أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - شايب خليل - الصراع السياسي على السلطة ... قراءة في العهد الراشدي .















المزيد.....


الصراع السياسي على السلطة ... قراءة في العهد الراشدي .


شايب خليل

الحوار المتمدن-العدد: 5218 - 2016 / 7 / 9 - 09:05
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لقد توفي رسول الله صلّى الله عليه و سلّم و لم يعهد بأمر الخلافة إلى أحد من بعده ، كما أنه لم يترك لصحابته الكرام رضوان الله عليهم خاصة و المسلمين عامة أنموذجا محددا واجب الاتباع سواء في طريقة اختيار الإمام ، أو غيرها من المباحث التفصيلية التي تطرح في هذا الباب ، بل اكتفى بوضع قواعد عامة موضحة في القرآن الكريم و السنة المطهرة ، تحدد معالم النظام السياسي في الإسلام ، و ترك لأهل العلم في كل زمان و مكان البحث و الاجتهاد في استنباط أمور تفصيلية تتماشى و الظروف السائدة في عصر اجتهادهم ، و ذلك لعدم تقييد الأمة بأنموذج جامد يصلح لعصر و قد لا يصلح لباقي العصور ، لكن هذه المرونة الموجودة في النظام السياسي في الإسلام قد خلقت العديد من المشكلات بعد وفاته مباشرة .
كان أعظم خلاف حدث بين المسلمين - بل بين الصحابة المقربين - كان حول الأحقية في خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول الشهرستاني : " و أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سُل على الإمامة في كل زمان " ، ولعل الروايات التي يوردها ابن سعد عن الحادثة التي دارت بين على كرم الله وجهه و بين عمه العباس تُظهر نوعا من التخوف من هذه المشكلة ، و تُضمر في طيّاتها محاولة من العمّ - العباس - لحسم مادة الخلاف في المسألة ، إذ يقول لعلي: "(...) فانطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه ، و إن كان في غيرنا أمرناه فأوصى بنا الناس" ، فكانت إجابة عليّ هي الأخرى تطرح الكثير من التساؤلات : " إني والله لا أفعل ، والله لئن منعناه لا يؤتيناه أحد بعده" . أهو شعور بالأحقّيــــــــة في الخلافــــــــة منه عليه السّلام خاصّـة إذا علمنا ماله من قرابة و نسب ؟ لعل رواية أخرى عند ابن هشام تجيبنا بكل وضوح " بلى " : فحين طلب منه العباس أن يبسط يده ليبايعه - و ليته فعل - فيُقال : عمّ رسول الله بايع ابن عم رسول الله ، أجاب : و من يطلب هذا الأمر غيرنا !!!
و يتحقق التخوف الذي بدر من العباس ، فبمجرد وفاته صلى الله عليه و سلم ، و قبل إتمام تسجية جسده الطاهر ، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة للتباحث و التشاور في أمر خلافة رسول الله في إدارة شؤون المسلمين ، فلما سمع أبو بكر و عمر بذلك انطلقا إلى السقيفة و معهما أبو عبيدة بن الجراح ، و هناك دار حوار بين المهاجرين و الأنصار يمكن أن نستشفّ من مجرياته وجهتي نظر مختلفتين :
1- وجهة النّظر الأنصاريّة :
يرأس وفدهم زعيم الخزرج سعد بن عبادة ، و الذي رفع سقف طموحاته إلى جعل إمرة المسلمين في الأنصار دون المهاجرين مستدلا بما قدمه الأنصار من نصرة للدين و خدمة للرسول الكريم ، طامحا في أن يكون أول خليفة للمسلمين بعد رسول صلى الله عليه و سلم ، لكن بعد حوار و نقاش مع أبي بكر أخذ السقف ينخفض شيئا فشيئا ببروز رأي الحباب بن المنذر - من الأوس- و الذي رأى أن للجميع مهاجرين و أنصارا الحق في خلافة رسول الله في إمرة المسلمين قائلا : لا تسمعوا لمقالة هذا- يقصد عمر بن الخطاب - و أصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر" و هو في حقيقة الأمر رأي يعبر عن تعمق روح العصبية للإسلام و تجذرها في نفسه دون سواها من العصبيات ، فللجميع الحق في الترشّح و رئاسة المسلمين بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو القبلية . كما أنه يجعل من الخلافة أمرا مشاعا من المسلمين للجميع نصيب فيه بغض النّظر عن الانتماء العرقي أو القبلي بل و حتى الأسبقية في الإسلام في رأيه رضي الله عنه غير معتبرة .
