أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد عبد المنعم عرفة - جولة مع أقطاب العلمانية (سلامة موسى) و(علي عبد الرازق) و(فؤاد زكريا)















المزيد.....



جولة مع أقطاب العلمانية (سلامة موسى) و(علي عبد الرازق) و(فؤاد زكريا)


محمد عبد المنعم عرفة

الحوار المتمدن-العدد: 5214 - 2016 / 7 / 5 - 22:52
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


سلامـــة موســي
هـو واحـد من أكبر دعـاة التغريب في مصر، في القرن العشرين، هيأت له الظروف أن يشغل مساحـة من الفكر المصري الحديث، وأن يمسك دفـه للتوجيـه، من خلال كتاباته وأعماله الصحفيـة.
يقول سلامـة موسي عن نفسه في كتابه "تربية سلامـة موسي" ص 64: 70: (سافرت إلي أوربـا وأنـا علي غير وجهـة تعليمية معينة سوي الحصول بأية وسيلة علي الثقافة العصرية، ففي سنة 1908 سافرت إلي فرنسا وهبطت باريس، فلما رأيت المجتمع الباريسي وأختلطت به ورأيت المرأة الفرنسية علي حريتها وصراحتها وطلاقتها شعرت أن أفقاً جديداً يتفتح أمامي، وفضل فرنساً علي أنها جعلتني أوربي التفكير والنزعـة، وقد تركت باريس وفي نفسي إحساساً بأنها عاصمة العالم ولم يتركنـي هذا الإحساس إلي الآن).
ويقول ص 85-104: (إن نيتشه غرس في الإقدام الفلسفي، وحطم عندي ما كان باقياً من قيود غيبية، أما مؤلفات داروين فكنت أقرؤها في عناء التفكير، ومع ذلك هو الباقي الآن في كياني الثقافي، إن داروين وماركس، كلاهما قد غرس في رأسي مركبـات ذهنية وجعلاني أنظر إلي الدنيا وإلي الأحيـاء في استعراض علمي وتحليل اقتصادي سيكولوجي، ويأتي فرويـد بعـد داروين وماركس في إيجـاد المركبـات الذهنيـة التي عملت في توسعـي).
إن نيتشـه ودارويـن وماركس وفرويـد من اليهود وتأثر بهم سلامـة موسي وهو نصراني، وأخيارنا لفاروق حسني المسلم، وسلامة موسي النصراني وتأثرهما باليهود العلمانيين ليؤكـد بالدليل القاطع أن العلمانيين هدفهـم تدميـر الشريعـة الإسلامي والنصرانية خدمـة لليهوديـة كما قلنا ذلك من قبـل.
المذهـب السلامونـي
إن ما رأيناه من اعترافات سلامة موسي لكفيل بصدق ما قلناه في حق العلمنة والعلمانية، وها هو سلامة موسي يدعو إلي العلمانيين علي عمي، دون تبصر أو تمحيص فيقول في مقدمـة كتابه "اليوم والغـد": (كلما ازددت خبرة وتجربة وثقافة توضحت أمامي أغراضي في الأدب كما أرى، فهي تتلخص في أنه يجب علينا أن نخرج من آسيا وأن نلتحق بأوربا - العلمانية - فإني كلما زادت معرفتي بالشرق، زادت كراهيتي له، وشعور بأنه غريب عنـي. وكلما زادت معرفتي بأوربـا، زاد حتي لها وتعلقي بهـا، وزاد شعوري بأنها مني وأنا منهـا.
أريـد حريـة المرأة كما يفهمها الأوربي
وأريـد من التعليم أن يكون تعليماً أوربيا لا سلطان للديـن - غير اليهودي - عليه ولا دخول له فيـه.
وأن يتولى تعليم اللغـة رجال متمدينون يفهمون علي الأقل نظرية التطور - التي تقول بأن أصل الإنسان تطور من قرد - ولا يعتقدون أن اللغة العربية أوسع اللغات
وأريد أن أري العائلة المصرية مثل العائلة الأوربية، زوج وزوجـة وأولادهما بلا ضرار كما يجري الآن في أوربا، بحيث يعاقب بالسجن كل من يتزوج أكثر من امرأة، ويمنع الطلاق إلا بحكـم المحكمـة. (1)
وأريد من الأدب أن يكون أدباً أوربياً، وأريد أدباً مصرياً أبطاله فتيان مصر وفتياتها، لا رجال الدولة العباسية، ولا رجال الفتوحـات العربية (لاحظ أنه يستبدل كلمة الفتوحات الإسلامية بالفتوحـات العربيـة)
أما الثقافة الشرقية فيجب أن نعرفها لكي نتجنبها لما نري من آثارها في الشرق، آثار العبودية والذل والتوكل علي الآلهـة، لماذا لما نصطنع جميعاً الثقافـة والحضارة الأوربيتين، ونخلع عنا ما تقمصناه من ثياب آسيا ؟ - لاحظ أنه يسقط افريقيا من كل حساباته - أجـل يجب أن نكون أوربييـن.
هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سرا وجهراً فأنا كافر بالشرق، مؤمـن بالغرب)
هذا هو المذهب (السلاموني)، كما صاغة صاحبه، وكم في عالمنا العربي والإسلامي من نسخ متكررة من سلامـة موسي داعيـة العلمانيـة والتغريب بلا حـدود.

