رام الله ـ فلسطين المحتلة
يتمايل المطرب العربي صارخاً بكل قوته وسط إيقاع الطبول التي تصم الآذان، وتعمل جاهدة على إخفاء معالم الموسيقى والكلمات، لأنه على لأرجح الطريق الوحيد لكي يستطيع أي كان أن يستمع إلى صخب يخلو من أية قيمة جمالية. يقول المطرب وهو يتمايل مهتاجا ودافعاً الجمهور كله إلى حالة من الطرب المجنون: "الكلام، بجيب كلام والعزول يعمل حكاية." وأنا متأسف للقارئ لأنني لا أعرف بقية الحبكة الميلودرامية التي تلعب لعبة الترقيص وإثارة الغرائز في نفس الوقت. لا مكان لفيروز أو مارسيل أو ماجدة الرومي في هذا المولد التطريبي الغريب الذي يأتي في زمن تراجعت فيه كل القيم، لسبب بسيط هو أنه زمن جزر ثوري بكل معنى الكلمة. ولذلك فإنه في المقابل زمن صعود القبح على صعيد الجمال، والشر على صعيد الأخلاق، والهزيمة والاستسلام على صعيد السياسية. إنه كل اجتماعي مدحور في كافة أبعاده. كلا ليس الزمن زمن " اهتف بالخير اللي كان، اهتف بحقوق الإنسان" إنه زمن حقاً تجسده أغنية ماجدة الرائعة: " اشتد الليل... وكدبت الحكاية لا في خيالة عالخيل ولا في زلم جاية."
عندما مات نزار قباني قال محمود درويش مات شاعر كل الناس. كلا يا محمود كان ذلك في زمن غابر بعيد، لم يعد نزار شاعر كل الناس، إنه رغم بساطته التي تفترض كونه شاعر الجميع قد أصبح شاعراً نخبويا. لقد غدا أعلى من مستوى الجماهير لأن الذوق العام هبط هبوطاً مريعاً منذ تدشين عصر الانفتاح والإقليمية في كل مكان. بدأ ذلك على وجه التقريب منتصف السبعينات من القرن الماضي. لكنه تصاعد مع هزيمة الشبح السوفييتي وصعود العولمة ودخول العرب عصر ما بعد حرب الخليج الثانية والسلام مع إسرائيل. مهما عملت ومهما افترت واقترفت من جرائم، فلقد أصبح السلام خياراً استراتيجيا. وإن غضب القوميون واليساريون والإسلاميون وأعداء العولمة، والذين يحبون تعقيد الأشياء، ويغارون من النجاح الذي حققه من حققه بشطارته وأمور أخر.
ترى هل الواقع تركيب بنيوي أم جدلي؟ لا أدري لهذا السؤال جواباً. ولكن من المؤكد كما تكشف حالتنا العربية أنه كل مترابط. قد يكون هناك واقع جدلي محكوم كله بالبنية التحتية. وقد تكون علاقات الإنتاج محددة في التحليل الأخير لبقية عناصر الكلية الاجتماعية التي تشكل بناء فوقياً سياسياً وفلسفياً وحقوقيا وفنياً وما إلى ذلك. وقد يكون الواقع مكوناً من بنى ـ كما قال ألتوسير ـ وفيه تتراكب البنى وتتمفصل وتكتسب كل بنية حركتها المستقلة عن البقية على الرغم من تحددها في نهاية المطاف بالبنية الاقتصادية. عند ألتوسير المستوى المسيطر هو السياسي، ولا بد من دفع جميع نقاط الصراع في البنية المجتمعية، أو محصلة تلك البنى إلى أن تصب في خانة المستوى السياسي من البنية، وهو ما يدفع الصراع الطبقي إلى أقصاه ويدشن الانقلاب المجتمعي عند لحظة من لحظات الصراع.
ربما أن تحليل ألتوسير صحيح. وربما أن الرجل على حق في تأويل ماركس على أساس بنيوي. لكن كل هذا ليس بيت القصيد، فهناك اعتراضات وجيهة على موضوعة "كيف تتمتع البنية بالاستقلال وتمارس التأثر والتأثير في ذات الوقت؟" المهم في الأمر أنه في الحالة العربية بإمكاننا أن نشاهد أن مختلف المستويات على الرغم من أنها تبدو مستقلة على حد تعبير الرجل فإنها في الواقع تكشف ترابطاً غريباً في وحدتها وتجانسها. فهي على الرغم من كل شيء قادرة على تكريس حالة التبعية التامة للاستعمار الأوروبي والأمريكي وكذلك على تدعيم القطرية والانحطاط العربي في كافة أوجهه إلى الحضيض تماماً؛ إلى حضيض الحضيض.