2- وجهة النّظر المهاجريّة :
كان يمثل المهاجرين في هذا الاجتماع كل من أبي بكر و عمر و أبو عبيدة بن الجراح ، فبعد اعترافهم للأنصار بفضلهم بينوا أنهم الأحق في خلافة رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ، إذ هم قومه و العرب لا تدين بهذا الأمر إلا لذلك الحي من قريش . و هذه الفكرة " القرشيّـــــة " ستكون حجر الزاوية في الفكر السياسي للأمة ، و من الشروط الأساسية الواجب توفرها في خليفة المسلمين . وهي فكرة تنمّ عن عصبية و اعتداد بالقبيلة و الانتماء العرقي و هو أمر ما فتئ الإسلام يُحاربه .
و بعد أخذ و ردّ بويع لأبي بكر بالخلافة ، و كان أول المبايعين قيس بن سعد حسدا منه لابن عمه سعد بن عبادة ، ثم بايع بعدهم الأوس خوفا من استيلاء الخزرج على السلطة ، و رفض سعد بن عبادة أن يبايع بل و اعتزل الناس حتى إنه كان لا يصلي بصلاتهم و لا يجتمع بجمعهم ، و لا يفيض بإفاضتهم .
أما المهاجرون فقد انقسموا كل حسب انتمائه القبلي ، فاجتمعت بنو أمية إلى عثمان ، وبنو زهرة إلى سعد بن وقاص و عبد الرحمن بن عوف ، و بنو هاشم إلى عليّ بن أبي طالب ، فلما أقبل الوفد الثلاثي قال عمر : "مالي أراكم مجتمعين ، قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته و بايعه الأنصار فقام عثمان و من معه من بني أمية فبايعوا و ما كان لهم - بنو أمية- مواجهة أبي بكر وعمر إذ ليس لهم من نصيب مع هذه الأحجام الكبيرة كما يقول الأستاذ صالح عوض ، و بايع بنو زهرة أيضا ، أما عليّ و من معه من بني هاشم فانصرفوا و لم يبايعوا اعتراضا على أحقيتهم في الملك لقرابتهم ، و ظلّ كرّم الله وجهه و رهط من قبيلته على هذه الحالة إلى وفاة فاطمة الزهراء عليها السلام ، فبايعوا لأبي بكر جمعا لكلمة الأمة و حفاظا على وحدتها ، خاصة و أن طبول الحرب قد دقت بين المسلمين و المرتدين .
و هنا يمكننا أن نسأل: إذا كان علي و عدد من بني هاشم تأخروا في البيعة لشهور ألا يضر ذلك في انعقاد الإجماع اللازم بدوره لانعقاد البيعة ؟ و حتى إن تجاوزنا عن هذا التأخر فماذا عن امتناع سعد بن عبادة و هو هو في الصحبة و البلاء الحسن في الإسلام ، بل إنه أحد النقباء الاثني عشر الذين كان لهم الفضل في إنشاء العقد التأسيسي للدولة الإسلامية ؟
حقيقة إن هذا الإشكال سيقف حجر عثرة أمام من يستدل على صحة استخلاف أبي بكر بإجماع الصحابة! لذا يجب أن يبحث عن مخرج آخر لذلك . فهل يمكن أن يكون استخلافه في الصلاة دليلا على أحقيته في الإمامة العامة هو المخرج ؟
إن استدلال البعض على أحقية أبي بكر في الخلافة من خلال استخلافه للصلاة بالمؤمنين في مرضه صلى الله عليه و سلم و قول بعض الصحابة في ذلك : "ارتضاه رسول الله لأمر دينينا ، أفلا نرضاه لدنيانا ؟ " لا يعد بالضرورة عهدا بالإمامة الكبرى ، و لو كان ذلك لكان المستخلفون على المدينة كعبد الله بن أم مكتوم على سبيل المثال أولى بالخلافة من أبي بكر ، لأنها أقرب إلى الأمور السياسية من الصلاة ، بل إن ذلك إشارة منه صلّى الله عليه و سلم إلى فضله و منزلته بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين .
