|
الإسلام دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها [11]
محمد عبد المنعم عرفة
الحوار المتمدن-العدد: 5214 - 2016 / 7 / 5 - 22:51
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يقول الإمام أبو العزائم:
عقيـدة المؤمـن هذا ما يمكن أن يرسم بالكتابة، ويبين بالعبارة، حتى إذا انعقدت القلوب عليه أشرقت عليها أنوار مكون الأكوان، فتتميز مراتب الوجود، ويحصل للنفس شوق إلى علم الآيات الظاهرة في الكائنات، فيجول الفكر جولة باحث بنظر سديد فيما خفى في تلك الآثار سر قوله تعالى:(قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَات) فتلوح عليه أنوار الأسرار الدالة على قدرة القادر البديع الحكيم، ويأنس بأنوار الملكوت الأعلى، وتُجْلى له العوالم في كل مرتبة من مراتب الوجود؛ وكلما انكشفت له مرتبة من مراتب الوجود علم من نعم الله عليه سبحانه وتعالى وأياديه سبحانه الواصلة إليه علما لم يكن يعلمه من قبل، قال تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً).
ويترقى في تلك المقامات العلية حتى يبلغ من الكمالات ما يصير به حاضرا مع الله سبحانه وتعالى، ويرى كل ما سواه سبحانه وتعالى مقهوراً مربوبا لله عز وجل، وبقدر ما ينكشف له من تلك الأسرار يكون تعظيمه للجناب المقدس، وإجلاله لأحكامه، واقتداؤه برسول الله (ص وآله)، ويكون في مقام بين الرغبة والرهبة، لا يعظم غير الله، ولا يشتغل بغير ذكره، ولا يحب إلا من والاه سبحانه وتعالى. فهذه العقيدة تجعل الإنسان عظيما في نفسه، لا يذل لغير مولاه الذي خلقه وأبدعه، لأنه يرى أن كل من سوى الله عبيد أمثاله، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، يحب من أحب الله تعالى، ويعظم من عظمه الله تعالى، ويطيع من أمر الله بإطاعته فيكون حبه لله وتعظيمه لله وطاعته لله، يرى في كل شيء آية دالة على عظمة المبدع الحكيم القادر، ودليلا ساطعا على ذل هذا الشيء وقهره بقهر الكبير المتعال، فيكون كل شيء في عين من اعتقد تلك العقيدة - وإن عظم خَلْقًا وكمل خُلُقًا وعم النفع به - صغيراً في عين من تجمل بهذه العقيدة الإيمانية، لاعتقاده أن هذا الجمال والكمال مفاض من جناب القدس فضلا من الله تعالى ورحمة، فيشهد بعين رأسه هذا المخلوق، وبنور سره أنوار الخلاق العظيم، وأسرار ممد الكائنات بحقيقة الإيجاد والإمداد، فتكون قيومية الحق وأنوار قدرته وأسرار حكمته مشهد عيون سره، وتلك الآثار الدالة على الآيات مشهد عيون بصره، ومدرك حواسه. فلا يحصل له لبس لانبلاج أنوار العقيدة الحقة على عيون سره، ولا طيش لكمال يقينه بمقتضيات كمالات ربه، ويكون الكون وما فيه: وسائل قرب، وأقداح طهورٍ لحب، وشموسا ماحية لظلمات الأوهام و كثائف العقول، وإن المؤمن بهذه العقيدة - وإن تقلب جسمه في المعاصي - فقلبه مشرق بنور التوحيد، يطمئن بالمبديء المعيد.
