|
الأزمة العراقية الراهنة: الطائفية، الأقاليم، الدولة
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 5201 - 2016 / 6 / 22 - 21:24
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
• مقدمة أعادت الأزمة الراهنة الإشكاليات الأساسية التي عانت منها الدولة العراقية منذ الاحتلال الأمريكي- البريطاني للعراق العام 2003، وخصوصاً موضوع الطائفية السياسية التي أصبحت ظاهرة متفشّية في مفاصل الدولة العراقية وأروقتها، بل إن التقاسم الوظيفي الطائفي والإثني أصبح السمة الأبرز للحكم ما بعد الاحتلال. ولم تستطع الدولة على الرغم من مرور 13 عاماً على الاحتلال من حلّ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية والصحية والبيئية، وما يتعلق بالبطالة والضمان الاجتماعي والمتقاعدين، بل إن هذه المعضلات تفاقمت على نحو شديد، وازدادت تعقيداً ممّا عمّق الأزمة السياسية، وأضفى عليها بُعداً شعبياً أخذ بالاتّساع، خصوصاً وقد ترافق ذلك باستمرار انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة وعدم حلّ مشكلة المياه التي أخذت بالتفاقم، مما سبّب أمراضاً وأوبئة عديدة، ومنها انتشار مرض الكوليرا. لقد قامت العملية السياسية على صيغة المحاصصة الطائفية- الإثنية، التي وجدت ضالّتها في تأسيس مجلس الحكم الانتقالي في تموز (يوليو) العام 2003، خصوصاً بتخصيص 13 عضواً منه لما سمّي بالشيعة و5 أعضاء لما سمّي بالسنّة و5 أعضاء لممثلي الكرد وعضو واحد لمن اختير ممثلاً عن التركمان وعضو واحد باسم الكلدو آشوريين. وعرفت الدولة الجديدة التي تأسست على أنقاض الدولة القديمة التي قامت في عشرينيات القرن الماضي، باسم "دولة المكوّنات"، التي ورد ذكرها ثمان مرّات في الدستور. أما "دولة المواطنة" التي كان العراقيون يتطلّعون إليها بعد انقضاء حقبة الحكم الشمولي، فقد اختفت مدلولاتها وتضبّبت معانيها، لاسيّما بعد تأسيس نظام المحاصصة. إن ذلك يمثّل جوهر الأزمة بجميع فروعها وأجنحتها. وإذا كان الاحتلال صائراً إلى زوال مثلما كان متوقّعاً، فإن خطر الطائفية ظلّ ينخر في جسم الدولة العراقية، ويحفر في كيانها بمعول مسموم، وإذا ما استمرّ على هذا المنوال فإن عملية الهدم والتآكل ستصل إلى أساساتها، وبالتالي ستؤدي إلى انهيارها. كان الدستور المؤقت (قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية) الذي صدر في عهد الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر (13 أيار/مايو 2003 - 28 حزيران (يونيو) 2004) في 8 آذار (مارس) العام 2004، تكريساً وانعكاساً للصيغة الجديدة لتوازن القوى وقد قام نوح فيلدمان القانوني الأمريكي المناصر لإسرائيل بإعداد صيغته الأولى، مثلما عمل الخبير الأمريكي بيتر غالبرايت في وقت لاحق على صياغة بعض المواد ذات الطبيعة الإشكالية، والتي اعتبرت ألغاماً قابلة للانفجار في أية لحظة، لأنها تشكّل مصدر خلاف واختلاف وليس مصدر اتفاق وتوافق. وبدلاً من أن يكون الدستور القاسم المشترك الأعظم الذي تلتقي عنده الإرادات المختلفة للقوى والأحزاب والمنظمات السياسية والجماعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ذات المصالح المتنوّعة، فإذا به يصبح هو بالذات تعبيراً عن الإشكاليات والصراعات التي عانت منها الدولة العراقية ما بعد الاحتلال، وهذه كلّها تنطلق وتصبّ في صيغة المحاصصة التي اعتمدتها، وفي النزاع حول تمثيل هذه الجماعة أو تلك لتتحدث نيابة عن هذه الطائفة أو تلك أو تمثل جزءًا منها، وذلك عبر الإستقواء بالمحتل والحصول على الامتيازات، خصوصاً من جانب أمراء الطوائف، وليس بوسائل إقناع أو بنفوذ حقيقي سياسي أو فكري أو اجتماعي. ولم يتورّع هؤلاء من استخدام العنف والحشود الجماهيرية الهائلة التي تذكّر بعصر المداخن في فترة الثورة الصناعية في أوروبا، بهدف كسر إرادة الآخر وفرض نمط ديني أو مذهبي على الحياة العامة وعلى المجتمع ككل. وبالطبع فإن مثل هذا الأمر لم ينشأ في فراغ، فقد كان له ردود فعل أقسى وأشدّ أحياناً، وهكذا أخذت دائرة العنف تتّسع لتشمل الجميع، وخصوصاً بانتعاش بؤر للإرهاب، التي تغذّت بتفاعلها مع جهات خارجية إقليمية ودولية ولأهداف مختلفة. ولكي يتم تمويل عمليات الإرهاب والعنف، لجأت الكثير من القوى إلى استخدام موارد الدولة لمصالحها الخاصة، الشخصية والحزبية، سواء عبر سرقات منظمة أو هدر المال العام أو توظيفه في غير مواقع التنمية، ناهيك عن أصحاب الحظوة من الأبناء والأصهار والشركاء في إطار عمل غير مشروع. وهكذا أصبح الفساد مؤسسة قائمة بذاتها وتستطيع تحريك الوضع السياسي سلباً أو إيجاباً طالما هي تتحكّم بالملايين من البشر الذين يعانون من البطالة وشظف العيش والأميّة والتخلّف مع ضخّ الكثير من الأوهام الطائفية ضد الآخر، الغريب المُريب، الخصم والعدو الذي يستحق الاستئصال. وبالطبع فالفساد لا يقتصر على شأن معين، بل يشمل الإدارة السياسية والاقتصاد والاجتماع والثقافة والمجتمع المدني وتزوير الشهادات والاحتيال والرشا وغير ذلك، لدرجة زكّمت الأنوف. ولم يستثنِ الفساد أحداً، بل حاول لفّ الجميع بشرنقته، خصوصاً وأن المال السائب يغري بالسرقة كما يُقال، لاسيّما في ظل اخترام مؤسسات الدولة وحلّ الجيش والأجهزة الأمنية وعدم وجود مساءلة أو محاسبة إزاء هدر المال العام أو التلاعب فيه. ويعتبر الفساد الوجه الآخر للإرهاب، كما أنه ليس بعيداً عن مخرجات الطائفية والتقاسم المذهبي- الإثني، وقد أغرى الفساد جميع الكتل والأحزاب والقوى على الانخراط فيه، والتستّر على منتسبيها وأتباعها، ولهذا فإن خطره امتدّ إلى أجهزة الدولة بكاملها والعديد من المنظمات والهيئات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني، التي هي الأخرى ضعفت يقظتها إزاء غول الفساد ومخالبه. ومن المظاهر الأخرى للأزمة العراقية وخلفياتها، هو ضعف الشعور العام بالمواطنة والعودة في الكثير من الأحيان إلى صيغ ما قبل الدولة، سواءً الطائفة، أو الجماعة الإثنية، أو الدين أو العشيرة أو الجهة أو المنطقة، وذلك للاحتماء بها والاختباء خلفها، طالما لا تستطيع الدولة حمايتها وتأمين الحدّ الأدنى من وظيفتها في ضبط الأمن والنظام العام وحماية أرواح وممتلكات المواطنين، وتلك هي الوظائف الأولى والأساسية للدولة، وأية دولة لا تستطيع القيام بذلك، فلماذا إذاً هي دولة!؟. لقد ساهمت الطائفية السياسية في انهيار هيبة الدولة ومعنوياتها، لاسيّما وأن بعض الأطروحات والتوجّهات السياسية وضعت "المرجعية" الدينية المذهبية، فوق الولاء للدولة، بما فيها تداخلاتها الخارجية، والأمر لم يقتصر على المؤيدين لهذه "المرجعية" وهي تمثّل مجموعة من رجال الدين المتنفذين في النجف وأتباعهم الذين يسائلون ولا يُسألون، بل شمل خصومهم أيضاً، الذين يتسابقون معهم أحياناً في الحصول على صكوك المباركة لوظائفهم أو مواقعهم أو امتيازاتهم. إن ذلك يعني إخضاع مرجعية الدولة لمرجعية غير دستورية، في حين إن جميع المرجعيات سواءً كانت دينية أو سياسية أو حزبية أو اجتماعية أو عشائرية ينبغي أن تخضع إلى الدولة التي لها صفة العلوية والسمو على غيرها من المرجعيات، بما فيها حق احتكار واستخدام السلاح والفصل في الحكم بين الأفراد وبينهم وبين الدولة، وبدون إخضاع المرجعيات الأخرى إليها فلا تصبح والحالة هذه دولة. وإذا كان الدستور ملغوماً وفيه الكثير من العيوب والمثالب التي تستوجب تعديل نصوصه أو إلغائه لسنّ دستور أفضل، لكن ذلك لا يلغي وجوده القانوني وعلويته والاحتكام إليه وفقاً للنظام السائد، حتى تتوفر فرصة مناسبة، يتمكّن فيها الشعب العراقي من اختيار ممثليه في أوضاع سلمية وطبيعية وآمنة، وخصوصاً بوضع حدٍّ لظاهرة الإرهاب والعنف والفساد. الأزمة وسياقاتها ثلاث دوائر تتحرك في إطارها الأزمة العراقية الراهنة، فالدائرة الأولى تتمثّل في حركة الاحتجاج الأخيرة ومطالبها، سواءً الآنية العاجلة أو المستقبلية الآجلة والتي تتجسّد بمآلات حركة الاحتجاج وسقفها ومدى تحقق أهدافها ، لاسيّما البعيدة . وإذا كانت حركة الاحتجاج مدعاة لتفاؤل الإرادة حسب المفكر الماركسي غرامشي، فإن الواقع لا زال يشي بالتشاؤم، على الرغم من إن التململ أخذ يكبر وهاجس التغيير ازداد عمقاً، خصوصاً وإن كتلاً بشرية ضخمة أخذت تنضم إلى المتظاهرين من شتى الفئات والتوجّهات اليسارية واليمينية، الدينية والعلمانية، من داخل العملية السياسية ومن خارجها، ومن جميع التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية، والذين تجمعهم أهداف ومطالب مشتركة، لاسيّما حياة الناس وحاجتهم الماسّة والضرورية إلى الخدمات ومكافحة الفساد والمفسدين، فلم يعد السكوت عنها ممكناً. نقول ذلك، مع أن الواقع لا زال يشي بالتشاؤم بفعل عقبات كبرى وكوابح كثيرة قد تؤدي إلى احتواء حركة الاحتجاج أو إجهاضها أو شقّها وبالتالي تشتّتها، خصوصاً وإن بعض الأطراف تريد الانفراد في قيادتها كما حصل في مرّات سابقة، بغض النظر عن استجابة رئيس الوزراء لمطالب الإصلاح، لكنها ظلّت حتى الآن فوقية ولم تمس جوهر المشكلة، لاسيّما إعادة الخدمات على جناح السرعة ومحاسبة الفاسدين والمفسدين وردّ الاعتبار للدولة ومؤسساتها ووضع حدّ للطائفية والتقاسم الوظيفي، علماً بأن حيدر العبادي بلا حلفاء أو أصدقاء، حتى وإن كان جمهوراً واسعاً يؤيد عملية الإصلاح، لكن أعداء الإصلاح والفاسدين يشكلون جبهة قويّة، حتى وإنْ اختلفت مصالحهم. أولاً - حركة الاحتجاج ومآلاتها إذا راجعنا شعارات التظاهرات العارمة والمندلعة في مختلف أنحاء العراق، سنلاحظ أنها تلتقي حول أهداف مشتركة، وهذه تتلخص بـ : 1- تحسين الخدمات ومكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، ولاسيّما الكهرباء والماء والتعليم والصحة وإيجاد فرص عمل متكافئة وتلك أمور آنية ومستعجلة. وقد عانى العراقيون من تفاقمها، وشبعوا من الوعود بتحسينها، الأمر الذي دفعهم إلى النزول إلى الشوارع التي لم يبارحوها مطالبين بتحسين الخدمات وبالإصلاح حتى بعد إعلان رئيس الوزراء حيدر العبادي عن تبنيه خطة للاصلاح. والوجه الآخر لحركة الاحتجاج الواسعة هو الدعوة إلى مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين والمفسدين، وتقديم هؤلاء إلى القضاء لينالوا جزاءهم العادل، بما فيهم المقصّرين وعديمي الشعور بالمسؤولية والمستهترين بالمال العام، وقد تفشّت ظاهرة الفساد ما بعد الاحتلال، خصوصاً بعد أن أصبح الولاء والمصالح الحزبية والانتماء الطائفي هو الأساس في الحصول على المناصب العليا في ظل التقاسم الوظيفي الطائفي والإثني، بعيداً عن الكفاءة والخبرة والنزاهة، وقد أثّر ذلك على نحو شديد في فاعلية وأداء أجهزة الدولة وكفاءتها ودورها، حتى إن إحدى الجماعات السياسية وأعني بها " جماعة السيد مقتدى الصدر" احتجزت أحد أعضائها خلافاً للقانون، والمقصود به هو بهاء الأعرجي نائب رئيس الوزراء السابق، لمدة ثلاثة أشهر كما أعلنت. ودعت المواطنين، الذين يتهمونه بالفساد، التقدّم إلى جماعته السياسية للتحقيق فيها، ولعلّ ذلك أحد مظاهر تدهور مقوّمات الدولة وانحلال مؤسساتها، خصوصاً القضائية. 