كما أنه لو كان في ذلك تلميح للعهد لأبي بكر بالملك لاستدل به في السقيفة ، و لألزم به عليّا و سعد بن عبادة و غيرهما ممن امتنع عن البيعة .
بالإضافة إلى أن سياسة الدنيا تختلف كثيرا عن شؤون العبادة كثيرا ، و حتى و إن سلّمنا جدلا بأن هذا العهد بالإمامة الصغرى فيه إشارة و تلميح على الأحقية بإمرة المسلمين لحمل ذلك على أنه مجرد ترشيح لا تعيينا لازما على الأمة الانصياع له والإذعان ، ثم للبيعة العامة أن تقرّ ذلك المترشّح و تجازيه بالإمامة الكبرى و إما أن تلغيه و تمنع صاحبه من الوصول إلى إمامة المسلمين ، و هذا ما يتماشى و القواعد العامة التي وضعها الإسلام كضابط أساسي و رئيس في مجال الحكم الممارسة السياسية . و بذلك يزول التلازم الذي يربطه بعض المسلمين بين إمامة الصلاة وإمارة المسلمين .
و مما سبق ذكره يظهر لنا أن مسارعة الصحابة للحوار و الجدال حول من يخلف رسول صلى الله عليه وسلم حتّى قبل دفنه ، الأهمية البالغة التي يكتسيها موضوع الإمامة في الفكر الإسلامي ، كما يظهر أيضا تخوفهم رضوان الله عليهم مما يمكن أن نسميه اليوم من قضية " الفراغ السياسي " و ما ينجر عنها من تبعات .
و بذلك كانت بيعة أبي بكر أول حدث سياسي مهم في التاريخ الإسلامي ، و أول بيعة سياسية تحدث بعد وفاة الرسول الكريم . و رغم كل هذا الصراع استطاع الخليفة الأول رضي الله عنـــه و بحنكة بالغة إدارة شؤون الدولة و توطيد أركانها و الحفاظ على وحدتها السياسية و الدينية .
و في مرضه الذي مات فيه أراد ألا يترك الدنيا دون أن يعين من يخلفه خوفا منه رضي الله عنه -كما صرح- من الفتنة و بحثا عن مصلحة المسلمين ، و لعله في ذلك يستذكر وفاة رسول الله و ما حدث بعدها من وقائع ، و بعد استشارة طويلة للصحابة الكرام -أنصارهم و مهاجريهم- أمر عثمان بن عفان بكتابة صحيفة نص فيها على استخلاف عمر بن الخطاب لإمامة المسلمين مبيـــــــــــنا أسباب اختياره لــــــه ، ثم أمره فخرج بالكتاب مختوما و معه عمر بن الخطاب و أسيد بن سعيد فقال عثمان : أتبايعون لمن في هذا الكتاب ؟ قالوا : نعم ، فاقروا بذلك جميعا و رضوا و بايعوا والمطلع على رواية الطبري هذه و بدون جهد و عناء ، يتبين له أن عمرا رضي الله عنه ما استحق منصب الإمامة إلا بعد المبايعة العامة ، و أن عهد أبي بكر له بالخلافة ما كان إلا مجرد ترشيح لا تعيين ، و لو أن الحاضرين رفضوا البيعة لما أصبح عمر إماما للمسلمين ، فلا قيمة لعهد الإمام لمن بعده ما تــُـــــزكّ الأغلبية هذا الترشيح .