كثائـف الظلمـات: أما غيره ممن لم تشرق على قلبه أنوارُ العقيدة الإسلامية - وإن كان جسمه متقلبًا في الطاعات - فقلبه منعقد على كثائف الظلمات، ولذلك ترى غيرنا - جماعة المسلمين - يرون مخلوقا مثلهم إلها يُعبد، وتحتار فيه عقولهم الكثيفة السخيفة، فمنهم من يقول: هو الله، ومنهم من يقول: هو ابن الله، ومنهم من يقول: حل فيه الإله. وهي عقيدة فطر عليها بنو الإنسان من الجهالات القديمة، وهاوية هوت فيها العقول التي تسلط عليها الوهم بنظر أعمال يحدثها الله على يد من يشاء، ومنافع يودعها الله ما شاء ومن شاء، وأسرار يظهرها الله سبحانه متى شاء بمن شاء، ليكشف للعقول غرائب قدرته، وعجائب حكمته، فتنكسف أنوار العقول عن أن تخرق حجب الأوهام، وتنعقد القلوب على الشرك أو الجحود أو الكفر، نعوذ بالله تعالى من حال يشهد فيه الإنسان الجناب المقدس محيزا، أو مكيفا، أو مشبها، أو معدودا، أو محدودا، أو والدا، أو مولودا.
ظهر لك أن عقيدة الإيمان تجعل المؤمن عزيزا في نفسه، كبيراً على أن يذل لغير ربه، عليا على أن يشهد نافعا أو ضارا سوى مبدعه وخالقه، أشرق على قلبه نور التوحيد فجعله إنسانا كاملا. وغير المسلم انحط عن مكانة الإنسانية، فجعل الله حجرا أو كوكبا أو إنسانا مثله، ويا ليته أخفى تلك الضلالات التي تقشعر لها جلود العقلاء، وتضطرب لها قلوب أهل القلوب، ولكنه قام يؤيد تلك الضلالات بما هو أضل منها، فمنهم من يقول: المسيح ابن الله، أو: هو الله، أو: حل فيه الإله. ومن هو المسيح بن مريم ؟ إنسان كان يأكل ويشرب، ويبول وينام، ويخاف ويأمن ويفرح، وتنزه الجانب المقدس عن أن يحيط به العرش العظيم فضلا عن أن يحويه سبحانه جسم إنسان أو جسم إنسانة، وتعالى علوا كبيرا عن أن يحتاج إلى طعام يقوم به صلبه، أو ألم يؤلمه من حصر بول أو غائط، وهو سبحانه الغني عن كل من سواه، المفتقر إليه جل جلاله كل من عداه، وما المسيح بن مريم إلا آية من آياته، مقهور بقهره، ذليل لعزته، قال الله تعالى: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) وأقبح من تلك العقيدة اعتقاد من يصنع حجرا بيديه ثم يقف له ذليلا خاشع القلب والجسم، ويعتقد أنه هو الإله الخالق القادر، سبحان الله، ما أعمى عيون البصائر !! ولله الحمد على الإسلام في تنزيه ذاته سبحانه عن الولد والوالد.
رفعـة الإنسـان بالإسـلام: هذا هو سر المقابلة بين عقيدة الإسلام التي تجعل الإنسان فوق الملائكة قدرا لا يخشى إلا الله، ولا يرجو إلا الله، ولا يعتمد على غير الله، ولا يبتغي الفضل والرضا إلا من الله، وبين العقائد الأخرى التي تجعل الإنسان في أسفل سافلين، ويتخذ إنسانا مثله إلها له، أو يصنع آلهة من الجمادات أو النباتات، أو يعبد الكواكب أو البهائم. نعم، رفع الإسلامُ الإنسانَ بما كشف له من أسرار الغيب عن حكمة إيجاده وسر إمداده، لأنه لؤلؤة العقد، وخليفة عن ربه، خلقه الله على صورته، وسخر له جميع ما في سماواته وأرضه، حتى بلغ الإنسان منزلة بالإسلام يكون فيها مع الله سبحانه والله تبارك وتعالى معه، ومقاما من المقامات تكون فيها الملائكة في خدمته، فكيف يرضى الإنسان بالذل بعد العز ؟ وبالسفل بعد الرفعة ؟ وبغضب الله ومقته بعد محبته ورضوانه ؟ هذه نتائج عقائد الكفر، قال تعالى: (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة ٌوَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) وقال تعالى: (مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا).