لو فكرنا في أن نعتمد البنية الاقتصادية أساساً يصلح لتفسير الأشياء، فإن علينا ملاحظة أن الاقتصاد العربي قد نما بوصفه اقتصاداً ريعياً من ناحية واقتصاداً خدماتياً من ناحية أخرى. وهذا يعني ببساطة أن القطاعات المنتجة بالمعنى الجدي قد تفككت أو فككت علناً، كما في حالة مصر أنور السادات، وجزائر ما بعد هواري بومدين. وهكذا فإن البرجوازيات العربية الإقليمية يجمعها أنها تعمل بالتعاون بشكل منفرد كل على حدة مع رأس المال الأجنبي في وضوح تام: فهي إما تصدر النفط والمواد الخام وتعمل في السياحة، وإما أنها تستورد المنتجات القادمة من مصانع الرجل الأبيض، بدءا بمنتجات "الكيف" من كحول ومخدرات ومشهيات جنسية، ومروراً بالمنتجات الصناعية السلعية التقليدية، وانتهاء بالغذاء الذي يوشك إنتاجه على الانقراض في العالم العربي أجمع. لابد من ذوق عام استهلاكي يفضل البضاعة الأجنبية مهما كانت. وفي خضم ذلك لم يعد هناك من داع لجامعات تدرس العلوم والتقنية والفلسفة وشروط التفكير العلمي، إذ لا حاجة لمثل ذلك التعليم: فأمريكا والكبار يكفونا مئونة إنتاج السلع الضرورية والكمالية على السواء. ولذلك تم تسفيه وتتفيه التعليم وسط شعارات براقة عن التربية الحديثة التي تركز على التربية وحقوق الإنسان وكل ما شئتم باستثناء العلم ذاته، فليس لنا به حاجة. ولكن ذلك البتر المرعب للعلم أمر قابل لأن ُيكتشف بسهولة تامة من قل أي قارئ مبتدئ للاقتصاد السياسي أو الفلسفة أو الاجتماع أو التاريخ، ولذلك فلإكمال الدائرة الشيطانية كان لابد من تفريغ الفروع الإنسانية من أي مضمون. وقد تحقق ذلك بفضل استبعاد المواد التي تدرس شروط التفكير المنهجي مثل المنطق والإيبستمولوجيا وفلسفة العلوم والاقتصاد السياسي. واستبدلت بالكثير من "الهجايص" في حقوق الإنسان والتربية المدنية والعلاقات الدولية وقضايا المرأة. وهي أمور يصعب تمييزها من بعضها أحياناً. ويصعب تجنب الاستنتاج أن الغرض منها هو إلهاء الناس عن مشاكلهم خصوصاً عندما تترافق مع حملات عامة للتمويل الأجنبي المخصص لتعميم استهلاك السلع الأجنبية التي تلزم ولا تلزم خصوصاً المصنعة في الولايات المتحدة من ماركات كوكا كولا ومايكروسوفت وماكدونالدز.
تتماهى البرجوازية الكولونيالية في الأطراف مع مثيلتها في المركز، ولذلك فإنها دفاعاً عن نفسها في وجه النقد تقول: "ولكن انظروا إن التعليم في الولايات المتحدة ذاتها سهل وميسر للجميع. وإن مجرد قيامك بالمطلوب ضمن الحد الأدنى يكفل لك النجاح." والوقع أن نظام التعليم الأمريكي لا يضع للطالب درجة أقل من "ب" مهما عمل، أو بالأحرى، مهما "لم يعمل." غني عن البيان أن المقارنة لا تدعو للسخرية، بل إلى الرثاء، فهي من الحماقة بحيث لا يستطيع المرء إلا أن يعتبرها لغواً طفولياً ساذجاً يستحق العطف لا أكثر. فالولايات المتحدة كما يعرف أي مبتدئ في السياسة والاقتصاد والتاريخ جميعاً، لا تعتمد على نظام التعليم "الجمهوري" الواسع لكي تؤسس البناء العلمي الأساس وإنما على عمل الشركات. أما التعليم الجماهيري فيهدف إلى التعبئة الأيديولوجية وخلق الذوق الاستهلاكي فحسب. إنه ببساطة يهدف إلى إيجاد الإنسان الممتثل من نوع " شخصية السوق" على حد تشخيص مدرسة فرانكفورت وخصوصاً أريك فروم.
