|
قليل من الإخلاص يا سادة فمصرنا في خطر
كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي
(Kamal Ghobrial)
الحوار المتمدن-العدد: 1397 - 2005 / 12 / 12 - 11:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تتكالب الهموم والمصائب على مصر الصابرة، بسرعة لم نعهدها من قبل، نحن الأمة الزراعية التي اعتادت العقود، والأمور تجري على سجيتها، على خير ما يرام في أغلب الأحوال، فقط نبذر البذور في حقولنا، وننتظرها تنمو بأمن وسلام، نادراً ما يعكر صفوه فيضان جائر أو رياح عاتية، وحتى حين يحدث هذا، فإن سلاحنا جاهز في الصدور التي اعتادت الصبر، بصفته خير ما نجيد به مواجهة النوائب، كسلاح يأتي مفعوله على المدى الطويل، ولا ضير في ذلك ما دمنا قد تعودنا على عدم الإحساس بالزمن، وتصورناه كما لو ناقة تسير الهوينا، ولابد أن تصل إلى مرادها يوماً بسلام. أزعم أن ما وصلت إليه مصر والمصريون الآن - مع بداية الألفية الثالثة – هو نتاج ذلك الصبر الطويل بلا نهاية، الصبر على أخطائنا التي تتراكم، وعاهاتنا التي تتفاقم، وعلى الفيروسات تضرب أعضاء الجسد المصري، وتستشري في كل ركن من أركان حياتنا، ونحن صابرون، نحتمل بعض نتائجها على مضض، ونتأقلم مع بعضها، أحياناً إلى درجة الاستمراء والإدمان، بل وصار الكثيرون يعتبرونها جزءاً من هويتنا، التي علينا التشبث بها، بكل ما أوتينا من قوة. صبرنا على حكام فاسدين مستبدين، تعاقبوا علينا في سلسلة لا تنتهي، وكلما توسمنا الخير في حلقة، اكتشفنا بعد قليل أننا "نخرج من حفرة لنقع في دحديرة" كما يقول مثلنا الشعبي، وهتفنا بالروح والدم لما قالوا لنا أنه ثورة يوليو المباركة، لنكتشف بعد ذلك أن ثوارها الأبطال قد دمروا بنياننا السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وأنهم قد قادوا مركبتنا لتصدم بكل الصخور المتاحة في طريقهم، وصبرنا على أحوالنا المتدهورة حتى تدخل عزرائيل –ربما في التوقيت المناسب- لينهي حلقة، وتبدأ حلقة أخرى تعدنا بالانفتاح والرخاء، وترقبنا في توجس وعدم تصديق، ولكن بصبر واستنامة كعادتنا، لنكتشف تدريجياً أن الانفتاح كان يعني فتح الأبواب للصوص والمغامرين من كل حدب وصوب، وكان يعني فتح أبواب السجون للقتلة ودعاة الكراهية والعنف المتاجرين بالدين، من جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، وترك مصر المسالمة لهم، ساحة ممهدة يعيثون فيها فساداً، يدمرون سماحة أهلها، ويذرعون التطرف ومزاج الإرهاب وأفكاره في عقول شبابها، فكان أن أنجبنا أخطر القتلة في العالم وفي التاريخ، انتشروا في مدننا وقرانا، وصدرناهم بأفكارهم المدمرة وخناجرهم المسممة القاتلة إلى كل أنحاء العالم، بعيده وقريبه، فيما الفقر والبطالة تزداد توحشاً واستفحالاً، وتتحول مجتمعاتنا إلى عشوائيات تنجب المزيد والمزيد من كارهي الحياة والأحياء. صبرنا واسترحنا ونظمنا التعليمية تنحدر، فيما العالم كله من حولنا يرتقي بالعلم إلى أجواز الفضاء، وتحولت مدارسنا وجامعاتنا إلى كتاتيب للتلقين السلبي، وحشو عقول النشء بكل ما هو قديم وبائس، وتدريبهم على الخنوع وعدم التساؤل أو النقد والمراجعة، ليكونوا بعد فريسة سهلة لشياطين المتاجرة بالدين وبإنسانية الإنسان، ولترفد المدارس والجامعات الساحة بفيض لا ينتهي من العاطلين العاجزين عن العمل وعن كسب قوتهم وإقامة حياتهم، مساهمين في المزيد من التفسخ في بنياننا الاقتصادي والاجتماعي. وحين ساهمت شياطين الإرهاب