أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد عبد المنعم عرفة - الإسلام دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها [9]















المزيد.....



الإسلام دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها [9]


محمد عبد المنعم عرفة

الحوار المتمدن-العدد: 5212 - 2016 / 7 / 3 - 02:02
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


من علوم القرآن
تلاوة القرآن حق تلاوته:

ولما كان لابد لنا أن نبين ما لابد منه لمن يتلو القرآن حق تلاوته من الأصول التي تجعله ملاحظا لمعاني كلام الله تعالى حال التلاوة، فاهما ما لابد من فهمه للتالى المتأمل، حتى يكون أخي ممن يتلو كتاب الله حق تلاوته، فإن التالي إذا فهم معنى ما يتلوه من كتاب الله سارع إلى العمل بما فهمه مما مدحه الله ورغب فيه، وتباعد عما نهى عنه القرآن مما ذمه الله وكرهه، وبذلك يمكنه أن يفهم ما يتلوه ويفسر لغيره ويبين وجوه التأويل.
قال الإمام أبو طالب المكي رضي الله عنه: فأما ظاهرُ الكلاِم فعلى معنيين عجيبين: وهو مجمل مختصر ومفصل مكرر، فإجماله واختصاره للبلاغة والإيجار قال الله تعالى: (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ) ومكرره وتفصيله للإفهام والتذكار قال الله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون) . وقال عز وجل في المبهم المجمل والتوحيد المفصل: (الر)فهذه ثلاثة أسماء، الله لطيف رحيم، وقيل: هي حروف من اسم الرحمن، ثم أظهر السبب فقال: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُه)يعنى بالتوحيد (ثُمَّ فُصِّلَتْ)أى: بالوعد والوعيد، ثم قال: (مِنْ لَدُنْ حَكِيم) أى: للأحكام (خَبِيرٍ) أى: بالأحكام، خبير بالتفصيل للحلال والحرام (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) هذا هو التوحيد الذي أحكمه (إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) هذا هو الوعد والوعيد الذي أعلمه.

المختصر للإيجــاز:
فمن المختصر للإيجاز قوله تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْبِهَا) ففى هذا مختصر ومحذوفان فالمضمر قوله: (مُبْصِرَةً) المعنى: آية مبصرة فأضمر ومحذوفاه قوله: (فَظَلَمُوا بِهَا) المعنى: ظلموا أنفسهم بالتكذيب بها، فاختصرت كلمتان من كلمتين للإيجاز. ومثله قوله: (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) الخواء: الخلاء، والعروش: السقوف وهي جمع عرش، فكيف تكون خاوية من العروش والعروش موجودة فيها ؟ فهذا من المختصر المحذوف، ومعناه: وهي خاوية من ثمرها أو من أهلها، واقعة على عروشها. ومثله قوله تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) حذف الفعل وأقيم الاسم مقامه، فالمعنى فيه: ولكن البر من آمن بالله وبمثل هذا المعنى.
قوله عز وجل (وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أى: حب العجل، ومن ذلك قوله عز وجل: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) ولم يذكر قتله، والمعنى: بغير نفس قتلها فحذف الفعل. ومثله: (أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ) ضمر قوله:(بِغَيْرِ نَفْسٍ) قتلها أو بغير فساد في الأرض فاكتفى عنه بذكر غير الأولى. وكذلك قوله: (مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) معناه: ومن في الأرض. وكذلك قوله: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) متصل بقوله سبحانه: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) وفصل بينهما النعت والاستثناء، والمعنى: فما يكذبك بعد هذا البيان أيها الإنسان بالديانة، فأى شيء يحملك على التكذيب بأن تدين لله تعالى وهو أحكم الحاكمين.