ولكننا بالطبع نطلب المحال ذاته من برجوازيتنا المسكينة. إنها في الحقيقة لا تطلب من الله أكثر من الستر وأن تتمكن من أداء دورها " الوطني " الكومبرادوري على أكمل وجه ولا ترغب في منافسة الأمريكيين أو اليابانيين صناعاتهم إنها تكتفي بنقل السلع لا أكثر ولا أقل. وفي خضم عملية نقل السلع تنتقل تلقائياً الأنوار والحضارة. وهم في هذا السياق وهم يعلمون الناس دورات تشغيل " النوافذ" الشهيرة باسمها الإنجليزي أل" وندوز " يتوهمون أنهم دخلوا عصر الاتصالات الإلكترونية من أوسع أبوابه، ولذلك تراهم في زهو يتباهون بعدد الدورات التي عقدوها في " الكمبيوتر ". وغالباً ـ دون علمهم ـ يكون التمويل أجنبيا، وخصوصاً من مايكروسوفت ذاتها الحريصة أن يتعلم كل سكان الأرض " أسرار " ويندوز لكي يتمكنوا من شرائها.
إنه الكل الاجتماعي القائم في هذه اللحظة على الاستهلاك وهو استهلاك لبضائع قادمة من الشمال إنها مع الاعتذار للطيب صالح موسم الاستيراد من الشمال ولهذا السبب فليس هناك " عازة " لأي من الأشقاء العرب لأن الجميع يتحد مع غيره في أنه يعتمد البضاعة الأجنبية ولذلك فلا آفاق للتنسيق، ناهيكم عن الوحدة. إنه زمن البنية الاستهلاكية التي تستورد السلعة المصنعة وتستورد السلعة الخام. لا مجال للتكامل مع العرب إنه عصر الفرقة المدعومة من قيادة سياسية-اقتصادية كومبرادورية تدعمها جماهير تتكل على الأولياء والتعاويذ وتجد كرامتها وتميزها في وجه الشقيق ـ العدو الإقليمي الذي يمثل تحديه خياراً أسهل من مواجهة العدو القومي الصهيوني أو الغربي الرأسمالي وخصوصاً الأمريكي.
يزعم البعض أن المشكلة إنما تتمثل في غياب المجتمع المدني. ولذلك تبدو كل القضية بالنسبة لخبراء الإصلاح الغربيين تنشيط عمل منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني لكي نحل كل شيء دفعة واحدة. وينطبق ذلك ـ لسخرية الحال وأهله ـ على السودان الجائع واليمن الضائع بين القات والأصولية والقبلية والعراق الذي ينتظر الذبح. وأما فلسطين فيبدو المجتمع المدني في حالتها بلسماً وترياقاً شافياً من كل الأمراض المستعصية والمزمنة. ويبدو كأن الأرض الفلسطينية قد تحررت بالفعل وأنه لم يعد ينقصنا إلا تعليم مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يتصادف صدوره مع سنة التهجير ـ ألنكبة الفلسطينية. إنه كل اجتماعي يفرز وجوهه المختلفة في ترابطها البنيوي أو الجدلي لا فرق هنا، وليس بإمكان أحد أن ينتج شيئاً من عدم فالخلق من عدم فكرة متناقضة كما سبق لأرسطو أن أوضح منذ ما يزيد على ألفي سنة ولهذا فالمجتمع المدني ذاته إنما يمثل لوناً من ألوان الكل الاجتماعي للدولة الرأسمالية في المركز وأما في الأطراف فإننا نود أن نعتذر للمجتمع المدني ومنظماته الكثيرة، وخصوصاً ها هنا في فلسطين، فإنهم إنما يولدون بعمليات قيصرية يمولها المجتمع المدني وغير المدني، في دول المركز الرأسمالي الاستعماري في طبعته العولمية الراهنة.
************************************
كنعان