2- مواجهة مظاهر تفكّك الدولة، خصوصاً تحديد المسؤوليات لسقوط الموصل بيد داعش في 10 حزيران (يونيو) 2014 واستمرار الأمر حتى الوقت الحاضر، بل وتمدّدها إلى مناطق أخرى من العراق بلغت نحو ثلث الأراضي العراقية وتهديدها العاصمة بغداد. صحيح أن نفوذها تقلّص إلى حدود معيّنة ونسبياً، لكن استمرارها يمثل فضيحة للدولة العراقية أو لما تبقّى منها، وهي مهدّدة بالتقسيم الفعلي بفعل غياب إرادة سياسية للوحدة الوطنية وانعدام الثقة بين القوى والجماعات السياسية المختلفة – المؤتلفة، الأعداء- الأصدقاء " الأعدقاء"، إضافة إلى فهم مغلوط وناقص لفكرة الفيدرالية التي جاء بها الدستور، خصوصاً محاولات تفسيره وتأويله، ناهيك عن الألغام التي احتواها والتي يمكن أن تنفجر عند كل منعطف، في ظل انعدام الثقة بين الأطراف السياسية وتربّصها الواحد بالآخر، بما فيها الكتل المؤتلفة. 3- نبذ الطائفية وردّ الاعتبار لمرجعية الدولة وهيبتها ومكانتها، واعتماد مبادئ المواطنة التامة والمساواة الكاملة أساساً للحصول على الوظائف العليا وإلغاء التمييز الطائفي والإثني والديني والعشائري ومناطقي وغير ذلك. وبسبب فشل محاولات تديين الدولة أو تطييفها أو مذهبتها، انطلقت بعض الدعوات لقيام الدولة المدنية. قد تكون الدعوة إلى قيام دولة مدنية (الآن)، من باب التعبئة السياسية، إذْ يعتقد الباحث من موقعه كمراقب ومحلل للأحداث، أنها غير ممكنة التحقيق في الوقت الحاضر بسبب اختلال موازين القوى، أي أنه ليس مطلباً راهنياً، أي قابلاً للتطبيق، بل هو طموح بعيد المنال، حتى وإن كان هدفاً منشوداً، لكن مفرداته تبقى مهمة، لاسيّما بفكّ الارتباط بين الدين والدولة وبين السياسة والدين، وعدم إخضاع الأخيرة لرجال الدين وتفسيراتهم وتأويلاتهم، ولاسيّما الطائفية والمذهبية التي هي عامل تفريق وتنافر وحساسية. وقد ألقى مثل هذا الاشتباك والاندغام بين الدين والسياسة بثقله على المجتمع لدرجة أصبحت الحياة الشخصية مهدّدة ويتم انتهاكها كل يوم تحت حجج ومزاعم شتى، ناهيكم عن تجييش الكثير من أبناء الطوائف وشحنهم بالكراهية والانتقام من الآخر. ولذلك ارتفعت بعض الشعارات التي تعبّر عن أمنيتها لقيام دولة مدنية، ولاسيّما الشعار الذي ظلّ الصوت فيه مرفوعاً وعالياً "سلمية .. سلمية.. دولة دولة مدنية". إن أهمية تلك الشعارات والدعوات تكمن في نزع القدسية عن رجال الدين، والتعامل معهم كبشر يخطأون ويصيبون، وإذا ما أرادوا تقديم أنفسهم "كمرجعية" لطائفة أو مجموعة منها، فعليهم أن يكفّوا عن التعاطي بالسياسة ويتصرفوا خارج نطاق اللعبة السياسية، باعتبارهم وعاظ أو مرشدين جامعين وغير مفرّقين، لاسيّما بعدم الانحياز لهذا الفريق أو ذاك وتحت عناوين مصلحة المذهب أو الطائفة، فالمصلحة الوطنية والولاء للوطن هي التي ينبغي أن تتقدّم على جميع الولاءات الدينية والإثنية والمذهبية والسلالية واللغوية والعشائرية والمناطقية، مثلما يكون الاحتكام إلى القانون والخضوع لسيادته هو الأساس، باعتباره المرجعية التي تفصل علاقات الناس ببعضهم ومع الدولة، وليس لأي قواعد أو أنظمة أخرى دينية أو طائفية أو إثنية أو عشائرية أو غيرها. لا يمنع الدستور أو قانون الانتخابات من انخراط رجل الدين في السياسة، ولكن السياسة كما نعلم تحتمل الكثير من المراوغة والتدليس والتجاوز على الحقيقة وتقديم المصالح الأنانية الضيقة على حساب القضايا الوطنية والإنسانية العامة، ومثل ذلك لا يليق برجال الدين، الذين عليهم أن ينأوا بأنفسهم عن ذلك لأن وظيفتهم تفترض العكس، أو أن عليهم أن يكفّوا عن كونهم رجال دين، وبالتالي لا اعتراض على حقهم في مزاولة العمل السياسي. المهم أيضاً التقدّم بخطوات على طريق بناء الدولة العصرية الدستورية، بغضّ النظر عن تسميتها، وهذه الخطوات مهما كانت بسيطة لكنها تراكمية وتدرّجية وطويلة الأمد ، خصوصاً بإعلاء شأن المواطنة والمساواة وعدم التمييز وتحريم الطائفية وإعلاء سيادة القانون واستقلال القضاء وتأكيد حق المشاركة والتداولية والانتخابات الدورية وحرّية التعبير وحق الاعتقاد وحق المشاركة وحق تأسيس الجمعيات والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، وتلك كلها تؤدي إلى فضاء يستطيع فيه المواطن الفرد والجماعة التعبير عن ذاتهما بشكل حر ومستقل، بما فيها الدعوة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إن دولة الحماية التي نفتقر إليها لم تعد كافية على النطاق العالمي، خصوصاً وإن دولة الرعاية، بل والرفاهية، أخذت تشمل الميادين المختلفة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والصحية وكل ما يتعلّق بالقضايا التنموية، فما بالك حين نعجز عن الوصول إلى دولة الحماية، لتأمين الحد الأدنى للمواطن في أمنه وحياته وممتلكاته، فضلاً عن ضبط النظام والأمن العام.
ثانياً- الفيدرالية والأقاليم: معنًى ومبنًى
الفيدرالية حسب الدستور العراقي، جاءت موسّعة وصلاحياتها كبيرة ومفتوحة، على عكس صلاحيات السلطة الاتحادية التي جاءت مقتصرة على أبواب محدّدة، وفيما لو حصل خلاف بين الدستور الاتحادي والدستور الإقليمي، فإن الأول يخضع للثاني وليس العكس، كما هي الغالبية الساحقة من فيدراليات العالم، وليس بمستطاع قيادة الجيش بما فيه القائد العام للقوات المسلحة نقل أو تحريك قطعات عسكرية من وإلى الأقاليم، إلاّ بموافقتها. وحسب الدستور يحقّ للأقاليم فتح ممثليات لها في السفارات العراقية في الخارج لمتابعة القضايا الإنمائية والثقافية والاجتماعية. وبالقراءة القانونية فإن مثل هذا الوضع سيكون نواة لدويلة داخل دويلة بغض النظر عن النوايا، طالما ستكون هناك امتيازات وصلاحيات فلا يمكن والحال هذه إلاّ التمسك بها لأنها ستكون " حقوقاً " مكتسبة، خصوصاً وقد تضمنها الدستور، وليس بعيداً عن ذلك "العلاقات الخارجية" و"الاقتصادية" وإشكالات النفط وتوابعه، من الإنتاج إلى التصدير، ومن التعاقد إلى التوزيع، وعلاقة السلطة الاتحادية بالسلطة الإقليمية، سواء بالتنسيق أو بالإشراف أو الموافقة. وقد انفجرت هذه الأزمة منذ سنوات بين الحكومة الاتحادية وبين إقليم كردستان، ولم تجد طريقها إلى الحل لحد الآن، على الرغم من محاولات نزع فتيل الأزمة. وأعتقد أن سبب هذه الإشكالية في الدستور هي في المادتين 111 و112، اللتان تنصّان على: مادة 111- النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كلّ الأقاليم والمحافظات . مادة 112- أولاً : - تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المُستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الأقاليم والمحافظات المُنتجة، على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصّة لمدّة محدّدة للأقاليم المتضرّرة، والتي حرمت منها بصورة مجحفة من قبل النظام السابق، والتي تضرّرت بعد ذلك، بما يؤمن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد، وينظم ذلك بقانون. ثانياً : - تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معاً برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز، بما يحقق أعلى منفعةٍ للشعب العراقي، معتمدةً أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار . وإذا كانت الحكومة الاتحادية تدير النفط والغاز من الحقول الحالية، فإن النفط والغاز غير المستخرج تتم إدارته من جانب الأقاليم بالتنسيق والتعاون مع الحكومة الاتحادية، ومثل هذه النصوص كانت وراء تفسيرات وتأويلات مختلفة ومتنوّعة، بل ومتناقضة ولإقليم كردستان تفسيراته، مثلما للحكومة الاتحادية تفسيراتها. إن تلك الإشكاليات جعلت من مبدأ الفيدرالية أو " الأقاليم" إمّا وسيلة للتحلّل من الهيمنة المركزية للدولة وذكرياتها المؤلمة، وخصوصاً للكرد، لاسيّما في فترة النظام الاستبدادي السابق، ولكنها قد تؤدي بالواقع العملي إلى إضعاف الدولة وسلطتها الاتحادية لحساب الأقاليم، أو اعتبار الفيدرالية بعبعاً مخيفاً، باعتباره طريقاً للانفصال والإنقسام، الأمر الذي سيبقي على المركزية الشديدة الصارمة، وهو ما سارت عليه الدولة منذ تأسيسها، ولاسيّما خلال فترة النظام السابق، بل إن هذا الاتجاه يعتبر أي حديث عن الفيدرالية إنما يصبّ في تقسيم العراق وقد يكون موحى به أو مدفوع الثمن من جهات خارجية مشبوهة. وهكذا يتعامل الفرقاء مع الفيدرالية حسب أهوائهم التي تتراوح بين المقدّس والمدنّس. وكلا الشعورين ينمّان عن عدم ثقة وعدم وجود فهم مشترك وقناعات موحّدة حول الفكرة الفيدرالية معنًى (أي مضموناً) ومبنًى (أي صياغة)، وترتفع درجة الشكوك في ظلّ وجود هيمنة طائفية وتمييز وتهميش، ناهيك عن الرغبة في الحصول على المزيد من المكاسب على حساب الآخر وتحت تبريرات مختلفة. الفيدرالية التي رفعت شعارها الحركة الكردية منذ أوائل التسعينيات وأيّدتها قوى يسارية وليبرالية ووطنية بشكل عام، كانت تطويراً لشعار الحركة الوطنية القديم منذ أوائل الستينيات " الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان" ، وذلك في إطار دعوة صريحة إلى تمثيل الشعب الكردي وتمكينه من تقرير مصيره في إطار الوحدة الوطنية العراقية كما اختارها، لكن الأمر لم يقتصر على ذلك، وظهرت مشكلات قديمة وجديدة، بعضها عويص، خصوصاً ما يتعلق بكركوك أو بما سمّي المناطق المتنازع عليها، والتي ورد ذكرها في المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية أو المادة 140 من الدستور الدائم الذي تم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول (اكتوبر) 2005، وأجريت الانتخابات على أساسه في 15 كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته. وكان الدستور الدائم امتداداً لقانون إدارة الدولة التي صدر في عهد بريمر، وقد نُقلت الكثير من مواد الأخير وأحكامه إلى