|
الأهوار والقنصل الكهنوتي
نعيم عبد مهلهل
الحوار المتمدن-العدد: 5200 - 2016 / 6 / 21 - 23:04
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
في المجتمع السومري كان الكاهن خيط الوصل السري بين الآلهة التي في العلا وبين الملك الجالس على عرش من خشب الابنوس . وكان الملك يمتلك السلطة على الشعب والكهنة ، فيما سلطة الكهنة على الطقوس والنذور وصاحبي الحاجة الى بركة وتحقيق أمنية ونذر ، وعليه كان الكاهن اقرب من الملك للشعب ، وكلا الاثنين الكاهن والملك يمارسان سحر التولية والمنصب والمكانة بسبب رغبة الشعب ليكون هناك من يشعرهم بأمان وبهدوء وجمالية الرحيل الى العالم الآخر دون المرور عبر جحيم بوابات العالم السفلي. يكاد الكهنة أن يكونوا أوائل قناصل التمثيل لرغبات الملوك في قلوب الناس ، ومن خلالهم يستطيع الملك أن يشعر عامة الرعية انهم ينبغي ان ينحنوا ويتطوعوا جنودا في حربه ويدفعوا الضرائب لان الكهنة يقولون له أن الالهة لاتعرف ملكا غيرك وذريتك ، فأعلن حروبك ما شئت وخذ الخمس من كل ما نحصده ونربيه ونقطفه . والكهنة ايضا أول من غض النظر عن سادية تلك السلطة الملكية بأمتلاك ما شاء لها من الخدم والمحظيات ، ووحده من يقدم اليه لحم الغزال المشوي ، وربما بسبب هذه الغطرسة كان الملوك لايقتربون الى ارغفة الخبز لانه يذكرهم بحلم فقراء الشعب بتناوله. كانت أور اكبر حاضرة وعاصمة للمدن السومرية ، وربما مجدها الحقيقي كان في عصر سلالتها الثالثة والذي تنوع فيه الهوايات الروحية لملوكها ، فكان بينهم الشاعر والحكيم والمحارب والمهندس كما في الأمير اورــ نمو .والملك الموسيقار كما عند شولكي .واخيراً الملك الحزين والمنتحر كما في مأساة موت آخر ملوك السلالة ( آبي ــ سين ). الذي حاصرت جيوش عيلام مدينته أور من كل جانب ، ولتحرقها عن بكرة ابيها بعد أن طعن ابي سين خصره منتحرا. هذه المدينة العظيمة التي كان ينظر اليها في العالم القديم على أنها حديقة الطقوس الساحرة والطرق الى الامكنة المفقودة في نوافذ الخيال والبحث لايتم عنها إلا من خلال التضرع امام محراب المعبد وفي حضرة كاهن يحمل النظرة الغريب واشتهاء المزيد من خرفان النذور وسلال التمر وقوارير النبيذ والعسل والعطور. في هذه المدينة بُنيتْ أول معابد الحجر بعد أن كانت تبنى بالقصب والاخشاب بأمر من كوديا ، وربما صورة ( اور ــ نمو ) وهو يحمل طاسة الطين على رأسه يوم قرر ان يبني اول معبد شاهق وبسلم ليكون قريبا من الالهة أنما هي واحد من اول مظاهر العلاقة الجدلية بين قصر الملك ومعبد رئيس الكهنة لهذا اختار الملك كهنته ليجعلهم سفراء قبل ان يختار الحكيم الدوبلماسي والفيلسوف المتكلم وآمر فوج العسكر أو سعاة البريد. وربما الكهنة هم أول قناصل الملك الى المدن والقرى المحيطة والقريبة أو التي تعيش على اديم مياه الاهوار واشتغلوا كوعاظ ومرشدين وسفراء ، وكذلك قاموا بمهمة جمع الضرائب للملك والحصول على نسبتهم التي حددتها الالهة بالثلث. هذا الثلث في خيال التصرف به فأن نصفه يذهب الى بطن الكاهن وبطون اهل بيته والنصف الاخر يذهب الى بطن عشيقته . وأظن بسبب هذا ولدت بين افواه صيادي الاهوار كلمة ( زقوم ) وتعني ان لاتهنيء بما تأكله مادام هذا الاكل مغتصب ، وربما بسبب هذا ( الزقوم ) كان اهل الاهوار وهم يدفعون المقسوم لقناصل الملك واغلبه سمك .يتخيلون العظمة التي تقف في مرأئ الكاهن ولاترضى ان تدخل جوفه فيكاد ان يموت وهو يختنق . بين العظمة والزورق الذي يحمل قناصل الملوك من الكهنة ليتجولوا بين قرى الاهوار أعيد كتابة تلك المهمة التي كانوا يعتبرونها مقدسة ، فيما يعتبرها فقراء الأهوار ( سرقة وغصب وتحايل ) . أتخيل شكل رؤى حكايات مثل هؤلاء وليس بالضرورة ان تكون تلك الزيارة الدوبلماسية والكهنوتية ممثلة فقط لما يريده الملك من خيرات لموائده الليلية الفخمة وبيت ماله ، بل ان بعض هذه السفرات المكوكية وقد تحولت عبر تقادم الازمنة وتحول العصور التاريخية الى اشتغالات واغراض اخرى. لعصور قصيرة كانوا الكهنة هم قناصل السفارات الملكية حتى بعد ظهور انبياء الرسل السماوية ، ولكنهم ( الأنبياء ) تحولوا من سفراء للملوك الى سفراء الأله الواحد ، مما اضطرهم ليمارسوا شيئا من المقاومة في مواقف التحدي ضد السلطة الربوبية الزائفة التي كانت تسود على أن الملك الابن الوحيد للالهة على الارض ، فتحول النبي الى صاحب موعظة وليس الى جابي ضرائب ومتحصل للنذور وجليس محراب معبد تملأه الآلهة الحجرية المتجهمة : ( أنو وابسو وسين وننكرسو وبعل وعشتار ومردوخ ) والآلهة الاخرى . وعليه فأن الصورة ادناه في الرؤيا المعاصرة لتمثيل هذا الهاجس ( الكاهن النبي ) من خلال ما كنا نشعره في هذا الجانب أيام التعليم في مدارس الاهوار ، لتسكب الان ضمن رؤى المخيلة صورة الكاهن التوراتي ( عزرا ) وهو النبي العزير . والذي كان نتاج للسبي المقاوم ليؤتى به سبيا واسيرا من اورشليم الى بابل. ورؤى التداخل هنا في صورة ما كان يشعرنا مثل هذا الهاجس في جعل الكهنوتية الان تأتي الى امكنة الاهوار ليس لجلب ريع السمك ومشتقات الحليب وربما اكياس الخريط لمائدة الملك ، بل الكاهن هنا هو الكتاب في اخيلته ليكون صيرورة رحلة قاسية لرجل اراد ان يوصل رسالته الى مريدين له في مكان ما ، وعبر سياقات الحكايات التالية التي تنسلخ عن أزمنة المتن هنا لتتحول الى رؤى جديدة من الاستذكار والذهاب بعجلة الزمان الى الامام . من مصاطب ودكات معابد أور ولارسا وتللو ولكش وأوما واريدو الى قرى القصب العائمة في بقايا تلك التواريخ القديمة وبشكل هو بمثابقة قراءة معاصرة لرؤيا الكاهن وكتابه التوراتي في بيئة مائية ممتلئة بالثورات والفقراء والاوبئة ومواويل الغرام والجمال تدعى بيئة الأهوار. وكأنه يطهّر صباحات زائريه من مختلف ديانات الأرض بماء النهر وتواريخ مواعظه التوراتية التي حملها ذات يوم من بابل الى مملكة الطيب شرق ميسان ، وعند اول قبلة بوابة ضريح النبي سيقرأ الزائر : السلام عليك يا نبيَّ الله يومَ وِلِدت ويومَ تَموتُ ويومَ تُبعثُ حياً. وبجانب الكتابة ثمة صلوات مدونة بالعبرية وهناك نقوش ربما ترجمتها تعني المواعظ والصلوات والتراتيل. صورة المكان التوراتي والذي يرتدي شفاعة التشيع واحترام الصابئة لمكان النبي قرب الماء ليشعرهم أنه من ظهرانية يحيى (ع) حيث يكون المكان روح التعميد ولغته . هذه صورة المكان الذي تتسع فيه مساحات الاهوار وينبت القصب بأعداد تفوق سكان الصين. إنه البلاد العميقة في تواريخ تفاصيلها لها أربعة قراطيس هبطت من مواطن السماء الى أعشاش قلوب البشر في الأرض وهي حسب القدم الزمني الكنز ربا كتاب يحيى للصابئة المندائيين ، والتوراة كتاب موسى لليهود والانجيل كتاب يسوع للنصارى والقرآن ختام كتب السماء للمسلمين . وربما نالت كل ديانة من علاقتها بالسياسة الكثير من التعسف والاضطهاد وفي المحصلة السياسي يذهب والدين يبقى. ذهب قياصرة الروم وملوك يهوذا ويسوع بقيَ بإنجيله ، وعتاة قريش ذهبوا وبقي دين محمد ، فيما حافظت المندائية على وجودها وأزلها القديم بالرغم من تعرضها الى الكثير من الاضطهاد والقتل وحرق موروثهم وقراهم وقراطيسهم ، أما اليهود فقد أرغمتهم السياسة ووعد بلفور أن يحملوا حقائب السفر الى فلسطين تاركين مواطنهم التي عاشوا بها منذ ايام نبوخذنصر وعزرا الكاتب (العزير) لكنهم ابقوا في المكان شواهدهم وبعضاً من ثقافتهم في طرز البناء وبيوت الشناشيل واضرحة انبيائهم (ذوالكفل) و(العزير) وبعض الشواهد الاخرى من تراثهم التلمودي والثقافي والتوراتي والتاريخي الذي كان مخزونا في مكان رطب وينز فيه الماء بقبو تحت مديرية المخابرات العامة بالحاكمية. تلك الأمكنة حيث مدى الأهوار يتساوى مع المسافة التي يقيسها الجفن بين الماء والاسماء تعيش الأديان والحضارات في مودة فطرية سببها هذا التكوين الحسي في بساطة الشخصية الجنوبية لهذا كان يهود العراق في التأريخ الذي سبق قرار التهجير القسري الى فلسطين يمشون الى مزاراتهم أين ما كانت قبابها وبواباتها ، ومنها قبر (العزيز) في الناحية التي حملت أسمه قرب قضاء قلعة صالح. حيث لهم فيها خانات يستريحون فيها قبل ان يستقبلهم صباح