|
أنطون سعادة يُغتال مرتين
فراس جركس
الحوار المتمدن-العدد: 5216 - 2016 / 7 / 7 - 13:31
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في مثل هذا اليوم سنة 1949، قال زعيم السوريين القوميين، مؤسس الفكر والنهضة، أنطون سعادة، وبعد أن صدر بحقه حكم الإعدام رمياً بالرصاص إثر محاكمة صورية عاجلة: "الليلة سيعدمونني أما أبناء عقيدتي فسينتصرون، وسيجيئ انتصارهم انتقاماً لموتي". عقود ستة وسنوات سبع مرت على استشهاد الزعيم ، فأين أوصلت قيادات الحزب الحالية القوميين من الانتصارات التي بشّر بها ؟
فجر الثامن من تموز، كانت جريمة مُنظّمة واغتيالاً باسم القانون على الأرض اللبنانية. كثيرة الجهات التي أوحت والأيادي التي شاركت. ويكفي أن نعلم أن رئيس حكومة الكيان الصهيوني "بن غوريون" كتب في التاسع من تموز بمذكراته:"إن حسني الزعيم (صاحب أول انقلاب عسكري في الشام) مهتم فعلاً بالسلام معنا". لندرك دوافع الجريمة ومن ورائها، حيث وقّعت دمشق الهدنة مع إسرائيل في عشرين تموز. كما جاء بالاستجواب الذي قدّمه رجل الفكر والسياسة كمال جنبلاط في أيلول من نفس العام للحكومة اللبنانية:" القضاء على سعادة وبعض أتباعه بهذه السرعة وهذا الشكل، قد تمّت بناءً على توصيات وتدخلات وتأثيرات دول أجنبية وعربية معروفة". قتلوا سعادة لأنه أراد النهوض بسوريا وتحرير ما اغتُصب من ترابها، فلم يساوم ولم يهادن ولم يهاود. لكن جاء من بعده ومن بعد من اقتدى به خلف سفكوا الفكر الذي بنى، وهدروا وقفة العز التي وقف.
عصابات أسدية لا قيادات سورية قومية. ليس هناك وصفاً مُنصفاً لقيادات القوميين الحالية أكثر من أنها ترجمة سابقة وبليغة لمقولة الأسد الأب :"مرحلة وسخة اعتمدوا ع الوسخين". كان الجنرال غازي كنعان المهندس الأول في تصنيعها، واختارها بعناية في مرحلة شهدت التشتت والانقسام والتصفيات والولاءات المختلفة ضمن الحزب الواحد. فحين عصفت الحرب الأهلية بلبنان كان القوميون منقسمون على أنفسهم، وسرعان ما بالغ فريق منهم بالارتماء بحضن دمشق، أبرز من مثلهم عصام محايري وأسعد حردان (رئيس الحزب الحالي). حردان الضليع بخيانة رفاقه، المندفع نحو الجرائم بكل أشكالها، وجد به كنعان الشخص الأكفأ بالطاعة، والأجدر بتنفيذ ما يوكل له من مهام تصبّ في خدمة الشام ومصالح كنعان. وستبقى جرائمه شاهدة عليه. فليست عملية قتل شابين درزيين على مثلث خلدة في بيروت لإيقاع فتنة مابين التقدمي الاشتراكي وحركة أمل إلا إحداها، وليس اغتيال عميد الدفاع السابق بالحزب محمد سليم، بعد أن رفض اطلاع كنعان على تفاصيل وتواقيت عمليات المقاومة التي ينفذها الحزب ضد إسرائيل إلا أشهرها عند القوميين. جرائم حردان كرّست انقسام الحزب ما بين الدائرين في فلك الشام تحت اسم "الطوارئ"، والمطالبين بمحاكمته حزبياً واتخذوا من "المجلس الأعلى" مسمّى لهم. لكن ما إن لاحت بوادر الحسم لصالح دمشق وغَرقُ المركب الذي سار عكس أمانيها، حتى سارع العديد من شخصيات المجلس الأعلى للقفز للضفة الأخرى، لتكتمل عصبة الانتهازيين والتجار والسماسرة. وبأمر من دمشق بعد أن بسطت نفوذها على لبنان توحّد الجناحان، ليتم تدجين من غرّدوا خارج سربها، بينما اعتكف أصحاب العقيدة أو هاجروا أو استشهدوا. و تلاشت محاكمة حردان وطويت ملفاتها كما تُطوى ملفات كل الجرائم التي يقف خلفها رجالات الأسد. بمنتصف شباط 2005، اغتيل رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري. وكانت انتفاضة اللبنانيين التي أرغمت حكومة الوصاية على الاستقالة، وأنهت الوجود العسكري