الدستور الدائم، الذي جاء مليئاً بالألغام، بحيث لم يشعر أي طرف بالارتياح، في حين إن الدستور هو تعبير عن الواقع السياسي والاقتصادي ودرجة التطور الاجتماعي ويعكس المصالح والأهداف المشتركة للفئات الاجتماعية المختلفة، لكن الأمر في الدستور العراقي اتخذ منحًى مختلفاً. ولذلك وفي أكثر الأحيان يوضع الدستور على الرف ويتم الحديث عن التوافق والديمقراطية التوافقية خارج اللعبة الانتخابية (كقدر دائم لا مردّ له)، ولكن ما أن تدبّ الخلافات فيتذكّر كل طرف الدستور حتى وإن كان يتعارض تماماً مع ما يقول، لكنه يحاول الاستناد إليه من باب الزعم بتمسّكه باعتباره "أبو القوانين"، حتى وإن كان الأمر شكلياً، ثم يُصار بعد ذلك للعودة لما يسمى بالتوافق دون أي اعتبار لصندوق الانتخاب وإرادة الناخبين. إذا كانت الفيدرالية الكردية تعبيراً عن حقوق قومية مشروعة ولها ما يبرّرها، وإن النظام الفيدرالي هو صيغة متطورة أخذت بها نحو 40% من سكان الكرة الأرضية، وشملت أكثر من 30 دولة، وأصبحت جزءًا من تطور النظام السياسي العالمي، فإن تطبيقاته في العراق وبصيغته الملتبسة أوجدت تعارضات شديدة بين الفرقاء السياسيين من المشاركين بالعملية السياسية ومن خارجها وعزّزت الشكوك بينهم، خصوصاً وإن العراق عانى من مركزية صارمة وشديدة المراس، وبحاجة اليوم إلى لا مركزية وتوزيع الصلاحيات، لكن تفسيرات وتطبيقات وتأويلات هذه الفيدرالية جاءت متناقضة وملتبسة من جانب العديد من الجماعات السياسية. فالقوى التي رفضت التصويت على الدستور لأنه يتضمّن مبدأ الفيدرالية، عادت واندفعت لقيامها تحت حجة عدم استفراد القوى الشيعية بالحكم وعزل وتهميش السنّة، وتلك واحدة من مفارقات الحياة السياسية العراقية ما بعد الاحتلال، وفكرة الأقاليم بما فيها " الإقليم السنّي" التي عارضتها وتحفّظت عليها الكثير من القوى، بدت وكأنها " مقبولة" ، حيث أعيد طرحها بعد احتلال داعش الموصل وخصوصاً بعد تشكيل الحشد الشعبي ودخوله المناطق ذات الأغلبية السنّية وما ترك ذلك من اتهامات له بانتهاكات وردود أفعال ومخاوف بشأن مستقبل هذه المناطق. والقوى الشيعية التي كانت متحمّسة للفيدرالية بعد الاحتلال، بدأت تتحفّظ عليها لا في المبدأ فحسب، بل في التطبيق أيضاً، ولذلك وجدنا كيف تعامل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي بقسوة مع المناطق الغربية والشمالية ذات الأغلبية العربية السنية المطالبة بالفيدرالية، وكيف كانت النتائج: هيمنة داعش وجزع فئات واسعة من السكان دفعها لعدم اتخاذ موقف من استيلاء داعش على الموصل وكأن الأمر لا يعنيها، ولكن بعد حين شعرت هذه الفئات بخذلانها، إثر هيمنة داعش وفرضها نظاماً سياسياً واجتماعياً ودينياً متشدداً ومتعصباً خاصاً بها وخارج سياق التطور التاريخي. أما الكرد فإنهم ينتظرون الفرصة السانحة للتعبير عن كيانيتهم المستقلة، ويريدون قبل ذلك تحقيق أكبر المكاسب تمهيداً لإعلانهم، خصوصاً إذا ما توفّرت اللحظة المناسبة، وحصلوا على تأييد دولي وموافقة إقليمية ضمنية بعدم معارضة ذلك، علماً بأن مبدأ حق تقرير المصير يشكّل المنطلق القانوني والدولي لمشروعهم التاريخي. وإذا كانت دولة ما قبل الاحتلال تتّسم بالشمولية والواحدية والإطلاقية واحتكار الحقيقة وتمجيد الفردية ونهج التسلّط، فإن دولة ما بعد الاحتلال انتقلت من التعثر في وحدتها إلى استفحال الأزمة بخصوص حاضرها ومستقبلها، لاسيّما في ظل الارتفاع السريع في وتيرة عوامل التفكيك والتشظي والتفتّت. وشهدت البلاد احترابات داخلية وإرهاب وعنف منفلت من عقاله، ناهيك عن استمرار النفوذ الخارجي، سواء على شكل اتفاقية للتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ العام 2008، مع إن محاولات إبرام اتفاقية أمنية جديدة بعد نفاذ الاتفاقية الأولى في نهاية العام 2011 باءت بالفشل، الاّ أن النفوذ الأمريكي لا يزال واسعاً ومتحكّماً ويظهر دوره في الأزمات والمنعطفات التي تمرّ بها البلاد، خصوصاً في ظل وجود اتفاقية مجحفة وغير متكافئة بين بغداد وواشنطن حسب اتفاقية فيينا حول " قانون المعاهدات " لعام 1969، حيث تم تغيير صفة الاحتلال، من الاحتلال العسكري إلى احتلال تعاقدي. يضاف إلى ذلك النفوذ الإيراني القوي والمؤثّر، سواء على صعيد الحكم رسمياً أو على صعيد العلاقة مع قوى أساسية في الحكم، وهذا النفوذ لم يعدّ خافياً أو مستتراً لا من جانب بعض القوى العراقية، ولا من جانب إيران،، فخط دفاع طهران كانت بغداد منذ احتلال العراق العام 2003، وإيران كانت ولا تزال تلعب دوراً إقليمياً كبيراً في العراق ولدى بعض دول المنطقة، وقد يتعاظم هذا الدور بعد التوصل إلى اتفاق بشأن الملف النووي الإيراني بعد مفاوضات دامت 12 عاماً وعرفت باسم (5+1)، على الرغم من محاولة تطويقه عربياً ودولياً من جانب بعض دول الخليج العربي والولايات المتحدة والغرب عموماً. ثالثاً- الدولة الفاشلة: ماذا تعني؟ من مظاهر أزمة الدولة العراقية ما بعد الاحتلال، هو عجزها عن حماية الاستقلال الوطني للبلاد، أو استعادته كاملاً وغير منقوص، وذلك بالاضطرار إلى التوقيع على اتفاقيات مجحفة ومذلّة بين طرفين أحدهما قوي ومحتل والآخر ضعيف ومحتلة أراضيه، وذلك بالضد من اتفاقية فيينا حول " قانون المعاهدات" لعام 1969 التي تفترض التكافؤ والمساواة وعدم الإكراه أو الإرغام عند عقد أية اتفاقية، وإلاّ ستكون مثل هذه الاتفاقية مخالفة لقواعد القانون الدولي، وذلك لأنها ستكون مشوبة بأحد عيوب الرضا التي تُبطلها قانونياً وشرعياً. وبسبب ضعف العراق، اضطرّ للسكوت عن تدخّلات وتجاوزات لحدوده وأراضيه واختراق سيادته في أكثر من موضع ومجال، وهو الأمر الذي يحصل مع إيران الذي لها اليد الطولى ،ومع تركيا يومياً بزعم ملاحقة حزب العمال الكردستاني التركي، وذلك إحدى مظاهر أزمته. كذلك عجزها عن تحقيق التنمية المستدامة المستقلة بجميع جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية والصحية والبيئية وغيرها، ولعلّ التظاهرات المندلعة منذ أسابيع وتطالب بمساءلة الفاسدين وتحسين الخدمات وغيرها من المطالب، خير دليل على فشل الدولة، فضلاً عن هدر أكثر من 700 مليار دولار هي واردات النفط خلال الفترة المنصرمة منذ الاحتلال ولحدّ الآن دون أية منجزات تُذكر، بل ذهبت جميعها تقريباً هباءً منثوراً، بسبب سوء الإدارة وهدر المال العام وعدم الشعور بالمسؤولية واستشراء الفساد المالي والإداري، المتمثّل بالسرقات وعمليات التزوير والامتيازات غير المشروعة وغير ذلك. ولا يزال العراق منذ 13 عاماً يصنّف من جانب منظمة الشفافية العالمية، باعتباره في أسفل سلّم الهرم بالنسبة للفساد المالي والإداري. من مظاهر الأزمة أيضاً عدم إحراز أي تقدّم في ميدان العدالة الاجتماعية، حيث ازداد التفاوت الطبقي والاجتماعي على نحو شديد وارتفعت نسبة الفئات الفقيرة التي زادت فقراً، ويوجد نحو 8 مليون إنسان دون خط الفقر في بلد من أغنى بلدان العالم، ولكن شعبه يعيش بحالة مدقعة من الفقر، بل إن هناك بلدان فقيرة يعيش سكانها بطريقة أفضل من العراق بسبب نسبة قليلة من الإدارة الرشيدة والوحدة الوطنية. ومن مظاهر الأزمة الأخرى هو تقليص دائرة المشاركة السياسية والشعبية وعدم تحقيق المصالحة الوطنية، على الرغم من المشاريع الكثيرة الفاشلة، والسبب يعود إلى عدم توفّر إرادة سياسية، فالكل يعلن عن رغبته في التوافق، لكن التوافق الذي يفهمه لا يعني سوى الامتثال إلى رأيه لدى أي خلاف، ومثل هذا الأمر زعزع الثقة الهشّة والتفاهم المهلهل أصلاً وقاد إلى المزيد من التباعد والتمترس، خصوصاً في ظل ارتفاع نزعات الهيمنة والثأر والكيدية والانتقام، ليس ضد النظام السابق وكبار موظفيه فحسب، بل ضد القوى المشاركة بالعملية السياسية بعضها ضد البعض الآخر، حيث يتم اقتناص الفرص لإيقاع كل فريق بالآخر. أما المظهر الأخطر للأزمة، فهو حالة التفتيت والانشطار العمودي التي تعيشها الدولة منذ الاحتلال وحتى الآن،والتي تنذر بعواقب وخيمة ليس بعيداً عنها مشروع جو بايدن لعام 2007 لتقسيم العراق إلى 3 دويلات (تحت عناوين فيدراليات) ووضع نقاط تفتيش Check point بينها وتخصيص 300 ألف جندي لمراقبة حدودها وإصدار هوّيات Identity أقرب إلى جوازات سفر للتمييز بين أبناء المناطق المختلفة حسب سكنهم والأماكن التي يقطنونها. وسيكون ذلك جزءًا من تطهير طائفي وإثني جديد، خصوصاً وأن هناك مناطق يستعصي تجييرها لطائفة أو مجموعة طائفية كبغداد العاصمة على سبيل المثال، على الرغم من التطهير الطائفي الذي تعرّضت له منذ الاحتلال ولحد الآن، وباختصار فإن الزعم بأن التقسيم سيكون حلاًّ أو حتى آخر الحلول السيئة ليس سوى محاولة لفرض الأمر الواقع على العراقيين ليصبح ذلك واقعاً في المستقبل. التقسيم سيكون كارثة جديدة على العراق الذي سيختفي من الخارطة السياسية، خصوصاً إذا ما استمر الاحتراب والصراع، بل إن صراعه سيكون مصارعة على الطريقة الرومانية، حيث سينهك الجميع ويصلون إلى حافة الموت. ويذكّرنا مشروع جو بايدن بسؤال طرحه غراهام فولر الدبلوماسي والسياسي في مؤسسة راند Rand الأمريكية (المقرّبة من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA)هل سيبقى العراق موحداً العام 2002 ؟ وعاد وكتب دراسة في العام 2002 عنوانها "العام الأخير لصدام حسين"! ، وكان ذلك تمهيداً لاحتلال العراق، وجزء من نظرية التفتيت التي اشتغلت عليها مؤسسات الأبحاث والدراسات الاستراتيجية الأمريكية بشكل خاص والغربية بشكل عام، وتروست الأدمغة ومجمّع العقول لصالح المجمّع العسكري والصناعي، منذ اندلاع الحرب العراقية –الإيرانية، باعتبار الصراع في المنطقة هو بين سنّة وشيعة، وبين فرس وعرب وبين دولتين نفطيتين، وليس القضية الفلسطينية هي المسألة المركزية وإن الصراع العربي – الإسرائيلي هو الصراع الأساسي في المنطقة، وهو ما أريد الترويج له والعمل على أساسه لتفتيت دول المنطقة ، والعراق كان بروفتها الأولى. لعلّ غراهام أي فولر لم يكن خيالياً عندما كتب " هل سيبقى العراق لغاية العام 2002" خصوصاً باستمر الحصار والنظام حينها!؟ ننقل هذه الفقرة الجوهرية التي يريد الوصول اليها: دولة على درجة عالية من الاستبداد للحيلولة دون التفسخ، ولكن من شأن هذه الدولة الاستبدادية، أن تحرم البلاد من الاستقرار السياسي والمرونة اللازمة، الأمر الذي يغرق البلاد بالمقاومة الداخلية وعمليات التمرد والتدخلات الخارجية، وربما يغريها للسعي للمقاومة الخارجية للتعويض عن ضغطها الداخلي. وضمن هذا السيناريو يمضي فولر: لقد شهدنا بالفعل تلك التجربة عندما شنّ العراق حربين ضد جيرانه خلال عقد واحد من الزمن. ثم يواصل فولر حبكته الدرامية بالاستنتاج التالي" ومما يدعو للمفارقة ان التدخل الخارجي ربما يكون السبيل الوحيد لانقاذ وحدة العراق، لأن استمرار نظام الحكم البعثي، سيؤدي بالتأكيد الى تعميق الخلافات الطائفية والدينية القائمة والتي يصعب التوفيق بينها داخل العراق." ويفصح اكثر وعلى نحو لا لبس فيه ولا غموض عن ستراتيجيته الولايات المتحدة إزاء العراق، التي عبّر عنها أكثر من مرّة الرئيس كلينتون وآل غور نائبه وكريستوفر وليك وإضرابهم بالقول " فالسياسة الامريكية تجاه العراق تنطوي على مسائل تتجاوز كثيراً مصير دولة معتدية لحقت بها الهزيمة، بل إنها تشمل على العديد من القضايا ذات الاهتمام الدولي. ويعددها على النحو التالي: 1- يعتبر العراق واحداً من أخطر منتهكي الحظر على انتشار الأسلحة التدميرية وهو " مصدر قلق"! 2- العراق هو الدولة الأولى في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، التي تم دحرها وترويضها عسكرياً بموجب النظام العالمي الجديد(الدور الجديد للأمم المتحدة) 3- ستظل " الوحدة الاقليمية " للعراق ليس موضع شك حسب، بل ربما يتقرر استمرار وحدتها جزئيا بسياسات المجتمع الدولي. (انظر غراهام. أي فولر- العراق في العقد القادم: هل سيبقى العراق لغاية العام 2002؟ مؤسسة Rand، منشورات الملف العراقي، لندن، 1993، ص 7 و15 و 64). وإذا كان كريستوفر قد صرّح بما يلي" إني قلق بشأن الذين سيخلفون (الرئيس ) صدام حسين بقدر قلقي منه... فإن العامل الخارجي الذي يبرر التآكل التدريجي للدولة العراقية، يلتقي مع العوامل الداخلية، التي تؤدي الى ذبولها إذا جاز التعبير وبالتالي انهيارها. (انظر كتابنا، عاصفة على بلاد الشمس، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1994، ص 178) ولكي نتعرف على طبيعة الدولة العراقية وقيام مؤسسات المجتمع المدني لا بدّ من العودة ولو بصورة سريعة الى قراءة بعض عناوين ومحطات قيام هذه الدولة وما وصلت اليه البلاد في الوقت الراهن. لقد عانت الدولة العراقية منذ تأسيسها في 23 آب (أغسطس) 1921 من أزمة حادة، استفحلت مع مرور الايام بوجود " حكم أقلي" وابتعاد القاعدة الاجتماعية الواسعة عن المشاركة في إدارة الشؤون العامة وبالتالي تقليص دائرة الحكم، ليستقر في دولة يعبّر رئيسها الحالي عن استهزائه بالقانون والتشريع بالقول أن بضعة أسطر نحن نسنّها، فما بالك بالتطبيق. (انظر كتابنا: المحاكمة – المشهد المحذوف من دراما الخليج، دار زيد ، لندن ، 1992). لقد أقيم العراق الحديث بلبنته الاولى في اتفاقية سايكس –بيكو السرّية عام 1916 بين بريطانيا وفرنسا. وضم هذا البلد خليطاً من قوميات وعناصر متنوعة. وإذا كان العنصر العربي الأساس في المجتمع العراقي، خصوصاً في الوسط والجنوب وغرب البلاد وجزء من شمالها وبمحيطه العربي الأوسع، فإن العنصر الكردي تفوّق في كردستان (شمال العراق)، إضافة إلى وجود تركمان وآشوريين ويزيديين وأرمن وصابئة وغيرهم. وضمّ العراق المتنوع قومياً، تنوّعاً دينياً، فإضافة الى المسلمين بطائفتيهم الرئيسيتين الشيعة والسنّة، هناك أقليات دينية متعايشة، خصوصاً المسيحيين بطوائفهم وصابئة وإيزيديين وغيرهم. والجميع يؤلفون نسيج الوحدة الوطنية العراقية بفسيفسائها وتمايز ألوانها. وإذا كان التنوّع من خلال التعايش والوحدة الوطنية دليل قوة، إلاّ أنه لم يكن كذلك في منظور بيرسي كوكس – مس بيل بعد قيام ثورة العشرين (1920). فلم يكن من وجهة نظرهم ومصالحهم، سوى نوعاً من التناقض والصراع، الذي ينبغي أن يُحل لمصلحة بريطانيا بإحداث التعارض بين القاعدة العريضة وقمة الهرم التي كانت تضيق باستمرار. ومع أن الملك فيصل الأول حاول تشخيص هذا الوضع قبل ما يزيد على بضعة عقود من الزمان وبعد خبرة في الحكم دامت نحو 12 عاماً حين دعا في مذكرته الشهيرة، التي وجهها قبل وفاته بفترة قصيرة (1932) إلى تقديم أولوية الانتماء إلى الوطن بدلاً من الطائفة والعرق، بسبب نهح لم يعتمد المساواة بين المواطنين أساساً للحكم، وخصوصاً فيما يتعلق بقانون الجنسية رقم 42 العام 1924، الذي قسّم العراقيين إلى فئة أ و فئة ب فيما يتعلق بشهادة الجنسية العراقية، وعلى أساسه والقوانين اللاحقة جرى تهجير عشرات الآلاف من المواطنين العراقيين بحجة التبعية الإيرانية وإنسابهم إلى الفئة ب، في حين أن الفئة أ نسبت إلى التبعية العثمانية وبالتالي إلى التبعية العراقية (بالتأسيس). وإذا كان هذا موقف رأس الدولة في العام 1932 الذي صاغه على نحو جريء وصريح محللاً حقيقة أزمة الدولة العراقية، فما بالك بما يجري في الواقع الفعلي، وهو ما أثار تداعيات وتساؤلات كثيرة بصدد تجليات الأزمة، وذلك من خلال معرفة الخلفيات وإجراء مقارنات ضرورية، كلما تطلب الأمر. (انظر عبد الكريم الأزري، مشكلة الحكم في العراق، طبعة خاصة، لندن، 1991) . انظر كذلك : عبد الكريم الأزري ، تاريخ في ذكريات العراق 1930-1958، طبعة خاصة، 1982). الدولة حسب ابن خلدون تبدأ من " الرأس فما تحت" وهي بحاجة الى سلطة رادعة (وازع) وقائد عصبية أو تضامن من شعب يتحد معه لتنظيم أمور المجتمع. ويرى الدكتور علي الوردي الباحث والمفكر الاجتماعي: إن فكرة الدولة هي الاساس في نظرية ابن خلدون الاجتماعية وهو ما ذهب اليه الدكتور طه حسين، حين ركّز على موضوع القيم الحضرية. أما ساطع الحصري فقد ركّز على موضوع العصبية، أي أنه أعار اهتماماً كبيراً لموضوع " القيم البدوية" في المنهج الخلدوني، كما يحلّل الاستاذ وليد نويهض. (انظر: صحيفة الحياة، 19 أيلول (سبتمبر) 1996، العدد 12260) وحسب هوبز ولوك وسبينوزا وروسو تنشأ الدولة بموجب " عقد اجتماعي" بين الحكام والمحكومين (وإن اختلفت شروطه). أما عند كارل ماركس ولينين فالدولة أداة قمع للسيادة الطبقية، فهي والحالة هذه أداة لتنظيم سيادة طبقة على أخرى. وإذا كان الاجبار سمة من سمات الدولة حسب ابن خلدون، لتأتي بعدها المظالم، فالدولة أيضاً نتاج تحريضي لما يحدث بين الناس من إكراه على التعاون في سبيل الانتاج الحضاري. (انظر: علي الوردي، منطق ابن خلدون، طبعة جديدة، ص 251)
الدولة سواء ابتدأت من "رأس " أو كانت بموجب " عقد" أو "تخويل" أو "سيادة لطبقة" فلا بدّ من قوانين تنظيم شؤون البلاد والعباد وفقاً لدرجة التطور الاجتماعي. وإذا كان العراق بعد احراز استقلاله السياسي، يمرّ بمرحلة انتقالية، فإن انتماءه الى المجتمع الدولي، كدولة ذات سيادة " عصبة الامم عام 1932" ودخوله الامم المتحدة، كعضو مؤسس وموّقع على الميثاق عام 1945، قد جعلت مكانت الاقليمية والدولية تكبر، خصوصاً ما يمثله من موقع ستراتيجي وموارد هائلة وخيرات ومعادن وتاريخه الحضاري العريق. وشهدت سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، استقراراً نسبياً وعمراناً تجسّد بمشاريع تنموية كبرى وسعياً لتحديث الادارة وبناء مؤسسات ومرافق اقتصادية، ورغم ربط العراق بمشاريع دولية للهيمنة وفي إطار الصراع السياسي والآيديولوجي، فترة " الحرب الباردة" كحلف بغداد عام 1955 وغيرها، الاّ أن القاعدة ظلّت بعيدة عن المشاركة في اتخاذ القرار، بل بينها وبين مركز القرار هوّة سحيقة، كانت تتسع باستمرار لدرجة لم يعد بالامكان ردمها الاّ بعملية قيصيرة بإعادة بناء الدولة العراقية على أسس جديدة وفي إطار المساواة وعدم التمييز، بما يعالج الفجوة الكبيرة والهائلة بين قاعدة الدولة وقمة الهرم. لقد استهدفت ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 معالجة موضوع اختلال التوازن في الدولة العراقية، خصوصاً نهج العزل والتمييز واللّامساواة، بالسعي لتوسيع قاعدة الحكم وتحرير الارادة الشعبية والتخلص من النفوذ الاجنبي الاستعماري ومن مظاهر تزييف الحياة البرلمانية وقيود العشائرية والمحسوبية والمنسوبية والاضطهاد الشوفيني، لكن الأمور سارت باتجاه آخر، أكثر ضيقاً وتدريجياً بدأت ملامح الحكم العسكري تحكم قبضتها على البلاد وتفرض نوعاً جديداً أشد قسوة من الهيمنة ومصادرة حق الآخر والتدخل بشؤون المجتمع المدني والاستحواذ على مؤسساته، لدرجة أن البلاد دخلت دوامة الانقلابات العسكرية المتكررة ودارت في حلقة الانظمة الشمولية التوتاليتارية المتعاقبة، حيث تمت السيطرة على الحياة العامة وأُخضعت الأنشطة والفاعليات السياسية والنقابية والمهنية والاجتماعية للدولة، التي ألحق بهها كل شيء، فانقطع خط التطور التدريجي وازدادت قمة الهرم ضيقاً وتباعدت عن قاعدته الاجتماعية. أما الدولة بعد الاحتلال الأمريكي وبموجب صيغة بول بريمر- زلماي خليل زاده، فإنها توزّعت على ثلاث كيانيات سمّيت مكوّنات، هي الشيعة والسنّة والكرد، وفقاً لهذا النظام تمت المحاصصات الطائفية والإثنية وسارت على هذا الطريق من الناحية العملية منذ العام 2003 ولحدّ الآن، ويبدو إنها أصبحت مرتهنة إليه وأسيرة له، بل إن شرنقة تكاد تلف هذه الصيغة على نحو شديد لا يستطيع أحد الفكاك منها. ومن مظاهر الأزمة الراهنة هو: غياب الحد الأدنى من التوافق الوطني حول الوحدة الوطنية قاد إلى رؤية متناقضة للجماعات السياسية والطائفية، وهذه الرؤية تزداد تعقيداً بفعل اشتباك المصالح وتضاربها وبحكم التداخلات الإقليمية والدولية، يضاف إلى ذلك سعي أمراء الطوائف في الحصول على المزيد من الامتيازات لشحن أبناء طوائفهم ضد الآخر بزعم الخطر القادم. فالشيعية السياسية، وخصوصاً الجماعات المسلّحة، سواء في السابق أو في الوقت الحاضر وتحت تسميات "الحشد الشعبي" الذي هو جيش موازي للجيش النظامي من الناحية العملية وإن كان خاضعاً رسمياً لرئاسة الوزراء ومرتبطاً برئيس الوزراء، نقول إن الشيعية السياسية ولاسيّما المسلحة تطمح إلى دور أكبر بعد انتهاء العمليات العسكرية والقضاء على داعش. ويضم الحشد الشعبي الذي يرأسه هادي العامري، لواء بدر الذي كان تحت إمرته، وعصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي وجيش المهدي المرتبط بمقتدى الصدر وكتائب حزب الله وهي من التنظيمات التي قاومت الاحتلال، وجماعة المجلس الإسلامي الأعلى بقيادة عمار الحكيم ومجموعة من حزب الدعوة بقيادة نوري المالكي. إن نشاط هذه المجموعات الشيعية، السياسي والعسكري، يستند إلى ركيزتين أساسيتين: الأولى هي التحالف مع إيران والترجيب بالدور