المسافة بين النبي والقلعة وهو طريق ترابي يرددون فيه آياتهم ويقربون وجه موسى وسيناء وبوابات معابدهم في اورشليم والناصرة وإيلات من وجه النبي الذي يحتفي بأبنية القصب ونعاس الموج وهو يمر من قبلُ بحيطان البناء الذي غلف بالطين والجص والحناء وتلوح في عينيه قرى المعدان الممتدة والتي تسكن الاهوار القريبة وحتى حدود إقليم الاهواز. يتذكر صاحب إحدى هذه الخانات لحظة استيقاظ الزوار اليهود الى الصباح وهم ينتهون من حفظ الادعية التوراتية التي سينشدونها بهدوء وبرؤوس تهتز مع وقع الكلمات ، والى الصباح حيث تستقبلهم شمس قلعة صالح بالترحاب والالفة وذلك الازل الذي يلم شمل الديانات كلها منذ صحائف المندائيين المكتوبة على الواح الرصاص الى هذا اليوم. وأمام الضريح التي تتنازعه شغف الارواح بين عشق المعدان له وبين محبة أحفاد يهود بابل واورشليم وكل الآتين من شتات العالم ليصنعوا وطنا مبتكراً تنازعه أحقية الوجود لدموع شهداء كل قضية شريفة. يتعالى همس الادعية والصلوات فيما موج دجلة يسكنه الإنصات والخشوع للقادمين من ليل خانات قلعة صالح. هذا المكان وتلك الصباحات المقدسة أعطت لذاكرة التأريخ أشياء كثيرة في تمثلات الوعي والرؤيا ، لتصبح تلك الكهنوتية التي ارتبطت لاحقا برؤى الديانات السماوية المتعاقبة صورة من صور المشهد الطقوسي الجديد في حياة تلك الامكنة عندما استهل الكاهن اليهودي ( الياعزر ــ العزير ) رحلته من بابل الى اتباعه ومريديه الساكنين في منطقة الطيب ودهلران وهي الارض المشتركة بين بلاد فارس وميسان السومرية . وحكاية العزير ( النبي ــ الكاتب ــ الكاهن ) مع المكان شكلت في معاصرتها رؤية حكائية للمكان وساكنيه حيث توفي في الطريق ما بين بابل وبلاد فارس وقبره اليوم على الضفة الشرقيى لنهر دجلة في مدينة ادارية تحمل اسمه ( ناحية العزير ). وعلى هذا الأساس تسجل رؤيا المكان صورة الطقس الكهنوتي وصاحبه عبر خيال احدهم في قراءة المرقد وصاحبه وعلاقته مع أهل الاهوار وعبر تشكيل المشهد الميتافيزيقي للنبي الذي سعى وربما ماشيا على قدميه لأيصال افكار توراته وتلموده ونصائحه والوصايا التي حملها من رب السماوات لينشر ما يعتقد انها رسالة محبة وسلام بعيدا عن تعسف وظلم الملك البابلي. صورة النبي العزير ورحلته هي واحدة من امثلة انسلاخ القنصل الكهنوتي عن مهمته الملوكية ليمثل ذاته ورسالته ولم يكن ليمثل ملكا او امبراطور او امير سلالة . هنا نضع هذا النبي في ذاكرة المكان وروحه وعبر خيال المحكاة بثوبها المعاصر :وفق أكثر من رواية ، منها المؤسطر ومنها القرآني ومنها التوراتي ومنها ما يتناقلهُ عرب الأهوار (المعدان ) من حكاياتٍ شفاهية حول مرقد النبي العزير قرب ضفاف دجلة وفي مدينة حملت أسمه بمرتبتها الإدارية ( ناحية العزير ) ، وكان من بعض الحكايات ذات الاصل التوراتي أن العزير هو الحكيم عزرا الكاتب الذي جاء مع يهود السبي البابلي ايام نبوخذ نصر ، وذات يوم اراد الذهاب الى اتباعه ورعيته من يهود مملكة عيلام الواقعة في المنطقة التي تقابل مملكة ميسان من جهة جلات والطيب والشيب وقلعة صالح ، وأنه توفي اثناء المسير ودفن في المكان الذي يرقد فيه اليوم. وحتى الترحيل اليهودي القسري المعاصر عن ارض العراق في خمسينيات القرن الماضي ، كان ولم يزل المكان من اقدس مزارات اليهود العراقيين والايرانيين في الجنوب العراقي ويزوره تبركا وشفاعة وحجّاً ايضا يهود الهند والطاجيك والاوزبك وغيرهم من بلاد الخزر. وهناك ايضا رواية القرآن عن النبي العزير وهي معروفة. وللمعدان حكايات عن النبي القديس تجمع في رؤاها بين الاثنين ولكن ببساطة المعتقد والتشفع والقداسة ، فأنا في ايام الحرب الايرانية حيث كانت وحدتي التي لا تبعد عن مرقد النبي سوى كيلومتر واحد قرب جسر السيب ، كنت أسأل رعاة الجواميس الذين يقضون نهارات قيلولة الماء في الاهوار القريبة من المكان وما يمثله لديهم ، فيكون الرد غريبا عند شيوخهم قولهم : نحن نشترك مع اليهود في محبته . وعندما نريد أن نَزيد الحليب في ضرع الجاموسة ، لن نجد شفيعا قريبا لنا غيره من يحقق لنا ذلك. وشخصيا كنت ذات صباح انقل بعض العبارات العبرية في الضريح واطلب من رفيق معي في البطرية الثالثة ( ك م ت 240 ) وهو خريج كلية الآداب اللغة العبرية أن يترجمَ لي تلك الكلمات ، فسمعت واحدا من المعدان المتهيّئ للذهاب الى كربلاء في أربعينية الإمام الحسين (ع)يحدث ضريح النبي بقوله : انا ذاهب الى ضريح الحسين ،هل عندك وصية له.؟ وقتها استغربت من هذه المساحة من الحس والترابط الذي يسكن ذاكرة رجل الاهوار ليربط بين نبي جيء به مسبياً من اورشليم والسامرة ، وبين إمام علوي جاء من مدينة الرسول (ص) ، يطلب الإصلاح في أمة جده واستشهد على ارض كربلاء. أظن أن توارث الحس والاحساس والمخيلة التي سكنت اهل الاهوار منذ أن ابتاع منهم الملك السومري كوديا قصبا ليبني أول معبد في التاريخ ، ومنذ أن استعان بهم النبي نوح ( ع ) ليصنع سفينته الذاهب فيها الى شواطئ الأمان من الطوفان ، وحتى الزمن الذي كان فيه شيخ عشائر بني صالح ( بدر الرميض ) يدعوهم لجهادٍ ونخوة ضد الترك والانكليز ، هذا التوارث يُنمِّي فيهم القدرة الصائبة على تخيل المشهد التاريخي ويقرب تصورات وجوده. لهذا فهم لا يبتعدون كثيرا عن اصل المكان وصاحبه ، وربما هم وحدهم من ادركوا أن مجيء عزرا الكاتب ( العزير ) الى هذا المكان واختيار قدره الأخير في لحدٍ قرب ضفاف واحد من انهر ميزوبوتاميا ، إنما لتلاوة النصح الدائم في أننا كبشر نتوحد في الايمان عندما تكون جهته السماوية واحدة . لهذا فإن ذات الشيخ المعيدي الذي صادقته وتعودت ضيافته وطيبته وكرمه كان يقول : إن لهذا النبي نصائحَ لا تحصى في وجوده بيننا : منها أن كل من يعيش ويشرب من ماء هذا النهر هو ابن المكان مهما كان. مازحته وقلت : حتى لو كان مجوسيا ؟. قال :نعم . لهذا يقولون موسى بدينه وعيسى بدينه. نصائح النبي ربما دونت على جلد غزال وسُرقت من المكان في فترات متباعدة وكان يحملها ليتلوها على مريديه من يهود فارس ، لكن بعضا منها موجودة في شفاهية خيال المعدان وفي طيبتهم المفرطة التي اكتشفها المستشرقون والرحالة والمستعمرون ايضا. يحمل النبي العزير في نصيحته فكرة توحد الإيمان والتقديس التي تسكن المسلم واليهودي والمسيحي والمندائي والأيزيدي ، وهذه النصيحة في مغزاها أن هذه البلاد للجميع ولا يمكن تقسيمها.........! وهكذا تتشكل الصورة بوضوح من خلال قراءة مفترضة او انثيال خيال عبر تواريخ ما كان يجري وسيجري ، حيث المكان وخصوصيته وطقسه الذي كان متفاعلا من الحركة الكونية والحضارية للعالم القديم والذي يعاصر اليوم المتغيرات الهائلة من الاحداث والحروب وغزو الفضاء والثورات والتقدم الهائل في وسائل الاتصال. النبي ( اليعازر ) وغيره من اولياء المكان والقديسين فيه ، وهم على امتداد مدن وقرى الاهوار يكادوا يكونوا بالعشرات في مقامات اغلبها مبني من الطين والآجر وبقباب فيروزية صغيرة يمثلون روح المكان وطوبغرافيته في جانبها الجغرافي والتأريخي والديني ، لهذا فأن متشكلات الرؤية الكهنوتية تبقى قائمة بوجود الكاهن وعدم وجوده ، ولهذا كان اهل الاهوار يتميزون بالمسامحة والالفة مع الكاهن الاخر حتى عندما لايكون من ملتهم ودينهم ، وربما عيشهم والفتهم واختلاطهم مع اتباع الديانة المندائية يمثل الجانب الاكثر اشراقا بالرغم من ان الديانة المندائية بالنسبة اليهم واحدة من الديانات الغامضة لغنصويتها وانغلاقها على الديانات الاخرى حيث لاتشاع كتبهم ولاتترجم ولايبشرون بها سوى لاهل ديانتهم وتلك هي من اهم اسباب بقاء تلك الديانة الازلية حتى اليوم بالرغم من تعرض المندائيين الى ويلات ونكسات ومذابح واحراق لقراهم. عاش المندائيون في المكان بكهنوت يرتبط فقط مع البيئة المندائية التي كانت على شكل قرى صغيرة في مدن الاهوار مثل الكحلاء وقلعة صالح والمشرح والحلفاية في محافظة ميسان وسوق الشيوخ والجبايش والناصرية في محافظة ذي قار . وفي تلك الاماكن وغيرها عاش اؤلئك الاقوام في تمازج بيئي يقوم على التعايش الحياتي والاجتماعي بحدود ما تسمح به تعاليمهم . ربما هذه البانوراما التأريخية والاجتماعية