العلمانيـة والخلافـة الإسلاميـــة
في سنـة 1923م عقدت معاهـدة "لوزان" بين تركيا والحلفاء الغربيين - حلفاء الحرب الاستعمارية العالمية الأولي واليونان، وهي المعاهـدة التي قننت وضع تركيا - مالها وما عليها - بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولـي.
وكان تسوية أوضاع ولايات الدولة العثمانية قد تمت باتفاقية "سايكس - بيكـو" سنة 1916م و "وعد بلفـور" سنة 1917 م فسقطت كل أقاليم دولة الخلافة الإسلامية في قبضة الاستعمار الغربي، وجاءت معاهـدة "لوزان" لتحدد وضع تركيا بعد توزيع أقاليم خلافة العثمانيين.
وشهـد العام التالي لتوقيع المعاهـدة سنة 1924م إلغـاء الخلافة الإسلامية، وطي صفحـة الوعاء التوحيـدي ورمـز الجامعـة الإسلامية، لأول مرة في تاريخ الإسلام والمسلمين!
والأمر الذي لا شك فيه أن هذا الحدث قد حقق حلماً غربياً سعي إليه الغرب منذ عهد أبي بكر الصديق وهرقل (610- 641م).
لقد حقق الغرب العلماني علي أرض الواقع العملي هذا الحلم التاريخـي، وكان لا بد من تبرير الواقع بالفكر واستبدال "علمانية الدولـة" بـ"إسلاميتهـا"، وخلق وفاق بين الثقافـة الإسلامية العصرية وبين الدول القُطْرية العلمانية، التي أقامها الاستعمار علي أنقاض الخلافة التي عرفها علماء الإسلام علي مر تاريخهم: بأنها السلطة والدولة الجامعة بين سياسة الدنيا وحراسة الدين، والتي تسوس الدولة بالسياسة الشرعيـة.
وباختصار، كان مطلوباً استدعاء "التنويـر - الغربي - العلماني" إلي الواقع الفكري الإسلامي، ليصنع مع الإسلام ما صنعه- في أوربـا - مع النصرانية، عندما ردها إلي الكنيسة، واحتبسها فيها، وحرر العمران والنهضـة من المرجعية الدينية.
وبعـد حل الخلافة حانت الفرصة أمام بعض الملوك العرب الذي يدينون لانجلترا، فأخذوا يسعون لإقامة خلافة لهم علي المسلمين في سائر البلاد، مع أن بلادهم خاضعـة للاستعمار الإنجليزي، فإذ قامت فيها خلافة إسلامية، فإنها ستكون خاضعـة لهذه الحكومـة أيضاً.
ونذكـر من هؤلاء الشريف حسين في الحجـاز، والملك أحمـد فؤاد الأول ملك مصر، وقد بذل الأخير كل ما أمكنه من المال وغيره حتى أنه أنشأ لهذا مجلة سماها (مجلـة الخلافـة) واختار للكتابـة فيها محمد رشيـد رضـا صاحب مجلة المنار.
وقد ناوأ طمع الملك أحمـد فؤاد في الخلافة الإسلامية، جمعيـة الخلافـة الإسلامية بوادي النيل، برئاسـة الإمام المجـدد السيد محمد ماضي أبي العزائـم، الذي كان له موقف مشهود ضـد الملك أحمـد فؤاد لما أن أرسل إليه رئيس الديوان الملكي "حسن باشا نشأت" ليقول لـه: إن الملك فؤاد يجب أن يراك ولو حضرت إليه سيعطيك أكبر وظيفة دينيـة في الدولة - شيـخ الأزهـر - وأموالا طائلـة.
فربت الإمام بيد علي وجـه حسن باشا نشأت لما بينهما من مودة وقال لـه: "أنت يا حسن تريد أن تغرر أباك الشيـخ بالدنيـا ؟ وهل ملك مصر يتمنى أن يراني ؟"
قال حسن باشا: نعم
فقال الإمام:"يا حسن قل لفؤاد إن أبا العزائم، لا يحب أن يراك، ولو أحببت أن يأتي فؤاد إلي هنا لجاءني حبوا، إذا وقف الرجل علي باب السلطان حرم عطاء الحنان، ورجل الحق تخضع له التيجان، وخادم الحق له الخلق خدم أينما كان، والخير الإلهي لم صدق وثبت.
ثم قال الإمام كلمته الخالدة عن فؤاد وأمثاله من أمرا السوء: (إن قوما فقدوا الإسلام في أنفسهم وبيوتهـم وشئونهـم الخاصـة والعامـة لأعجـز أن يفيضـوه علي غيرهـم ودعـوة سواهـم إليـه، وفاقـد الشئ لا يعطيـه).

وبالرغـم من غيرة المخلصين في هذه الأمـة علي الخلافـة الإسلامية وبذل النفس والنفيس في سبيل عودتها إلا أن الغرب جنـد أعوانـه من بين معتنقي الإسلام، حيث انتقوا أشخاصاً أسماءهـم إسلامية، ولكنهم مستعدون للتفريط في أي شئ ولبيع أي شئ، حتي ولو كان الشئ هو الديـن والكرامـة وبدأ هؤلاء المحاولات لتنفيذ المـراد.

علي عبد الرازق
علي عبد الرازق أحـد علماء الأزهـر الشريف، حصل علي الشهـادة العالمية سنة 1911م وفي العالم التالي سافر إلي أنجلترا لدراسة السياسة والاقتصاد، ولكن أجواء الحرب العالمية الأولي حالت دون ذلك فعاد إلي مصر وعين قاضياً بالمحاكـم الشرعيـة المصرية عـام 1915م.
لحاجـة في نفس يعقوب، ردد علي عبد الرازق فكر العلمانية اليهوديـة، حيث أنكر الخلافة الإسلامية من أصلها، وادعي أنها ليست من الإسلام في شيء، لأنه دين "لا شأن له بأمور الدنيا"، والخلافة في صميمها من هذه الأمور، فلا يكون في الإسلام شيء اسمه خلافة إسلامية، ومن هنا نشأت قضية كتابه (الإسلام وأصول الحكـم).
وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات، وترجم إلي الإنجليزية، واختبر كمرجع أساسي لعلم الاجتماع الإسلامي في دراسة الجامعـة الأمريكية، علي الخصوص - للإسلام وتعاليمـه، ويأتي تقويمـه والاحتفال به علي هذا النحـو لا لأنه يعرض فكرة جديدة علي الغرب في الدراسات الإسلامية، بل لأن صدر من مسلم - وهو عالم أزهـري - وفي ذلك ترويـج لفكـر الكتاب بين الطلاب الغربيين الذين يدرسـون الإسلام والشعـوب الإسلاميــة.

علمنــة الإســلام والشيـخ علي عبد الرازق
لقد كان كتاب الشيخ علي عبد الرازق (1305 - 1386هـ، 1887-1966م) "الإسلام وأصول الحكـم" التجسـد العملي للموقف الفكري "التنويري - الغربي - العلماني" غير المسبوق في فكر المسلمين وتاريخهـم الطويـل.
ففي هذا الكتاب، الذي صدر سنة 1925م في العالم التالي لإلغاء الخلافة، صور الرجل الإسلام نصرانية، يدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وتصوره دينا لا دولة، ورسالة دينية روحية خالصة ومرآة من معاني الملك والسياسـة والحكم، حتى لقد جعل محور كتابه ذلك الباب الذي جعل عنوانه "رسالـة لا حكم، ودين لا دولة" وتصور الخلافة الإسلامية، منذ نشأتها "كهانـة - استبداديـة، حتي لكأنها الدولة البابوية الأوربية، التي حكمت بالحق والتفويض الإلهيـين" !.
وأنكـر أن يكون رسول الإسلام ﴿ص وَآلِهِ﴾، قد أقام دولة أو أنشأ حكومـة، أو ساس مجتمعاً، أو طبق شريعـة في أمـة فتصوره مجرد مبلغ، كالخالين من الرسـل !.
وبعـد أن وضع إسلامنا وخلافتنا وتاريخنا في قوالب الغرب النصراني ودولة البابوية، وتصور أن واقعنا مرتبط بالمشكلة الغربية، تقدم بالحل الغربي "التنويـر - العلماني" باعتباره الحل الطبيعي لواقع المسلمين، الذي يرد الإسلام إلي إطار العلاقة الفردية الخاصة بين الإنسان وخالقه، والذي يُعزل عن كل ميادين العمران البشري، التي جعل مرجعيتها - كما صنع التنويريون الغربيون - "للعقل والتجريب" وحدهما، دون نقل أو وحي أو شريعـة أو ديـن.
تلك كان محاور هذا الكتاب ورسالته، من أول فقره فيـه إلي آخر ما في صفحاته من فقرات.