المبدل المضمـر:
ومن المبدل المضمر: (إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) المعنى: ضعف عذاب الأحياء وضعف عذاب الموتى، فأضمر ذكر العذاب وأبدل الأحياء والموتى بذكر الحياة والممات، فأقام الوصف مقام الاسم، ويصلح أيضا أن يترك الوصف على لفظه ويضمر: أهل، فيكون ضعف عذاب أهل الحياة وضعف عذاب أهل الممات، كما أضمر: أهل، في ذكر القرية وذكر العير فقال: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا) والمعنى: واسأل أهل القرية وأسأل أهل العير.
ومن هذا المعنى قوله تعالى: (ثَقُلَتْ في السّمَوَاتِ وَاٌلأَرْضِ) هو من المبدل المضمر، مبدله: ثقلت، ومعناه: خفيت، أبدل بدلالة المعنى عليه لأن الشيء إذا خفى علمه ثقل. وكذلك قوله: (في السّمَوَاتِ) معناه: على، ومضمر: أهل، والمعنى: خفيت على أهل السموات وأهل الأرض (لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً) يعنى فجأة.
ومنه قوله عز وجل: (تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ) فيه مضمر ومحذوف، فمحذوفه: تزال، ومضمره: لا، التي هي جواب القسم، والمعنى: قالوا تالله لا تزال تفتؤ تذكر يوسف، فأضمرت لا وأبدلت تزال لقوله: (تَفْتَؤ) وهي من مختصر الكلام وفصيحه وبليغه وهي لغة لبعض العرب، وفى القرآن من كل لغة. ومن هذا قوله عز وجل: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون) وقوله سبحانه: (بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا) معناه تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون، وكذلك بدلوا شكر نعمة الله كفراً بها. ومثله: (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) ، (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا) معناه: أهل القرية، مثل قوله: (وَالْعِيرَ) المعنى: أهل العير، والعير هي الإبل المجهولة، وهذا الذي يسميه النحويون المجاز وهكذا قوله (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) معناه: للطريقة التي هي أقوم. ومثل قوله عز وجل: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أى: يقولوا الكلمة التي هي أحسن. ومثل هذا قوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) السيئة: أي: بالكلمة أو بالفعلة التي هي أحسن، أو مثل قوله: (إنَّ الَّذِِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى) أى: الكلمة الحسنى، والوجه الآخر أن الحسنى اسم لا نعت ومعناه الجنة، وهكذا قوله: (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) أى: على عهد ملك سليمان، فأضمر قوله: عهد. ومثل قوله: (وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ) أى: على ألسنة رسلك، فأضمر ألسنة.

المكنى المضمـر:
ومن المكنى المضمر قوله تعالى. (وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ) أضمر الحوت وذكره واسم موسى للاختصار، والمعنى: وما أنسانى ذكر الحوت لك إلا الشيطان. ومثل قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) فكنى عنه ولم يتقدم له ذكر، وكذلك قوله: (حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) يعنى توارت الشمس بحجاب الليل، فكنى عنها ولم يجر لها ذكر.

المبدل المختصر:
ومن المبدل المختصر قوله عز وجل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ) معناه حملته العزة على الإثم، أى: حمله التعزز والأنفة على الإثم ولم يبال، فأخذته بمعنى: حملته، وبالإثم بمعنى: على الإثم. ومن هذا قوله: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) أى: لا تحمله سنة ولا نوم، لأن السنة تحمل العبد، أى: تذهب به عن التيقظ.

المنقول المنقلب:
ومن المنقول المنقلب قوله عز وجل: (يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ) اللام في
(لَمَن) منقولة، والمعنى يدعو من لضره أقرب من نفعه. ومثله: (لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) معناه لتنوء العصبة بها، أى: لتثقل بحملها لثقلها عليهم..

المضمر المختصر:
ومن المضمر المختصر أيضا قوله عز وجل: (أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ) ضميره إحدى كلمتين: كفروا نعمة ربهم، كفروا توحيد ربهم، فأضمر للاختصار وانتصاب الاسم لسقوط الخافض. وفيها وجه غريب إلا أنه محمول على المعنى أى: غطوا ربهم، التغطية أى: غطوا آياته وما دعا إليه من الحق، والمعنى: كفرهم غطى عليهم بما غطوا، هكذا حقيقة في التوحيد إذا الأولية في كل فعل منه وهم ثوان فيما بعد، فهو بمعنى قوله تعالى: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ) اللبس: التغطية.
ومن المضمر قوله تعالى: (وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُون) َ ليس أنه يجعل من البشر ملائكة، ولكن معناه لجعلنا بدلا منكم ملائكة، ويصلح: لجعلنا، فبدلكم بمعنى: منكم.