و بعد عشر سنوات من الحكم الراشد طعن رضي الله عنه طعن بست طعنات من غلام للمغيرة بن شعبة يقال له : أبو لؤلؤة المجوسي و هو في المسجد لأداء صلاة الفجر ، و لما أحس بقرب أجله جعل الأمر شورى في ستة من الصحابة الذين مات رسول الله و هو عنهم راض : عثمان و علي و طلحة و الزبير و عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص –و بذلك أبرأ عمر ذمته من قضية الاستخلاف بعد تردد و إحجام- ، و أمرهم انتظار طلحة ثلاثا-و قد كان غائبا- فإن لم يعد فعليهم حسم الأمر ، و ناشد لجنة المرشحين ألا يحملوا أقاربهم على رقاب الناس إذ بويع لأحدهم ، و جعل أبا طلحة حارسا على هذه اللجنة و عهد لصهيب بالصلاة . و بعد وفاته اجتمع الستة لاختيار الإمام ، و بعد مناقشات و مداولات انحصر الأمر في علي و عثمان بالإضافة إلى عبد الرحمن بن عوف كحكم بينهما : فأخذ يلتقي الناس و يستشيرهم فما ترك أحدا من المهاجرين والأنصار و لا من الضعفاء و الرعاع إلا سأله و أخذ برأيه ، ثم اجتمع بهما بعد صلاة الصبح و أخذ منها العهد على القبول و الإذعان لمن تتم له البيعة ، فلما أعطياه موثقا من الله أخذ بيد كل واحد على حده و قال عليك عهد الله و ميثاقه لئن بايعتك لتقيمنّ كتاب الله و سنة رسوله و سنة صاحبيه و لا تجعل قومك على رقاب الناس ، فقال عليّ إذا قطعتها في عنقي فإن علي الاجتهاد لأمة محمد حيث علمت القوة و الأمانة و استعنت بما كان في بني هاشم أو غيرهم ، و قبل عثمان الشرط و بذلك بويع له دون علي .
و قد وفّى رحمه الله تعالى بعهده هذا مدّة ست سنين من خلافته كما وعد ، بل إنه كما يذكر ابن قتيبة كان فيها أحبّ إلى الناس من عمر الذي امتاز بالشدة و القوة ، بينما امتاز الخليفة الجديد باللين و السماحة ، كما أغدق عليهم بالأموال لتوفرها و كثرتها حتى بيعت الجارية بوزنها ورِقا ، و بيعت الفرس بعشرة آلاف دينار و البعير بألف ، و النخلة الواحدة بألف ، و هذا يدل على أن المسلمين في هذه الفترة عاشوا بحبوحة مالية ساعدت على انتشار مثل هذا البذخ و التبذير.
لكن بعض التصرفات الصادرة من عثمان مثل : سماحه لكبار الصحابة بالخروج إلى أقاليم مختلفة بعد أن منعهم عمر و استفاد من مشورتهم ، و لينه في المعاملة ، و حبّه لآل بيته الذي جعله يوليهم أرقى المناصب في الدولة ، فجعل مثلا ابن عمه مروان بن الحكم كاتبا له و ترك له الأمر فملأ كل مناصب الولاية بقرابته ، كما قام معاوية في هذا الإطار بضم الشام إليه بعد أن كانت ولايته على دمشق فقط ، و صارت الكوفة للوليد بن عقبة ، و البصرة لعبد الله بن عامر و مصر لعبد الله بن أبي السرح . و هكذا استغل هذا اللّـــــوبي الأموي كما يصفه الأستاذ صالح عوض لين الخليفة جيدا و تمركز بالمناصب الحساسة للدولة ، بل إن تعطشهم هذا للسلطة جعلهم يحولون الخلافة إلى بستان لبني أمية . و بذلك ألّبوا الجماهير على رجل تستحي منه الملائكة .