يا بعـد ما بين السياسـة والديــن
بعـد أن أنكر إقامـة الرسول ﴿ص وَآلِهِ﴾، لدول أو حكومة، وسياسته لمجتمع وأمـه، وإقامته لنظام وحكم، ذهب فأتي بآيات القرآن الواردة في الاعتقاد الديني القلبي - أي الإيمان القلبي - وهي الآيـات التي ألحت علي أنه لا إكراه في الدين - وعلي أن الرسول ما عليه إلا البلاغ، فليس بوكيل ولا حفيظ (لست عليهـم بوكيـل) الأنعـام 66 (فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ) الشوري:48، أتي بهذه الآيات يستدل بها علي عدم وجود سلطة إسلامية في الدولـة والسياسـة.
متجاهلاً آيات الحُكم، ومتجاهلاً وجود الشريعـة، - مع العقيدة - والتي يقتضي تشريعها وجوب سلطة تقيمها، وإلا كان تشريعاً عبثا !! ومتجاهلا واقع إقامـة الرسـول لهذه الشريعـة قانونا للدولة والأمـة والرعية والمجتمع الذي قام في المدينـة بعـد الهجـرة.
متجاهلاً الواقع الذي تلقته الدنيا بالتصديق والقبول، والفكـر الذي أجمعت عليه الدنيا من أن الإسلام دين ودولة، وأن رسوله الكريم قد تميز عن الخالين من الرسل بإقامتـه للدولــة.
تجاهل الكاتب كل ذلك - لا نقول جهِلَـه - وقال في ثقـة غريبـة، وادعـاء أكثر غرابة: "ظواهـر القرآن المجيـد تؤيـد القول بأن النبي لم يكن له شأن في الملك السياسي، وآياته متضافرة من أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان، لم يكن إلا رسولاً قد خلت من قبله الرسل، ولم يكن من عمله شئ غير إبلاغ رسالة الله تعالي إلي الناس، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم بـه، ولا أن يحملهم عليه. كانت ولايـة محمد علي المؤمنين ولايـة الرسالة غير مشوبـة بشئ من الحكم، هيهات هيهـات، لم يكن ثمـة حكومـة، ولا دولـة، ولا شئ من نزعـات السياسـة ولا أغراض الملوك والأمـراء". (الإسـلام وأصـول الحكـم، ص 64 - 80)

موقف هيئـة كبـار العلمــاء
نظرا لما حواه كتاب الإسلام وأصول الحكم من أفكار خطيرة تتعلق بالإسلام، فقد اجتمعت هيئة كبار العلماء في الأزهـر برئاسـة الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي شيخ الجامع الأزهـر، وقرروا محاكمـة الشيخ علي عبد الرازق تأديبياً بتاريخ 22 من المحرم 1344هـ - 12 من أغسطس 1925م، علي ما كتبـه في كتبـه هذا، بعد أن اجتمعت لدراسة الكتاب ثم رأت مؤاخذتـه في سبعـة أمـور.
1-جعل الشريعـة الإسلامية شريعـة روحيـة محضـة، لا علاقـة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيـا.
2- أن الدين لا يمنع مع أن جهـاد النبي ﴿ص وَآلِهِ﴾ كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعـوة إلي العالميـن.
3- أن نظام الحكم في عهـد النبي ﴿ص وَآلِهِ﴾ كان موضع غموض أو إبهـام، أو أضطراب أو نقص، موجبـاً للحيـرة.
4- أن مهمـة النبي ﴿ص وَآلِهِ﴾ كانت بلاغاً للشريعـة مجرداً عن الحكـم والتنفيذ.
5- إنكار إجماع الصحابة علي وجوب نصب الإمام، وعلي أنه لا بد للأمـة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيـا.
6- إنكار أن القضاء وظيفـة شرعيـة.
7- أن حكومة أبي بكر والخفاء الراشـدين من بعده كانت لا دينيـة.
وبعـد أن انتهي التحقيق مع الشيخ علي عبد الرازق صدر الحكم بما يأتي:
(حكمنا نحن شيخ الجامع الأزهـر بإجماع أربعـة وعشرين معنا من هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ علي عبد الرازق أحـد علماء الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الشرعيـة، ومؤلف كتاب "الإسلام وأصول الحكم" من زمـرة العلماء).
وفي اليوم التالي لصدور الحكم، أدلي الشيخ علي عبد الرازق لجريدة "البورص إجبشين" بحديث - أعادت نشره في اليـوم التالي صحيفة (السياسـة اليوميـة) أعلن فيه تمسكه بآرائـه، بل وقال إنه سيواصل الإعلان عنها بكتابات ومحاضرات وأحاديث جديدة، غير هذا الكتاب، فعندماً سأله المحرر: وهل تعتزم، برغـم الحكم، أن تستمر في أرائك، وأن تستمر في نشرهـا ؟
أجل: بلا ريب، لأن الحكم لم يعدل طريقة تفكيـري.
فعـاد المحرر ليسـأل: وبأي الوسائــل ؟
فقال - بكل الوسائل الممكنة، كتأليف كتب جديدة، ومقالات في الصحف ومحاضرات وأحاديث (أنظر كتاب معركة الإسلام وأصول الحكم - د محمد عمارة ص 131)
وعلي أثر هذا الحكم خلع الشيخ العمامـة، ولبس الطربوش ثم سافر إلي فرنسا - مهـد العلمانية - والتحق بإحدى جامعاتها ومكث فيها إلي أن حصل علي شهادة منهـا، ثم عاد إلي مصر، واشتغل بالمحاماة في المحاكم الشرعيـة ثم رشح نفسه لمجلس النواب، فنجح في الانتخاب، وصار نائباً من النواب، ولم يزل تدور به الأيام وبمساعدة العلمانيين حتي صار وزيراً للأوقـاف.
وكان الشيـخ "محمد مصطفي المراغـي" - غفر الله لـه - شيخاً للأزهـر وهو معروف بأنه من أنصار حرية الرأي - لم نجـد ألطف من هذه العبارة نظراً لوظيفته الدينية - فانتهز هذه الفرصـة بعض العلمانيين، وقدموا إليه عريضة يطلبون فيها إعادة العالـِمية إلي الشيخ علي عبد الرازق، فأجاب الشيخ المراغي ما طلبوه منـه، وألغـي حكم هيئة كبار العلماء، ولا حـول ولا قـوة إلا باللـه العلـي العظيـم.