الإيراني الذي تقوم به في العراق، سواء في مواجهة داعش أو في دعم العمليات السياسية، أما الركيزة الثانية فهي وقوفها بقوة ضد عودة القديم إلى قدمه، أي الحيلولة دون محاولات عودة أتباع النظام السابق، وهو الأمر الذي يجعل من موضوع المصالحة الوطنية مجرد شعار ترويجي ليس للتطبيق بحكم المخاوف المزروعة والمستمرة بين الأطراف المختلفة، خصوصاً باستمرار قانون المساءلة والعدالة الذي هو امتداد لقانون اجتثاث البعث الذي أصدره بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق، العام 2003، وهاتان الركيزتان الاستراتيجيتان تعمل عليهما القوى الشيعية وكذلك إيران على نحو تكاملي ومتداخل، وقد تكون ضمن برنامج تدرّجي وبعيد المدى. أما السنّية السياسية المشاركة في العملية السياسية أو غير المشاركة فهي تخيف أبناء المناطق الغربية من الخطر الشيعي ومن تدخّلات إيران والتمدّد الصفوي بهدف التعبئة ضد خصومها من الشيعية السياسية، ولذلك وتحت ضغط الواقع والشعور بالتمييز والتهميش تضطر أحياناً إلى قبول فكرة الإقليم السنّي للحدّ من نفوذ الشيعية السياسية، كما إنها تسعى للحصول على دعم إقليمي ولاسيّما من دول الخليج العربي، وتركيا بهدف التوازن مع الدعم الإيراني للشيعية السياسية كما تبرّر، وهكذا فإن مثل هذا التجاذب يستمر، بل يتصاعد، وما لقاءات الدوحة (أيلول/سبتمبر/2015) إلاّ تعبيراً عن المخاوف إزاء تطور الأوضاع الراهنة في العراق، وخصوصاً في المناطق الغربية من العراق. ويعبّر الكرد عن مشروعهم الموسوم بقيام كيان خاص بهم " دولة" بمناسبة أو غير مناسبة، وهم أكثر وضوحاً وشفافية، استناداً إلى تمسّكهم بمبدأ حق تقرير المصير الذي أقرته المعارضة العراقية منذ العام 1992 في مؤتمر فيينا وصلاح الدين. ومع إن مشكلات تعترضهم على هذا الصعيد، بسبب الخلافات الداخلية والمنافسات السياسية والحزبية الحادة، فإن هناك تحفظات إقليمية ودولية بهذا الخصوص وهو ما لوحظ بشكل خاص بعد زيارة رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني لواشنطن الأخيرة 3/5/2015. وعلى أي حال فالمشروع الكردي بإقامة كيان خاص " دولة" في طريقه للتحقّق إن آجلاً أو عاجلاً، ولكنه يحتاج إلى وقت وقد يتم بالتدريج وعلى مراحل، خصوصاً وأن غالبية الشعب الكردي حسبما بيّنت الاستفتاءات تؤيد ذلك وتبقى مسألة التوقيت تحتاج إلى ظرف مناسب، وإلاّ فإن إجهاضها سيوجه ضربة جديدة لآمال الحركة الكردية. أما التركمان فهم يشعرون بالغبن لعدم تمكّنهم من إقامة كيان خاص بهم، ناهيك عن وقوعهم في منطقة حساسة لتضارب المصالح، ولا زال المسيحيون ( الكلدان والآشوريون والسريان) في حال شديد البأس والخطورة، بسبب إجلائهم من مناطقهم في الموصل وبعض قرى وقصبات سهل نينوى وترتفع نسبة الهجرة في أوساطهم. وهكذا فإن الدولة تسير بخطوات حثيثة نحو المزيد من الاصطفاف الاصطفائي والتباعد العملي الذي سيزيد من عوامل الانشطار والتمزّق. رابعاً - من الدولة الفاشلة إلى الدولة الرخوة إذا كانت مظاهر الدولة الفاشلة قد تجسّدت في عدم قدرتها على تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي وعجزها عن تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، وخصوصاً في ظلّ شحّ المشاركة السياسية الحقيقية باستمرار الظاهرة الطائفية، وكذلك عدم التمكّن من إنجاز المصالحة الوطنية الحقيقية فإن هذه الدولة أخذت تنحدر تدريجياً من الدولة الفاشلة إلى الدولة الرخوة والكيان الهش المعرّض للتفتت. نقول إن العراق دولة رخوة وكيان هش وبدأ يتحلّل بشكل خاص منذ الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988، حين بدأت بعض الإرهاصات الطائفية تأخذ طريقها إلى الممارسة السياسية بتهجير عشرات الآلاف من العوائل العراقية إلى إيران بحجة التبعية الإيرانية وضعف الولاء للدولة العراقية، وزاد تدهور الدولة بعد غزو القوات العراقية للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990 وحرب قوات التحالف ضد العراق العام 1991، وقاد الأمر إلى ضعف الشعور بالمواطنة وارتفعت موجات التمييز، وتدريجياً بدأت الدولة بالتراجع، حتى أن إقليم كردستان أصبح خارج سيطرتها منذ أواخر العام 1991، ثم وقع العراق تحت الاحتلال في العام 2003 في حرب محسومة النتائج سلفاً، وبعد حصار دولي دمّر النسيج العراقي دام نحو 13 عاماً، خصوصاً وأن دخول العراق في حروب لا معنى لها قد أضعف من مكانة الدولة العراقية، ولاسيما بعد غزو الكويت في 2 آب (أغسطس) العام 1990. ولا يقلّ العجز السياسي عن العجز الاقتصادي، بل إن كليهما يثبت هشاشة ورخاوة وعجز الدولة، ذلك أن عدم التمكّن من تحقيق الاستقلال الوطني، قاد إلى عدم التمكّن من تحقيق الاستقلال الاقتصادي في ظلّ تخبّطات عرفتها الدولة وسياساتها المالية والاقتصادية وغياب الحوكمة، وقد ارتبط العجز في مجال التنمية وتدهور مستوى الخدمات إلى عجز مماثل في ميدان العدالة، اجتماعياً وقانونياً، مدنياً ودينياً، وبسبب ذلك أيضاً تعرّض مسيحيون وإيزيديون وصابئة وأبناء طوائف أخرى إلى سلسلة من عمليات القمع والإرهاب والتنكيل وغير ذلك. وجعل العجز في الحقول الثلاثة، الدولة العراقية قابلة للاختراق من الخارج، مثلما عرّض المجتمع العراقي والمواطن العراقي إلى امتحانات شديدة القسوة بسبب ذلك، خصوصاً بضعف الحصانة وشعور فئات واسعة من السكان بالتمييز والتهميش ، والأمر له علاقة بغياب المشاركة السياسية الضرورية وتسلّط نخب تجهل آليات عمل الدولة وأجهزتها، فضلاً عن انخراطها في عمليات الفساد المالي والإداري. لا يمكننا فقط التركيز على الوضع الذي وصلت إليه البلاد على العامل الدولي ونقصد بذلك الاحتلال، وإنْ كان أساسياً، لكن العامل الإقليمي مهم جداً بوضع مثل العراق، فلإيران مشروعها السياسي القومي المذهبي الآيديولوجي، ولتركيا مشروعها السياسي القومي المذهبي الآيديولوجي، أما العراق فقد انقسم إلى طوائف وإثنيات وكتل وجماعات متناحرة متضاربة لا يجمعها جامع يمثّل الحد الآن من الانتماء إلى الوطن وإلى حمل صفة المواطنة، وقد يكون مناسباً في هذا المقام استعادة مذكّرة الملك فيصل الأول العام 1933، بخصوص غياب المواطنة العراقية، وذلك بعد أكثر من 12 عاماً على حكم البلاد، التي وجدها مقسّمة طائفياً وإثنياً بين مللٍ ونحلٍ وطوائف وعشائر لا يجمعها جامع. إن عدم وجود مشروع عراقي موحّد أو مشروع عربي جامع للعب دور توازن مع المشروعين الإيراني والتركي، إضافة إلى المشروع الصهيوني الذي له يد طويلة في الامتداد والاختراق، ولعب دور التنفير والتوتير بين دول المنطقة وشعوبها ولدى كل دولة في الوقت نفسه، أقول أن غياب هذا المشروع يعني أن العراق الذي نعرفه قد يتعرّض كيانه للتفتيت أو للتجزئة، وذلك سيناريو محتمل بسبب استفحال الأزمة وإمكانية تفاقمها في المستقبل لأسباب داخلية أو خارجية. وإذا ما تحقق مثل هذا السيناريو فسيكون أول المسلسل للدول العربية، فقد تلحقه سوريا واليمن وليبيا، وهناك إشارات إلى بعض دول الخليج، خصوصاً في ظل التداخل الإقليمي.
خامساً - من الدولة العميقة إلى الدولة الغنائمية ما كادت البلدان العربية التي شهدت حراكاً شعبياً تتنفّس الصعداء بعد تبلور مطالب شعوبها باتجاه التغيير، حتى بدأت معاناة أخرى ومن نوع جديد تواجهها، والأمر لا يتعلّق بصميم ما سعت إليه ورفعته من شعارات ذات طبيعة قيمية، مثل المطالبة بالحرّيات والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية وغيرها، بل بصراعات واحتدامات جديدة سرعان ما أخذت طريقها إلى المسرح السياسي، خصوصاً ما رافقها من عنف وفوضى وتفتت مؤسسات الدولة وانحلال بعضها. والأمر لا يتعلق بالشرعيات القديمة التي انهارت أو تآكلت أو ضعف دورها، بقدر ما له علاقة بطبيعة التغييرات الحاصلة والحواضين الاجتماعية لها، والمرحلة الانتقالية التي تمرّ بها ودور الدولة العميقة في مواجهتها والتحديات التي اعترضت طريقها، والقوى التي حاولت تجيير عملية التغيير لصالحها، والتطورات الجديدة وغير المتوقعة التي أعقبتها. وإذا كانت الشرعيات القديمة قد أصبحت ماضياً ولا يمكن إعادته أو العودة إليه، إلى أن المسألة في وجهها الآخر ترتبط بعدم ولادة شرعية جديدة وتوافقات تستجيب لمطامح التغيير وتطلّعاته، وخصوصاً باللحظة الثورية التي اتحدت فيها العوامل الموضوعية مع العوامل الذاتية، بالنسبة للشباب. وإذا كان القديم قد انهار أو تفكّك أو تذرّر، لكن الجديد لم يولد بعد وحتى ولادته كانت قيصرية أحياناً، وسرعان ما تعرّض المولود الجديد إلى التهابات حادة وأعيد إلى حاضنته، فضلاً عن كوابح وعراقيل بدأت مع أولى محاولات البناء، سواء من جانب القوى المخلوعة أو من جانب قوى وجدت مصلحتها في الماضي، أو أرادت أن تكون هي بديلاً عنه، وهكذا تبدّدت فرص التغيير، وأصيب البعض بالخذلان والخيبة، بل وُجد هناك من اعتبر التغيير كارثة، والربيع أصبح بعرفه خريفاً، لأن البديل كان ملتبساً، حيث استشرت الفوضى وعمّ العنف وتفشي الإرهاب على نحو مريع، بل إن الدولة الوطنية أصبحت عرضة للتمزّق والتآكل والتفتت وتم العبث بوحدتها وهيبتها ومرجعيتها. وإذا كانت حركة الاحتجاج استهدفت استعادة الحقوق المفقودة والمستلبة، فإن العواصف والتقلّبات والانقسامات التي شهدتها البلدان التي عرفت التغيير، دفعت أوساطاً غير قليلة إلى القنوط لدرجة اليأس، خصوصاً بصعود نجم الجماعات الإرهابية، سواء تنظيم القاعدة أو ربيباته: تنظيم داعش وجبهة النصرة وغيرها، إضافة إلى قوى محافظة أحياناً قد تكون أبعد عن الحداثة من القوى الاستبدادية التي حكمت البلاد. ولأن البلدان التي واجهت حركة الاحتجاج والتمرّد انزلقت إلى حروب أهلية أو هدّدتها العمليات الإرهابية وتزايد أعداد المتطرفين والانتحاريين، كانت تعيش في أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية، فإن أزماتها وهي تعيش مرحلة انتقالية، ازدادت حدة وعنفاً، كانت حادة وعنيفة على إن الاستثناء هو تونس في المحيط العربي لأنها لم تنزلق في حروب دموية، مع ارتفاع منسوب الاغتيالات السياسية، ومصر التي استعادت الدولة مكانتها بعد استبعاد الأخوان المسيلمين من الحكم، لكن حركة التمدين السياسي والمشروع الديمقراطي المدني لا يزال متعثراً أو إنه يسير الهوينا، ناهيك عن حجم العنف الذي ضرب ليبيا واليمن وسوريا، حيث عانت هذه البلدان من تدخلات خارجية دولية وتداخلات إقليمية، واندلاع حروب دموية وضعت مسار الدولة ومؤسساتها