|
تآكل هيبة الخضراء كسلطة
اسماعيل شاكر الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 5214 - 2016 / 7 / 5 - 22:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تآكل هيبة الخضراء كسلطة اسماعيل شاكر الرفاعي
كانت المنطقة الخضراء الى وقت قريب ، قلعة محصنة لا ينتهك حرمتها أنس ولا جان من دون اذن مسبق . تقبع داخل سور كونكريتي تتخله بوابات تقف على رأسها حمايات تنظم عمليات الخروج والدخول ، وتحرسها من الداخل أفواج من قوات الأمن المدججين بأحدث انواع الأسلحة الفتاكة ، تفوق أعدادهم ( اذا أضفنا اليها حمايات الرئاسات الثلاث ونوابها ، والسفارات والوزراء والنواب والمستشارين ومفتشي الوزارات وبعض المدراء العامين ) أعداد من اجتاحها من المتظاهرين . على مدى أعوام منحت الخضراء لساكنيها هناءة حقيقية ، وجعلتهم يتمتعون بعزلة فارهة على خاصرة نهر دجلة ، كما لو كانوا في جنة عدن بغدادية ، حتى قرّ في وعيهم ان خضراء (هم ) قد تحولت الى أرض شبه مقدسة لن ينال من حرمتها أي كان ولأي سبب . حفّزهذا التصور لدى الخضراء الأمعان في انفصالها عن ناخبيها ، والأستمرار في كبريائها وتعاليها وامتناعها عن نقد نفسها ، عبر نقد منهجها في ادارة الشأن العام . قد يكون تصور الخضراء عن نفسها صحيحاً في سنوات الحرب الأهلية الطائفية ، ولكن في السنوات اللاحقة ، وخاصة بعد عام 2009 ، وهي سنوات وفرة مالية غير مسبوقة ، بدأت أعداد الساخطين تتكاثر باستمرار ، ويتكاثر معها نقد منهج الخضراء في الحكم ، ويزداد الربط بين هذا المنهج وبين تردي الأوضاع المعيشية والخدمية وتفجر الأزمات السياسة بين اطراف الحكم . كل ذلك عمّق من تصاعد الغضب بشكل عام ، بعد ان بدأ الناس يشعرون يان حياتهم تزداد صعوبة مع تواصل انقطاع التيار الكهربائي ، واتساع خارطة الفوضى ، وتكاثر الميليشيات واستفحال الفساد ، وانتشار شائعاته التي بدأت تشير بوضوح الى الكثير من الرموز القيادية في الخضراء . منذ عام 2011 ، وهو العام الذي بدأ فيه زحف المظاهرات ، أصبح خطاب الخضراء يلح على ضرورة الأجماع ، وضرورة الوحدة الوطنية ، للدرجة التي جعلت المتظاهرون يتوجسون خيفة من هذا الألحاح على مضامين لم تكن واردة في سابق خطاباتها ، وتساءلوا عما اذا كان هذا التحول في الخطاب مقدمة لتخوينهم والطعن بوطنيتهم وبالتالي عزلهم ، فردوا بغضب : " باسم الدين باكَونا الحرامية " . وتردد صدى هذه الأهزوجة كل جمعة ، عبر نهر دجلة ، في سماء الخضراء . والحق ان المنطقة الخضراء لم تكن في تصور العراقيين ارضاً ذات قداسة ، فهي مبان ومنشآت حكومية ودور سكنية ورثها الحكام الجدد عن النظام السابق ، لكن الطريقة التي تناهبوا بها هذه المنطقة ، مهدت لاحياء ظاهرة الفرهود التي تكررت في العراق في أوقات معلومة ، ولأن الناس على دين ملوكها كما يقال ، اندفع لفيف منهم الى الدور والمباني الفارغة والى الساحات العامة فسكنوها وبنوا فيها أحياء أصبحت مصدراً للأوبئة والقباحة ، وبهذا شرعن سكنة