الأصـل الذي أسس عليه الدين: من المقرر أن الأصل الذي أسس عليه الدين وتفرعت عليه فروعه، وتجمل منه السالكون بجمال المشاهد العلية، وأحوال مقامات أهل اليقين؛ هو العقيدة الحقة التي مأخذها كتاب الله تعالى وسنة رسوله (ص وآله)، ومتى انعقد القلب على تلك العقيدة الحقة كوشف بأنوار ذي العزة والجلال فامتلأ خشية منه سبحانه، وشهد جمال الحكيم المنعم المتفضل فانجذب إلى حضرته بالمحبة الخالصة، فكانت الخشية عن اليقين نور قلبه، والمسارعة للقيام بما أوجبه الله سبحانه ورغب فيه جمال ظاهره، وذلك لأن أعمال الجوارح المجترحة عن مشهد القلب المعمور بالعقيدة الحقة، المشرف على العزة وقدس الجبروت الأعلى بعد مشاهدة الملكوت ومعاينة الآيات في الملك، ولديها يكون المسلم عبدا عابداً شاهداً مشهوداً، مسارعا إلى مغفرة من ربه وجنات عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، لا يتنفس نفسا إلا سطعت أنوار أنفاسه على عالم الملكوت الأعلى، فيكون نور أنفاسه لأهل الملكوت كنور الشمس لأهل الأرض، تتزين بأنفاسه الجنات، وكيف لا ؟ وفى كل نفس من أنفاسه مغفرة من الله ورضوان. جمَّل الله قلوبنا بحقيقة اليقين ونور التمكين، وظاهرنا بحلل عباده المنعمين، وجمال أوليائه المقربين، إنه مجيب الدعاء.
#محمد_عبد_المنعم_عرفة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العلمانية في ثوب الإستشراق (طه حسين)
-
آخر ليلة في رمضان للإمام أبي العزائم
-
تجربة العلمانية في تركيا
-
الإسلام دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها [10]
-
الإسلام دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها [9]
-
الله وأنبيائه ورسله في التوراة وفي الفكر السلفي
-
العلمانية الوجه الآخر لليهودية [2]
-
العلمانية الوجه الآخر لليهودية [1]
-
الأمة الإسلامية.. عوامل الضعف وأسباب النهوض [4] السيد محمد ع
...
-
رسائل إلى الشيخ حسن فرحان المالكي [2]
-
رسول الله ص يتنبأ بظهور الجماعات المتأسلمة ويخبرنا بأنهم مشر
...
-
رسائل إلى الشيخ حسن فرحان المالكي [1]
-
الأمة الإسلامية.. عوامل الضعف وأسباب النهوض [3] السيد محمد ع
...
-
الأمة الإسلامية.. عوامل الضعف وأسباب النهوض [2] السيد محمد ع
...
-
الأمة الإسلامية.. عوامل الضعف وأسباب النهوض
-
الإسلام دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها [8]
-
عبادة الملائكة الروحانيين.. [2] الصوم كما يراه الإمام أبو ال
...
-
يهود أم حنابلة ؟!! [5] السيد محمد علاء الدين أبو العزائم
-
يهود أم حنابلة ؟!! [4] السيد محمد علاء الدين أبو العزائم
-
يهود أم حنابلة ؟!! [3] السيد محمد علاء الدين أبو العزائم
المزيد.....
-
“السلام عليكم.. وعليكم السلام” بكل بساطة اضبط الآن التردد ال
...
-
“صار عندنا بيبي جميل” بخطوات بسيطة اضبط الآن تردد قناة طيور
...
-
“صار عنا بيبي بحكي بو” ثبت الآن التردد الجديد 2025 لقناة طيو
...
-
هل تتخوف تل أبيب من تكوّن دولة إسلامية متطرفة في دمشق؟
-
الجهاد الاسلامي: الشعب اليمني حر ويواصل اسناده لغزة رغم حجم
...
-
الجهاد الاسلامي: اليمن سند حقيقي وجزء اساس من هذه المعركة
-
مصادر سورية: الاشتباكات تدور في مناطق تسكنها الطائفة العلوية
...
-
إدانات عربية لعملية اقتحام وزير إسرائيلي باحة المسجد الأقصى
...
-
افتتاح الباب المقدس في كاتردائية القديس بطرس بالفاتيكان إيذا
...
-
زيلينسكي يحتفل بعيد حانوكا اليهودي بحضور مجموعة من الحاخامات
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|