صباح راهي العبود
الحوار المتمدن-العدد: 5219 - 2016 / 7 / 10 - 19:43
المحور:
الطب , والعلوم
ونحن طلاب في المرحلة الإبتدائية أخبرنا معلم العلوم أن المادة هي كل شيء في الكون يشغل حيزاً من الفراغ وله كتلة. ويمكن أن توجد بحالات ثلاث صلبة, سائلة, غازية.وحالات المادة تلك تتحدد على وفق قوى الجذب والأبعاد بين تلكم الجزيئات وماتملكه من طاقة جزئية . وفي مرحلة أعلى كان علينا أن نتعلم حالة رابعة للمادة وهي حالة البلازما التي توصف على أنها غاز متأين تكون فيه الكترونات حرة غير مرتبطة بالذرة أو بالجزيء ,وإذا سلط عليها مجال كهرومغناطيسي (موجة مايكروية أو حرارية أوحزمة ليزر .... ألخ ), فان الألكترونات تلك تُقذف منفصلة عن النواة فينتج عن هذا الإنفصال أيونات موجبة وأيونات سالبة ,ويرافق هذا أيضاً تفكك الروابط الجزيئية في حالة وجودها. وحاملات الشحنة هذه تجعل الوسط موصلاً للكهربائية متأثراً بقوة المجال الكهرومغناطيسي . والمادة في حالة البلازما ليس لها شكل محدد ولاحجم محدد,إذ تبدو وكأنها سحابة.وعليه فقد إستوجب إعادة تحديد معنى المادة وإعطائها تعريفاً آخر .ولابد لنا من الإشارة الى أن حالة البلازما تم إكتشافها عن طريق تجارب على الأشعة المهبطية في أنابيب كسلر المعروفة. وباختصار فان المادة في حالة البلازما نجدها في أية منطقة تحوي على شحنات متساوية من الألكترونات والأيونات كما في شاشات التلفاز (من نوع بلازما),وفي مصابيح التألق ,وإشارات النيون, وعوادم الصواريخ, ولهب النار, والنطاق الموجود أمام الحاجز الحراري لسفن الفضاء في أثناء دخولها الغلاف الجوي للأرض, وفي البرق ,ونار سانت إلمو, وطبقة الغلاف المتأين, والشفق القطبي والنجوم ,والرياح والفراغات المحيطة بالكواكب, وبين النجوم ,وبين المجرات,وفي حلقات أحد أقمار المشتري ,وفي سديم المجرات ...... ألخ. وبذلك فإن العلماء يقدرون أن ما موجود من المادة التي في حالة البلازما تشكل نسبة 99% من الكون المرئي. أما إستعمالاتها فهي:-
في تنقية المياه ,ولنمو النباتات,ولمعالجة الغاز المسال,ولمعالجة النفايات ,وترسيب دقائق الماس عند إنتاجه,وفي بودرة السيراميك,ومصابيح الكثافة العالية ومصابيح الضغط المنخفض,,معالجة السطوح,وتعقيم الآلات الطبية ,وإشارات النيون..... ألخ.
الى جانب حالات المادة الأربع المذكورة إكتشف الفيزيائيون خلال القرن العشرين حالات أخرى لها تظهر في ظروف الإنخفاض الشديد في درجات الحرارة للمواد وهي :- حالة تكاثف بوز – أنشتاين ,حالة التكاثف الفيرموي ,حالة السائل الفائق , حالة الصلب الفائق ,حالة السائل فوق الحرجة ,حالة الكوارك ,حالة الجلون,وهذه الحالات يتم إنتاجها في المختبرات فقط .لذا فقد تغير تعريف ومفهوم المادة إذ أن الكتلة ليست ضرورية للتعريف ,فالفوتونات والجلونات هي من المواد لكنها لاتمتلك كتلة , والفوتون يشغل حيزاً من الفراغ وله طاقة .إذن تعريف المادة يقترن بالنظرية التي توصفها,وعلى وفق نظرية أنشتاين يمكن تحويل الكتلة الى طاقة وبالعكس ( معادلته الشهيرة في تحويل الكتلة الى طاقة وبالعكس), فلا يوجد فرق جوهري بينهما. أما وحسب نظرية ميكانيك الكم فإن المادة على مستوى الجسيمات تسلك سلوكاً غريباً فهي تتصرف كدالة موجية غير محدودة المكان . سيقتصر حديثنا على الحالة الخامسة للمادة وهي حالة ( تكاثف بوز – أنشتاين ) .