الخضراء ظاهرتين سيتحولان مع مرور الأيام الى ثقافة عامة هما ظاهرتي العنف والقدرة على التعايش مع القبح والرذيلة . صحيح ان الفوز في الأنتخابات هو الذي شرعن لاحقاً لسكنة الخضراء شرعية السكن فيها ، ولكنهم لم يستكملوا هذه الشرعية بالأنجاز . والأنجاز هو رصيد الشرعية في الدول الديمقراطية ، ففي مثل هذه الدول يحق للمغبونين والمتضررين من قرارات أية وزارة المطالبة بعزل الوزير المعني ، وحتى بعزل رئيس الوزراء في مسائل أقل بكثير من مسألة حرمان الشعب من الكهرباء لعقد ونيّف من السنوات ، أو لضياع مليارات الدولارات ، أو لتمرير موازنة الدولة من غير حسابات ختامية . لقد ظل وعي الخضراء السياسي مقيداً بتجارب الحكومات الاستبدادية في العراق وعموم المشرق العربي ، ولم يستطع خيالها السياسي اختراق تجارب الطغاة المشرقيين واستلهام تجارب الزعماء المؤسسين لدول ديمقراطية ، والكثير منهم عاش كزاهد ، واضرب على ذلك مثالاً برئيس جمهورية ايران الأسلامية السابق أحمدي محمد نجاد الذي اكتفى براتبه الجامعي . فيما شرّعت الخضراء لرموزها من الرئاسات الثلاث والوزراء والنواب وذوي الدرجات الخاصة ، رواتب وامتيازات غير معقولة ، لا تتناسب مع واقع مجتمعهم الذي يعيش محنة غزو فلسفة المحافظين الجدد الاقتصادية ( neoliberalism ) التي حملها الغزو العسكري معه ، واوكل الى بريمر بتطبيقها ، فأدت الى سحق اقتصادهم ونخر عظامهم ، ووضعت غالبيتهم تحت خط الفقر . لم تستطع سلطة الخضراء ان تشرّع قانوناً واحداً ذا تأثير كقانون النفط والغاز وقانون الأحزاب ، أو قانوناً واضحاً للأستثمارات ، أو تشريعات تنظم العلاقة بين المركز والأقليم وباقي المحافظات . واستمرت بالعمل بالمئات من قوانين وتشريعات أنظمة مجالس قيادات الثورات السابقة ، وحتى بالقوانين البالية للنظام الملكي ، وجميعها تتناقض في التطبيق ، كونها تشريعات انظمة شديدة المركزية ، مع التعددية والفيدرالية التي أقرها الدستور . لقد ثلمت الخضراء شرعيتها قبل ان يثلمها المتظاهرون وهم يرفعون شعار : أصلاحها ، اذ لم تكن الخضراء في وعيهم أبداً تابو أو مقدسة ، وهو التصور الذي تحمله عن نفسها وتروج له أجهزة اعلامها . بل هي في وعي المتظاهرين ، وفي وعي الغالبية العظمى من العراقيين مقراً لمكاتب بيروقراطية ، أصدرت الكثير من القوانين والتشريعات والأوامر التي قادت البلاد الى حافة خراب عام وشامل ، واصبح اصلاحها ضرورة لا تقل في أهميتها عن ضرورة طرد داعش من الأراضي التي استولت عليها ، كونها مركز القرار السياسي الذي تسبب بهذه الكارثة وحملتهم معاناة اضافية باستيلادها لظاهرة النزوح الداخلي والهجرة الخارجية . لم تعر الخضراء آذاناً صاغية للمحتجين ، تصرفت معهم خاصة في عام 2011 بمثل ما تصرفت السلطات السابقة عليها : أرسلت عليهم من قوات الأمن تلك التي تدربت على معالجة ( الشغب ) فقمعتهم وفرقتهم وخطفت من بينهم قادتهم ، محاكية في هذا الموقف كل السلطات المستبدة في التاريخ في الموقف من