أدناه توصل الصورة للعلاقة بين المكان واتباع تلك الطائفة المسالمة توضح تماما طبيعة العلاقة وحتى في جانبها الكهنوتي بين الصابئة واهل الأهوار فهم يعيشون في مدن الماء المغرمة بجهات الجنوب التي لبست اردية الانبياء الأوائل (آدم ونوح وابراهيم ولوط وأيوب والعزير ــ عليهم السلام ــ ) . ليسوا شعبا ولا أمة ، بل هم طائفة ربما يرتبط تأريخ وجودها مع نوح وإبراهيم ويقولون أيضا أنهم تواجدوا منذ آدم في المكان عدا أزمنة لرحلات مختلفة وربما قد يكونون صعدوا وعاشوا في حران أثناء هجرة النبي ابراهيم (ع) من أور الكلدان. وهكذا يسكننا اليقين في اتكائنا على النصوص القرآنية التي تتحدث عن أن الصابئة من اصحاب الجزية والبحوث الدينية المكتوبة عنهم من غير أهلهم وأهمها رسالة آية الله السيد الخامنئي والذي أكد أنهم موحدون ، أن الصابئة اقدم رؤيا سماوية ودين يعترف بالوحدانية ويجعل له نبيا كمرجعية رسالية وهو النبي يحيى ( ع ). عاشوا في المكان ، ألِفوه ومارسوا معه غراما روحيا ، ابتدؤوه بطقوس التعميد على ضفاف شواطئه وانتهوا بصمود أسطوري ضد كل الويلات التي مرت بهم والمذابح. ينتمي الصابئة الى الاهوار ، والأهوار تنتمي اليهم ، ثنائية من الأزل الغريب والغامض في بعض ثنايا البحث عنه ، حيث ابقوا روح الديانة داخل الكيان المندائي حتى لا تلوثها متغيرات الزمن ، فهي ديانة ، لا تجذب ولا تطرد بل انها منغلقة داخل نسيج العرق والذاكرة والنسل الصافي ، ليعيشوا كل هذا الأزل بهدوء وتأمل وخلق حضاري غريب أول مهامه وصفاته أنه لا يعرف العنف أبدا ، وربما تمثل المندائية في طبيعتها الاخلاقية والحضارية الظاهرة الوحدانية الاولى التي لم تقترب الى السيف والبندقية لإيصال بعض من رؤى التبشير والجنوح الى فتوحات. لهذا كل الذين حكموا المكان من فرس ورومان وآل عثمان وإنكليز كانوا يتفاجؤون بمثل هذا التجمع السكاني والديني ويسألون عن اسراره وحين يعرفونه يمنحونهم الأمان والمساحة الجغرافية للعيش بطابو أو بدونه ، وكانت علاقتهم مع تلك الانظمة والامبراطوريات تكون عبر ممثل واحد هو الشيخ الروحي للطائفة الذي يحمل جسده ويذهب به الى الحاكم او الوالي ليزوره للتهنئة او ليحمل مطلباً صغيراً لا يتعدى فتح مدرسة أو إجازة بناء معبد او اعفاء ابنائهم من الخدمة العسكرية لان حياتهم قائمة فقط على ممارسة الطقس الديني وربما رفعوا العراق من ضيم الحروب واحزانها فدفعوا للتراب الوطني دما شهيدا بعدما كانت دماء الصابئة تسيل جراء مذابح جائرة من امم ومذاهب وولاة لا يعرفون ماهية هذه الملة واحلامها وتوحيدها. للماء مع المندائية جدل الابد ، وحيث يوجد الماء وغابات النخيل والسدر والآس والقصب يستوطن هؤلاء الناس في تكويرة سكانية ليست بالكثيرة والشاسعة ، وليست منغلقة مجتمعيا ،فلقد اقام المندائيون مع جيرانهم المسلمين وبقية الملل علاقات وروابط اجتماعية في كل شيء عدا المصاهرة ، وكان هذا التوافق المجتمعي صورة جميلة من صور التآلف والانسجام والمودة التي كانت وما زالت تلم النسيج العراقي . صابئة الاهوار واهوار الصابئة ، تبادل روحي في الادوار في جسدِ هذا المكون الذي احتفظ بتعاليمه واساطيره وطلاسمه على ألواح الرصاص بعد ان احرقت الاحقاد القديمة نصوصهم الاولى. ابقوا ارثهم وصلاتهم وطباعهم الهادئة والمسالمة لصيقة للروح المندائية وطبائعها وعاشوا في المكان يرثوه ويرثهم منذ أن لامس شراع سفينة نوح رياح الجنوب والى هذا اليوم.! وعليه ندرج هذه الحكاية الكهنوتية ومن المشهد المعاصر لنرى القيمة الروحية بين الهاجس الكهنوتي لتلك الديانة وبين البسطاء من اهل الاهوار في قرية تحتوي في بساطتها رقة ما يمنحه الوجود لنية الناس وفقاريتهم والمشترك البسيط ومؤثرات الطقوس الاخرى التي لم يكونوا متعودين على ممارستها ولكنها تعيش معهم ويتقبلوها بطيبة خاطر ، وحكاية ( ريكان ) عامل الخدمة في احدى مدارس الاهوار تحمل في جوانبها القيمة والرؤية الحسية والكهنوتية لتلك العلاقة بعيدا عن ان يكون الكاهن قنصلا أو جابي خيرات لمطبخ الملك وخزينته فعندما تجاور الحرب الحب ، ونعيش طقوس لقائهما في تلك اللحظة الفاصلة التي تقرر فيه الحياة أن لامجال لنسمة الهواء لتدخل الصدر وبدلا منها ستدخل الرصاصة أو طعنة السيف. وفي الصورتين هناك طروادة دائمة تعيش في كل عصر تحتوي على خديعة واسطورة وقصة غرام ونحيب أب على فقدان ولده في ساحة المعركة. وحتى لا تصيب لعنة طروادة ريكان كان يمارس كل طقوس التشفع الى أهل البيت ومراقد السادة وقبة النبي العزير ليُبقيَ ولده سالما بعد أن ساقته دائرة تجنيد الجبايش كجندي مشاة في اللواء الرابع عشر المرابط في منطقة سبيلك الجبلية شمال مدينة اربيل لمقاتلة الملا الثائر ضد حكومات بغداد منذ عهد فيصل الأول وما تلاه من جميع الحكومات. وفي كل مرة كان ريكان ينذر شيئاً ، من الدجاجة الى العجل ، الى سمكة ( كطان ) التي تكفي غداء للهيئة التعليمية كلها . هذا عندما يهبط ولده على القرية قادما من وحدته العسكرية يزهو بظلهِ الطويل وملامحهِ السمراء وحقيبته التي ادخلت الجوز لأول مرة في أفواه بيت ريكان والجيران ، وبفضله ارتدت أخواته وبنات الجيران قماش الانكورا بألوانه الزاهية وأغلبه ذلك الاحمر المورد بضوئه القاني المحاط بزخارف سوداء و الذي كانت قرى المدن الكردية تبيعه مهرباً من ايران ، وكذلك بفضل ابن ريكان لامست الحناء ضفائر بنات القرية ، وتحول الجندي الى سوق ينتظره الجميع في كل شهر وهو يحمل ما اوصاه به أهل القرية قبل التحاقه لوحدته. ذات يوم حط على مساء القرية بزورقه المؤجر طبيب القرية وبائع المخشلات والذي يُصلح المناجل المكسورة وقارئ الغيب المندائي زهرون الذي يأتي في أوقات متباعدة قادما من سوق الشيوخ في رحلة نهرية تستغرق يومين يمر خلالها على العديد من القرى . جاء زهرون الى قريتنا وحل ضيفا على بيت شغاتي مثل كل مرة ، وكان ريكان يسكنه القلق العميق لأن ولده تأخر عن موعد اجازته اكثر من اسبوعين وكان يأمل أن تصله رسالة منه مثلما يفعل في العادة ، لكنه لم يكتب هذه المرة فجعل الرجل لا ينام ليله فيما تحدثه زوجته عن كوابيس مزعجة تزورها في احلامها فيرد عليها : اصمتي يا امرأة ، فال الله ولا فالك . في ذلك اليوم انهى زهرون جميع اعماله في القرية ، لكنه لم يغادرها كعادته الى القرية الاخرى ، وطلب من شغاتي ان يجدد ضيافته لليلة اخرى ، فشعر ريكان بما أشعرهُ أن زهرون بقيَ لسبب ما ، قرأه في ضوء النجوم حيث ذكر له مرة : أنَ مصائرنا مكتوبة على صفحات لامعة في مسافات البريق الآتي من نجوم السماء ، وعلى العراف أنْ يُحسنَ قراءتها لمن يؤمن بقدريتها . في الليل حضر اليَّ وطلب مني أن ارافقه الى بيت شغاتي كي يحدث المندائي زهرون بما يشغل رأسه؟ عرفت السبب ، لكني ذهبت معه وأنا أعرف علته. شربنا الشاي ، ثم ابتدأ زهرون الكلام من دون مقدمات : ريكان جئت لتعرف عن ابنك. قال :نعم . قال المندائي ، في الليل تأمل النجوم بمرح الروح يجعلكَ تتغلب على الحزن. قال ريكان : ولكن أمه ترى أحلاما مزعجة. ــ قل لها أن تتأمل النجوم قبل أن تنام ، فولدها في عهدتها. لم يفهم ريكان شيئا من مغزى كلام زهرون . لكنه عندما لمحَ ولادة دمعة بين اجفاني . قال :هل اسرد ثوبي لأجله وأصرخ . قال شغاتي : لا تفعل ذلك يا أخي الله موجود . في ذات اللحظة جاء ولد صغير واقتحم المكان ليخبرنا أن زورقا أتى من جهة الجبايش يحمل نعشا لأحد ابناء القرية . سقط ريكان من فوره مغشيا عليه ، وقرب رأسه كان زهرون يتمتم بدعاء ما ، وفي ذات اللحظة تخيلت كأني شاهدت ملاك المندائيين زيوا يطوف حول راس ريكان. كل هذه المدركات الحسية مسكونة بالنسبة لاؤلئك الناس بمفردة ( الآه ) التي ربما تعتبر الوسيط الروحي بين كل تلك الروحانيات المتشكلة عبر صورتها الكهنوتية وهي ترتدي قلنسوة وعباءة الكاهن السومري ، التوراتي ، المندائي أو عمامة قارئ المنبر الحسيني. تلك الآه المؤسطرة والواقعية لها ابد بعيد في حكاية ما كان يحدث ، وربما سعي المرحوم الباحث ( حسين الهلالي ) في البحث عن البدايات الأولى للمفردة فمن السهل أن تبحث بين طلل الأثر عن لقية أثرية أي كان حجمها من التمثال الى الختم