المعروف لدينا أن إرتفاع درجة حرارة المادة الصلبة تؤدي الى زيادة سرعة التذبذب والإهتزاز لجزيئات المادة فيباعد بينها مما يضعف قوة التماسك التي تربطها ببعضها ,وعند حد معين تبدأ المادة بالسيلان أي تتحول الى الحالة السائلة. وعلى وفق المبدأ ذاته تتحول المادة السائلة الى حالتها الغازية . ويحصل عكس ذلك في حالة تبريد الغاز. وهذا يعني أن طاقة الجزيئات والذرات ترتبط بدرجة حرارة المادة. ويجرنا الأمر الى إستنتاج إمكانية الحصول على مواد لذراتها طاقة إهتزازية مساوية للصفر في درجات حرارية منخفضة جداً جداً . وعند التمادي في خفض درجة الحرارة يفترض فقدان ذرات المادة لكامل طاقتها وهذه الدرجة لمفترضة سميت الصفر المطلق (الصفربمقياس كلفن) ومقدارها يساوي (- 273.15) درجة مئوية. وبالرجوع الى قوانين شارل وغايلوساك في موضوع الغازات يمكننا معرفة مصدر العدد ( 273 ).
في عام 1924 تنبأ العالم الفيزياوي الهندي سات بندرا ناث بوز( 1894- 1974 ) بأن إنخفاض درجة حرارة المادة الى ما يقرب من صفركلفن يؤدي الى تقارب جزيئاتها الى بعضها البعض الآخر أكثر فأكثر إذ تقل طاقتها الحركية لتبدي تصرفات وسلوكيات غيير مألوفة يحددها مقدار وإتجاه زخمها الزاوي , وتتجمع الذرات والجسيمات لتصبح بشكل كرات صغيرة جداً سميت فيما بعد (بوزات) نسبة الى العالم بوز نفسه إكراماً لما تنبأ به, وهذه البوزات تندمج فيما بعد مع التمادي في خفض درجة الحرارة لتنضغط فتبدو وكأنها سحابة (غيمة) متجمعة مندمجة.
أرسل بوز فكرته ومعادلاته على الفور الى ألبرت أنشتاين (1879 – 1955) الذي رأى أن في رياضيات بوز تلك إمكانية لتطوير نطاق من إحصائيات الميكانيك الكمي الذي ينطبق على الذرات والجسيمات دون الذرية ( الكواركات والليبتونات ) وعلى الفوتونات أيضاً مثل فوتونات الضوء. وأن هذه الذرات والجسيمات تمتلك ضمن مداراتها (مستويات طاقة) محددة,فهي ليست حرة,وهذه المستويات يمكن أن يوجد في كل منها إلكترون يمتلك طاقة ذلك المستوى,فإذا قفز الألكترون الى مستوى طاقة أدنى فإنه سيبعث فوتوناً واحداً (كمة واحدة من الطاقة) بطول موجي محدد يعتمد على مقدار القفزة (أي الفرق بين طاقتي المستويين). وعند حدوث ذلك لمجموعة الذرات فإنها ستبعث فوتونات متشاكهة ( لها الطاقة والإتجاه والطور) نفسه . حالة المادة هذه في الدرجات الحرارية المنخفضة جداً التي تتحرك فيها الكرات حركة مشوشة والتي تفقد شيئاً من سرعتها لتقترب من بعضها البعض الآخر فتزداد كثافتها بسبب التبريد وأحياناً ترتد عن بعضها أحياناً كما لو أن شيئاً صلباً في داخلها يتصادم , ثم تتراكب هذه الكرات وتندمج عند التمادي في التبريد أكثرمكونة قطعة ضبابية كبيرة لا تتحرك تدعى (تكاثف بوز- أنشتاين) .
لقد نجحت نبوءات العالمين بوز وأنشتاين عام 1938 بعد أن لوحظ إنطباق هذا السلوك على ذرات الهيليوم (- 4) السائل بعد خفض درجة حرارته الى ( 2.1768) درجة كلفن أي دون درجة غليانه التي تساوي (4.22) كلفن وهي قريبة جداً من الصفركلفن فأصبح الهيليوم مائعاً فائقاً إذ ينساب دون لزوجة على الإطلاق ( اللزوجة هي الإحتكاك الداخلي بين أجزاء المادة), ثم أخذ هذا المائع يدب بحركة أميبية على قعر الإناء وينزلق صعوداً على جدران الوعاء الذي يحتويه لينطلق من فوهة الوعاء المفتوحة على هيئة نافورة تسمى (نافورة الهيليوم) . أما إذا برد الهيليوم أكثر فإنه وعند درجة حرارة حرجة تبدأ البوزات بالتشكل. وفي درجة حرارة جزء من الملياركلفن ( نانوكلفن) يصبح الهيليوم في حالة جديدة لاصلبة ولا سائلة ولا غازية ولا بلازما, إنما هي حالة (تكاثف بوز – أنشتاين) .إن الإندماج بين الذرات والجسيمات الذرية وتراكمها وإنبعاث فوتونات متشاكهة يذكرنا بالليزر , ولقد تأخر رصد هذه الحالة لعدم إمكانية تبريدها الى درجات نانوكلفانية , لكن ذلك حصل عندما توصل العالمان كولونيل وكارل ويبمن من تحضير (تكاثف بوز – أنشتاين) من ذرات عدد من العناصرأذ تمكنا عام 1995 من تبريد ذرا ت من الربيديوم (- 87) الى درجة منخفضة جداً , ثم دمجت على شكل (تكاثف بوز – أنشتاين). وبعد فترة قصيرة من ذلك تكرر الأمرمع ذرات الصوديوم (- 23) . أما العالم ميشيل بروي فقد تمكن في العام نفسه من ذرات الهيدروجين المستقطب بإستعمال مصيدة مغناطيسية, وبذلك حصل الجميع على جائزة نوبل لجهودهم في هذا الصدد.