المحتجين عليها : تقفل باب الحوار وتلجأ الى القوة الغاشمة . وبهذا الفعل الشنيع طابقت الخضراء بين وجودها وبين وجود أجهزتها القمعية ، وفي هذا التطابق العملي نزعت الخضراء عنها آخر اوراق التين التي كانت تتجلبب بها ، وتكشفت عارية من دون رتوش ديمقراطية ومساحيق عن التعددية وحقوق الأنسان والمواطنة . لم تنصت الخضراء جيداً لصوت الأحتجاج الآتي من المكان القريب تحت نصب الحرية ، ولم تشرع في تحليله للوصول الى أسباب الأحتجاج وللدوافع الكامنة وراء انطلاقه . على مدى خمسة أعوام استمرت الأحتجاجات والتظاهرات وبدا انها ستصبح شاملة فمدن كثيرة في الفرات الأوسط وفي الجنوب بدأت تشارك بغداد احتجاجاتها ، ومع ذلك ظلت الخضراء صامتة لا تفعل شيئاً . وحين تشكلت حكومة الدكتور حيدر العبادي وهي ترفع شعار الأصلاح تضامن الجميع معها : المتظاهرون والمرجعية الدينية والقوى الدولية والأقليمية في دعم غير مسبوق . وبدا ان رئيس الوزراء يعيش صراعاً عاتياً مع صقور الخضراء وهو يضمن خطاباته عبارة : " حتى لو قتلوني " التي كررها في أكثر من مناسبة ، مما زاد في حماسة المتظاهرين الذين أصبحوا يتظاهرون لغاية اضافية : دعمه واسناده بوجه القوى المتآمرة على قتله وتصفية مشروعه الأصلاحي . وهنا علينا ان نتوقف قليلاً : فرئيس الوزراء يعي تمام الوعي غاية الناس الأضافية من التظاهر ، ويعي جيداً ان المتظاهرين لا ينطوون على اسرار ، وانهم يميزون تماماً بين الأنقلاب والأصلاح ، وليس من أهدافهم الثورة والأطاحة بالنظام السياسي . ويعرف رئيس الوزراء مثلما يعرف غيره من الوزراء والنواب ان جل المتظاهرين ينتمون للأحزاب نفسها التي يقودونها ، وهي الأحزاب التي تدير دفة الحكم ، ولهذا فان التقييم الحقيقي لما يقومون به يتطلب شيئاً آخر غير التهم الجاهزة ، فهذا اسلوب لا يمت بصلة الى منهج التعددية والديمقراطية التي تتطلب – لا أقول تلبية مطالب المتظاهرين في اللحظة والتو – بل حوارهم لتهدئتهم أولاً ، والتفكير الحقيقي بسؤال : ماذا سيحصل لو اننا ظللنا على صمتنا ولم نفكر بجد بمضامين شعاراتهم وهوساتهم . هذا السؤال هام وحيوي لأنه يقود الخضراء الى استشفاف التداعيات والمرامي البعيدة التي قد تقود اليها الأحتجاجات في حالة الأستمرار في صمتها واحجامها عن فعل التغيير . لكن يبدو ان اطمئنان الخضراء الى التصور الذي صنعته عن نفسها ، ولنفسها وليس لأحد سواها ، من ان الناس ينظرون اليها كما لو كانت تابو أو أرضاً محرمة ، سيمنعهم من محاولة الأقتراب من جدرانها ، مهما فعلت ، قد جعلها تستسلم لهذا الوهم الخادع وتترفع عن محاورتهم ، وعند هذا الحد فاجأ المتظاهرون الخضراء وهم يعتلون أسوارها وينتهكون هذا التصور الخادع . لقد دفع وهم الخضراء عن نفسها وامتناعها عن الاستماع الى المتظاهرين الى لجوئهم الى وسيلة أخرى . لقد رفض المتظاهرون الأستمرار بتصديق أعلان الخضراء عن تضامنها مع شعار المتظاهرين الأساسي المتمثل باجراء الأصلاح وعدوه مناورة لأمتصاص غضبهم ، وهنا