المبدل منه:
ومن المبدل منه قوله عز وجل: (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) اللام بدل من الباء، المعنى وهم بها سابقون، لأنهم لو سبقوها لفاتتهم، ومثله: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) معناه على جذوع، وكذلك: (فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) معناه أى: مع القوم الظالمين، وبمعناه: (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) أى: عليه ويصلح به، وكذلك قوله: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) أى: عنه، يعنى عن القرآن فعلى هذا مجاز، قوله تعالى: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) أى: سل عنه فحروف العوامل يقوم بعضها مقام بعض، ومثله قوله: (السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ) أى: فيه، يعنى في اليوم، وبمعناه قوله تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ) أى: مع أموالكم، وكذلك قوله تعالى: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) أى: مع المرافق لأنها داخلة في الغسل، والحروف العوامل ينوب بعضها عن بعض، ولو أظهر مثل هذا المضمر ووصل مثل هذا المحذوف لكانت القراءة ضعيفة.

الموصول المكرر:
ومن الموصول المكرر للبيان والتوكيد قوله عز وجل: (وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ)، قوله: (إِن يَتّبِعُونَ) مردود رده للتوكيد والإفهام، كأنه لما طال الكلام أعيد ليقرب من الفهم، والمعنى: ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إلا الظن، أى: اتباعهم الشركاء ظن منهم غير يقين، ونحوه من المكرر المؤكد: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) اختصاره الذين استكبروا لمن آمن من الذين استضعفوا، فلما قدم الذين استضعفوا وكان المراد بعضهم كرر المراد بإعادة ذكر من آمن منهم للبيان.

المكرر المؤكد:
ومن المكرر المؤكد قوله عز وجل: (فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّمِنْهُمْ قُوَّةً) فقوله تعالى: (كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّمِنْهُمْ قُوَّةً) فوصل بمن ووكد بكانوا أشد، وقراءتها في مصحف ابن مسعود: عَاقِبَةُ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدّ قُوّةً، ليس فيها (كَانُوا) ولا قوله: (هُمْ). وبمعناه ـ وإن قصراً ـ قوله تعالى:
(لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ) وهذا مما طال للبيان، والمعنى: لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمن، فلما قدم (من) وهي أسماء من يكفر، أعيد ذكر البيوت مؤخرا.