في تخليص مصر، ممن أسلمها هدية لأفكار الإرهاب والكراهية ورموزها، والذين تعلموا مهارة العمل السري واحترفوا القتل وأقسموا على الوفاء لتنظيمهم الشيطاني ويدهم على المسدس، جاء عهد تصورنا أنه سيتعلم الدرس من رأس الذئب الطائر، رأس السادات الذي تلاعب بكل مقدسات مصر وأولها وحدتها الوطنية وسلامها الاجتماعي، وليس آخرها ثرواتها التي بذلها للصوص وكل شذاذ الآفاق، ليزداد الفقراء فقراً وبؤساً، وتتعاظم الثروات فلكية الأرقام، لدى اللصوص وتجار المخدرات، وينقلب التراتب الاجتماعي في مصر رأساً على عقب، فيما الطبقة المتوسطة –عماد التقدم والتحديث في كل المجتمعات- قد وصلت في ضنكها الاقتصادي إلى حد التسول، ولا يجد من يروم الفرار منها من مأساته، إلا أن يبيع نفسه بالبخس إلى دول النفط المصدرة للتخلف والإرهاب، وتتحول جيوش الإعلاميين إلى ممارسة دعارة الكلمة. نقول بدلاً من أن يعي النظام الجديد الدرس، ويبدأ في اتخاذ كل ما هو كفيل بتعويم سفينة مصر التي تغرق، وجدناهم يسيرون في ذات الطريق، فقط يحرصون على تأمين البقاء في كراسيهم، وكأن شعاراً غير معلن قاد ساد "كل ما بمصر مباح ومتاح إلا أن تقترب من الحاكم"، وهكذا استمر النهب والتدمير المنظم وغير المنظم، للبنى الاجتماعية والاقتصادية وقبلها السياسية، والأهم من ذلك تضاعفت قدرتنا على إنجاب الإرهابيين والقتلة، وتعاظمت قدراتنا التصديرية في هذا المجال وحدة، وصارت مصر بفضل جماعة الإخوان المسلمين، الأم الحانية عالية الخصوبة لكل درجات وألوان الفكر الظلامي، ولكل فرق القتلة والإنتحاريين وشيوخ الفتاوى التدميرية. توحشت الشللية وعصابات العائلات وأهل الثقة، في إحكام قبضتها على الحياة السياسية والاقتصادية، فكان أن تهرأت وتعفنت الهياكل الاجتماعية والثقافية والتعليمية، والشعب الذي اعتاد الصبر وأدمنه، تطحنه عجلة الحياة، ويكتفي بالتذمر السلبي، ونخبه المفترض أن تسعى جهدها لإنقاظه وإنقاذ البلاد من هاوية لا قرار لها، تتضح معالمها يوماً بعد يوم، انصرفت هذه النخب إما للالتحاق بمعية الحكام، سعياً لرضاهم وفتات موائدهم، أو احترفت معارضة داعرة تستهدف مجرد الشهرة، ولا بأس من دولارات نفطية تصلها من هنا أو هناك، مستعينة بشعارات وأفكار ديماجوجية، تداعب بها عواطف الجماهير المنهكة اليائسة، والفاقدة لكل أمل عدا التلهي بأناشيد الكراهية والعنف التي تبثها جميع وسائل الإعلام الرسمية منها وغير الرسمية، والاستمتاع بأخبار سفك الدماء والذبح القائمة على قدم وساق، في العراق وفلسطين وإسرائيل ومدريد ولندن وشرم الشيخ وطابا، وفي أثناء كل هذا ومن خلاله، تتفشى جماعة الإخوان المسلمين كسرطان لا يترك جزءاً من الجسد إلا ويتسلل إليه، بخلاياه سريعة والانتشار. ليست فقط العوامل الذاتية، المؤدية لتسارع معدلات الانهيار في جميع أركان الحياة المصرية، لكن أيضاً الضغوط العالمية للإصلاح في عالم ما بعد 11 سبتمبر، لكن المشكلة أن الطريق إلى الإصلاح لا بد وأن يكون على حساب كافة القوى الفاعلة والمتحكمة في البلاد، على حساب الحكام الذين تطاردهم في الصحو والنوم خيالات أقفاص الاتهام الجاهزة لهم، إذا ما أفلتت قبضة الحكم من أياديهم الطاهرة وجاء يوم الحساب، وعلى حساب عصابات النهب ومص دماء الاقتصاد المتهالك، أيضاً على حساب الحواريين والمتسلقين والمنتفعين، والذين يحتلون كل وأفضل المناصب بالدولة بلا أي جدارة غير إتقان النفاق والخنوع، وعلى حساب قطعان الإعلاميين من