و كردة فعل سريعة لما يحدث قام المصريون بإيفاد نفر للخليفة احتجاجا على عزل عمرو بن العاص و توليه بن أبي السرح ، فلما وصل هذا الأخير كتاب عثمان يتهدده و يأمره بحسن معاملة الناس الذين هم تحت ولايته ، قام بضرب من أتى بهذا من أهل مصر حتى لقي حتفه .
و كخطوة لتلطيف الجو عُين محمد بن أبي بكر على مصر ، لكن في طريق العودة وجد الوفد المصري غلاما يحمل كتابا من الخليفة لابن أبي السرح يأمره بقتل المحتجّين جميعا ، و هكذا تتحرك الأيادي الداخلية و الخارجية لتأجيج نار الفتنة ، و تأليب الثوار على الخليفة لخلعه من منصبه ، و لينتهي كل ذلك بمقتله رغم أنّ كل ما ثار من أجله الثّوار لا يسوّغ بشكل أو بآخر الخروج على الحاكم فكيف بقتله ؟! .
إذا يمكننا القول أن مرحلة حكم عثمان بن عفان قد تميزت بعدة تطورات أبرزها : اتساع الرقعة الجغرافية للدولة شرقا و غربا ، و هذا ما أسهم في إثراء بيت مال المسلمين و بالتالي إقبالهم على الدنيا في ترف و بذخ ، كما أثيرت فيها و لأول مرة في التاريخ السياسي الإسلامي مسألة خلع الإمام و التي ستنال كنظيرتها مساحة كبيرة من المناقشة في كتب الفقه السياسي ، و ظهرت أيضا إشكالية العدد اللازم لانعقاد بيعة الإمام أخذا من قصة بيعته ، كما شهد محاولة جريئة لتطوير تطبيق نظام الشورى ليشمل كل قاطني المدينة من مهاجرين و أنصار رجال و نساء في صورة أشبه ما تكون بالانتخابات في عصرنا اليوم لكن مع احتفاظ لجنة الترشيح المكونة من الصحابة الذي مات رسول الله صلى الله عليه وسلم و هو عنهم راض بأحقية الحسم في اتخاذ القرار ، كما يمكننا من خلال الرجوع للروايات الواردة في ذكر سنّه عند وفاته و التي تتراوح بين الثلاث و الستين و التسعين سنة أن نربط بين كبر سنه و طول مدّة بقائه في سدة الحكم من جهة ، و تذمر الثوار من هذه الحال من جهة أخرى ليكون هذا أيضا سببا من أسباب الخروج على السلطة الحاكمة . و أيا كان سبب الخروج فقد أدى إلى قتل رجل قبل أن يكون خليفة للمسلمين ، فهو رجل تستحي منه الملائكة أبشع قتلة .
و بمجرد استشهاده رضي الله عنه واجه المجتمع الإسلامي نوعا من الفراغ السياسي ، إذ لم يكن للثوار مشروع محدد للتطبيق بعد تحقيق أهدافهم و إسقاط النظام الأسري الأموي ، فقد ظلت المدينة خمسة أيام من غير أمير للمؤمنين . و لتوفره على خصال لم توجد في غيره من حكمة و حنكة وشجاعة و قوة و جرأة ...اتجهت الأنظار إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أو رجل المرحلة ، فبعد أن دفن عثمان أتى الناس دار ابن عم رسول الله و صهره يريدون مبايعته فأبي في أول الأمر، لكن الأشتر النخعي ألــحّ عليه وأكثر في ذلك و رهّبه من وقـــــوع الفتــــــن و عواقب ذلك على الأمّة فقال علي : " ليس ذلك لكم - إشارة منه لدور لجنة الترشيح في اختيار الإمام ، و تكريسا لمبدأ
الشورى - إنما لأهل الشورى ، فمن رضوا به فهو الخليفة " . و هكذا بايع الناس فـرادى و جماعات و بايع معهم طلحة و الزبير ثم أرسلت البيعة إلى جميع ولايات الدولة فبايعت جميعها إلا الشام ، فقد امتنع معاوية عن البيعة .