الشامي بلبنان. حينها لم يجاهر بمحالفة دمشق إلا حزب الله ذو اللون الواحد. فبدأ القوميون المقربون من أصحاب القرار الترويج لفكرة أن بشار الأسد "سوري قومي". ترافق ذلك مع حديث عن حساسية المرحلة وخطورتها وعن ضرورة الدخول في الجبهة الوطنية التقدمية. ألقى حردان الذي كان عميداً للدفاع محاضرة بهذا الخصوص في قاعة النهضة بمنطقة الحمرا، ورغم أن الغالبية لم تؤيد ذلك، إلا أن القرار متخذ وليست الاجتماعات مع المحازبين إلا وسيلة لإظهار شيء من الديمقراطية المرقّعة أمامهم. تمثلت حجّة حردان بأن دخول الجبهة يسمح بعودة انتشار الحزب في الكيان الشامي بعد حظره لعقود. ثم جاءت الثورة لتفرد مساحة واسعة للانتشار، فلم تعد هناك مساءلة أمنية من قبل أفرع الاستخبارات للمحازبين الجدد، بل هناك دعم وتمويل حكومي رسمي لكل ميليشيا تقاتل دفاعاً عن كرسي الأسد. ولو سألتَ المحازبين الجدد عن سبب انتسابهم، لأخبروك عن الراوتب الممنوحة و السلاح، وبعضهم لم يخفِ أن ما أغراه: "شكل زوبعة القوميين وبناتهم الحلوات"!. بهكذا قوميين يفخر حردان من بيروت بتوسيع الانتشار، ويفخر بهم من دمشق عصام محايري سابقاً و جوزيف سويد لاحقاً.
مفارقات ومفارق. من المفارقات، أن عداء القوميين للكتائب عقائدي لأن الكتائبيين أرادوا لبنان حراً مستقلاً بطابعه المسيحي، وبمنأى عن محيطه السوري. بينما يتحالف القوميون اليوم مع حزب طائفي يجاهر أن هدفه ليس السيطرة على لبنان وجعله جمهورية إسلامية، إنما جزء من جمهورية إسلامية يقودها الولي الفقيه. فإذا كان الانعزال والدفاع عن السيادة تهمة، هل التحالف مع دمى العاصمة الثيوقراطية صاحبة مشروع تحطيم القومية السورية وابتلاع هلالها الخصيب عملاً وطنياً؟ من المفارقات، أن يتحالف القوميون مع الكتائب بعهد الرئيس كميل شمعون للوقوف بوجه المد الناصري، بينما اليوم يقاتلون لجانب من فتحوا الأبواب على مصاريعها أمام المد الإيراني. فهل كان المد العروبوي أخطر من المد الخمينوي ؟ من المفارقات، أن القوميين مازالوا يتساءلون عن طبيعة الدولة التي كان يبنيها الرئيس فؤاد شهاب، ويذكرون عهده بغصة وألم، ليس فقط لأن السجون اكتظت بهم أثناء حكمه، إنما لأن العناصر المسيحية كانت تؤمر بتعذيب المعتقلين المسلمين، والعناصر المحمدية تؤمر بتعذيب المسيحيين. أما اليوم، يقاتلون دفاعاً عن نظام تُعتبر سياسة شهاب بهدم التعايش، نزهة واستجماماً إذا ما قورنت بما جرى ويجري بمعتقلات الأسد وسياساته التي هدمت كل مفاهيم التعايش. مفارقات كثيرة أدخلت القوميين بمفارق سوداء قاتمة أفرغت القومية الاجتماعية من مضمونها، وساهمت بزيادة المعتزلين فرادى وجماعات، فأصبح الحزب أشبه بالأجنحة المتكسرة. ولو وقفنا عند الأسباب التي يروّجون لها لتبرير سياستهم، لاقتصرت على سببين، الأول: محاربة الإرهاب، تلك اللعبة القذرة التي صنعها وأتقنها الممانعون، ولم تكن فضيحة الوزير السابق ميشال سماحة إلا إحدى تجلياتها. فإذا كان سماحة وزيراً غرّاً بمصلحة الإرهاب وكُشفت مخططاته، فكم عدد العمليات الإرهابية التي نفذها ممانعون محترفون وما زالت منسوبة لغيرهم؟ أما السبب الثاني: فيتمثل بالمتاجرة بمواقف سعادة التي حذّرت من خطر الصهيونية في وقت مبكر. فإذا أفرد الزعيم مساحات واسعة للحديث عن الصهيونية ومخاطرها وحاربها بكل إمكانياته، ودفع حياته ثمناً، فلأنها كانت ومازالت عدواً، لكن محاربتها ليست بستر العورات بشعارات الممانعين الأشبه ببقايا مزق من ثوب عاهرة كان شاهداً على عهرها أربعين عاماً. وليست محاربتها بتسليم المنطقة لعدو آخر، إذ لا فرق ما بين نجمة داوود وعمامة طهران وعباءة أنقرة، فالثلاثة مُحتلّين أجزاءً من سوريانا وطامعين وساعين لما هو أكثر، والخضوع لأحدهما وتسليمه مصير البلاد بحجّة محاربة الآخر، أشبه بمن يسلّم زوجته لتاجر رقيق، بحجّة حمايتها من تاجر رقيق آخر. سوريانا الناحرة والمتناحرة. مرات عديدة التقيت بالسيدة أليسار سعادة، وطالما كنت أتوق لسؤالها، وطالما كنت أصمت كي لا ألمس جراحاً وأوقظ فواجعاً كثيرة رافقتها منذ طفولتها كما يرافق الظل صاحبه. قبل أكثر من عامين قرأت مناجاتها لوالدها بجريدة النهار، واستوقفتني هذه العبارة: "عانينا كثيراً بعد رحيلك، بعض من ظننت أنهم كانوا إلى جانبك خانوك، وكثير ممن كانوا في الحزب تفرّقوا شيعاً، أما سورياك فغدت قبائل ناحرة ومتناحرة. هل خاب ظنك؟" هكذا أصبحت سوريانا، قبائل ناحرة ومتناحرة، أرض مستباحة، مناطق نفوذ، جنرالات أجانب يُصدرون الأوامر، نظام مجانيّ المماتعة، قواعد عسكرية لدول عديدة منها من يعتبر أمن إسرائيل خط أحمر ومنها من يشترك معها بمناورات عسكرية، خليفة أخرجته مخابرات دول عديدة من رحم الجاهلية، أمراء كأطرحة هجينة بلا نسب، مرتزقة من أصقاع الأرض يعيثون فساداً، ميليشيات لا تُحصى... وليس القوميون السائرين خلف حردان وزمرته إلا إحدى تلك القبائل التي ساهمتْ بعرض سوريانا عارية بأسواق النخاسة، وشوّهت العقيدة القومية الاجتماعية بأصوات سلاسل عبوديتها المفتونة بالعيش، الملفوظة من الحياة. ولقد ميّز الزعيم بينهما: "فالحياة لا تكون إلا في العز، أما العيش فلا يفرّق بين العز و الذل". ومن يرضخ للذل يصبح عبداً، و"العبد الذليل لا يمكنه أن يمثّل أمّة حرّة لأنه يذلّها"، (سعادة). وسوريانا أمّة حرّة من شامها صدحت الحناجر "الموت ولا المذلّة "بوجه أعتى دكتاتوريات العالم. الحركة القومية الاجتماعية عند سعادة هي "حركة صراع وتقدم لاحركة استسلام وقناعة. إنها ليست مستعدة للتنازل، بل للانتصار". سعادة القدوة والمعلم، أنار الطريق بدمه، وخاطب أجيالاً لم تولد، ولن تطفئ نوره تنازلات رهط عابرين بدأت منذ تخليهم عن سلاحهم المقاوم لصالح مسرحية الممانعين بثمانينيات القرن الماضي، ولم يُسمح لهم باشهاره مجدداً إلا وهو مصوّب لصدور الأحرار من أبناء الشام، وكأن طريق القدس باتت تمرّ من تلك الصدور.
ليلة الثامن من تموز 1949، "يا خجل تلك الليلة من التاريخ، من أبنائنا، من أحفادنا، من مغتربينا، ومن الأجانب". ويا خجل هذه الأيام...
#فراس_جركس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ويسألونك عن الدواعش
-
على أرصفة الصحافة الصفراء
-
داعش وأخواتها/ تقاطعات مصالح على حساب الدم السوري
-
سوريا على مذبح النبوءات
-
قطعان الأسد لا تمنح شرعية
-
من ثورة الكرامة إلى حروب خط الصدع
المزيد.....
-
العراق يعلن توقف إمدادات الغاز الإيراني بالكامل وفقدان 5500
...
-
ما هي قوائم الإرهاب في مصر وكيف يتم إدراج الأشخاص عليها؟
-
حزب الله يمطر بتاح تكفا الإسرائيلية ب 160 صاروخا ردّاً على ق
...
-
نتنياهو يندد بعنف مستوطنين ضد الجيش الإسرائيلي بالضفة الغربي
...
-
اشتباكات عنيفة بين القوات الروسية وقوات كييف في مقاطعة خاركو
...
-
مولدوفا تؤكد استمرار علاقاتها مع الإمارات بعد مقتل حاخام إسر
...
-
بيدرسون: من الضروري منع جر سوريا للصراع
-
لندن.. رفض لإنكار الحكومة الإبادة في غزة
-
الرياض.. معرض بنان للحرف اليدوية
-
تل أبيب تتعرض لضربة صاروخية جديدة الآن.. مدن إسرائيلية تحت ن
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|