المكنى المبهم المشتبه:
ومن المكنى المبهم المشتبه قوله عز وجل: (ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) الشىء في هذا الوضع الإنفاق مما رزق الله، وقوله تعالى بعده: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ) الشىء في هذا الموضع الأمر بالعدل والاستقامة على الهدى، وكذلك قوله: (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ) الشىء في هذا الوضع وصف مخصوص من وصف الربوبية من العلم الذي علمه الخضر عليه السلام من لدنه لا يصلح أن يسأل عنه حتى يبتدىء به فلذلك كنى عنه.
وكذلك العلم على ضربتين: ضرب لا يصلح أن يبتدىء به حتى يسأل عنه، وهو مما لا يضيق علمه، فلذلك وسع جهله وحسن كتمه. وعلم لا ينبغي أن يسأل عنه من معنى صفات التوحيد ونعوت الوحدانية، لا يوكل إلى العقول، بل يخص بها المراد المحمول، فعلم الخضر الذي شرط على موسى عليهما السلام أن لا يسأل عنه حتى يبادئه به من هذا النوع، والله غالب على أمره.
وقوله عز وجل: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) يعنى الله أى: كيف يكون خلق من غير خالق ؟ ففى وجودهم ثبوت خالق فهم دلالة عليه أنه خلقهم، وروينا ذلك عن ابن عباس وعن زيد بن على رضي الله عنهما قالا في قوله عز وجل: (مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أى: من غير رب، كيف يكون خلق من غير خالق ؟ وقوله عز وجل: (وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ) فالبعض الأول المفضل في الرزق هم الأحرار والبعض الآخر المفضول هم المماليك، ومثله قوله تعالى (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيد ٌ) قرينه هذا هو الملك الموكل بعلمه أحضر ما عنده مما علمه من فعله، وقوله عز وجل: (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) قرينه هذا هو شيطانه المقرون به. ومثله قوله تعالى: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ) الهاء والميم المتصلة ب(إخوان) أسماء الشياطين، والهاء والميم المتصلة ب (يمدون) أسماء المشركين، أى: الشياطين إخوان المشركين يمدون المشركين في الغى ولا يقصرون عنهم في الإمداد. وبمعنى هذا قوله تعالى: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ) الهاء الأولى المتصلة ب (يتولون) كناية عن إبليس، والهاء المتصلة بالباء من قوله: (هُم بِهِ) هي اسم الله عز وجل، وقد قيل أيضاً: إنها عائدة على إبليس أيضاً فيكون المعنى: هم به قد أشركوا في التوحيد، أى: أشركوا بعبادة الله عز وجل.
ومثل هذا قوله عز وجل: (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) الهاء الأولى كناية عن الحوافر، وهن الْمُورِيَات قَدْحاً يعنى الخيل تقدح بحوافرها فتورى النار، فأثرن به أى: بالحوافر النقع، يعنى التراب، والهاء الثانية كناية عن الإغارة، فوسطن أى توسطن به أى: بالإغارة، وهن المغيرات صبحا وسطن جمع المشركين أغاروا عليهم بجمعهم والمشركون فارون.
وبهذا المعنى قوله عز وجل: (فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ) الهاء الأولى عائدة على السحاب أى: أنزلنا بالسحاب الماء، وفى قوله: (به) مبدل ومكنى، فالمكنى هو ما ذكرناه من أسماء السحاب، والمبدل أن به بمعنى منه، ومثل هذا قوله: (يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) أى: منها، وهو صريح قوله في المفسر: (وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا) يعنى السحاب، وهو قوله: (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ) وقوله في الهاء الثانية: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ) يعنى بالماء، فجمع بين اسم السحاب والماء بالهاء فأشكل.
ومن البيان الثانى والثالث للخطاب المجمل قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) فلم يفهم منه إلا أن القرآن أنزل في شهر رمضان ولم يدر أنهارا أنزل فيه أم ليلا ؟ فقال في البيان الثانى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ) فلم يفهم إلا أنه أنزل ليلا في ليلة مباركة، ولم يدر أى ليلة هي ؟ فقال في البيان الثالث: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) فهذا غاية البيان.

الموحد ومعناه الجمع:
ومن الموحد ومعناه الجمع قوله تعالى: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) أى: إن الناس لفي خسران، لقوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ولا يستثنى جماعة من واحد، وإنما يستثنى جماعة من جماعة أكثر منهم، وإنما وحد الاسم للجنس.

الجمع المراد به الواحد:
ومن الجمع المراد به الواحد قوله عز وجل: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) يعني نوح وحده لأنه لم يرسل لقوم نوح غيره، ودل عليه قوله تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ) فوحد الجمع.

الجمع المكني:
ومن الجمع المكني قوله عز وجل: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) يعين في هذا الموضع الدجال، ونزل ذلك في ذكر الدجال واستعظامهم لوصفه، والعرب تجمع الواحد للجنس.