و هكذا و بعد أن تولى كرّم الله وجهه زمام الأمور اتجه لملاحقة المفسدين من الأمويين الذين أثاروا الناس على الخليفة بتصرفاتهم مثل: الوليد بن عقبة و مروان بن الحكم ، ثم اتجه إلى تهدئة الأوضاع في المقاطعات الإسلامية فقام بعزل الولاة الذين عينهم عثمان إخمادا لنار الفتنة ، كما أعلن عن إصلاح اقتصادي يتمثل في العودة إلى نظام التسوية في العطاء من بيت مال المسلمين ، تكريسا لمبدأ المواطنة و المساواة أمام القانون ، كما رأى تأجيل القصاص من قتلة عثمان حتى تهدأ الأمور ويستــتّب النظام و تستعيد الدولة هيبتها و قوتها لتجابه القتلة الموجودين بين الثوار ، و هذا ما دفع الباحثين عن السلطة و الجاه من الأمويين إلى الامتناع عن البيعة حتى يؤخذ القصاص من قتلة عثمان ، ثم يتطور الأمر لتصبح الشام ولاية إقليمية خاصة لمعاوية غير تابعة للسلطة المركزية بالمدينة . و نرى أنه لو اقتص كرّم الله وجهه من القتلة لما كانوا مبايعين .
لقد كان لهذه الإصلاحات وقع كبير على نفوس المسلمين خاصة نظام المساواة في العطايا ، فقد أعلن طلحة و الزبير من الغد رفضهما لسياسة الخليفة و نقضوا عهدهم لإكراههم على البيعة من جهة و لطموحهم في السلطة من جهة أخرى ، إذ أراد الأول إمارة اليمن و أراد الآخر حكم العراقيين - البصرة و الكوفة - لتدخل بعد ذلك السيدة عائشة على خط الصراع و الذي انتهى بموقعة الجمل بين المعسكر العلوي و المعسكر المعارض ، و بعد فراغه من معسكر المبايعين الناقضين للبيعة تحول لمجابهة الطامحين في السلطة ، لتبرز و بشكل جلي صورة الصراع الهاشمي الأموي ، هذا الأخير الذي حاز الشرعية من الشّاميين الذين كانوا قريبي عهد بالملك و الذين تشربت نفوسهم طعم الذل و الخضوع للملك و هي نقطة سجلت لصف معاوية الذي دفعه هذا الدعم الجماهيري للمطالبة بالاستقلال السياسي و اعتبار الشام ذاتية مستقلة خاضعة لحكم معاوية ، ليقابل هذا الطلب بالرفض المطلق من عليّ الذي كان حريصا على الوحدة الترابية للدولة الإسلامية . و بعد هذه الأحداث تطورت الأمور إلى صدام عسكري في معركة صفين و التي اتجهت آخر فصولها إلى غلبة العلويين ، فلما أحس الشاميون بذلك لم يكن لهم إلا التوجه للتحكيم ، و نزولا عند قوله عزّ و جلّ : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ( 9 ) ) ، قبل علي التحكيم الذي بدل أن يكون خاتمة الأحزان كان زيتا زاد النار تأججا و فتح بابا جديدا من أبواب الصراع فقد تمخض عن ظهور أول فرقة إسلامية ذات منشأ سياسي ألا و هي الخوارج .