في عام 2001 تمكن العالمان كورنيل وكارل إيفان من جهة وكيترلي وبشكل مستقل عنهما من جهة أخرى من إكتشاف التكاثفات التي تنبأ بها بوزا وأنشتاين,إذ لاحظوا أنه عند جمع إثنين من (تكاثف بوز - أنشتاين) معاً فإنهما لا يختلطان كما في الغاز الطبيعي ,إنما يتداخلان ويتوحدان كالموجات وتفقدان شخصيتهما الفردية.
يُعد (تكاثف بوز- أنشتاين) ظاهرة طبيعية لعبت دوراً أساساً في تطور الكون عندما تشكلت الجسيمات والقوى , ولا تزال هذه الحالة جديدة بالنسبة للعلماء لمعرفة الفوائد والتطبيقات المتوقعة منها , إلا أن التشابه بين حالة (تكاثف بوز- أنشتاين) والليزر قد مكن العلماء من تصنيع أجهزة جديدة فائقة الحساسية وأنظمة حاسوبية متقدمة.
تم تحضير (تكاثف بوز- أنشتاين) للفوتونات عام 2010,إذ حوصرت الفوتونات في( مرنان ضوئي ) من مرآتين مقعرتين متقابلتين كالذي أستعمل في إنتاج ليزر الياقوت .ونظراً لعدم تبريد الفوتونات وخفض درجة حرارتها لذا أضيفت جزيئات لمادة ملونة للحصول على توازن حراري في المصيدة ,تلاه عملية تضخيم الضوء بالتشاكه الموجي فظهر إشعاع ليزري أصفر قصير الطول الموجي أمكن الإستفادة منه.
قد يتساءل القارئ عن كيفية تبريد المواد الى ما يقرب من الصفر كلفن , والجواب أن الأمر يتطلب شرح لتقنيات متقدمة منها إستخدام الليزر لغرض التبريد المفاجئ باستخدام فوتونات الليزر التي تصطدم بالذرات لترتد دون حصول تفاعل فتخفض من سرعة هذه الذرات فتبرد درجة حرارتها الى درجة (0.001) كلفن وهي أعلى من الدرجة المطلوبة لبلوغ حالة (تكاثف بوز- أنشتاين) . ولبلوغ ذلك إقترح العالمان كورنيل وبيمن طريقة التبريد بالتبخير مستملاً المصيدة المغناطيسة إذ يسلط مجال مغناطيسي قوي جداً على المادة فتهرب غالبية ذراتها من المصيدة حاملة الطاقة الأكبربعد أن تكتسب حرارة من الذرات الباقية التي ستنخفض درجة حرارتها كثيراً ( وهي تشبه عملية التبريد بالتبخير), وبذلك تحصل حالة (تكاثف بوز- أنشتاين) . والمصيدة المغناطيسية هي حجرة شفافة خالية من الهواء تبدو حزمة الذرات فيها وكأنها سحابة تطفو في هذه الحجرة بسبب المجال المغناطيسي المسلط على الحزمة. ثم تضاء بإشعاع ليزري يسلط عليها من أحد الجهات لتغيير الخواص الضوئية للذرات.
لوحظ أن إمرارحزمة ليزر في مادة في حالة (تكاثف بوز- أنشتاين) عندما تكون مندمجة ومضغوطة في مجال مغناطيسي سيجعلها تعاني من إنضغاط على نفسها فتتباطأ سرعتها الى حد يصل الى 60 كم / ساعة بعد أن كانت (3000000) كم/ثا في الفراغ أو الهواء. أي أن سرعة الضوء ستصبح بقدر سرعة دراجة أو سيارة تسير في شارع داخلي . ولقد تمكن العلماء من الإستفادة من ذلك إذ نجحوا في إبطاء الضوء ثم إيقافه لفترة قصيرة جداً ,وهناك محاولات جادة لإيقافه تماماً لفترة أطول. وإن إبطاء سرعة الضوء (و الفوتونات عموماً) أو إيقاف سرعته تماماً في المستقبل يتيح لنا إستخدامه في الحواسيب بدلاً من الإلكترونات لنقل البيانات وتخزينها بقدرة أقوى كثيراً من مما هي عليه الآن. كما يمكن تأمين وسائل الإتصالات وحمايتها من التداخل ومنع التلصص بالكامل. ونتمكن من تخزين المعلومات كما في الذاكرة الألكترونية تماماً .
#صباح_راهي_العبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