعاتنا، وتشكل بديلاً لما هو سائد من طرائق تفكير(أكل عليها الدهر وشرب) هي في رأينا المسئول الأول عما آلت إليه أوضاعنا الراهنة على مستوى العالم الإسلامي من تخلف وتأخر وانحطاط. ينطلق الفصل من الفرضية التالية: ليس بالإمكان إحداث التغيير نحو المستقبل المنشود الذي نطمح إليه دون أن نُحدث تغييراً أولياً على مستوى طرائق تفكيرنا وطرق نظرنا. وليس بإمكان مجتمعاتنا إنجاز مستقبل متحضر واعد اجتماعياً وسياسياً ودينياً وعلمياً وثقافياً، دون الاستناد في ذلك على عقل ناهض ومستنير بالأساس. على ذلك، نُعيد هنا طرح السؤال الذي سبق وأن طرحه ماكس فيبر: " لماذا لم يتجه التطور العلمي والفني والسياسي والاقتصادي إلا في أوربا على دروب التعقيل الخاص بالغرب؟". نطرح هذا السؤال، ولكن في سياق يخصنا، أي داخل المجال الإسلامي، حيث يطرح ويعالج بحثنا هنا التساؤل بشأن الموانع والكوابح التي حالت دون إنجاز مشروع الحداثة داخل هذا المجال، ولكن في سياق يربط أولاً بين التنوير ومكتسباته الكونية وبين مشروع المجتمع المستقبلي الذي ننشده ونطمح إليه. ويطرح ويعالج ثانياً التساؤل بشأن وضعية الحاضر العربي والإسلامي الراهن وما يتسم به من معيقات حالت دون استكمال ونجاح مشروع التنوير والحداثة في المجتمعات المسلمة، والذي بدأه مفكرو عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر. على ذلك، يناقش هذا الفصل إشكالية التنوير داخل المجال الإسلامي وتحدياته في سياق تتعين حدوده وترتبط بالشروط والمهام والأعباء اللازم القيام بها من جانب المشتغلين بالفلسفة في العالم العربي والإسلامي من أجل خلق وعي تنويري داخل المجال الإسلامي. وأخيراً، يندرج هذا الكتاب ضمن مشروع فكري يهدف إلى تحديث وتطوير صيغة تدين تجعل الإسلام يتوائم مع قيم العصر ومتطلبات الحداثة في القرن الحادي والعشرين. ويحمل في طياته دعوة إلى (عقلنة) القول الديني، و(علمنة) الفضاء العام و(دمقرطة) الدولة و(حدثنة) المجتمع المسلم. والتي لا يمكن لها أن تتم إلا بتحديث العقل الإسلامي المعاصر، ما يعني (حدثنة) طرائق تفكيره وآلياته. الأمر الذي يتطلب بدوره الانفتاح على المناهج الحديثة، وما تمدنا به معاجم العلوم الاجتماعية والإنسانية من عتاد مفاهيمي.
#مجدي_عزالدين_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ورشة عمل حول (تدريس الفلسفة في مرحلة التعليم العام)
-
هل كان ديكارت عقلانياً حقاً في تأملاته؟! (4)
-
هل كان ديكارت عقلانياً حقاً في تأملاته؟! (3)
-
هل كان ديكارت عقلانياً حقاً في تأملاته؟! (2)
-
هل كان ديكارت عقلانياً حقاً في تأملاته؟! (1)
-
استعراض كتابي: من نظرية المعرفة إلى الهرمنيوطيقا
-
اللغة والفكر والمجتمع
-
في فلسفة اللغة (3): قراءة في محاورة كراتيليوس
-
في فلسفة اللغة (2): مشكلة أصل اللغة
-
في فلسفة اللغة (1)
-
عن العلمانية (4)
-
عن العلمانية (3)
-
عن العلمانية (2)
-
عن العلمانية
-
الحداثة وما بعد الحداثة (1)
-
فلسفة التحليل اللغوي
-
نقد هايدغر وغادامر لموضوعية التأويل
-
ليس ثمة تأويل موضوعي في مضمار الأديان (2)
-
ليس ثمة تأويل موضوعي في مضمار الأديان (1)
-
مشروع نقد الفكر الديني عند نصر حامد أبو زيد
المزيد.....
-
كلمة مرتقبة لقائد الثورة الاسلامية بذكرى تأسيس منظمة تعبئة ا
...
-
كلمة مرتقبة لقائد الثورة الاسلامية آية الله السيد خامنئي بمن
...
-
إيران تنفي التورط بمقتل حاخام يهودي في الإمارات
-
قائد الثورة الاسلامية يستقبل حشدا من التعبويين اليوم الاثنين
...
-
144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|