إذا لقد كانت فترة حكم علي فترة خصبة زرعت وترعرعت على أرضيتها عدة مسائل وإشكالات سياسية كالأخذ برأي الأغلبية في بيعة الإمام بدل الاعتماد على الإجماع ، فقد جاء عند الطبري أن الثوار جمعوا المهاجرين و الأنصار مخاطبين : " أنتم أهل الشورى ، و أنتم تعقدون الإمامة (...) فانظروا رجلا تنصبوه و نحن لكم تبع ، فقال الجمهور : علي بن أبي طالب " ، و هذا التأكيد على الأغلبية يمثل تجليا واضحا من تجليات الديمقراطية الحديثة ، كما طرحت فيما بعد مسألة البيعة المشروطة هل تصح أو لا تصح استنباطا من امتناع جماعة من المواطنين يمثّلهم المعسكر الأموي عن البيعة و تعليقها بالقصاص من القتلة ، و أول محاولة للخروج على السلطة المركزية وتقسيم الجغرافيا الإسلامية و محاولة الحصول على الحكم الذاتي التام و هذا ما سيعرف طريقه إلى أبجديات الفكر السياسي بإمارة الاستيلاء مقابل إمارة الاستكفاء .
كما ستظهر إشكالية وقوع بيعة المكره من عدمه ، أخذا من أقوال طلحة و الزبير و التي تظهر أنهما بايعا مكرهين فلما زال الإكراه انتقضت البيعة . و هذا النّوع سيترسّخ أكثر فأكثر كلما زادت أنواع الظلم و الفساد من بني أمية و من لحق بهم .
و نتيجة لكل هذه التراكمات السياسية و الاجتماعية بدأ الظهور الفعلي للفرق الإسلامية سواء ذات المنشأ السياسي أو المنشأ العقدي ، و بدأ التنظير المؤدلج لمبحث الإمامة -كل فرقة تكتب وفق الإيديولوجية التي تنتمي إليها أو حتى التي تخدم مصالحها و حسب - مثل ما هو الحال مع بني أمية و الإرجاء و مع المحكّمة و الخروج على الحاكم الظالم ... الخ . و هكذا أصبح الصــــــراع
ذو اتجاهين : مع السلطة من جهة و مع الفريق الخصم من جهة أخرى .
رغم كل هذه الصراعات السياسية و التناحرات العصبية ، فقد كانت دولة الخلافة أول تجسيد حقيقي لروح الإسلام و قواعده الكلية في المجال السياسي و تجربة فريدة في ميدان الحكم خاصة بعد انقطاع الوحي . لكن اعتبارها بمثابة الإطار العام للتفكير السياسي الإسلامي أو الدولة المثالية التي تحكمها قوانين الله ، و المرجع الأساس الذي تقاس عليه كل تجربة سياسية خاضها المسلمون قد حجّر واسعا ، خاصة إذا تذكرنا أنه صلوات ربي و سلامه عليه لم يفرض أنموذجا محددا لنظام الحكم بل ترك ذلك لاجتهادات المسلمين في كل العصور و اكتفى بإبراز البنود العريضة لهذا المشروع الإسلامي ، و هذا لا يتناقض مع كون العصر الراشدي أرقى أنموذج للممارسة السياسية بعد دولة الرسول ، لكنه لا يعطيه كلّ الشّرعية ليصبح كالمعلم الذي تحتكم إليه كل ممارسة سياسية وقعت في تاريخ المسلمين .



#شايب_خليل (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- شاهد.. آلاف المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى بالقدس المحتلة! ...
- مفتي القاعدة السابق يتحدث عن نمط حياة بن لادن وإدارته للتنظي ...
- إقتحام الأقصى والمسجد الابراهيمي
- الفاتيكان: معماري كاتدرائية ساغرادا فاميليا -على طريق القداس ...
- تردد قناة طيور الجنة بيبي 2025 على نايل سات وعرب سات بأشارة ...
- اللواء سلامي: الجيش مع حرس الثورة الإسلامية سور منيع للبلاد ...
- عكرمة صبري: الأقصى يُستباح من اليهود المتطرفين
- -لست واهمًا.. ما أقوله يحدث-: رئيس الوزراء السابق إيهود أولم ...
- عاجل | مصادر للجزيرة: بدء اقتحامات مستوطنين للمسجد الأقصى في ...
- عطلة لأبناء المكون المسيحي بمناسبة عيد القيامة


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - شايب خليل - الصراع السياسي على السلطة ... قراءة في العهد الراشدي .