كبيـر كهنـة المعبـد العلمانـي في مصـر والمفاجـأة الكبــري
المفاجأة الكبرى، التي فتحت في قضية كتاب (الإسلام وأصول الحكـم) بابا لا أظنه سيغلق في عهـد قريـب !!
هي شهـادة الشيـخ "أحمـد حسن مسلم" - وهو من علماء الأزهـر وعضـو لجنـة الفتوى فيه - والتي جاء فيها: أن الشيخ علي عبد الرازق أبلغـه أن هذا الكتاب إنما ألفـه الدكتـور طـه حسيـن.
فلما سألـه: ولماذا نسبـه إليـك ؟
فقال الشيـخ علي عبد الرازق: لقد فاجأني بالكتاب وعليه اسمي
ولما سألته عن سبب ذلك، أجاب طـه حسيـن مازحـاً: (لكـي تكن لك شهـرة عالمية، وذلك بعد أن تنقل عنك وسائل الإعلام الأجنبية والعالمية، وتتحدث عن هذا الكتاب وما بـه من فكـر !!).
(أنظـر هذه الشهـادة في صحيفـة الجمهـورية القاهـرية 28/5/1993م بمناسبة الطبعـة الجديدة لكتاب الإسلام وأصول الحكـم سنـة 1993م في سلسلة كتب "التنويـر - المواجهـة" التي تصدرها الهيئـة العامـة للكتاب - عفواً للعلمانيين في مصر - لتدمير الوجـود الإسلامي في الدولـة.

والشهـادة السابقـة لا نأخذهـا بالكلية ولا نهملها بالكلية بل تضع بجوارها أيضاً ما قاله الشيخ علي عبد الرازق أثناء محاكمته من قبل هيئة كبار العلماء حيث سأله رئيس الهيئة الشيـخ محمد أبو الفضل الجيزاوي وهو ممسك بالكتاب بيمينـه: الكتـاب ده كتابــك ؟
فـرد الشيـخ علي : أيـوه كتابــي.
الشيـخ أبو الفضل: وأنت مصمم علي كل اللي فيــه ؟
الشيـخ علي: أيـوه مصمم علي كل اللي فيـه.
(جريـدة السياسـة اليوميـة العـدد 865 في 13/8/1925م)

أما دور كبير كهنـة المعبـد العلماني في مصر - طـه حسيـن - فقد كان واضحاً في الدفاع المستميت عن هذا الكتاب بمقاليـه المنشورين في جريدة السياسية عن هذا الموضوع، والذي هاجـم فيها الأزهـر لتجريدهـم الشيخ علي عبد الرازق من درجة العالمية، وإبعـاده من القضاء الشرعـي، وفي سياق حديثه قال الدكتـور طـه حسين العبارة، التي نعتبرها مفتاح باب العلاقـة الفكرية بينه وبين كتاب (الإسلام وأصول الحكم)، التي تدخل في صميم المشاركـة في الفكر الذي حمله هذا الكتاب، وليس مجرد الدفاع عنه بعد صدوره مطبوعا، قال الدكتـور طـه :
(علي أني قرأت أصول كتاب الشيـخ علي، قبل طبعـه، ثلاث مرات وعدلت فيه كثيراً) "الإسلام وأصول الحكـم ص 70، 71).
فنحن أمام أعتراف من طـه حسين بأن كتاب (الإسلام وأصول الحكم) هو لعلي عبد الرازق، مع الإقرار بأن لطـه حسين دوراً في تأليفه، وليس تصحيحـه، فهـو قد قرأ أصوله، وليس تجارب طبعـه، وقرأ هذه الأصول ثلاث مرات وعدل - وليس صحح - فيها كثيراً وليس قليلاً.
فهذا الكتاب إذن شركة بين علي عبد الرازق وبين طـه حسيـن.

ونفس الفكـر الذي ينفي علاقـة الإسلام بالسياسـة، ويجعلـه نصرانية تدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، والذي رأيناه في كتاب (الإسلام وأصول الحكـم) نجـده أيضا في كتب طـه حسين (مستقبل الثقافة في مصر) و (الفتنـة الكبري) حيث يقول طـه حسين في كتاب (مستقبل الثقافة في مصر): "إن السياسـة شئ والدين شئ آخـر، وإن نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان علي المنافـع العملية قبل أن يقوما علي أي شئ آخر، وهذا أصل من أصول الحياة الحديثة"
بل ويري التماثل التـام بين الإسلام والنصرانية فيقـول: "إن جوهـر الإسلام ومصدره هما جوهـر المسيحيـة ومصدرها، وإن بين الإسلام والمسيحيـة تشابها في التاريخ عظيماً".
ويقـو في كتاب (الفتنـة الكبـري): "إن القرآن لم ينظم أمور السياسة تنظيما مجملاً أو مفضلاً وإنما أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، ورسم لهم حدودا عامـة، ثم ترك لهم - للناس تدبير أمورهـم كما يحبـون علي ألا يتعدوا هذه الحدود، وأن النبي نفسه لم يرسم بسنته نظاما للحكـم ولا للسياسـة".

فـراخ العلمانيــة وإحيـاء التـراث
بات واضحاً من خلال هذا العرض السريع كيف أخطأ علي عبد الرازق في محاولة قصر الإسلام علي وظيفـة التهذيب والإرشـاد، ولهذا طلبت جرائـد أوربـا وزَمّرَت لهذا الكتاب، كما طبّلت وزمرت من بعده لكتاب (من هنا نبدأ) لخالد محمـد خالد، لأنهم يظهران الإسلام بمظهر العاجز عن وظيفة الحكـم، وهذا من شأنه أن يزرع اليأس في نفوس المسلمين من فائدة السعي في إعادة حكم إسلامي صالح، فلا يرون إلا أن يرتموا في أحضان العلمانية، ويرضخوا لحكمها لهم واستعمارها لبلادهـم.