الاسطواني لأنه حجر والحجر يبين من خلال مناخل التراب مهما كان حجمه ، لكن أن تبحث بين الأطلال الأثرية هذا صعب جدا ذكرني بمحاولات العلامة والمنقب اليوناردو وولي الذي عثر على الكنوز السومرية في أطلال اور ومقبرتها الملكية المقدسة والذي حاول جاهدا وهو يفتش بمساعدة خبير قراءة اللغة المسمارية عن أثر وإسم يقود الى ان النبي ابراهيم الخليل والمذكور في التوراة قد ولد في أور الكلدان ولكنه لم يجد ما يشير الى وجود أي مفردة تخص النبي وحتى يستمر تمويل البعثة من قبل جامعة بنسلفانيا ، قام بمشهد تمثيلي لحظة قراءة بعض الالواح التي تم العثور عليها في أطلال أور بأن صاح : YES EIBRAHAM. لكنه كان يوهم نفسه ويوهم الآخرين بأنه لم يجد للنبي أي أثر يدل عليه حتى في الحقبة التي يقال أنه عاش بها ، وظل ما يشير الى النبي معتمدا فقط على النصوص السماوية ومنها التوراة. تذكرت حماس البحث عن إسم نبي ، وهو نفس الحماس الذي يسكنني وأنا أفتش عن مفردة التصقت بأعمق ما في الصدر من إحساس وشجن وأسى على شيء نفقده في تجربة غرام أو جبهة حرب او محطات السفر أو الغرق في قاع فرات يحزن طويلا وهو يرى ضحاياه في كل صيف أغلبهم من الأطفال وأبناء الفقراء. تلك الأويلاه التي كان صداها يرن في أغاني الحنين والفقدان لدى رعاة الجواميس وصيادي السمك والنساء اللائي كن يرضعن ابناءهن ويوصلن الى مسامعنا هذا الشجن ونحن نقف امام السبورات محاولين تعليم اطفال القرى حروف العالم واسرار سقوط تفاحة نيوتن من اعلى الشجرة ، وطالما كنت اتمنى اكتشاف الاصول السحرية لهذا الحنين واستعنت بصديقي الباحث المرحوم حسين الهلالي قبل وقوعه في الاسر اثناء الحرب العراقية الايرانية في نزهاتنا حين نمر على قرى الاهوار ذاهبين الى الجبايش أو الفهود الى الطار يتناهى الى مسامعنا ذلك الصوت الشجي للأمهات واللاتي يذهبن صوب ابراج الشمس مع دوابهن . يقول الهلالي : أن أول أويلاه صنعت عالم الأبوذية كانت من الترنيمات السومرية التي تهمسها الامهات في مسامع ابنائهن حيث تسجل الالواح بعض هذا الحنين . وحتى نقتطع وضع تلك المقارنة بين ما كان تغنيه النساء في اور المدون في حكايات الاساطير وبين ما يبثه الآن صناع نغم الحناجر المشتاقة لبيئتها واهوارها ومساءات قصبها ، وما يورده عن لسان العلامة الاثري الكبير صموئيل كريمر نصاً يمثل أقدم اغنية في العالم وهي تدور حول عروس مبتهجة والملك (شو – سين) أحد ملوك اور 4000 عام ق.م وهذه مقاطع من الاغنية : ((أيها العريس الحبيب الى قلبي، جمالك باهر، حلو، كالشهد، ايها الأسد الحبيب الى قلبي، جمالك باهر، حلو، كالشهد، لقد أسرت قلبي فدعني أقف بحضرتك، وأنا خائفة مرتعشة.)) ويضع له المرحوم الهلالي مقابلا صوتيا وحسيا وعاطفيا في تنهيدة يحملها صوت المغني الشعبي المشهور المرحوم جبار مرجان وسمعته يردد هذه الأبيات من الأبوذية : حادي وين حادي البين حده (حادي الأبل الذي يحدو بها) اخذ مني اليجزي الخصم حده (الأرض الفاصلة) يشامت زين سيفك على حده (يحد بالسيف) طريح او صح لك معراض بيه (وجدتني لا حول ولا قوة لي) انا من جور دهري ابد ما ون (الأنين) اون للسار ضعنه بليل ماون (لم ينتظر) وين اهلج غدوا يا دار ماون (الى أين) نادي ولا جواب يرد عليه ))
تلك الآه التي يمكن أن نعتبرها الواصل الضوئي لما يسكن ضمائر وحواس أهل الاهوار في محاولتهم للتعايش مع تلك العصور الكهنوتية التي يكاد ان يكون الحزن والاسى والدمعة هو رابطها الاقوى والاهم. من أصحاب التوراة الى اصحاب ( الكنز ــ ربا ) قدس أقداس المندائيين والمحفوظ عبر الابد وفي الواح من الرصاص منذ أيام نوح وابراهيم ويحيى ( ع ) وحتى يومنا هذا صورة الرجل الواعظ بثوبه الكهنوتي ــ القنصلي تمثل في بعض جوانبها البرية والطيبة كحالة من الخلاص لعالم ابتدأ خياله في المكان عبر رؤى الاساطير المتدينة للتشكل خيال صورة المكان المثالي الذي جعله الرب مؤى لاحلام البشر من سكنت مناطق الاهوار ، وما عزرا وزهرون وزيوا سوى رؤى الاثر القديم والذي تجسد قي النهاية بمدرك مؤثر آخر سكن هاجس الناس وعواطفهم واصبحوا يحجون اليه في كل عاشوراء في ليال عشر هي بالنسبة لهم مقامات من الحزن والبكاء وانتظار من يجيء اليهم من المدن المقدسة ( النجف وكربلاء ) ليعيدوا اليه صورة المأساة في ملحمة استشهاد الحسين ( ع ) والتي نقلها بأسى ونحيب سمفوني المؤرخ ابو فرج الاصفهاني في كتابه الشهير ( مقاتل الطالبيين). وقبل هذا كنت اراقب في المكان خيال طقس كتاب كهموتي آخر ختمت به الرسالات السماوية ، فكان القرآن الكريم بالنسبة لاؤلئك الناس المرجه المهيب والقسم والتعوبذة التي يلجئوا اليها يوم تعصف الريح ببيت القصب او يأتي طوفان فيضان النهرين أو عندما تصيب دوابهم امراضا مجهولة تجعل جواميسهم لاترغب العوم في قليولاتها المائية. وقد انتبهت الى هذا من خلال تراتيل التجويد أو أناشيد الحزن العاشوري ، وربما سماع صوت القارئ المصري الشهير عبد الباصد عبد الصمد يمثل مشهدا عاطفيا كبيرا في حياة المكان وتلقيه لمفاجأت وايام حزنه وربما مرة اخرى مع عامل الخدمة في مدرستنا ( ريكان ). فلم يكتمل سحر الإصغاء والتأمل في أول صباحات المناطق المفتوحة إلا مع أدعية وآيات لصوتٍ رخامي ، يشاركني رهبة الذكريات في خشوعها للصوت السحري لقارئ القرآن المصري الشيخ ( عبد الباسط عبد الصمد ) والذي اسرى لذة سحرية في أوردة أجفان ( ريكان ) يوم سمع تلاوته أول مرة ، فانهمرت دموعه بخشوع غريب بعدما كانت تنهمر مع نعي مراثي ( ملا ) عباس الذي كان يأتي في كل عاشوراء ومعه ملحمة استشهاد الحسين ع . لكن صوته لم يكن يملك تلك الوصفة السحرية في صوت عبد الباسط الذي حرصنا على جلبه مسجلا في شريط كاسيت يوم أتوا بولد ريكان شهيدا من أقاصي ربايا شمال الله ، وبهذا يكون معلمو مدرستنا أول من ادخل طقس سماع القرآن مرتلا في مجلس عزاء في قرية أم شعثه ، وتكريما لتلك اللحظة التاريخية في حياة ريكان وطقوس توديع ولده ضحية الحرب ، وعندما جاءت مفارز تسجيل الاولاد الذين ليس لهم هويات احوال مدنية قام بتغير اسماء ولديه الاخيرين . واحد اسماه عبد الباسط وكان إسمه ( فرحان )، والآخر أسماه عبد الصمد وكان إسمه ( مزيد ) ، وربما يكون ريكان أول أب من ابناء المعدان من يغادر الاسم المركب الذي لازم التسمية التي يطلقها المعدان على ابنائهم منذ طف كربلاء والى اليوم ( عبد الحسين ، عبد الكاظم ، عبد العباس ، عبد الهادي ) فيما اعجبني أسم احدهم الذي لم أسمع بمثله ابدا طول حياتي في تلك المناطق عندما اتى ابوه ليسجله في المدرسة وكان أسمه ( عبد الحجه ). ويقصد بالحجة الإمام المهدي الغائب ( ع ) . احتفظت بصورة تلك الدمعة التي انهمرت من تحت اجفان ( ريكان ) وكلما اسمع صوت القارئ المصري الشهير أتذكر تفاصيل تلك الدمعة التي لم تكون وليدة حزن عاشور أو موت قريب أو نفوق جاموسة ، بل هي صنيعة تلك الحرب التي أتت الى حياة المعدان في قدر غير محسوب لتجعل التلاميذ يسألون المعلمين وبذهول عندما سمعوا عبد الباسط لأول مرة في مجلس عزاء ولد ريكان : من هذه الْمَوْؤُودَةُ التي قتلت ، وبأي ذنب ؟ وعندما نفسر لهم أن العرب في الجاهلية كانوا يقتلون بناتهم خشية املاق ، ونفسر لهم الإملاق هو الفقر ، فيردون :نحمد الله أن اخواتنا معنا ، يحلبن الآن الجواميس مع امهاتنا ، والله يبعدنا عن الفقر ، طاسة لبن تغني عن أي جوعٍ في البطن. ذلك الصوت وتلك الدمعة بقيت تشاركني ذكريات المكان حتى في غربتي ، ولهذا اصبح لصباحي طقس ذكرى أستعيد فيه طعم تلك الايام الهائلة المعنى والتي لن تعود ابدا . اتأمل الأفق لأتذكر بحنان غريب أولئك الذين فارقتهم ، واتخيل دمعة ريكان المذهبة بحزنه الهائل يوم فقد ولده ثم اتذكر نصيحة زوجتي وهي تقول :كل صباح قبل ان تطل على حنجرة فيروز عليك أن تطل اولا على حنجرة القارئ عبد الباسط عبد الصمد. كان صوت القرآن في تلك القرى هو كهنوت الأصغاء الروحي الذي يمد فيهم الأيمان ويقويه وهم يتقبلون قدرية الحياة بكل محنها وصعابها وامراضها. وربما صوت عبد الباسط الذي لايعرفون من أي بلد يكون كان سفيرا مفاجأ للحظة التي كانوا يتمنون فيها سماع الآية القرآنية كاملة ، وربما اختراع الراديو ووصوله الى قرى الاهوار مع اول قوافل المعلمين المعينين في مدارسها كان ايذان ليعرفوا سحر الصوت في التلاوة فيضيفون الى متعتهم الروحية والكهنوتية متعة الاصغاء الى القرآن مرتلا. وربما مع حكاية ريكان مع التلاوة وايقاعها مع الحدث الحياتي لحياة الرجل البسيط أنما هي رؤية الامتداد الحسي لتفاعل البشر مع صوت الرب في هدايته الى البشر والذي يأتي عبر صوت عبد الباسط ليحي فيهم آمال خلود المكان وبهجته يوم كانت اركاديا هي ظلال الجنة المفترضة في هكذا مكان يضج بتناغم حركة الريح مع القصب . وربما اركاديا هي روح الكاهن البدائي التي منحت خيال الانسان بناء يوتيباه الخاصة ، وهذه اليوتيبيا هي من منحت الذاكرة الحماس وجعلت في المكان الرغبة لفتح النوافذ عبر ما تتشكل من خيال الامكنة التي كانت تمتد في النهايات المفترضة لمساحات الاهوار الشاسعة ، وربما خيالي وتصوري لتلك اليوتيبيا يمر عبر هاجس افترضه ليس من خلال العباءة الكهنوتية ومهمتها القنصلية ــ الملوكية فتخيل ولادة اطياف اليوتيبيا مع المكان وذلك قبل ان يضع الكخنة اقدامهم وسط الزوراق المبحرة الى الاهوار ليحملوا مع اختام الملوك رغباتهم بالحصول على الطاعة والجزية: تولد اليوتوبيا من امكنة الأطياف أولاً ، وهي مدينة لبست ثوب افلاطون واختارت هاجس الفضيلة طريقا لها ، وطوال أعوام قراءاتي وكتاباتي كان طيف ما اتخيله هناك في مدن اليوتوبيا ،هي صورة المقارن الذي سكن اطياف صباي وبعد أن تسرحت من العسكرية لأكتشف أن دلمون الجنة السومرية هي من بعض يوتوبيا ثقافتنا وموروثنا وما تحمله حكايات جدّتي ونحن نصغي اليها متجمعين على موقد ( المطال ) في الليل الشتائي البارد . وتكريما لذكرى جدتي وحنان مدينتها الفاضلة اهديت رؤى كتابٍ شعري كتبته عن خيالات دلمون فينا وكان بعنوان ( دلمون جنة الفقراء ) . هذه اليوتوبيا التي اخترعها العقل الجنوبي في بلاد ميزوبوتاميا بقيت كل أزمنة ولعي بالأطياف البعيدة القادمة من اور ولكش والعبيد واريدو واكد وتلو وكل امكنة الاثر الساحر قرب مدينتنا تلاحق متون النصوص والقصائد التي اكتبها بفضل حماس البدايات الفطرية وحتى تسميتي كاتباً محترفا من قبل محرري الصفحات الثقافية. أتخيل المكان الآن ، لا أفلاطون أسس فيه مدرسة ، ولا كونفوشيوس كتب فيه حكمة ، ولم يزره الحلاج ليتأمل صوفية زرقة السماء المنحدرة من أجفان الجواميس الى نهايات غابات القصبة التي ترسم مع مشي الشخاتير موجا أخضر يذكرنا دوما بقصيدة لوركا :أحبك هكذا خضراء. بل المكان هو من بقايا أول يوتوبيا تخيلها البشر ، حيث تنام الآلهة على أجفان العذارى في غفوتهن قرب ضفاف الانهر وسواقي الاهوار وحيث يؤسس الملوك لهم شرائع ورغبات وخزائن يدفع فيها الفقراء ثمن طاعتهم لذلك الرجل الذي ارادوه حكيما وليس حاكما. ولهذا اختفت صورة اليوتوبيا من ارض الواقع لتعيش في الاساطير والرغبات التي تملأ اجفان أولئك المساكين وهم يوهمون انفسهم أن خطأهم في تأسيس الملوكية وطاعتها لابد ان نتعامل معه بالصبر والاحلام والصمت والتطوع جنودا في ساحات حرب توسع السلالات وأن الآخرة التي سيجدونها في دلمون ستضمن لهم خلودا وازلا فلا يصبحون كما على الارض عبيداً وأُجراءَ بل امراء المكان الخالد. افتقدت مدن سومر صورة اليوتوبيا الواقعية ، لكن قرى الأهوار بقيت تحتفظ بالكثير من خصائصها التي كتبها مدونون مجهولون وراح الناس يتناقلونها شفاهاً ، ذلك المكان الذي ينبت فيه القصب وتقفز فيه الاسماك بمرح الاطفال على الاراجيح ـ وتأتي اليه الطيور من مدن شنغهاي وستوكهولم واوتاوا وصحراء سيبيريا ليعشوا فتنة ودفء شتاء هذه اليوتوبيا التي تحتضن براءة البشر وحدود تفكيرهم المقترن بطبائع الشرف واكرام الضيف والحذر من الغرباء اصحاب النظرات الجشعة ،حيث ذكر احد قادة الاسكندر في بابل أنه لا يستطيع ان يخوض غمار هذا المجهول ويذهب الى تلك المناطق التي قصبها يفترس الغرباء قبل بشرها . هذا المكان الذي تُحرِّك فيه الشخاتير اتجاهات الماء وسير اسراب الطيور والسمك ، وتصدح منه موسيقى الحنان الغريب القادم من حناجر الصيادين ، سيظل وعلى الدوام جزءاً من اليوتوبيا التي يفتقدها هذا العالم بسبب الحروب وخيبات الامل التي واجهت مركبات الفضاء وهي تكتشف ان القمر وبقية كواكب المجموعة الشمسية. واليوتيبيا هي التي صنعت المكان المثالي ( اركاديا ) والتي هي في جانبها الآخر جنائن دلمون وعاد وأي مكان كان التخيل فيه يبيح للبشر امتلاك القناعة انهم في النهاية حتى لو كانوا فقراء او خدما او جنودا فهم خالدون في المكان الذي ينتظرهم .وتلك القناعة ربما تتبدد تماما عند أولئك الذين يذهبون الى القبو المظلم مع الملك المتوفي في الطقوس الجنائزية لعملية دفن الملوك والامراء والاشراف وحتى كبار الكهنة حيث يعتقد ان الخدم والجواري والمحظيات سوف يقومون بذات الواجب لخدمة الملك في فراديس اركاديا ودلمون وغيرها من جنائن الخيال والاساطير. لكن ما ان ينفذ الهواء في القبو وينفذ الماء والعذاء وتسود الظلمة ويدب الفزع داخل القبر مع تفسخ جثة الميت حتى يدب الفزع والخوف والصراخ في صفوف الاحياء داخل القبو وقد اكتشفوا خدعة ان تكون اركاديا ودلمون بعد بوابة يفترض ان عشتار ستأتي وتفتحها لهم ويذهبوا من خلالها الى الجنائن الخالدة . عندها يسكنهم الندم ويبدأون بشم الكهنة والملك الميت وكل من خدعهم بفردوس الاقبية المظلمة .ساعة ثم تنقطع أنفاس الجميع. وبالرغم من هذا فأن جمالية الخيال في شكل اليوتيبيا واركاديا ودلمون ، هو من بعض جمالية الخيال في شكله القديم والمعاصر ، ولهذا كنا ونحن نعيش في فرى الاهوار ونعيد استذكار الازمنة البعيدة يكون وعينا بتخيل وجود اركاديا موجودا وكما في هذه الصورة تقع أركاديا في أقصى جهات الحلم ، وقد ولدت عندما سكنت أرواح البشر رغبة في اكتشاف ما فوق الرؤوس ، وكأنهم يرددون قولاً لأبي :ما فوق رؤوسنا ليس القبعة أو العقال ، ما فوقها من يراقبنا ونطلب مودته . وقديما كان على الأنسان أن يتخيلَ أمكنةً في تلك الجهات التي لا تُرى سوى بمشاعر أجفانه ليصل اليها من خلال الأمل والخيال والتوقع بالنهاية الهادئة بعد حياة فقيرة أو متوسطة الحال هاجسها الخبز والعودة بسلام من جبهات الحرب. واليوم قريبا من هذا المكان او بعيدا عنه تمتد الأهوار بخيال أجنحة القصب وتمايل الموج بخاصرة الماء ومشي قطعان الجواميس بإنضباط مموسق كعسكر الشرف في باحة جندي مجهول. تسكنني أحلام تخيل شكل تلك الأمكنة التي نعتقد أنها القلاع والقصور العالية والمشيدة من البلور والرخام وتحيطها حدائق مزهرة بالورد والشجر والأرائك ، فيما تمتد البيوت التي سقوفها من القرميد الأحمر وهو يشكل في شهيته طقوساً من قبلات الغرام التي يتبادلها الملوك مع نعاس الكاهنات اللائي ينذرن شهواتهن وعاطفتهن لخدمة المعبد والملك. مدن تحمل شهية خيال طافح كمهرة خلقتها الآلهة لتسابق رياح الحلم والخلود في أجفان الفقراء . فقراء مدن الماء وتلك التي يعمرها الحجر وتعيش قرب ضفاف الأنهر أو حافات الصحراء لحنين البشر لشيء يتمنونه في منال رغبة الكأس أو الذهاب مع المشحوف الى أبعد نقطة في الماء لاكتشاف مستعمرات السمك واعشاش الطيور أو لقىً متروكة من أزمنة غابرة يأخذون منها تمائم الحظ أو يشربون بأوانيها النحاسية لبن جواميسهم أو يجمعون فيها دموع نحيبهم لأولئك الذين يغرقون في المياه . كانت أركاديا أخت دلمون في التصور وإبنة عم وفيةٍ لجنة عاد ، لكنها لم تعد لصيقة أخيلة القصب وأحلام المعدان وأمراء سلالات أور ، بل صعدت مع سفينة نوح ووصلت الى طنجة ثم اغتربت في أمكنة شتى على خارطة العالم. وهي اليوم تكاد أن تكون مصطلحاً أمميا للحظة البحث والمغامرة للحصول على النشوة والمكان المنفي ، وكأنها سليلة مباركة لما تركه أفلاطون من مثاليات الروح والعيش في التعامل بين مدن جمهورية فاضلة. خرجت أركاديا من بين دشاديش رعاة الجواميس وعباءات بائعات القيمر واللبن الخاثر وأردية كهنة المعابد المقدسة في المدن الأثرية الممتدة من أور الى حدود مملكة ميسان في الطيب والشيب وأهوار الكحلاء. هنا أو هناك ، المهم أن أركاديا موجودة ، هاجس يحفزنا على خلق ما نشعر أنه