المقدم والمؤخر والمعطوف وما حمل على المعنى:
ومن المقدم والمؤخر لحسن تأليف الكلم ومزيد البيان والإظهار، قوله عز وجل: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا) اختصاره ومؤخره من كفر بالله بعد إيمانه وشرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان، (وَلَكِن) وكد بقوله (وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْر ِصَدْرًا) لما استثنى المكره وقلبه مطمئن بإيمانه، ولم يجعل المكره آخر الكلام لئلا يليه قوله: (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ) فيتوهم أنه خبره وجعل آخر الكلام: (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ) وهو في المعنى مقدم خبر الأول من قوله: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ) فأخّرَ لِيَلِيهِ قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ) لأنه من وصفهم فيكون هذا أحسن في تأليف الكلام وسياق المعنى.
وكذلك قوله تعالى: (وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ) هذا من المعطوف المضمر ومن المقدم والمؤخر، فعاطفه قوله: (وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) وضميره قوله وعلم قيله، والمعنى: وعنده علم الساعة وعلم قيله يا رب، هذا على حرف من كسر اللام، فأما من نصبها فإنه مقدم أيضا ومحمول على أن المعنى أى: وعنده علم الساعة ويعلم قيلَهِ يا رب، فأما من رفع اللام فقرأ: وقيلُه، فتكون مستأنفة على الخبر وجوابها الفاء من قوله: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) أى: قوله: إن هؤلاء لا يؤمنون فاصفح عنهم. وقد تكون الواو في قوله: (وقيله) للجمع مضمومة إلى علم الساعة، والمعنى وعنده علم الساعة، وعنده قيله يارب جمع بينهما بـ (عند)، فهذا مجاز هذه المقاريء الثلاث في العربية.
ومما حمل على المعنى قوله عز وجل: (فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) ثم قال:
(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) فلو لم يحمل على المعنى لكانت والشمس والقمر خفضا اتباعا للفظ قوله: (فَالِقُ) (وجاعل) ولكن معناه وجعل الشمس والقمر حسبانا وهي على قراءة من قرأ: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) متبعة لـ (جعل) ظاهرا. وبمعناه قوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) في قراءة من نصب اللام محمولا على معنى الغسل من قوله عز وجل: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ) وأرجلكم أيضاً، ومن قرأ (وَأَرْجُلَكُمْ) خفضا حمله على اتباع الإعراب من قوله عز وجل: (بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) فأتبع الإعراب بالإعراب قبله، لأن مذهبه المسح لا الغسل.
واختيارنا نصب اللام في المقروء على نصب الغسل واتباع الوجه واليدين، إلا أنه روي عن ابن عباس وأنس بن مالك: نزل القرآن بغسلين ومسحين وسن رسول الله (ص وآله) غسل الأقدام، فنحن نفعل كما فعل.
وقوله عز وجل: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى) من المقدم والمؤخر، فالمعنى فيه: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجلٌ مسمى لكان لزاما، وبه ارتفاع الأجل، ولولا ذلك لكان نصبا كاللزام، فأخر لتحسين اللفظ. وبمعناه قوله عز وجل: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) المعنى يسئلونك عنها كأنك حفي بها أي: ضنين بعلمها، ومثله قوله تعالى: (أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) أي: نأت منها بخير، فقدم (بخير) وأخر (منها) فأشكل.. ومن المؤخر بعد توسط الكلام قوله عز وجل: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ) في قراءة من وحد الفعل، هو متصل بقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا) (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ) أي: حالا بعد حال في البرزخ، فأخر الأحوال للقرار في الدار، وكذلك هو في قراءة من جمع فقال: لتركبن أيها الناس، فيكون الإنسان في معنى الناس كما ذكرناه آنفا،ويكون الجمع عطفا على المعنى، وإنما وحد للجنس فكأنه قال: يا أيها الناس لتركبن طبقا عن طبق، فأخر هذا الخبر لما توسطه من الكلام المتصل بالقصة ومعناه التقديم.
ومثل هذا قوله عز وجل: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحَمَتُهُ لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ) وقوله: (إِلاَّ قَلِيلاً) هو متصل بقوله: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) إلا قليلا، وآخر الكلام (لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ) وقد قيل: إن قوله: (إِلاَّ قَلِيلا) مستثنى من الأول في قوله: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ) إلا قليلا منهم، وفى هذا بعد، والأول أحب إليَّ. وعلى هذا المعنى قرأ ابن عباس في رواية عنه: (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ) جعله متصلا بقوله تعالى: (مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُ) إلا من ظلم، وصار آخر الكلام: (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ) فاصلا.
ومثل هذا قوله تعالى: (وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْض)وكذلك قوله في أول السورة: (لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) ليس هذا من صلة الكلام، وإنما هو مقدم ومتصل في المعنى بقوله: (قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ) ، (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) أي: فصارت أنفال الغنائم لك إذ أنت راض بإخراجك وهم كارهون، فاعترض بينهما الأمر بالتقوى والإصلاح والوصف بحقيقة الإيمان والصلاح فأشكل فهمه. وعلى هذا قوله عز وجل: (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) إنما هو موصول بقوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) ، (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) لأنها نزلت في قولهم: فقد استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك عند قوله لأستغفرن لك ربي، فقالوا: فهلا نستغفر لآبائنا المشركين، فنزلت هذه الآية ليستثنى القدوة في إبراهيم في هذا، ثم نزلت الآية الأخرى معذرة له: (وَعَدَهَاّ إيّاهُ) إلى أن علم موته على الكفر فقال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَمِنْهُ) وكذلك قوله عز وجل: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْر َ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ) وهذا متصل بقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ) إلى آخر المحرمات، ثم قال: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) يعني: في مجاعة.