ومما يلفت النظر ويدعو إلي العجب، أن نري فراخ العلمانية يحبون تراثها القديم الذي وضعه جيل الكهنـة الأوائل للعلمانية أمثال طـه حسين وسلامـة موسي وعلي عبد الرازق، فنري نقيب الصحفيين السابق، ورئيس مجلس إدارة دار الهلال في مصر، الأستاذ مكرم محمد أحمـد يوافق علي طبع هذا الكتاب (الإسلام وأصول الحكم) في طبعة شعبية علي حساب دار الهلال في عام 1992م مع علمه أن هذا الكتاب سبق وأن رفضه الأزهـر ورفض نشره، لما فيه من مغالطـات ضد الإسلام، ولما فيه من ترويـج للفكـر العلماني في السياسـة والحكـم.
وفيما يلي نكشف النقاب عن فراخ العلمانية في بلاد الإسلام، لكشف الغطاء عنهم مهما لبسوا من أقنعـة ليخدعوا بهـا العامــة.

بين الرواد والتلاميـذ
رأينا فيما سبق أن "التنويـر - الغربي - العلماني – اليهودي" عندما جاءنا في ركاب الغزوة الاستعمارية الحديثة، بل - بالأحرى - عندما ألزمنا هذا الاستعمار باعتراف الدكتور طـه حسين: بأن نسير سير أوربا في الحكم والإدارة والتشريع، رأيناه، عند جيل رواده يحاول تصوير إسلامنا: نصرانية غريبة، وخلافتنا الإسلامية: باباوية كهنوتية أغتصبت سلطان الله لتحكم في الأرض بتفويض السماء، ليصلوا بذل إلي تبرير أستعارة "الحل الغربي" "التنويـر - العلماني اليهودي" طالما أن المشكلة مماثلة لتلك التي استدعت في الغرب هذا اللون من التنويـر..
فدعـا علي عبد الرازق إلي علمنـة الإسلام والعمران، وإلي الاقتصار في السياسة والحكم علي مرجعية العقل والتجريب، ودعا سلامة موسي إلي أن ننسلخ من الشرق والدين، لنكون فرنجـة في كل شئ، في العقل، والفكـر، والثقافـة، والقيم، وطرائق العيش، والأزيـاء، باعتبار أن عقلنا إغريقي يوناني منذ نشأته، وما الشرق والعرب والإسلام إلا كارثـة وجملة معترضة، علينا أن نقتلع جذورها من كل ميادين الفكر والحياة، بل وعلينا أن نخجل حتي من أية علاقة بها، فجميعها لا يعدو أن يكون سخافـة قبيحـة ووقاحـة شنيعـة !!
ثم رأينا طـه حسين يحذو في الثلاثينيات حذو سلامـة موسي في العشرينيات، بعـد أن افتتح حياته الفكريـة بنزع القداسـة عن القرآن الكريـم، واتخاذ الشك الديكارتـي سبيـلاً لتشكيك المسلمين بعقائدهـم التي جاءت في سور القرآن وآياتـه.
وقد تراوحت مذاهب هؤلاء الرواد بين العمالة الحضارية، التي تجرد أصحابها من الانتماء إلي مقومات الأمـة ومكوناتها، فبدوا في صورة "اللقطاء - الثقافيين" الذين يحاولون عزل الوطن بل وعزل الأمـة عن تراثها وجذورها، وأيضا عن محيطها - عزلها عن لغتها وعقيدتها - وعن الجامعـة الإسلامية، وذلك حتى تبدو الأمـة هي الأخرى في صورة اللقيط، فيلتقطها الغرب ويلحقها بنموذجـه الحضاري إلحاق اللقطاء بملاجئ الأيتام !!

وتراوحت كذلك بين مذهب الإجتهاد الذي أخطأ أصحابه طريق الحق والصواب. فعـاد منهم من انبهـر بالنموذج الغربي، في مرحلة نضجـه عن هذا الانبهار، مع تفاوت في درجات العودة إلي الذات، وتفاوت في الإفصـاح عن هذا التغييـر !!

والآن، وبينما تتعالي صيحـات التنويـر الذي يواجـه به جيـل التلاميذ المشروع الإسلامي، محاولين التصدي بالتنويـر العلماني "اليهودي" لمشروع إسلامية الدولة والمجتمـع والثقافة والنهضـة المنشـودة: نـود أن نشير في إيجاز شديد، إلى نماذج من تنوير أو جيل التلاميذ، لنبين: أعربي إسلامي تنويرهـم هذا ؟ كما يزعـم بعضهم أحيانا خوفاً من الجماهيـر المنتمية بالفطرة والوعـي إلي العروبة والإسلام، أم أنه تنويـر غربي علماني "يهودي" كالذي استعاره الرواد من الأساتذة المتغربين ؟!
وسنتخيـر معالـم وإشارات ذات دلالـة علي ماذا صنع هذا التنويـر الغربي العلماني "اليهودي" بإسلامنا في أعمال هؤلاء التلاميـذ.

فـؤاد زكريــا
يلخص لنا الدكتور محمد الحسن في كتابه "المذاهب والأفكـار المعاصرة" كلمة الدكتور فؤاد زكريـا في دفاعـه عن العلمانية في المناظـرة التي حدثت بينه وبين منكري العلمانية في ست نقاط فيقـول:
1-أري أن هناك سوء فهـم للعلمانية بحيث أصبحت شتيمـة، ومحاولتي في هذه الندوة أن أقول لكـم: لا، ليست العلمانية هي الشئ المعيب والمرعب أو الشئ الذي يجب أن نعلن عليه حملة شعواء، ليست العلمانية نقيضاً للإسلام حتى نكون مضطرين لاختيار العلمانية أو الإسلام، فمصر في الخمسينيات والستينيات اختارت العلمانية، فهل معني هذا أن مصر كانت كافرة ؟ النحاس باشا: قال إنه علماني حتى النخاع، وكان أكثر الناس تمسكاً بالإسلام.
تعليق: إن الدكتور فؤاد زكريا يجعل ركائـز فكره مبني علي أصحاب الوجاهات السياسية من الأمـوات، كالنحاس باشا، وقـد فاته أن رسول الله ﴿ص وَآلِهِ﴾ لم يقل:"تركت فيكم الزعمـاء السياسيين، أو العلماء الشرعيين، أو الدكاتـرة العلمانيين فاتبعـوهـم" وإنما قال: (كتاب الله وعترتي)، وفي روايـة (كتاب الله وسنتي) وقد رأينا سابقاً التناقض الرهيب بين العلمانية والإسلام حتى وصلنا إلي نتيجـة هامـة وهي"إمـا أن يوجـد إسلام ولا علمانية، أو توجـد علمانية ولا إسـلام".