جميعها في حالة لا تُحسد عليها. ولأن الحقوق الأساسية ظلّت مستلبة، لاسيّما الحق في الحرية، فقد وجدت عقبات جديدة أمام حرية التعبير والضمير بفعل صعود تيار إسلاموي متطرّف، فضلاً عن بعض نزعات طائفية ومذهبية طغت على السياسة، تلك التي اعتمدت ثقافة الحشود مذكرة بعصر المداخن الذي تلى الثورة الصناعية، وأريد بها بديلاً عن المعرفة والاحتكام إلى المعايير الديمقراطية والحقوق الأساسية التي اندلعت الثورات والانتفاضات من أجلها. للأسف الشديد فإن الطبقة السياسية التي تصدّرت المشهد عقب أنظمة الاستبداد التي أطيح بها والتي زعمت أنها كانت السبب وراء معوّقات التطور الديمقراطي، وقفت هي الأخرى بسبب صراعها على السلطة ومراكز النفوذ وبفعل الفساد المالي والإداري والتذرّر الطائفي والمذهبي بوجه علميات التحوّل الديمقراطي، لاسيّما في ظل استشراء العنف والإرهاب، ولذلك ضاعت الحقوق التي ناضلت من أجلها الشعوب وحركات الاصلاح والتمدين ومن أهمها "الحق في الحق" وأساسه الحق في التمثيل السياسي والحق في الأمن والحق في السلام والحق في التنمية والحق في الحرية والحق في الكرامة والحق في السكن والعمل والضمان الاجتماعي والحق في العلاج وغيرها من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتلك من مستلزمات دولة الحق والقانون، خصوصاً باعتماد حكم القانون واستقلال القضاء وفصل السلطات والإقرار بالتنوّع والتعددية وحق الشعب في اختيار من يمثله وحقه في عزله، على أساس التداولية السلمية للسلطات. واستبدلت الطبقة السياسية بعد الإطاحة بالأنظمة السابقة، مفهوم الدولة الاستبدادية ليحلّ محله مفهوم الدولة الغنائمية والمحاصصة الطائفية والحزبية، وولدت وتكاثرت بسرعة خارقة لوبيات فاسدة وفئوية ولصوصية، فضلاً عن غياب رجال دولة حقيقيين، فالطاقم السياسي بشكل عام جاء في غالبيته من المعارضات، التي ليس لها خبرة أو معرفة بالدولة ودواوينتها وآليات عملها، وبسبب ضعف الرقابة وتفكك أجهزة الدولة ومحاولة الكسب غير المشروع والسريع استشرى الفساد المالي والإداري على نحو لم يسبق له مثيل، بل إنه شكّل ظاهرة صارخة في أوضاع ما بعد الربيع العربي. لو راجعنا تقارير البنك الدولي والمؤسسات المالية والاقتصادية الدولية المعتمدة مثل منظمة الشفافية العالمية، لاكتشفنا إن بلدان ما بعد الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية، سواء التي وصلت فيها النخب الحاكمة بعد الاحتلال مثل أفغانستان والعراق، أو بالتدخل الخارجي كما هو في ليبيا واليمن، هي الأكثر فساداً، بل إن بلداً مثل العراق وصلت وارداته النفطية خلال السنوات العشر الماضية أكثر من 700 مليار دولار، لكنه لا يزال يعيش على الحافة، وترتفع نسبة من هم دون خط الفقر لتصل إلى أكثر من 8 مليون إنسان في بلد عدد سكانه نحو 30 مليون، وتزداد نسبة البطالة وتتفشى الأمية فيه، ولاسيّما بين النساء، ناهيك عن الإرهاب والعنف والطائفية والمحاصصة والفساد، وهو من أغنى بلدان العالم.وهكذا كانت المعادلة أغنى بلد لأفقر شعب. وإذا كانت أنواع الفساد الكبير معروفة، فإن أنواع الفساد الصغير الذي قوامه الغش والرشا والمحسوبية والوظائف والعقود الوهمية والتهرّب من الضرائب وتجنب الغرامات المالية والشراكة مع رجال الأعمال وهروب العديد من الفاسدين أصبحت سائدة، وأصبح الفساد بحد ذاته مؤسسة من المؤسسات التي يصعب اختراقها بحكم نظام المحاصصة الوظيفي وبحكم المصالح التي ترتبت للطبقة السياسية وأعوانها. ومن النتائج الكارثية الجانبية لحركات التغيير صعود ظاهرة الإسلام الجهادي، في تونس وليبيا وسوريا ومصر والعراق، خصوصاً بين أوساط المهمشين والمنحرفين والمجرمين والفئات الأقل تعلماً تلك التي تبنّت آيديولوجية داعش، التي تمدّدت ليشمل نشاطها قارات وبلدان بعيدة مجندة آلاف الشباب بما فيه الأوروبي والغربي للالتحاق بها. إذا كانت الدولة العميقة قد انهارت سريعاً، لكن تأثيراتها لم تنتهِ ولا تزال قائمة وقوية، وقد استعادت بعض مواقعها، ولكن تحت عناوين اقتسام الغنائم والحصص وتوزيع الفوائد على القوى المتنفذة، مهما اتخذت من أسماء وصفات. والأمر لا يتعلق بنفوذها الداخلي فحسب، بل إنها عقدت شراكات مع الخارج بما فيها الدول والشركات العابرة للقارات والحدود التي زعمت إنها تقف مع التغيير.
تحدّيات داخلية وخارجية إن التحدّيات التي تواجه استمرار العراق كدولة قائمة هي: 1- تحدّيات سياسية خارجية، إضافة إلى تحدّيات اقتصادية دولية بسبب شروط التبادل التجاري واستيراد الغذاء وانخفاض أسعار النفط واستيراد السلاح والمديونية، الأمر الذي يجعل البلاد أكثر خضوعاً للهيمنة الخارجية، وخصوصاً في ظل وجود النفط، وذلك يطرح تحدّيات جيوسياسية من خلال روابط التبعية، ولا تأتي هذه فقط من الغرب الإمبريالي، بل من إيران وتركيا و"إسرائيل"، سواء باستخدام القوة العسكرية أو لاقتطاع الأراضي، أو لإجبار العراق على توقيع اتفاقيات "سلام" استسلامية مع "إسرائيل" وإنهاء كل علاقة بقضية العرب المركزية " فلسطين" وفتح أسواقها للصناعات والتكنولوجيا "الإسرائيلية"، وكذلك لإحداث المزيد من التصدّع داخل المجتمع العراقي. 2- تحدّيات داخلية، وأولها وأهمها وأخطرها هو الاحتراب الطائفي المعلن والمستتر، وهيمنة الطائفية السياسية على مقاليد الدولة وأجهزتها وممارستها للتقاسم الوظيفي الطائفي والإثني. يضاف ذلك عدم الإقرار بالتنوّع الثقافي، ولاسيّما وإن مشاكل الإثنيات والأديان والطوائف أخذت بالظهور على نحو شديد بعد الاحتلال، أما بسبب كبت طويل الأمد واضطهاد وعدم مساواة، أو بسبب رغبة في التعبير عن هوّية فرعية وخصوصية جرى طمسها أو تغييبها خلال مسار الدولة العراقية. والمسألة تتعلّق بالكرد والتركمان والآشوريين والكلدان والسريان كتعبيرات قومية وإثنية، وبالأديان مثل المسيحية والإيزيدية والصابئة وغيرهم، وفي إطار الأديان بما فيه الإسلام والمسيحية وطوائفهما، وبالطبع فإن نهج الاستعلاء والإقصاء والتهميش الذي عانت منه هذه المجموعات الثقافية على مرور تاريخ الدولة العراقية دفعها للتعبير عن نفسها وهوّيتها الفرعية وفي بعض الأحيان بانغلاقها وضيق أفقها بسبب ما عانت منه. وتبقى المسألة الأساسية هي التحدّي الطائفي المحتدم والمصحوب بالكثير من عناصر الكراهية والحقد والبغضاء، لاسيّما التي يقوم أمراء الطوائف والمستفيدون من الانشطار الطائفي بتغذيتها، ولاسيّما علاقة الشيعة بالسنّة، حيث أدى هذا الإنقسام إلى احترابات وتكفير خصوصاً، وإن دعاة الطائفية هم في الغالب الأعم " طائفيون بلا دين" على حد تعبير عالم الاجتماع علي الوردي واستخدموا الطوائف بما يسيء إلى الدين، بتقديم ذلك على مبادئ الوطنية والمواطنة، وليس ذلك بعيداً عن التداخل الخارجي الإقليمي والدولي. إن التحدّي الديني وفروعه الطائفية قاد إلى موجات مختلفة من التعصّب والتطرّف والإرهاب والعنف، وانتشار ما سمي بالحركات الأصولية " الإرهابية" سواء اتخذت اسم جماعات القاعدة أو جبهة النصرة أو داعش أو جماعات مسلحة خارج دائرة القانون سنّية أو شيعية، ولاحظنا كيف اهترأت دولة مثل العراق واقتطع جزء عزيز منها هو الموصل، بكل تلك الخفّة واللاّمسؤولية، والأمر ذاته في سوريا، حيث لا تزال الرقة ونحو ثلث الأراضي السورية تحت هيمنة داعش. وللإرهاب أسبابه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية مثل الفقر والأمية والتخلف وعملية غسل الأدمغة التي تقوم بها الجماعات الإرهابية والتفسيرات الخاطئة للدين وغير ذلك. الأزمة العراقية والسيناريوهات المحتملة وضعت الأزمة العراقية الأخيرة، الدولة ومستقبلها على بساط البحث، فهل سيتعرّض العراق إلى التفتيت؟ ثم ما هي السيناريوهات ؟ وإذا كان هذا السيناريو محتملاً بفعل استفحال الأزمة العراقية وعدم وجود حلول جذرية لإعادة لحمة الدولة باستمرار الطائفية السياسية التي تمثّل جوهر الأزمة ، فالدراسات المستقبلية تضع سيناريوهين آخرين لأزمة الدولة، أولهما سيناريو استمرار الحال على ما هو عليه أو تفاقمه، الأمر الذي يمكن أن يقود إلى احتمالات أخرى، وثانيهما سيناريو التوحيد وخصوصاً إذا ما توفرت إرادة سياسية موحدة وظرف موضوعي وذاتي مناسب. ما الذي يمكن أن يحصل؟ وأي السيناريوهات المستقبلية سيكون أقرب إلى الواقع؟ أولاً- سيناريو التفتّت 1- التفتّت الواقعي Defacto fragmentation، وذلك بتحوّل الدولة إلى كانتونات أو فيدراليات أو دوقيات أو مناطقيات لا يربطها رابط وثيق فيما بينها سواءً كانت معلنة أو غير معلنة، معترف بها أو غير معترف بها رسمياً، داخلياً أو إقليمياً أو دولياً، لكنها قائمة بالفعل ويمثّل إقليم كردستان نموذجاً لها، من حيث السلطة والإدارة والموارد والخدمات، وهكذا تضمحل وتتقهقر الدولة تدريجياً. 2- التفتّت الرسمي (الفعلي) Dejure Fragmentation وهو الشكل الفعلي للانقسام أو الانشطار وقد يتحقق بالقوة وبعد احترابات ونزاعات مسلحة، أو بالاتفاق سلمياً، وقد يحصل على اعتراف دولي وإقليمي، وقد تأخذ الأقاليم المنقسمة أسماء أخرى غير الدولة القائمة أو تضيف شيئاً إلى اسمها السابق، وسيكون لهذه الدولة نشيدها الخاص وعلمها ورموزها، إضافة إلى مؤسساتها وتمثيلها الخارجي، ومن المحتمل أن يكون هذا التفتت الفعلي هو نتيجة أو مرحلة أخيرة للأمر الواقع، خصوصاً إذا ما استمرّت سلطات محلية بصلاحيات موسّعة ونفوذ سياسي وعسكري واقتصادي، ناهيك عن امتيازات، حينها سيكون من الصعب تخلّي النخب الحاكمة الإقليمية عنها. 3- الانضمام والإلحاق، Joining and Annexوهو وسيلة أخرى للتفتت، يضاف إلى التفتت الواقعي والتفتت الرسمي (الفعلي)، إذْ من المحتمل أن تسعى بعض دول الجوار إلى ضمّ ما تبقى من الدولة أو شطرها عند الانقسام، سواء باستخدام القوة لفرض واقع جديد أو بدعوة من أطراف سياسية أو جماعات مسلحة وتحت عناوين التحالف والمصالح المشتركة "القومية" أو "المذهبية" أو غير ذلك، وأعتقد إن الجارين الكبيرين والمحتربين تاريخياً على الأرض العراقية (بلاد ما بين النهرين) وهما تركيا وإيران يمكن أن يكونا جاهزين لاحتواء التفتت العراقي، خصوصاً بالتمدّد الجيوبوليتيكي. ومن العوامل التي تساهم في تزايد التحدّي وعدم الاستجابة الفعّالة لحلول ممكنة هو الإخفاق في مواجهة الأزمات والمشكلات الحادة وعدم التمكّن من تلبية المطالب الشعبية، بالقضاء على الفساد ومحاسبة المفسدين، وكذلك عدم التمكّن من تحسين الخدمات واستمرار الارهاب وأعمال التفجير