نبهنا بيسير على كثير:
ومثل ما ذكرناه من علم القرآن كثير، وإنما نبهنا بيسير على كثير، ودللنا بنكت على جم غفير، لُيستدل بما ذكرناه على نحوه، ويتُطرق به إلى مثله، وهذا كله على ضروب كلام العرب، ومعاني استعمالهم، ووجوه استحسانهم أنه في كلامهم، المطول للبيان، والمختصر للحفظ، والمقدم والمؤخر للتحسين، وكله فصيح بليغ، لأن وصف البلاغة عندهم رد الكثير المنثور إلى القليل المجمل، إلى المبثوث المفسر.
فالمقصر من الكلام عندهم مع الحاجة إلى المعاني المتفرقة عجز، والمطول منه مع الاكتفاء بالمعنى الجامع عنه عِيّ، فلما خاطبهم بكلامهم أفهمهم بعقولهم ومستعملاتهم، ليحسن ذلك عندهم، فيكون حجة عليهم من حيث يعقلون، لأنه أمرهم بما يعملون وما يستحسنون حكمة منه ولطفا.
هذا مشهد العموم من أهل العلم بمحاسن كلام العرب، وعلى هذه المعاني يفهم الخصوص من مكانهم ومشهدهم على علو مقامهم في مكان ما أظهر لهم من العلم به، ونصيب ما قسم لهم من العقل عنه، فهم متفاوتون في الإشهاد والفهوم، حسب تفاوتهم في الأنصبة من العقول والعلوم، إذ القرآن عموم وخصوص ومحكم ومتشابه وظاهر وباطن، فعمومه لعموم الخلق، وخصوصه لخصوصهم، وظاهره لأهل الظاهر، وباطنه لأهل الباطن، والله واسع عليم (فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) .