2- وفي رده علي القائلين بأن الوضع في أوربـا الذي برر لها المناداة بالعلمانية يختلف عن وضع عالمنا الإسلامي لذا فلا حاجة للعلمانيـة، يقول الدكتـور فؤاد: إن المسألة ليست بهذه الصورة تماماً، فالذي حدث في أوربـا لم يكن مجرد ردود فعل علي دولة الكنيسة فقط، بل كان رد فعل علي أسلوب التفكير، كانت أوربا تريد أن تقفر قفزات كبيرة نحو العلم والكشوف الجغرافية للسيطرة علي العالم، وكان العائق في وجهها هو ما نسميه التفكيـر في السلطة، فظهرت العلمانية كرد فعل للتفكير في السلطة، وكان لا بد من عملية فصل بين الكنيسة وسلطة الدولة، وهذا لا يعني أن أوربـا أصبحت كافـرة.
تعليـق: لقـد فات علي الدكتـور فؤاد أن الدين الإسلامي دين العلم والفكر والمنطق، وأنه منسجم مع العلم مشجع علي طلبه ولو بالصين، وفي ذلك إشارة إلي طلب كافة العلوم، وأنه يدعـو العقل إلي التفكيـر والتأمل وبشهـادة علماء وملوك أوربـا أنفسهـم كما يلــي:
أ‌- قال الدكتور"موريس بوكـاي" في كتابـه "دراسـة في الكتب المقدسـة" إن القرآن الكريـم هو الكتاب الوحيـد الذي لا تتناقض آياتـه مع الحقائق العلمية القطعية، وكان ذلك سبباً في إسلامـي.
ب‌- قال جورج الثاني ملك إنجلترا في كتابه إلي الخليفة هشام الثالث الذي حكم سنة 1413 - 1422م: بعـد التعظيم والتوقيـر، سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضـه الصافي معاهـد العلم في بلادكـم العامرة، فأردنا لبلدنا اقتباس هذه الخصائص لنشر أضواء العلم في بلادنـا، التي يحيطها الجهل من أركانها الأربعة، وقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة "دوبي" علي رأس بعثـه بنات الأشراف الإنجليز.
الإمضـاء
خادمكـم المطيع جـورج
جـ - ألقي ولي عهـد إنجلترا الأمير تشارلز محاضرة في جامعـة أكسفور عن الإسلام تحت عنوان "الغرب مدين للإسلام حضارة وتاريخاً" بتاريخ 5/11/1993م قال فيها: الإسلام جزء من ماضينا وحاضرنا في جميع حقول السعي الإنساني، وهو الذي ساعـد علي خلق أوربا الحديثـة، أنه جزء من تراثنا وليس أمراً معزولاً.
وأكثر من ذلك، فإن بإمكان الإسلام اليوم أن يعلمنا الطريقة التي نفهم بها، ونعيش بها في عالم افتقرت فيه المسيحيـة بفعل ما فقدته، وفي صميم الإسلام هناك محافظة علي تصور متكامل للكون، الإسلام يرفض فصل الإنسان عن الطبيعـة، والدين عن العلم، والفكـر عن المادة وحفظ رؤيـة ميتافيزيقية، ومنظور توحيـدي لأنفسنا وللعالم من حولنـا.
وفي هذا ما فيه من علو شأن المسلمين في العلم، وإلي ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية خلال ألف وأربعمائة عام، وحبذا لو قرأ هؤلاء عن الإسلام بمقدار ما يقرأون عن الأفكار الدخيلـة.

3- يقول الدكتور فؤاد: إن مفهـوم العلمانية لم يكن محاربة الدين أو الاعتداء عليه، وإنما المقصود منـه أن للدين نشاطاً وميداناً، وأن للبشر نشاطاً وميدانا آخر، وأن الفرق الحقيقي بين العلمانية والدين ليس تضاداً، وإنما هو شمول الدين كل مرافق وأنشطة الحياة يجعلنا مع احترامنا للدين أن نترك بعض هذه الجوانب للاجتهاد البشري والتفكير الإنساني، وأن المشكلة في نطري هي التداخل بين الجانب الإلهي والجانب البشري.
تعليــق: هذا الفصل بين الجانب الإلهـي والجانب البشري، تأثر به الدكتور فؤاد بما حدث في أوربـا يوم ضعفت الكنيسة فقالوا: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وحفظ الدرس عن أساتذتـه وقاس الإسلام علي النصرانية، ولكنه قياس مع الفاروق فتصدي مـع بني فكره لتوزيع الاختصاص بينهم وبين الله، فأعطـوا الله التخصص في بعض العبادات تكرماً، وسموا ما أعطوه لله دينـا، وتركوا التشريع لأنفسهم فقالوا: هذا لله بزعمهـم وهذا لشركائنـا، تلك إذا قسمـة ضيـزي. إنها لعبـة ماكرة يقصدون منها إقصاء التشريع الإسلامي عن حياة المسلمين ليحل مكانه تشريع الأهـواء، ولكن ذلك مرفوض بنظرنا لسببين أحدهما منطقي والثاني عقـدي.
أ- أما المنطقي: فلأن الإيمان بالفكرة لا يُقبل إلا إذا كان إيمانا كاملاً بكل جزئياتها، تري هل يعتبر الدكتور من يدعي الماركسية ماركسياً إذا أنكر المادية الجدلية ؟ هل يعتبر قوميا عربياً من ينكر الوحـدة العربية ؟ وهل يعتبر إسلامياً من ينكر جزءاً من الشريعـة أو شيئا عُلِم من الدين بالضرورة ؟ وهل يعتبر علمانياً من يؤمن بتطبيق الشريعـة الإلهيـة ؟!!
ب- أما العقـدي: فلأنـه لا يجوز الأخذ ببعض أحكام الإسلام في جانب من جوانب الحياة والاحتكام إلي تشريعـات غير إسلاميـة في جانب آخـر وذلك لسببيـن:
السبب الأول: لأن الإسلام نظام متكامل عبادة وشريعـة ومعاملات وأخلاق وتكافل وسياسة، هذه الحلقات متداخلة مع بعضها البعض، فالزكـاة مع كونها عبادة لها صلة بالاقتصاد الإسلامي، والإرث له صلـة بالأسرة وأنظمتها الاجتماعيـة، وهكذا.. فإذا حكّمنا غير الإسلام في جانب ما تعطلت الجوانب الأخرى، فالإسلام لا يحقق أهدافـه ولا يظهـر مجاله وصلاحه إلا إذا طبقت كافة أحكامـه.
لذلك نجـد سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه، يسارع إلي القضاء علي هذه البادرة الخطيرة فيحارب مانعي الزكـاة مع أنهم يصومون ويحجـون ويصلون وينطقون بالشهادتين مثل بعض العلمانيين اليوم ومن يقتدون بهـم، وأكثر ومـع ذلك فقد أهدر الصديق دمهـم وقال:(والله لو منعونـي عقالاً كانواً يودونـه لرسول الله ﴿ص وَآلِهِ﴾ لحاربتهـم عليه).
والسبب الثاني: وجـود النص القرآني الثابت والقاعـدة الفقهية: "لا اجتهاد مع النص"، يقول الله تعالي (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامـة يردون إلي أشـد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) (البقرة:85) لذلك فإن أية محاولة لإقصاء بعض تعاليم الإسلام عن حياة المسلمين، إنما هي مؤامرة يراد بها القضاء علي الإسلام، لا يجوز السكوت عليها لأن التفريط بالبعض سيؤدي إلي التفريط بالكـل.