النقاء الذي يذهب بنا الى قناعة إثبات وجودنا المتميز في التراث الإنساني لليوتوبيا ، وحتما الوجود المتميز لن تصنعهُ سوى أحلام الأنسان. وأظن أن أمكنة مثل تلك تمنح الروح مساحة الطيران في الفضاءات الابعد حيث نمتلك حداثة الاكتشاف والتفكير والتحولات لنجعلها ملاذا آمناً ونقطة بدء للتواصل مع الغيب الذي نعتقد أنه وحده من يأخذنا الى المجالات الأخرى. كما في بدء السباحة في الرؤيا والضوء والممالك والمصانع ومسلات التشريع وجبهات الحرب وحانات الثمالة والغرام والموسيقى . أركاديا هي في معناها الخفي ، الحاضر في كل حين ، تتجدد وتعيش وتلهو في مساحات رغبتنا لنكون. إنها المدينة المثالية للماضي والحاضر والمستقبل. بين الموت واركاديا يبدو خيط الوصل بيد طلاسم الكهنة وادعيتهم ، ولكن ذلك الخيط الذي يربطه الكاهن بثقافة التي التي يمتلكها بفضل موهبته أولا . لكن هاجس التفكير بالموت تطور كثيرا مع رؤى النصوص التي حملتها الكتب السماوية فصار كهنة الاديان اكثر وعيا وفهما للموت وعلاقته بالحياة وقلق البشر . وذات يوم وأنا اراقب تلك الطقوس التي تعيشها القرى في حزنها الصامت يوم يؤتى بأحد ابناءها شهيدا من ساححات المعارك أو يغرق طفل سهوا في مياه الاهوار .تعلمت كثيرا واهتز بدني مع قراءة عبارة لي في الانجيل لعبارة هائلة للقديس بولس تقول : ( لا نموت كلنا ، بل نتغير كلنا )
فعندما عشت في مناطق الأهوار ، أخذت معي أدوات طبخ بسيطة وحقيبة ملابس وحاجات الحياة في المكان البدائي ، ومثلهم وبمساعدة عامل الخدمة المرحوم ( شغاتي كصب عامود ) حيث زاملني وصادقني في المدرسة التي تعينت فيها لأول مرة وهناك بنيتُ بيتنا صغيرا من القصب ، ولا أدري أن كنت أول من يقضي الليل وتحت مساحة شاسعة من بريق نجوم لامعة كأقراط أميرات سومر ، ومن دون شخير جراء التعب الذي يصيب رجال القرية وهم يعيدون الجواميس الى حضائرها من اجل حلبها ، كنتُ الأول الذي يجلب كتبا لبورخيس وروايات ماركيز وقصائد سريالية لأندريه بريتون ومجلات تحمل اغلفتها اغراء اجساد أناث القيمر برجيت باردو وصوفيا لورين ونادية لطفي ، وكنت ربما الأول في هذا العالم من جعل ( شغاتي ) يطلق اسم ( مكسيم ) على ولده الوحيد بعد أن علمته القراءة والكتابة وصار يناقشني في كتاب قرأه ولم يقرأه غيره من ابناء الاهوار في هذه الدنيا وهو مذكرات ريجسيه دوبريه عن جيفارا وثورة كوبا. ( شغاتي كصب عامود ) ظلٌّ طيبٌ لإرث عريق من التأمل والصمت والحياة الفطرية والقدرية التي عاشها المعدان متوسدين ضفاف المياه الضحلة ومقتنعين بنهاية الحياة أياً كانت اعمارهم وكانت توابيت القصب تحمل الاجساد المكفنة بالصمت والحنين الى ما تركوه ، الزوجة والجاموسة والبيت الغاطس في الماء الأخضر ، وربما هذه التوابيت الطرية تمتلك ضوءاً يعكس بهجة المكان وحقيقة تلك العلاقة الجدلية بين المكان والفردوس الذي كان المعدان يتخيلونه وهم يعودون ممتلئين بسعادة الحنين الى ارضهم يوم اكمل نوح رحلة النجاة واعاد جميع مسافري السفينة كلّاً الى بيئته ومكانه ومهد طفولته. تعلمت من شغاتي لأتغير مع هذه الطبائع بقدر ما غيرت فيه أنا ، ويبدو أن روح هذا المعيدي قد تعلمت وفتحت شبابيك الدهشة الى العالم البعيد عبر ما يقرؤه في كتبي ويراه في صور المجلات الملونة . فسكنته قناعات أخرى ويبدو أنه في قراءته لملحمة جلجامش استعاد الكامن والمخبّأ والمدفون فيه ، وصار يأنس لعودة اسلافه في الاحلام حيث يتحدث معهم ، جده ( عامود ) وعمهُ ( كنطار ) وجاره زاير ( إمسيكت ) وجدته ( مشتهايه ) واخرون يجلبون اليه اسرار الامكنة البعيدة التي يسكنونها في مقابر الايشنات حيث كان يعتذر وقتها ارسالهم الى النجف لدفنهم لانعدام وسائل النقل أو فقر الحال. قناعات الموت والحياة وخواطر جلجامش غيرت في سلوك وتصرفات (شغاتي ) كثيرا ، ومع تقدمه بالعمر سكنته الصفنة ولم يعد يقود جواميسه الى قيلولة الماء بعد انتهاء دوام المدرسة ، الى ان عرفت انه يشعر بألم قوي في صدره وأن عليه أن يصنع لأبديته تابوتا من القصب ويذهب ليسكن في التلال الصامتة على بعد اميال قليلة من قريته. في مهجري البعيد سمعت أن شغاتي يعيش أيامه الأخيرة فقد اعفى مديرالمدرسة شغاتي من العمل ومنحه اجازة طويلة ولو كنت موجودا لتبرعت انا بالقيام ببعض اعماله البسيطة وبين الحين والحين ازوره الى بيته ، وسوف اواسيه بالابتسامة وبالكتب الجديدة ، لكنه كان يدرك انه ربما يقرأ هذه الكتب للمرة الاخيرة... في فجر ما ،أيقظني حلم في الليل الألماني ويصاحبه بكاء النساء ، فعرفت ان صديقي رحل الى ما كان يتمنى ، مددت رأسي من نافذة منزلي ،فرأيت افقا ذهبيا لشمس تشرق بخجل ووسطها هناك تابوتٌ من القصب يحمله كهنة لم ارَ اشكالهم في قريتنا من قبل. ها أنا افهرس روح المقال بشيء من الهاجس الكهنوتي ، أعيش في هذا العالم الفطري والمصبوغ بأجمل مشاعر البراعة والكرم والفطرة . وربما هذه الحكايات والتفاصيل هي ما تبين ما الذي كان يفقعله الكاهن وروحه ونواياه ومواعظه في تلك الاماكن التي ظل يزورها من اول أيام معابد كوديا وحتى يومنا هذا الذي قرر فيه بابا الحاضرة أن يزور أور ويتعمد بالمشهد الازلي المفترض على أنه بيت النبي ابراهيم ويشم هواء امكنة الاهوار التي يقال ان نوحا صنع فيها سفينة النجاة ، وربما يعيش البابا نشوة تلك النسائم المتحدة بروح القصب الذي بنيت منه اهل معابد الخليقة وسيعيش أجواء ايمانية يتمناها ايام كنا نشتاق ليكون الرسول الانجيلي هنا عندما أخبرني صديق لي يعمل مصورا فوتوغرافيا أنهم اخبروه إن يرغب بالذهاب الى مدينة أور الأثرية لتوثيق زيارة القاصد الرسولي وزير خارجية الفاتيكان الذي جاء ليزور البيت المفترض أن النبي ابراهيم (ع) ولد فيه كما جاء ذكره في التوراة ويستطلع المكان الذي تم تهيئته للزيارة المرتقبة لبابا الفاتيكان الى أور في بدء الألفية الثالثة. وبمبادرة من طارق عزيز وزير خارجية العراق الأسبق ، ومن مفارقات أقدار هذه المناسبة وأحداثها أن يقبع ( الوزير ) مدانا ومحكوما ونزيلاً في سجن (الحوت) الذي يبعد عن البيت الإبراهيمي المفترض بحدود خمسة كيلومترات . كنت وقتها قد بدأت اعيش سنيَّ التقاعد بعد ثلاثين عاماً من إغفاءة الحلم معلما في مدرسةٍ تقع عند حافات الطين الذي مشت عليه الحروف الأولى لتسجل الأساطير والحكاية السماوية لرحلة سفينة نوح ، وما تبقى من طيف المكان الذي ينوي القاصد الرسولي زيارته هو أساطير ذاكرتي يوم زرت الفاتيكان المستقل ككيان اداري وسياسي بالرغم من أنه ضمن خرائط بلدية مدينة روما ، وتساءلت وأنا أرى وأستمع الى كردينال أفريقي يعمد برذاذ الماء المقدس جمعا من طالبي اللجوء من دول افريقية ، وكرر باللاتينية التي لم افهمها اسم ( إبراهيم ) فتذكرت احلام مايكل انجلو بنحت ابراهام وهو يتخلص من آتون النار ويمضي مع أغنامه الى حيث مدن الجليل والناصرة والخليل وأورشليم وسط سقف قبة كنسية سانت بطرس في الفاتيكان ، وتساءلت حينها : لماذا هو عندنا وننساه ، وهو البعيد عنهم ويتذكرونه.؟ وهاهو البابا يفكر بالمجيء محققا نبوءة قديمة لمعلم يوم كنا نتصفح انجيلا أهداه احد العلماء الآثاريين الانكليز الذي جاء يجري مسحا للتلال الاثرية في الاهوار . قوله : لابد أن يفكر واحد من الباباوات بزيارة أور ، وربما من بعض برنامج جولته أن يزور الأهوار ويمر على قريتنا ( أم شعثه ) وفي مفارقة اخرى أن البابا لم يزر أور مؤجلا زيارته الى اجل غير مسمى والذي مر على أم شعثه في صباح لم يكن فيه سوى اربع بيوت وعشرين جاموسة بسبب سياسة التجفيف ، ومن مر بها هو الحاكم المدني لما بعد الاحتلال بول بريمر. جاء القاصد بعباءته السوداء المزينة بحواف حمراء وقلنسوة تحمل بهجة ما في رأس الكاردينال أن عليه وعلى بعد مِائة متر من البيت الافتراضي الذي تخيله ( ليوناردو وولي ) من بعض مدونات وجدَ في تلاصق حروفها صوتا يشبه الذي ينادي بإسم ابراهام . زحف القاصد ، وهو يمسك انجيله ، ليكتسب ثوبه لون التراب ، ذلك التراب الذي مزج بالطين فصار آجراً احمرَ بنيت فيه المعابد والزقورات وقصور الملوك واكواخ الموسيقى ومدارس الموسيقى... يصل الكاهن الموصى من قبل الحبر الاعظم أن يقرا له صلاة خاصة نيابة عنه ، ولكنه لم يلتفت خلفه اثناء الصلاة ، وحين أردت الاشارة الى قداسته بهذا منعني ضابط شرطة كان من ضمن طاقم حماية الموكب الزائر . صديقي قال :لماذا أردت ان تقول شيئا ؟ قلت : أردت من نيافته أن يلتفت الى الوراء وليس الى المكان الذي ولد فيه النبي ثم الى الجهة التي افترض نيافته انه بدأ مسيرته منها وكانت عيناه متجهة صوب لارسا التي هي اليوم مدينة البطحاء . قال صديقي : ولماذا الى الوراء.؟ قلت ليتلو شيئا لظلال معابد القصب ، هناك في الاهوار التي كنت فيها معلما. ــ ولكنها صرائف وليست معابد.؟ ــ ولكن رجال الآثار يقولون أن معابد الامس كانت تشبه صرائف اليوم . ــ والقصد ؟ ــ حتى يشعر أن مراعي ابراهيم في صباه وطفولته كانت هناك . وربما يدرك أن تلك الامكنة التي تحركت منها سفينة نوح هي من تمنح الشعور الصافي برهبة السماء فينا ، وليس هذه البرية القاحلة والمطار الحربي الذي يلف اور من الخاصرة. قال صديقي :لو وصلت اليه رغبتك بمعناها هذا ، حتما سيلتفت الى الوراء..! نعم الى الوراء حيث الأزمنة التي صنع منها الطين غواية المودة الى السماء ليشعرنا أغواء اللحظة ان الروح بكينونتها ربما تمنحنا القدرة على ان نغمض اعيننا مطمئين حتى عندما يتأخر الكاهن ــ القنصل عن موعد مجيئه الى تلك الامكنة . فلقد استطاع بعض المبشرين ان يؤسسوا في المكان روحا حاضرة من اجل طقوس البشر هنا وعباداتهم دون الحاجة لينتظروا كاهنا يأتي اليهم بمواسم الحصاد وجني الجواميس الحلوبة ليأخذ حصته ـ وربما قرية أم المؤمنين في اهوار كرمة بني سعيد شمال شرث مدينة سوق الشيوخ والتي اسسها السادة المرزات في القرن التاسع عشر لتكون المكان الكهنوتي الاول للفتوى والاتصال مع اهل الاهوار من خلال الرؤية والايمان والتواصل دون الحاجة لمباركة ملك او سلطان أو خليفة. وقصة معرفتي بتلك القرية ( أم المؤمنين ) تعود الى حين اختارني رأس عرفاء الوحدة لأكون مأمورا مع نعش جندي قُتل في القصف وعلى واحد من أبناء محافظته أن يكون كفيلا بإيصال النعش الى أهله في قرية المؤمنين القرية الواقعة على ضفاف سواقي الاهوار قرب ناحة كرمة بني سعيد . أخذت النعش مودعا بدموع جبلية لتستقبلها هناك الدموع السومرية التي يختلط نحيبها بصوت القصب وتراتيل الوداع التي تطلقها حناجر الطيور يوم تغادر الأهوار وهي تعود الى مساكنها في اوربا وكندا وسيبيريا. وصلت الى قرية المؤمنين ، لم أسمع بها من قبل ، ولكنها كانت وديعة وهي تحتفي بالمياه والهدوء وظننت حينها أن سبب تسميتها بالمؤمنين ربما يعود الى طقوس الصلاة والمجالس الحسينية الكثيرة التي يقيمها ابناؤها ، ولم أسأل عن سبب التسمية وقتها لأني كنت مندهشا من رباطة جأش والد الفقيد وتقبلِهِ موتَ ولدِه بصمتٍ ودمعة خفية وراء عينيه فيما ابقى شيئا من ملامح ابتسامة صابرة ولم يتلُ شيئا على النعش بعد قراءة الفاتحة سوى همسته : الى هنا توقفت سفينة نوح وعليك أن تهبط منها لتستقل راحلة اخرى الى السماء. وقتها اعجبتني ثقافة الرجل وربما ادركت لماذا سميت هذه القرية بالمؤمنين ، عانقت الرجل ، شكرني ودعاني الى بيته لتناول الغداء ، اعتذرت وقفلت راجعا الى بيتنا ،استريح من مشاهد حزن عرب الاهوار حين تسلب منهم الحرب رجلا في مقتبل العمر. ذات يوم كنت امام التلفاز وكان هناك برنامج ثقافي تقدمه الروائية والاعلامية السيدة ابتسام عبد الله وكان ضيفها الشاعر العراقي الكبير المرحوم الدكتور مصطفى جمال الدين ، وتفاجأت أن المرحوم الدكتور جمال الدين من مواليد قرية المؤمنين ، وأنه سليل عائلة المرزات التي كانت مرجعية مهمة لبعض رؤى المذهب الشيعي ومدارسه ، ولحظتها كانت هناك لقطات ارشيفية للسيد وهو يتجول في قريته ، لأستعيد معه ذكرياتي يوم حملت اليها نعش صديق لي في ذات الفصيل سرقته الحرب. دارت الايام ، والتقيت بصديقي ابراهيم مصطفى جمال الدين القنصل العراقي العام في دمشق ، وكنا نسهر كل ليلة في نادي الشباب في منطقة المزة ، فعدت استذكر مع صديقي ( أبو زيد ) ذكريات المكان الذي لم يره منذ سنوات عديدة. وسوية نستعيد مخيلة المكان في دفئة وسحر طبيعته واختصار تواريخه كما رواه لي سيد إبراهيم : فقد كان جده الميرزا وأبوه الميرزا حسين حلقتين ممهدتين للمكان حيث أصبحت قرية المؤمنين بوجوده محجا لأفراد العشائر ولمعظم القرى المحيطة بها , فقد كانت تقام صلاة الجمعة فتجتمع أفراد العشائر ليؤدوا الصلاة خلف الميرزا في ذلك الجامع الذي تقام فيه الصلوات الخمس من قبل سكان القرية والمرجع الديني للقبائل المحيطة بتلك القرية ... فيستمع الناس إلى وعظه ثم ليؤدوا صلاة الجمعة التي تقام من قبله في المسجد الجامع , وبعد تناول طعام الغداء على مائدته يعودون إلى قراهم متبّضعين ما يحتاجون إليه من السوق الموسمي في هذه القرية الذي كان يسمى سوق الجمعة . صورة المكان وازلية المعبد ورائية الطين معه هي من شكلت العمق الروحي للقرى التي اصبحت فيما بعد مزارا لتأكيد الترابط الروحي بين اهل الاهوار ومعتقداتهم. يسجل الطين تفاصيل المكان الجنوبي ، إنه حناء خيالنا والراوي الأمين لتفاصيل ما كان يحدث هناك في مدن الماء والقرى وكأنه يسجل بلمعانه حكاية العيون ونبض القلوب ويسكن بهاجسه تفاصيل علاقة الماء بالضفاف حيث ينبئنا الإله والكاهن والذي بنى الزقورة أن الطين شكل الحياة وهي تمزق روح الماء بالتراب فيكون الطين. وربما شممتُ رائحة الطين وعرفت اسرار طقوسه يوم زرنا أقبية أور لأول مرة في سفراتنا المدرسية حيث حرصوا قديما أن يكون الطين المفخور هو كؤوس النذر وأواني الأكل من الطين ، ويُقال أن الرجال المنذورين والنساء المنذورات كانوا يصبغون جبهاتهم بالطين البارد ليشعروا بالراحة واقترابهم من المكان الخالد ( دلمون ) حتى وهم يختنقون ويتصايحون مذعورين يوم ينفدُ الهواء في القبر المظلم بعد أن تنطفئ القناديل وينتهي الأكل والشراب فلا يبقى لهم سوى برودة الطين المتيبس على جباههم ليرفعهم الى المقامات البعيدة ليعشوا وهم خَدَمَة ملكهم الميت في العالم الاخر. وربما يسجل الطين تأريخا للنواح يوم كان جلجامش يغمس يديه بالطين ويدهن جسد خله انكيدو المسجى في هدوء الموت ، وهو ما رأيته عند المعدان ولكن عكس مشهد تعامل جلجامش مع الطين اذ انهم يدهنون ورك الجاموسة وبطنها بالطين وكذلك يدهنون جبينها وحين يجف يغسلونه بالطين وكأنه حناء عرسها مع الماء ومحفز لخصوبتها. خلق الله آدم من طين ، وصنع الجنوب من الطين ، فكانت صورة الخلق مرتهنة بلزوجته ، وكنت اشعر بقيمته الروحية حين يكون تفاصيلَ لطقوس من يعيشون قرب الضفاف ، المعدان ، الصابئة ، واهل المدن الواقعة على ضفاف النهر حين يغرس حلم النساء بالإنجاب وامل عودة ابنائهم سالمين من جبهات القتال ، يغرسن شموع زكريا في قلب الطين وعلى صواني الياس والحلوى ويتركن الماء يسجل احلام الغيب في دموعهن وتلاواتهن ،ليكون النبي شفيعا ، وقد يوصلها مع نعومة الطين وارتباطه بالحياة الحالمة للبشر في تلك المدن التي اعيش امكنتها وقصصها بجمال صباح المدرسة ونعاس شغاتي الذي يغسله بالماء الممزوج بالطين ليبدو أكثر نشاطا كما يعتقد. وهكذا نعيش روح المكان في المزيج القدسي للثالوث الخالد ( الكاهن ــ الطين ــ القصب ) اراد كوديا ليجمعها في المكان الذي يحج اليه رعايا موسى ويسوع ومحمد ، فذهب بنبؤته واحلامه ونداء الالهة اليه ليبني بيتا يعبد فيه الرب. صورة كوديا .الملك .والمعبد الجامع وفي بيئة الاهوار تسجل وجها كهونتيا آخر لما بقي يعتقد فيه اهل القرى واغلبهم من المعدان .أن المكان الذي يخلوا من المعبد ( الجامع ) الطوفان اقرب اليه من رمش العين. تلتصق المعابد بذاكرة التراث الرافديني منذ أن صوب الإنسان عينيه صوب السماء وبوعي ليتخيل مكانا على الأرض ينوي فيه ليكون وحده مع الكائنات الخفية صاحبة القوى الخارقة والتي تعيش في مكان ما في السماء ، فكانت رؤيا المعبد والزقورات هي اول شكل معماري لبيت الصلاة ، وقد جاء أول ذكر للزقورات في الأدب البابلي في القرن الثاني والعشرين ق.م. عندما ظهر الإله نينجرسو في حلم للملك كوديا وطلب منه أن يبنى له بيتاً حتى يظل القمر يضيء وتظل الشمس مشرقة .