أهل الله وخاصته:
فإذا صفا القلب بنور اليقين، وأيد العقل بالتوفيق والتمكين، وتجرد الهم من التعلق بالخلق، وتأله السر بالعكوف على الخالق، وخلت النفس من الهوى، سرت الروح فجالت في الملكوت الأعلى، وكشف للقلب بنور اليقين الثاقب ملكوت العرش عن معاني صفات موصوف، وأحكام خلاق مألوف، وباطن أسماء معروف، وغرائب علم رحيم رءوف، فشهد عن الكشف أوصاف ما عرف، فقام حينئذ بشهادة ما عرف، فكان ممن قال فيهم سبحانه: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) فحق التلاوة للمؤمنين لأنه إذا أعطاه حقيقة من الإيمان أعطاه مثلها من معناه ومعدنها حقيقة من مشاهده، فكانت تلاوته عن مشاهدة، وكان مزيده عن معنى تلاوته، وكان ذلك على معيار حقيقة من إيمانه كما قال تعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) فيكون العبد بوصف من نعت بالحضور والإنذار، وخص بالمزيد والاستبشار في قوله عز وجل: (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ) وفى قوله عز وجل: (فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) ويكون من نعت من مدحه بالعلم وأثنى عليه بالرجاء ووصفه بالخوف في قوله تعالى: (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) وقال عز وجل: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) فكان هذا من أهل الله وخاصته، ومن محبيه وخالصته، كما روينا عن رسول الله (ص وآله): (أَهْلُ ٱلْقُرْآنِ أَهْلُ ٱللَّـهِ وَخَاصّتُهُ مِنْ خَلْقِهِ) .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : لا على أحدكم أن يسأل عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن لم يكن يحب القرآن فليس يحب الله وهذا كما قال، لأنك إذا أحببت متكلما أحببت كلامه، وإذا كرهته كرهت مقاله، وقال محمد أبو سهل رحمه الله: من علامة الإيمان حب الله عز وجل، ومن علامة حب الله حب القرآن، ومن علامة حب القرآن حب النبي عليه الصلاة والسلام، وعلامة حب النبي (ص وآله) اتباعه وعلامة اتباعه الزهد في الدنيا. وعن بعض العارفين: لا يكون المريد مريدا حتى يجد في القرآن ما يريد، ويعرف منه النقصان والمزيد، ويستغني بالمولى عن العبيد.
وأقل ما قيل في العلوم التي يحويها القرآن من ظواهر المعاني المجموعة فيه أربعة وعشرون ألف علم وثمانمائة علم، إذ لكل آية علوم أربعة: ظاهر وباطن وحد ومطلع، وقد يقال: يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتين من العلوم، إذ لكل كلمة علم، وكل علم عن وصف، فكل كلمة تقتضي صفة، وكل صفة موجبة أفعالا حسنة وغيرها على معانيها، فسبحان الفتاح العليم.. وتماما للموضوع المتعلق بصفة الكلام أبين طرق الأئمة في تلاوة كلام الله المقدس.

معاملة العبد في التلاوة:
قال رسول الله (ص وآله): (أَفْضَلُ عِبَادَةِ أُمّتِى قِرَاءَةُ ٱلْقُرْآنِ) وقال عليه الصلاة والسلام: (لَوْ كَانَ ٱلْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ مَا مَسَّتْهُ النّارُ) وقال عليه الصلاة والسلام: (مَا مِنْ شَافِعٍ أفضل مَنْزِلَةً عند ٱللَّهِ يَوْمَ اٌلْقِيامَةِ مِنَ ٱلْقُرْآنِ لاَ نَبِيٌ ولاَ مَلَكٌ وَلاَ غَيْرُهَ) وقال عليه الصلاة والسلام: (يقول الله سبحانه وتعالى: مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ دُعَائِى وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ ثَوَابِ الشّاكِرِينَ) وعن ابن مسعود رضي الله عنه: إن لهذا القرآن مناراً كمنار الطريق فما عرفتم منه فاعملوا به، وما لم تعلموا فكلوه إلى عالمه.

أستحب للمريد أن يختم القرآن في كل أسبوع مرتين ختمة بالنهار وختمة بالليل، ويجعل ختمة النهار يوم الاثنين في ركعتي الفجر أو بعدهما، ويختم ختمة الليل ليلة الجمعة في ركعتى المغرب أو بعدهما، ليستقبل بختمته أول النهار وأول الليل فإن الملائكة تصلي عليه إن كانت ختمته ليلا حتى يصبح، وتصلى عليه إن كان ختمه نهارا حتى يمسى، فهذان الوقتان يستوعبان الليل والنهار. وفى الخبر: (لَمْ يَفْقَهْ مَنْ قَرَأَ القُرْآن في أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثٍ) وأمر رسول الله (ص وآله) عبد الله بن عمر أن يقرأ القرآن في كل أسبوع، وكذلك جماعة من الصحابة يختمون القرآن في كل جمعة. وروينا عن يحي بن الحارث الأنصاري عن القاسم بن عبد الرحمن قال: كان سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه يفتتح ليلة الجمعة بالبقرة إلى المائدة، وليلة السبت بالأنعام إلى هود، وليلة الأحد بيوسف إلى مريم، وليلة الاثنين بطه إلى طسم موسى وفرعون، وليلة الثلاثاء بالعنكبوت إلى ص، وليلة الأربعاء بتنزيل إلى الرحمن، ويختم ليلة الخميس، وكذلك كان زيد بن ثابت وأبي يختمان القرآن في كل سبع. وروينا عن ابن مسعود أنه سبع القرآن في سبع ليال فكان يقرأ في كل ليلة سبعه. وجماعة يذكر عنهم ختم القرآن في كل يوم وليلة، وقد كره ختمه في أقل من ثلاث ليال طائفة، والتوسط من ذلك ما ذكرناه وهو أن يختم في كل سبعة أيام لمن يحتاج في فهمه إلى تفكير، وثلاث لمن كوشف بأسراره بلا تفكير، وإلا فالأولى أن يختم في كل عشر ليال.