والمفخخات وتدهور الوضع الأمني، إضافة إلى استمرار التفاوت الشاسع بين الفئات الاجتماعية في الدخول والموارد، وعدم تحقيق المشاركة السياسية الحقيقية بما فيها المصالحة والتخلّي عن مساعي الانتقام والثأر ومحاولة كسر شوكة الآخر، ناهيك عن شحّ موارد الدولة ووصول نموذجها التنموي إلى طريق مسدود، واقتراضها من البنوك الدولية وغير ذلك. ثانياً- سيناريو استمرار الحال وهذا يعني بقاء الوضع على ما هو عليه دون إحراز تقدّم يُذكر، وذلك سيعني فشل الخطط المعلنة للاصلاح، بسبب عوامل الكبح والمعارضة من جانب الجماعات المتضرّرة من الإصلاح، خصوصاً وأن هناك تحالفاً سرّياً بين مختلف الكتل والجماعات على عدم فتح ملفّات الفساد، وحين تجرّأ العبادي (وإنْ كان تحت الضغط الشعبي) على إعلان ذلك استنفر جميع الفرقاء (من الفاسدين) لوقف هذا المسلسل. وإذا توقّف ولم يستطع الاستمرار فعلاً، فإن ذلك سيكون سبباً في الخيبات والمرارات التي سيعيشها العراقيون، وإن استمرار مثل هذا الأمر لفترة غير قصيرة سيؤدي إلى تعميق فشل الدولة الفاشلة والرخوة، ويساهم في تفتيتها وتشظيها. ومن احتمالاته عدم بقاء رئيس الوزراء في موقعه، وانفتاح الأزمة على مصراعيها، فالأمر لا يتعلّق بالعبادي، بل بمستقبل الدولة العراقية ومسألة مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين: فهل يمكن استمرار الدولة وهي غارقة حتى رأسها بالأزمات والمشاكل، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، خصوصاً بفشل إدارتها وفشل إدارة حلّ الأزمة؟ هل سنذهب إلى انتخابات مبكرة؟ أم إن العبادي سيستخدم "صلاحياته" أو يتجاوزها بفعل الخطر الذي يتهدد الدولة العراقية بإعلان حالة الطوارئ وتعليق الدستور وحلّ البرلمان وتشكيل حكومة إنقاذ وطني جديدة انتقالية من كفاءات عراقية تحدّد بعد سنتين مثلاً الذهاب إلى انتخابات؟ إن استمرار الحال لم يعدْ ممكناً، وفي أحسن تقدير : أما الإطاحة بالعبادي، لاسيّما إذا بقيت الاصلاحات فوقية، وهو ما يذكّر برغبة الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف في العام 1956 بإجراء إصلاحات لمعالجة آثار الحقبة الستالينية، لكن طاقم ستالين وجهازه ظلّ هو الحاكم والمتنفذ. وتدريجياً عادت الأمور كما كانت إلى حدود غير قليلة، وفي نهاية المطاف أزيح خروتشوف عن موقعه وحلّ ليونيد بريجينف محلّه وحكم بالبيروقراطية الاستبدادية ذاتها لعشرين عاماً. ثم جاء ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة في العام 1985 فأعلن عن رغبته في إجراء إصلاحات جذرية، أطلق عليها " البريسترويكا والغلاسنوست" أي "إعادة البناء والشفافية"، لكنه واجه مشكلات جمّة، فلم يكن لديه أدوات للاصلاح والتغيير، وكان جهاز الدولة منخوراً والحزب مترهّلاً، ناهيك عن إنه لم يلتجئ إلى خطوات متدرّجة وتراكمية وطويلة الأمد، ولهذه الأسباب لم يكن بإمكانه الاحتفاظ بالسلطة، ولكن هذه المرّة لم يزاح هو فحسب، بل أطيح بالاتحاد السوفييتي في العام 1991، بعد إسقاط الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية بانهيار جدار برلين في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 . صحيح أن العبادي ليس خروتشوف ولا غورباتشوف ولا يمكن مقارنته بأي منهما، كما أن العراق ليس الاتحاد السوفييتي، لكن هذا الاستطراد مع الفارق في التشبيه والحالة والزمان والمكان، يستهدف إلفات النظر إلى أن أمام العبادي طريق واحد للاستمرار أو أنه إمّا أن ينحر أو ينتحر وقد يطاح بالعراق، إنْ لم يتّخذ خطوات عاجلة وسريعة لتدارك ذلك، ببناء تحالفات جديدة خارج الطاقم الحاكم، لأن أعداءه يمثّلون حيتان كبيرة من داخل حزبه ومن خارجه ، وليس معه أحد، لا السنّية السياسية ولا الكرد، وحتى الحشد الشعبي فإن ولاءه الأساسي ليس له. وإنْ لم يستطع العبادي الإطاحة سريعاً برؤوس الفساد، فسيطاح برأسه وقد تنهار الدولة العراقية. ثالثا- سيناريو التوحيد إذا كان هناك سيناريو التفتيت وسيناريو بقاء الحال دون تغيير، فالدراسات المستقبلية لا تهمل سيناريوهات أخرى أيضاً، فهل هناك سيناريو توحيد؟ هذا السؤال هو مقدمة لحوار حول دور النخب بشأن مستقبل البلاد، فحتى موجة الاحتجاج هذه، هناك من يحاول ركوبها والاستفادة منها وتوظيفها بما فيها قوى تعاونت مع الاحتلال ومخرجاته، وكانت جزء من أسباب الخراب التي تعاني منها البلاد. إن النخب الفكرية والثقافية والأكاديمية في مجتمعنا لا تزال ضعيفة ومستلبة وملحقة لحساب النخب السياسية التي بيدها القدح المعلاّ ولها سطوة عليها، بل إن لها القابلية على الاستتباع حسب توصيف المفكر الجزائري مالك بن نبي " القابلية على الاستعمار"، لاسيّما وأن النخب السياسية تملك المال والسلطة أو جزء منها والنفوذ وأحياناً معها ميليشيات وبعض دول الجوار أو القوى الدولية، ولذلك فإن أي استعادة لدورها، يتطلّب استعادة الوعي أولاً واستعادة الإرادة. ويحتاج مثل هذا إلى التحدّي والاستجابة الخلاقة لمتطلبات التغيير ونتائجه. كما إن إجراء إصلاحات واستجابة لمطالب المتظاهرين قد يفتح آفاقاً جديدة لنشوء كتل وجماعات سياسية تسهم في عملية التغيير. ويمكن القول إن القوى الدافعة للتوحيد والتغيير تمثل طيفاً واسعاً من القوى، ولكنها قد لا تكون منسجمة أو موحّدة مع الكثير من أن المشتركات تجمعها، ولا تزال القوى المهيمنة، ولاسيّما الدينية والطائفية والإثنية، تمنع وتعرقل أي لقاء بينها، بل وتضع العصا في دولاب أي تحرّك باتجاه الحوار. وهذه القوى هي: جماعات المصالح الاقتصادية والأحزاب والقوى السياسية المهمّشة من داخل العملية السياسية أو من خارجها، إضافة إلى المجموعات الثقافية المتنوّعة والتي تشعر بالغبن بسبب الإقصاء أو العزل أو التهميش أو حتى احتساب بعضها على النظام السابق، فجرى اجتثاثها، وبعضها من أصحاب الكفاءات والخبرات التي لا يستهان بها. يضاف إلى ذلك مؤسسات المجتمع المدني من داخل وخارج العملية السياسية، ومراكز الأبحاث والدراسات والجامعات، فضلاً عن أن البيئة الدولية والإقليمية قد تكون مشجّعة للتوحيد لأسباب تتعلق بالخوف من انتقال عدوى التفتيت إليها، ناهيك عن فايروس الإرهاب. وسيكون على عاتق الطبقة الوسطى، وخصوصاً المثقفين والأكاديميين والمفكرين دوراً مهماً على صعيد التوحيد والتغيير، ويحتاج الأمر إلى جهود فكرية وثقافية وسياسية لتشكيل قوة ضغط لإعادة النظر بالدستور واعتماد قواعد اللامركزية الإدارية على صعيد الأقاليم الفيدرالية أو المحافظات على نحو صحيح ودون صفقات سياسية باعتبارها نظاماً لتوزيع الثروة والسلطة، كما لا بدّ من اعتماد آليات توحيد ديمقراطية الأسلوب واجتماعية المضمون. يبقى هناك أسس للتوحيد ولقيام دولة عصرية دستورية لا يمكن التجاوز عليها، وأولها الحرية وثانيها المساواة وثالثها العدالة، ولاسيما الاجتماعية ورابعها المشاركة، وكل هذه تصبّ في مبادئ المواطنة، التي تشكل جوهر الهوّية الجامعة ، مع احترام الهوّيات الخصوصية.
• خاتمة بين الطائفية والمواطنة فرق كبير وشاسع، والمواطنة ليست طائفية حتى وإن انتمى المواطن إلى طائفة، إلاّ أن الأساس الذي يربطه بالمواطن الآخر هو الوطن والمواطنة والحقوق المتساوية، المتكافئة، والمشترك الإنساني في إطار سيادة القانون، وإذا ما أقرّ الجميع ذلك وفق دستور ينظّم علاقة المواطن بالدولة، فالأمر يقتضي أن تكون هي المرجعية وليس غيرها، وهو ما يتطلب التصدّي لمرتكبي الطائفية، طبقاً لقانون يحظرها ويعاقب من يدعو أو يروّج أو يتستر عليها، أو يتهاون في مكافحتها أو يخفي معلومات عنها، وذلك بهدف تعزيز المواطنة وتعميق أواصر اللحمة الوطنية والوحدة الكيانية للمجتمع والدولة. وإذا ما اقترنت الطائفية والتمذهب بأفعال وأنشطة من شأنها أن تؤدي إلى انقسام في المجتمع ونشر الفوضى والاضطراب، واستخدام العنف والقوة والتمرّد، وقد تقود إلى حرب أهلية، فإن ذلك يرتقي إلى مصاف جرائم أمن الدولة الكبرى، بما فيها جرائم الإرهاب، وقد تصل إلى جرائم الخيانة العظمى إذا ما ترافقت مع تحريضات لجهات خارجية وفقاً لأجندات أجنبية، خصوصاً في ظل استفزاز المشاعر الخاصة، ودفعها باتجاه عدواني ضد الآخر، الأمر الذي قد يصل إلى ما لا يُحمد عقباه!! ولتعزيز قيم المساواة والمواطنة وتطويق الطائفية سياسياً واجتماعياً بعد تحريمها قانونياً، ينبغي حظر العمل والنشاط السياسي، وتحت أية واجهات حزبية أو اجتماعية أو مهنية أو نقابية أو ما شابه ذلك، إذا كانت تسعى لنشر الطائفية أو المذهبية (التمييز الطائفي أو المذهبي)، بصورة علنية أو مستترة، خصوصاً بحصر الانتساب إلى ذلك المجتمع أو المنظمة أو الجمعية أو تلك، بفئة معينة، بادعاء تمثيلها أو النطق باسمها أو التعبير عنها. كما لا بدّ من منع استغلال المناسبات الدينية للترويج للطائفية أو المذهبية، بغية إثارة النعرات والعنعنات بين الطوائف وإضعاف مبادئ الوحدة الوطنية والهوّية الجامعة المانعة، التي أساسها الوطن والإنسان، ويقتضي ذلك أيضاً منع استخدام الطقوس والشعائر والرموز الدينية بما يسيء إلى الطوائف الأخرى، خصوصاً من خلال الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي والألكتروني، الأمر الذي يتطلّب على نحو مُلح إبعاد الجيش والمؤسسات الأمنية ومرافق الدولة العامة عن أية إنحيازات أو تخندقات طائفية بشكل خاص وسياسية بشكل عام، وقد يحتاج الأمر إلى إعادة التجنيد الإلزامي لجميع العراقيين. وإذا أردنا وضع اليد على الجرح فلا بدّ من حظر استخدام الفتاوى الدينية لأغراض سياسية، لاسيّما انخراط رجال الدين فيها، خصوصاً إذا كانت تتعلق بالشأن العام السياسي، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على الجامعات والمراكز المهنية والاجتماعية والدينية والأندية الرياضية والأدبية والثقافية، التي ينبغي أن تكون بعيدة عن أية اصطفافات طائفية أو مذهبية. إن بناء دولة دستورية عصرية واحترام حقوق المواطنة كاملة، يقتضي وضع حد للطائفية السياسية تمهيداً لتحريمها ومعاقبة القائمين عليها أو الداعين لها أو المتسترين عليها، وهي الطريق الأمثل للوحدة الوطنية والهوية الجامعة- المانعة. ومثلما بدأنا في المقدمة بالحديث عن الطائفية ودورها في الأزمة الراهنة، فإننا نختتم هذا الموضوع بإعادة نشر اقتراحنا لمشروع قانون تحريم الطائفية وتعزيز المواطنة في العراق الذي سبق وأن عرضناه على العديد من الجهات في العام 2008 . وندرج هنا نص المشروع كملحق لهذه الدراسة.