4-يقول الدكتور فؤاد: إن من يدعـون إلي تطبيق الشريعـة يعلمون أن التشريع الإلهي لا يُفرض علي الناس إلا من خلال الإنسان، وهذا يعرض التشريع الإلهي للمصالح التي هي من خصائص الإنسان، وفترات الضعف موجـود في التاريخ الإسلامي في معظم فتراتـه، وهذا ما يجعلني أقول إن الفارق بين التشريع الإلهي والتشريع البشري ليس بالضخامـة التي نتصـور.
تعليـق: إنها قول حق أريـد بهـا باطل، هل يتوقع الدكتور أن ينزل الله ملائكـة من السماء لتطبيق الشريعـة ؟ وهل الضعف البشري خاص بتطبيق الشريعـة فحسب أم يشمل تطبيق الشريعـة والقانون علي السواء ؟ ولا أظنـه يقول غير ذلك. إذن فقد سقطت حجته وسيبقي البـون شاسعا بين التشريع الإلهي وكمالـه وسمـو تعاليمـه وهيمنة وازعه على المسلمين للأخذ به والدفاع عنه والتصدي لخصومـه، وبين التشريع البشري المعرض للخطأ والنقص.

5- يقول الدكتور فؤاد: أن أحوال البشر متغيرة، والحياة تواجهنا بمواقف مستجـدة يوماً بعد يوم، هذه المسائل لم يكن من الممكن أن يعمل حسابها في عصر كان أبسط تعقيداً بكثير، وهذا معناه أن مساحة الاجتهاد البشري تتسع يوماً عن يوم وعصراً عن عصر أسبق منـه، هذه الاجتهادات تحدد علاقاتنا بالعالم وتحدد طريقتنا في بناء اقتصادنا وقوانين حياتنا، كما أن الذين يصنعـون القوانين الوضعية لا يتجاهلون الدين والعرف السائدين في ذلك البلد. اهـ
ونلاحـــظ:
الملاحظـة الأولي: في هذه الفقرة هي اعتراف الدكتور فؤاد - وبشطارة - بعجز الشريعة عن مسايرة مستجدات العصـر، لذا فهو يوسع مساحـة الإجتهاد البشري ليحدد علاقته بالعالم، وإلحاق النقص بالشريعـة القاصرة عن مسايرة العصر بنظره، هو إلحاق النقص بموجـد الشريعـة وهو الله تعالي، ولكنني أستغرب هذا النوع المبطن من الغمز والطعن، لم لم تقلها صراحـة ؟ هل تخشي التكفير أم تخشي انكشاف حقيقـة العلمانية وعدائها للإسلام ؟!! فتنفى منك الجماهيـر العلمية التي تحاول استدراجهـم إلي العلمانيـة ؟
والملاحظة الثانية: هذا الجهل المطبق بالإسلام لدي المتأثريـن بحضارة الغرب وشبهاتهـم التي ينتقصون فيها من الإسلام بحيث لم تجـد أستعداداً لدي الواحـد منهم لقراءة سطر واحـد عن الإسلام بينما يقرأ مئات الكتب المعادية للإسلام والإنصاف يقضي أن يقرأ الإنسان شبهات الأعداء، وردود الأصدقاء، أما أن يتخذوا من كلام الحاقدين علي الإسلام حقائق يغلقون عليها عقولهم ويقفون في صف أعداء الإسلام دون أن يشعروا، فتلك مصيبة وإن شعروا فالمصيبة أعظم، لم يقتنعوا أن الشريعـة صالحـة لكل زمـان ومكان متجاهلين شهادة المختصين من علماء القانـون مسلمين وغير مسلميـن. (2)
لقد وضّح الدكتور "مصطفي الزرقا" أن أحكام الإسلام قد فَصّلت في الأمور التي لا تتطور، وأَجملت في الأمور التي تتطور، لكي يجتهـد العلماء في إيجاد حلول لكل جديد، كما صنف الشيخ "عبد الوهـاب خلاف" آيات القرآن حسب المواضيع فكان منها سبعـون آية تتعلق بالأحوال الشخصية، وسبعـون آية بالأمور المدنيـة، وسبعـون آية في الأحكام الجنائية وثلاث عشرة آية في المرافعات، وعشر آيات في الأحكام الدستورية، وخمس وعشرون في تنظيم علاقـة المسلمين بغيرهـم.
كما تجاهلوا شهادة الدكتور "عبد الرزاق باشا السنهوري" واضع القانون المدني المصري وعميـد كلية الحقوق الأسبق، في كتابه "نظرية الحق"، وشهادة الدكتور "شفيق شحاتة"، وهو قبطي مصري في كتابه "الالتزام في الشريعـة"، كما ضربوا ستاراً حول شهادة رجال القانون من مسلمين وغير مسلمين في مؤتمراتهـم الدولية. ففي مؤتمـر القانون المقام في لاهاي أقروا بأن الشريعـة الإسلامية مصدر من مصاد التشريع العام، وأنها حية وصالحة للتطور، وفي مؤتم المحامين الدوليين المنعقد في لاهاي كذلك عام 1948 تقرر تبني الدراسة المقارنـة للتشريع الإسلامي، نظراً لما فها من مرونـة وشأن هـام، وكذا مؤتمر أسبوع الفقه الإسلامي المنعقد في باريس سنة 1951 والذي تقر فيه أن مبادئ الفقة الإسلامي لها قيمـة حقوقية تشريعيـة لا يماري فيها، وأن مجموع الآراء والمذاهب الفقهيـة ثروة تحمل علي الإعجاب، وأنها قادرة علي الاستجابة لجميع مطالب الحياة المدنية والتوفيق بين حاجاته، ومع ذلك يصرون علي عدم صلاح الشريعـة أخذاً بالمثل الشعبي القائل:"عنـز ولو طارت" ومع قناعتي أن أحد منهم لن يستجيب لصوت الحق.