وصف التالين للقرآن:
هذه الأصول التي ذكرت، بمراعاتها يحصل للتالى مزيد فضل من الله تعالى بفهم ما يتلوه، وبعد الفهم يبلغ التالي مبلغا حتى يعقل عن الله ما يشاء الله أن يحيطه به علما، قال الله تعالى: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) ومن أحاطه الله علما بشيء من أسرار القرآن كان من أهل الله لأنه يكون تاليا للقرآن عاملا به في سره وعلنه فيما أحبه أو كرهه، وتالى القرآن العامل به من أهل القرآن، وأهل القرآن أهل الله، ومن وفقه الله وجعله من أهله كان ممن وصفهم الله تعالى في آخر الفتح وأثنى عليهم وبشرهم، والمريد المخلص يعرض أحواله على القرآن فما أقره القرآن داوم عليه، وما لم يقره القرآن تركه جملة واحدة، ومتى كثر أهل الله في الوجود الذين ينصرون الله تعالى بمجاهدة أنفسهم وقهرها على العمل بالقرآن نصرهم الله ومكن لهم في الأرض وأعزهم، قال الله تعالى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) وقال سبحانه وتعالى: (أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وقال تعالى: (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) أسأل الله سبحانه وتعالى أن يفهمنا أسرار القرآن، وأن يوفقنا للعمل بالقرآن، إنه مجيب الدعاء.



#محمد_عبد_المنعم_عرفة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الله وأنبيائه ورسله في التوراة وفي الفكر السلفي
- العلمانية الوجه الآخر لليهودية [2]
- العلمانية الوجه الآخر لليهودية [1]
- الأمة الإسلامية.. عوامل الضعف وأسباب النهوض [4] السيد محمد ع ...
- رسائل إلى الشيخ حسن فرحان المالكي [2]
- رسول الله ص يتنبأ بظهور الجماعات المتأسلمة ويخبرنا بأنهم مشر ...
- رسائل إلى الشيخ حسن فرحان المالكي [1]
- الأمة الإسلامية.. عوامل الضعف وأسباب النهوض [3] السيد محمد ع ...
- الأمة الإسلامية.. عوامل الضعف وأسباب النهوض [2] السيد محمد ع ...
- الأمة الإسلامية.. عوامل الضعف وأسباب النهوض
- الإسلام دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها [8]
- عبادة الملائكة الروحانيين.. [2] الصوم كما يراه الإمام أبو ال ...
- يهود أم حنابلة ؟!! [5] السيد محمد علاء الدين أبو العزائم
- يهود أم حنابلة ؟!! [4] السيد محمد علاء الدين أبو العزائم
- يهود أم حنابلة ؟!! [3] السيد محمد علاء الدين أبو العزائم
- يهود أم حنابلة ؟!! [2] السيد محمد علاء الدين أبو العزائم
- يهود أم حنابلة ؟!! [1] السيد محمد علاء الدين أبو العزائم
- أدعية الغفران في شهر القرآن للإمام أبي العزائم - الجزء الثان ...
- الإسلام دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها [7]
- الإسلام دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها [6]


المزيد.....




- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
- إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
- “ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد عبد المنعم عرفة - الإسلام دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها [9]