ملحق
مشروع قانـون تحريم الطائفيــة وتعزيز المواطنة في العراق د. عبد الحسين شعبان أكاديمي ومفكر – نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان "أونور"- بيروت
مشروع قانون أعدّهُ الباحث واقترحه على الفاعليات والأنشطة السياسية والحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني للمناقشة وابداء الرأي، وقد تجاوب معه عدد من الحقوقيين والمحامين والأكاديميين والباحثين ونخبة من المثقفين وأبدوا ملاحظات حول المشروع، بهدف تكييفه ليصبح أمر تشريعه يسيراً لاحقاً، علماً بأن الصيغة الاولى للمشروع نشرت ضمن كتاب للباحث بعنوان "جدل الهوّيات في العراق – الدولة والمواطنة" الصادر عن الدار العربية للعلوم، بيروت، 2009. وقد تم إعداد المشروع لاحقاً وفقاً للقوانين العراقية النافذة، وقد ورد فيه ما يفضي إلى عقوبة الإعدام التي يعارضها الباحث، بل ويدعو إلى إلغائها! الأمر الذي رغب في تثبيته كملاحظة مرافقة لمشروع القانون، الذي يدعو إلى تحريم وتجريم الطائفية وفي الوقت نفسه تعزيز وتوثيق المواطنة.
المادة الاولى تعريف الجرائم الطائفية
الفقرة (1) - كل فعل أو سلوك إجرامي يهدف إلى إثارة حرب أهلية أو اقتتال طائفي، وذلك بتسليح المواطنين أو حملهم على التسلّح أو حثّهم على القتال أو تأجيج الفتنة الطائفية أو استخدام العنف أو زعزعة الأمن الداخلي والوطني أو المساس بالوحدة الوطنية أو تدمير الثروات البشرية والمادية والمشاريع والممتلكات العامة والخاصة. الفقرة (2)- تعتبر الطائفية جريمة بحق الشعب والوطن، ويعاقب بأشد العقوبات من يرتكبها بالدعوة إليها أو ترويجها أو التستّر عليها أو التهاون في مكافحتها أو إخفاء معلومات عنها، لاسيما اذا ما اقترنت بأفعال وأنشطة من شأنها أن تؤدي إلى اضطراب وفوضى في المجتمع، خصوصاً إذا استخدمت العنف والقوة والتمرّد على السلطات العامة أو أدّت الى حرب أهلية.
المادة الثانية تجريم الطائفية
تعتبر الأعمال الآتية جرائم طائفية: الفقرة (1)- العمل والنشاط السياسي تحت أية واجهة سياسية أو حزبية أو اجتماعية أو مهنية أو ما شابه ذلك، لغرض نشر الطائفية أو ممارسة التمييز الطائفي، بصورة علنية أو مستترة، لاسيما إذا حصرت انتساب أعضائها بفئة طائفية محدّدة أو ادّعت تمثيلها أو تأييدها ويحظر ذلك حظراً كاملاً. الفقرة (2) - استغلال المناسبات الدينية في الترويج للطائفية أو المذهبية بغية إثارة النعرات والكراهية بين الطوائف وإضعاف مبادئ الوحدة الوطنية و الهوّية الوطنية العراقية. ويمنع استخدام الطقوس والشعائر والرموز الدينية لأهداف طائفية أو مذهبية منعاً باتاً. الفقرة (3) - استخدام وسائل الاعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية والألكترونية في الترويج لأي غرض طائفي أو مذهبي، بغض النظر عن الأسباب والمبررات. الفقرة (4) - التصنيفات والتقسيمات الطائفية والمذهبية في الجيش والقوات المسلحة والشرطة وقوى الامن الداخلي والمخابرات وجميع دوائر الدولة ومرافقها. الفقرة (5) - فتاوى رجال الدين التي تتعلق بالشأن العام، لاسيما ذات الطابع السياسي الطائفي، وكذلك خطابات أئمة الجوامع ، ذات الصلة بالحضّ على الطائفية والمذهبية، ويمنع منعاً باتاً اعتلاء المنابر وإلقاء الخطب للترويج والدعاية للتوجهات الطائفية والمذهبية المؤدية إلى إثارة الاضطراب والفوضى في المجتمع وتهييج المشاعر والعواطف. الفقرة (6)- استخدام الشعارات الدينية الطائفية والمذهبية في الجامعات والمعاهد العليا وفي المدارس الثانوية والابتدائية، وفي مراحل التعليم كافة. ويحظر تقسيم المناصب التعليمية والتربوية وفقاً لاعتبارات مذهبية وطائفية. ويُعاد النظر بصياغة المناهج التعليمية والتربوية بهدف إبعادها عن أية تصينفات أو توجهّات طائفية أو مذهبية أو عشائرية أو مناطقية تضرُّ بالوحدة الوطنية وبمعايير العلم والتقدم. ولا يعترف بشهادات المدارس الدينية الاّ إذا كانت برامجها مقبولة ومعتمدة لرقابة حكومية وتوافقت مع البرامج والمناهج التعليمية المعتمدة في الدولة. ويُحظر على المدارس الدينية حصر القبول على أساس طائفي أو مذهبي، وعليها أن تقدّم كشف حساب سنوي من مدقق حسابات معترف به رسمياً وفقاً للأنظمة المالية والمحاسبية المعتمدة في الدولة وتتعرض للمساءلة والملاحقة القضائية إذا أخفت أية معلومات ضرورية. الفقرة (7)- نشر أو عرض أو تداول أو ترويج أو تشجيع أو التستر على أي عمل فني أو ثقافي أو فكري أو سياسي يهدف الدعاية الطائفية والمذهبية بما يضعف روح المواطنة والتعايش السلمي بين تكوينات المجتمع العراقي بما في ذلك الصحافة والاعلام والكتب والعروض المسرحية والسينمائية والغناء والموسيقى والأناشيد والفنون التشكيلية وانواع الفنون والآداب الأخرى. ويُمنع ذلك منعاً باتاً. الفقرة (8)- طبع أو نشر أو استيراد أو بيع أو تداول أية كتب أو مطبوعات أو أفلام أو ألعاب أو وسائل إيضاح للأطفال والناشئة من شأنها تكريس روح الطائفية والمذهبية وكره الآخر وازدراء المذاهب الأخرى. ويُمنع ذلك منعاً باتاً.
المادة الثالثة
تعتبر بوجه خاص الافعال الاتية من جرائم امن الدولة
الفقرة (1)- توزيع أو اقتسام المناصب الحكومية أو غير الحكومية على أساس الانتماء الطائفي والمذهبي. الفقرة (2)- الترشّح في أية انتخابات برلمانية أو مجالس المحافظات أو الادارة المحلية أو البلدية، استناداً إلى أي معيار طائفي أو مذهبي. الفقرة (3)- تقسيم الوظائف القضائية بكل درجاتها وأصنافها وفق لأي اعتبارات طائفية او مذهبية. الفقرة (4)- ادارة العتبات المقدسة والأوقاف ووفقاً القسمة الطائفية والمذهبية، وبما يضرّ بالوحدة الوطنية. الفقرة (5) - برامج المدارس الدينية على أساس طائفي، وكذلك القبول على أساس طائفي أو مذهبي في كافة المراحل الدراسية . الفقرة (6) - برامج الانتساب إلى الأندية الرياضية والمنتديات الشبابية والجمعيات الاجتماعية والتعاونية والأدبية والخيرية ومنظمات المجتمع المدني كافة، إذا اعتمدت على أية اعتبارات دينية أو طائفية أو مذهبية. الفقرة (7) - ادارة المستشفيات أو المستوصفات أو الرعاية الصحية أو دور العجزة أو الصيدليات أو المختبرات وجميع الطواقم الطبية والصحية وفقاً لأي اعتبار ديني أو طائفي أو مذهبي .
المادة الرابعة العقوبات
الفقرة (1)- يعاقب بالاعدام كل من ارتكب – بصفته فاعلاً أصلياً أو شريكاً أياً من الأفعال الجرمية والطائفية الواردة بالمادتين الثانية والثالثة من هذا القانون، ويعاقب المحرّض والمخطّط والمموّل، وكل من مكّن المرتكبين من القيام بالجرائم الواردة في هذا القانون بعقوبة الفاعل الأصلي . الفقرة (2)- يعاقب بالسجن المؤبد من أخفى عن عمد أي ارتكاب جرمي أو تستر على المرتكبين أو قام بتضليل العدالة .
المادة الخامسة الظروف القضائية المخففة
الفقرة (1) - يعفى من العقوبات الواردة في هذا القانون كلّ من قام بإخبار السلطات المختصة قبل اكتشاف الجريمة أو عند التخطيط لها ، أو ساهم اخباره في القبض على الجناة أو حال دون تنفيذ الفعل . الفقرة (2)- يعدّ عذراً مخففاً من العقوبة في الجرائم المنصوص عليها، في المادتين الثانية والثالثة من هذا القانون لكل من قدّم معلومات بصورة طوعية للسلطات المختصة بعد وقوع أو اكتشاف الجريمة من قبل السلطات وقبل القبض عليه، وأدّت معلوماته إلى التمكّن من القبض على المرتكبين الاخرين وتكون العقوبة السجن، وفقاً لقانون العقوبات البغدادي.
المادة السادسة الاحكام الختامية
الفقرة (1) - تعدّ الجرائم في هذا القانون من الجرائم العادية المخلّة بالشرف . الفقرة (2)- تصادر جميع الاموال والمواد المضبوطة والمبرزات الجرمية او المهيئة لتنفيذ العمل الاجرامي . الفقرة (3) - تطبّق أحكام قانون العقوبات النافذ بكل ما يرد به نص في هذا القانون . الفقرة (4) - ينفّذ هذا القانون من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية . الفقرة (5) - للسلطات ذات الصلاحية حق إصدار قرارات وأنظمة وتعليمات لتسهيل تنفيذ أحكام هذا القانون، وتُلغى جميع القرارات، والقوانين واللوائح التي تتعارض مع نصوصه.
الأسباب الموجبة لمّا كانت المحاصصات والتقسيمات الطائفية قد أسهمت في تفتيت المجتمع العراقي وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية باعتمادها قاعدة المحاصصة، ونظراً لجسامة الأضرار وفداحة الخسائر الناجمة عن الجرائم الطائفية التي أصبحت تهدّد الوحدة الوطنية واستقرار النظام والأمن العام، وبهدف تعزيز الوحدة الوطنية وتعميق الهوّية العراقية الجامعة على أساس مبادئ الدولة الديمقراطية العصرية القائمة على المساواة واحترام حقوق الإنسان وحقوق المواطنة وواجباتها الكاملة، لذا بات من الضروري إصدار تشريع من شأنه الحدّ من هذه الظاهرة تمهيداً للقضاء عليها وذلك بتحريمها وتعزيز المواطنة. ولهذه الأسباب شرّع هذا القانون. __________ * مفكّر وأكاديمي عراقي- له العديد من المؤلفات في الفكر والقانون والسياسة والأديان، إضافة إلى المجتمع المدني وحقوق الإنسان والثقافة والأدب. مستشار في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية. نائب رئيس جامعة اللّاعنف وحقوق الانسان/ بيروت. نشرت في International journal of Contemporary Iraqi Studies, Vol. 10, No. 1 & 2, 2016
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زيد الحلي: حين يغمّس يراعه بحبر المودة
-
اسرائيل والخطيئة الجديدة
-
الموصل وبعض تداعيات معركة الفلوجة..!
-
هل يبقى العراق موحداً؟
-
أي مخاض جديد بعد الفلوجة؟
-
أي ثمن لتحرير الفلوجة؟
-
حوار ومثقفون وأمم!
-
حوار الفكر والثقافة -رذيلتان لا تنجبان فضيلة-
-
ماذا وراء غبار الحرب في الفلوجة؟
-
انطولوجيا الصحافة ومرآة الحياة ونبضها - أوراق من ذاكرة ليث ا
...
-
حقوق المدن
-
القوة الناعمة: جدل في المفهوم والسياسة
-
مأساة الفلّوجة وملهاتها
-
الطفولة المعذبة في العراق: إلى أين؟؟
-
حوار مع مجلة كولان الكردية
-
كوابح التغيير في العراق
-
عدوى التعصب الديني
-
اتفاقية سايكس بيكو: الاتفاقية الحرام
-
أسئلة ودلالات لحكايات النزوح العراقي
-
عن فكرة الانتماء والهوية العراقية
المزيد.....
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|