وتمضي الأسطورة لتقول لنا أن كوديا سأل عن الامكنة التي ينبغي أن يجلب منها المواد التي يبني بها هذا البيت ، فقالو له :هناك في الجنوب حيث الماء والقصب والطين تستطيع أن تجد فيها كل ما تريد . صادفني الإله نينجرسو مكتوب على يافطة في واجهة مقهى في طنجة ، والذي معي كان يظن أن هذا الاسم انما هو إسم أمازيغي ، فأخبرته أنه إله سومري مسكنه في السموات التي تقع فوق غابات القصب في الأهوار وانه هنا من بقايا المعتقد التي سكن في الذاكرة الشفاهية والشعبية وهو ما ذكره الروائي الطنجاوي ( محمد شكري ) بأن سبب إسم طنجة يرتبط بوصول سفينة نوح الى شواطئها عندما صرخت حمامة أرسلها النبي للاستكشاف حين رأت البر الآمن ( الطين جا ) أي الطين جاء ، فسمي المكان طنجة . والغريب أن احد المثقفين المغاربة كان يظن ان هذا المقهى هو معبد للتفكير والتأمل والتمتع بشاي النعناع وعبادة الحلم بالهجرة الى أوربا وكأنهم يتعبدون هنا للوصول الى باريس واسبانيا. بين المقهى في طنجة ومعبد في مدينة يحكمها كوديا يسجل الاله نينجرسو في طيفه الليلي الى رؤيا الملك والمهاجر المغاربي صورة لحاجة البشر لبناء الهيكل والمعبد والكنسية والجامع . ومنذ أن حقق الملك نصيحة الاله والى هذا اليوم تختلف هندسة المعمار بين الرخام والمرمر كما في المزارات والاضرحة العظيمة والفاتيكان ومعابد الهند وجوامع المدن الاسلامية الكبيرة والمدن المقدسة مكة ، المدينة ، النجف ، كربلاء ، سامراء ، الكاظمية ، الأزهر ، الأعظمية ، سامراء ، الدار البيضاء . لكن جوامع القصب الصغيرة التي كنت اراها في قرى الاهوار أثناء ترحالي بين تلك المدن المصنوعة من احلام الملوك والآلهة لها طعم العبادة الفطرية البريئة حين يتوضأ المعدان بمياه الأهوار ويتوجهون الى قبلة بأتجاه مكة ليكونوا بين اجفان الله مصلين قانعين بقدر المكان وطبيعته. جوامع القصب ، ومندي الصابئة المبني من القصب ايضا ، هما من بعض ارث أول أحلام التأريخ حيث حمل كوديا رغبة الالهة وركب زوارقه واخبروه ان في مناطق الاهوار سيجد القصب الذي سيكون سقوفا لأول معابده وزقوراته وامكنة الصلاة والتودد الى الآلهة. بين جامع من القصب ،يتلو فيه الطيب ( ريكان ) عامل الخدمة في مدرستنا صلاته اليومية بإيمان وقناعة وهدوء ، وبين مقهى في طنجة يحمل أسم إله سومري تمشي خطواتي على ارصفة الذكريات والمنفى وأنا احمل وجه كوديا واحلامه حتى وانا أضع فمي على فم وردة كرواتية. وبين الكروات وصدى القصب والنايات اريد ان اخدم هذا السفر الكهونتي بواحد من معابدي الجميلة والتي تديره كاهنة طيبة ، اتت عليها السنوات التسعون ولم يزل بيريق عزفها في صنع غرام الامومة الينا ( الاحياء والاموات ) يديم في كتبي وايامي وبيتي شعاع المودة وقراءة الطالع والسير الى امكنة الصدى والاساطير بفضل بركات عينيها التي لم تعد ترى فيها النور ، ولكن اقمار قلبها تضيء لطرقاتنا ميرة العطر والشعر والذكريات. امي ( مسماية سهر اذهيب ) آخر كاهنات هذه الرؤيا الممتدة من خليقة نوح وآيوب وحتى عصر تويتر والليدي غاغا والجدول الصباحي لتمرين اوباما الرياضية. مدن وازمنة واغلفة وحكايات ، لاحد غير هذه الكآهنة التي تشارك ابي في وضع طوبغرافيتها وهواجسها واللحظات التي يوعزان فيها لي لاكتب. وعليه ستكون هي آخر كهنوت هنا يعيش في طين المكان ومساءات مياه الاهوار وهي تنعش في حلم القرى صورة الحياة وجماليتها وكما في آخر الرؤى هنا : (( فالجدل أن تكون حكيما بعد دهشة فقدان القدرة على قراءة حروف رسالة الحب . تلك نصيحة ( سيجموند فرويد ) لمريضه النفسي فيما نحن المعدان امراضنا النفسية في غربة امهاتنا عنا فيكون صوتها لأعذب صوت لكاهنة في معابد مدن سومر : تعال يا ولدي خذ لكَ من عنقي شمة.لتحفظكَ كل قباب الأئمة...!)) هذا المقطع كتبته في مديح كاهنة سكنت أروقة معابدي ، امرأة تعلمت من الآلهة أنانا وأساطير حنين الأمهات السومريات لتسجل هبوطاً روحيا من سماء أجفاني الى دفء أحضانها. هبطت أمي مْسَمّايه سهر إذهيب تولد 1925 الى ليل الناصرية وقد زفوها سيرا على الاقدام آتية من الريف بعد أن أكملت مع أخواتها ( هضيمة ، دواية ، بنية ) زرع شتلات الرز في ذائب بستان جدي في شمال السديناوية حيث تجاور الأهوار نخيله ومن الشرق يحده النهر الهولندي فيما تحده بساتين آل بوسوف من الغرب ، أما الجنوب فمساحات خضراء سكنها أناس يطلقون عليهم الحساوية جاؤوا من هجرات قديمة من منطقة الإحساء والقطيف في الجزيرة العربية ويسكنون أطراف مدينة الناصرية وربما يعود لهم الفضل في تحسين بعض انواع التمر الذي تشتهر فيه المنطقة الشرقية في المملكة السعودية ومنه تمر ( الشويثي ). سكنت أمي في قدومها من جهة الريف والأهوار معبدين من الحنان الأول هو قلب أبي ، فيما كان معبدها الثاني هو بيتنا الطيني الذي كانت تسكن في أروقته كل جهات العالم وهي تفتح للشمس بوابات أحلامنا وسعادتنا يوم تخبرنا أمي أنها ستذهب غداً لزيارة جدي في بستانه أو نصاحب خالاتنا الى تلك الحقول الخضر التي تفتح بواباتها المصنوعة من السنبل وسعف النخيل والقصب لأتخيل شهية الذهاب الى ابعد الكواكب. وأخيرا على عتبة البيت يرسم الحلم ( خضرمتَهُ ) الزرقاء والحسود الذي لا يسود .سيرسمكِ ( كاندنسكي ) مكعبة وأنتِ في فراشكِ. وسيصبحُ سعرك غاليا. وفي العاشر من محرم ستجيئين مع نواح السبايا ووجهك السومري المكعب تحتفي بجمال نجمته صالات مزاد عواصم أوروبا. أساطير (مْسَمّايه ) ..الرز بالحنين ، مطبك سمك تلك شفرة الوصول الى بابل من غير ضحايا حملها الإسكندر المقدوني ، ومات في فتوحاتها .وكان يعرف أن الوصول اليكِ ، وصول الى حضرة المجد ولكنه مات وأنت على نعاس شيخوخة التسعين تحلينَ شفرة الصمت بصوت بلابل أهوارية وطور شطري* يحسبه علماء الآثار أيقونة الطين في صنع الحنين...! أسمع ضحكتك وهمستك :صنع في الطين وليس في الصين. أسمع صوتك في مرايا ذكرياتي في أروقة معبدك يعيد صدى مسافات الشوق الى امرأة عاشت قلق الحروب ليس كما يعيشها العرفاء والجنرالات بل كما يعيشها الإله وهو يرى جيشه المنكسر على بوابات الدمعة والجموع القادمة على خيول فارسية واغريقية ورومانية وإسطنبولية . أمي ياصديقة القيصر ، ويا حفيدة موسيقى الراب ونواح عاشوراء كما بروتكولات تنصيب امراء المقاطعات السكسونية. في ريف بساتين أهلي في الجنوب الإبراهيمي حيث يضعون لك تسلسلا أسطوريا .من أول ملوك السلالة الأولى وحتى ترديد القسم الملكي في البلاط ملوك المغول وإسكتلندا. أنتِ يا حافلة الزنجبيل ، مخدرة على جمر قلوبنا أباريق الشتاء .ومن دون رعشتكِ المقدسة لن تطعم الايام ذاكرتها . أنت ايتها الكهانة بعباءة خيوطها بريسم دموعنا ومحطات السفر.
#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فشافيش اكبادُ الجواميس
-
الأهوار ( يوم في فنيسيا )
-
الحُب بحروف بيل غيتس
-
أور (عواء الثعالب لايُحبُ البساطيل )
-
الأهوار ( المجلات وجدار الطين والحرمس )
-
بان كي مون ..لمناديلا صوتٌ في الاهوار
-
أهوار أنجيلا جولي
-
آبي سين أنتحر ، والبابا لايعلم
-
الأهوار وفيتامينات إدوارد شيفر نازده
-
فتوى مزارع الخشخاش الأفغاني
-
الزقورة ( أسرار الغرفة العِلْويةُ )
-
المسافة بين الجبايش وأسطنبول
-
أهوار ونخيل بول بريمر
-
الفلوجة والرصافي الذي يكره داعش
-
معدان ( صوفيا لورين )
-
الكلُ يقول : الأهوار عمتي
-
محنة الحُفاة في نيل الجنة
-
جماليةُ الحال ، لما بَعدَ المُفتيّْ
-
رسالة الى محافظ المثنى
-
السماوة مرثية ( سعدي وحسين نعمة )
المزيد.....
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
-
محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
-
لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
-
خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
-
النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ
...
-
أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي
...
-
-هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م
...
-
عالم سياسة نرويجي: الدعاية الغربية المعادية لروسيا قد تقود ا
...
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|