تكمن الخطورة . خطورة الافتراق في الرؤية والموقف بين الطرفين : رؤية الخضراء لمسألة الأحتجاج ورؤية المتظاهرين له .. على طول التاريخ تتبدى الجماهير – رغم غضبها المكشوف – اكثر صبراً من جلاديها . ينبع صبرها من ايمانها اللامحدود بعدالة قضيتها ، ومن أيمانها الراسخ بأنها اذا خسرت جولة فأمامها جولات ، ولهذا لا تؤمن الجماهير بالهزيمة : تبدأ بالأحتجاج كطريقة في التنبيه الى المأزق الذي تتردى فيه السلطات . وتمدها السلطة نفسها بهذا الأيمان وهي تمعن في الأصرار على تصريف الشأن العام وفق المنهج الذي قاد الى الخراب . وبهذا الجدل تتآكل هيبة السلطة ( وليس هيبة الدولة كما فلسف البعض اجتياح المتظاهرين لعتبات المنطقة الخضراء ، فالأعلام العراقية كانت مرفوعة بشغف وترف فوق هامات المتظاهرين ) وينطفئ ما تبقى لها من تأثير . من هذه اللحظة ، لحظة الشعور باليأس وبفقدان الأمل ، ينمو سياج العزلة المخيف بين الطرفين ، اذ تبدأ الجماهير بالأشارة الى السلطة لا باسمها الصريح بل بالكنية ذات الدلالة : ( هم ) ، وتشير الى عزلتها عن (هم ) بكلمة ( نحن ) . وانئذ سيمنح المحتجون لأحلامهم أجنحة أخرى تحملهم الى عوالم وآفاق بعيدة .. ولات ساعة مندم ...
#اسماعيل_شاكر_الرفاعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تسليع (النضال)
-
الفلوجة .... الى -عامر بدر حسون
-
احتجاجات في بغداد ترجمة اسماعيل شاكر الرفاعي
-
بين الثورة والأصلاح
-
جورج طرابيشي
-
عن السيرة الذاتية للدكتور صلاح نيازي
-
ليس رثاء / الى محسن الخفاجي
-
المالكي والتحدي الطائفي
-
المالكي وحكم التاريخ / 1
-
مدن عراقية أم سناجق عثمانية
-
تحت قبة البرلمان العراقي
-
عن المعارضة
-
لغط جديد وتشرذم جديد
-
عن الخلق والدهشة في رواية - فرانكشتاين في بغداد -
-
الدعاية الانتخابية / 6 ... العبور من الديني الى الدنيوي
-
الدعاية الانتخابية / 5 ... التغيير
-
السارد والعالم
-
الدعاية الانتخابية / 4 ... في خطاب الدعاية الانتخابية
-
الدعاية الانتخابية / 3 صور المرشحات وثقافة الحجاب
-
الدعاية الانتخابية 2 وجه الصورة الانتخابية الآخر
المزيد.....
-
مسؤول عسكري بريطاني: جاهزون لقتال روسيا -الليلة- في هذه الحا
...
-
مسؤول إماراتي ينفي لـCNN أنباء عن إمكانية -تمويل مشروع تجريب
...
-
الدفاع الروسية تعلن نجاح اختبار صاروخ -أوريشنيك- وتدميره مصن
...
-
بوريسوف: الرحلات المأهولة إلى المريخ قد تبدأ خلال الـ50 عاما
...
-
على خطى ترامب.. فضائح تلاحق بعض المرشحين لعضوية الإدارة الأم
...
-
فوضى في برلمان بوليفيا: رفاق الحزب الواحد يشتبكون بالأيدي
-
بعد الهجوم الصاروخي على دنيبرو.. الكرملين يؤكد: واشنطن -فهمت
...
-
المجر تتحدى -الجنائية الدولية- والمحكمة تواجه عاصفة غضب أمري
...
-
سيارتو يتهم الولايات المتحدة بمحاولة تعريض إمدادات الطاقة في
...
-
خبراء مصريون يقرأون -رسائل صاروخ أوريشنيك-
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|