6- ويدلل الدكتور فؤاد أخيرا علي أن كلمة العلمانية ليست شراً بل كلمة مطلوبة في قاموسنا السياسي والديني المعاصر، حيث يستشهـد بالصراعات الطائفية بين السيخ والهندوس والمسلمين في الهند، وبالصراعات الطائفية في لبنان والتي استمرت عشر سنوات وزيادة، والصراع الطائفي في فلسطين، والذي دفع منظمـة التحرير نفسها للمناداة.بدولة علمانية في فلسطين، يتعايش في ظلها أتباع الديانات الثلاث ويقول، أنه لا مفر من هذه المذابح إلا بتأكـيد مفهـوم الدولة العلمانية، فالعلمانية بنظره ليست شريرة، بل هي الأمل في إنقاذ مجتمع معيـن.
تعليـق: الهنـد دولة علمانية.. فهـل حل العلمانية المذابح القائمة بين طوائفها ؟! إن الطوائف تحرم ذبح البقر، وقتل الحشرات، لأنها ذات روح ولكنهم يحلون ذبح المسلمين، ومن يخالفهـم في العقيـدة.
ولبنان كذلك دولة لا دين لها، هل كانت تحكم بالشريعـة الإسلامية أم بالتعاليم المسيحية، أنها حكمت بقوانين وضعية مستوردة، فهي دولة علمانية، ومع ذلك لم تُنْهِ العلمانية الحرب الطائفية فيهـا.
ولا يخفي علي الدكتور فؤاد - وهو سيد العارفين - أن أسباب هذه الفتن إنما هو الاستعمار! فما دام هنا استعمار وجهاد، وما دام للأقوياء مطامع في بلاد الضعفاء، وما دام معركة اقتسام مناطق النفوذ دائرة بين الدول الكبري، وما دام في أمتنا من يؤجِّر نفسه وفكره ويعطي ولائه لأعداء هذه الأمـة، فإن محاولات التجزئـة والتفرق وإثارة الفتن قائمـة، ولا أدل علي ذلك من أن نصاري لبنان يعملون في ثلاث جبهات، قسم مع إسرائيل وقسم مع رئيس الدولة، وقسم مع أمل والحزب الاشتراكي. فأين الطائفية إذاً ؟ وأيـة علمانية هذه التي ستوحـد لبنان ؟ وهل يتصور الدكتور فؤاد أن قائـد الإنفصال في جنوب السودان سيتوقف عن تمرده ما دامت روسيا وأثيوبيا بجانبـه ؟!

وأريـد أخيرا أن أذكر العلمانيين بأن العلمانية نغمـة قديمـة، يرفضها جيلنا المعاصر، وإن حاولوا بعثها من جديد، ومسحها مما علق بها من غبار عدائها للإسلام، لأن العقيدة أرق من القومية والعرقية. وأنه يمكن للإنسان، أن يتناسى قوميته في سبيل عقيدته، ولكنه لا يتجاهل عقيدته في سبيل قوميته، سيما إذا كانت هذه العقيدة تحترم كافة القوميات وتعتمد مقياس التقوى أساساً للتفاضل بين بني الإنسـان (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) سورة الحجرات: 13

السيد محمد علاء الدين أبو العزائم
شيخ الطريقة العزمية
ورئيس الإتحاد العالمي للطرق الصوفية

____________
(1) للرد عليه راجع كتابنا (مؤتمرات المرأة بين الجهالة والعمالـة) للمؤلف
(2) راجع كتابنـا (شكر نتياهـو) للمؤلف



#محمد_عبد_المنعم_عرفة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإسلام دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها [11]
- العلمانية في ثوب الإستشراق (طه حسين)
- آخر ليلة في رمضان للإمام أبي العزائم
- تجربة العلمانية في تركيا
- الإسلام دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها [10]
- الإسلام دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها [9]
- الله وأنبيائه ورسله في التوراة وفي الفكر السلفي
- العلمانية الوجه الآخر لليهودية [2]
- العلمانية الوجه الآخر لليهودية [1]
- الأمة الإسلامية.. عوامل الضعف وأسباب النهوض [4] السيد محمد ع ...
- رسائل إلى الشيخ حسن فرحان المالكي [2]
- رسول الله ص يتنبأ بظهور الجماعات المتأسلمة ويخبرنا بأنهم مشر ...
- رسائل إلى الشيخ حسن فرحان المالكي [1]
- الأمة الإسلامية.. عوامل الضعف وأسباب النهوض [3] السيد محمد ع ...
- الأمة الإسلامية.. عوامل الضعف وأسباب النهوض [2] السيد محمد ع ...
- الأمة الإسلامية.. عوامل الضعف وأسباب النهوض
- الإسلام دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها [8]
- عبادة الملائكة الروحانيين.. [2] الصوم كما يراه الإمام أبو ال ...
- يهود أم حنابلة ؟!! [5] السيد محمد علاء الدين أبو العزائم
- يهود أم حنابلة ؟!! [4] السيد محمد علاء الدين أبو العزائم


المزيد.....




- “السلام عليكم.. وعليكم السلام” بكل بساطة اضبط الآن التردد ال ...
- “صار عندنا بيبي جميل” بخطوات بسيطة اضبط الآن تردد قناة طيور ...
- “صار عنا بيبي بحكي بو” ثبت الآن التردد الجديد 2025 لقناة طيو ...
- هل تتخوف تل أبيب من تكوّن دولة إسلامية متطرفة في دمشق؟
- الجهاد الاسلامي: الشعب اليمني حر ويواصل اسناده لغزة رغم حجم ...
- الجهاد الاسلامي: اليمن سند حقيقي وجزء اساس من هذه المعركة
- مصادر سورية: الاشتباكات تدور في مناطق تسكنها الطائفة العلوية ...
- إدانات عربية لعملية اقتحام وزير إسرائيلي باحة المسجد الأقصى ...
- افتتاح الباب المقدس في كاتردائية القديس بطرس بالفاتيكان إيذا ...
- زيلينسكي يحتفل بعيد حانوكا اليهودي بحضور مجموعة من الحاخامات ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد عبد المنعم عرفة - جولة مع أقطاب العلمانية (سلامة موسى) و(علي عبد الرازق) و(فؤاد زكريا)