طائفة الهتافين الحنجوريين، الذين تربوا في العهد الناصري، وذاقوا النعمة من عطايا صدام والقذافي وياسر عرفات، ومن كل الجهات المستعدة لإغداق الدفع في سوق نخاسة الكلمة، وأخيراً وهو الأهم، لا بد وأن يكون الإصلاح على حساب قوى التطرف الأصولي، ورأس حربتها جماعة الإخوان المسلمين، ذلك الأخطبوط الذي رأسه في مصر، وأياديه تمتد إلى كافة أنحاء العالم، في الفلبين وأندونيسيا وكشمير والشيشان والعراق وفلسطين ولبنان والبوسنة، ناهيك عن أوروبا وأمريكا. والآن، ورضوخاً وتلاعباً بالضغوط العالمية للإصلاح، تجري مهزلة انتخابات مجلس الشعب المصري 2005 ، فماذا تكون النتيجة وسط كل هذا الفساد والتهتك والدمار في كل مؤسساتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ماذا نتوقع من نتائج لهذه المهزلة، وقد تخلى النظام المرتبك كرهاً عن أساليبه القديمة في التزوير والقبضة الأمنية، لتلجأ جميع الأطراف بلا استثناء إلى سلاحي المال والبلطجة، لتتحول مصر كلها إلى سوق كبير للنخاسة، يبيع فيه الشعب الفقير الجاهل أصواته مقابل بضعة جنيهات أو علبة مسلى أو بطانية تقيه برد شتاء قادم، ويبيع فيه الإخوان المسلمون شعارات دينية غامضة المحتوى ظاهرياً، وتخفي تحتها التعصب والجمود والكراهية والتخلف، وتبيع ما يسمى بقوى المعارضة شعارات وقعقعات حنجورية جوفاء، لو قدر لها حيزاً من الممارسة العملية، لدفعت البلاد إلى هاوية أشد وأنكى من تلك التي يدبر لها الإخوان المتهوسون، وباتساع كل تلك الساحة يلعب البلطجية والمسجلون خطر دور الحافظين لموازين القوى. أمر طبيعي ولا شك، أن تصل بنا الأمور إلى الكارثة التي نغرق وسنغرق أكثر فيها، خيبة ثقيلة وبيلة لما يسمى بالحزب الوطني الديموقراطي، والذي لا وجود له في الشارع المصري، ولو بقدر قلامة ظفر، فهو لا يعدو أن يكون مجرد تسمية لمراكز القوى بالجهاز البيروقراطي العريق للدولة، وخيبة متوقعة لما يسمى جبهة القوى الوطنية، والتي أقصى قدراتها النباح أمام الميكروفونات، استدراراً لعواطف شارع جاهل يفكر بأذنيه، واستجلاباً لبعض الريالات والدراهم والدورلارات التي تفوح منها رائحة النفط أو البعث المقبور، ثم تكون أعظم وأخطر نتائج المهزلة الانتخابية، تلك الوثبة لذئب الإخوان المسلمين، على ظهر المجتمع المصري، وهي الوثبة الأولى، لتعقبها وثبات ووثبات!! والآن ياسادتي قد انزلقت المركبة فعلاً من على حافة الجرف، وهي تأخذ الآن طريقها إلى أسفل، لتتحطم أو تنفجر عند القاع، ستقود جماعة الإخوان المسلمين المركبة – وعلى متنها الشعب وسادتنا الحكام- في طريقها نحو النهاية، تلك النهاية التي وصلتها قبلنا أفغانستان والسودان والعراق، وتقف على أعتابها إيران وسوريا. فهل يفيد دق أجراس الخطر ليستفيق الجميع؟!! هل تجد مصر المحروسة بعض المخلصين، وبعضاً من الشرفاء القادرين على إنقاذها من المصير المرعب؟! هل يستفيق شعبها من سباته الأزلي؟! هل مازال الأمر قابلاً للتدارك، أم أنه قد سبق السيف العذل كما يقولون؟!!
#كمال_غبريال (هاشتاغ)
Kamal_Ghobrial#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفوضى الخلاقة مجرد احتمال
-
كتابة عبر النوعية: حوار لم يتم
-
حنانيك يا د. فيصل القاسم
-
يا لك من متفائل يا صديقي د. شاكر النابلسي
-
الصخرة الأرثوذكسية ورياح التغيير 2
-
الكنيسة والوطن. . إعادة ترتيب الأوراق
-
عقيدة التوحيد ومسيرة الحضارة
-
همسة في أذن الأقباط، وحركة كفاية
-
حاولت أن أدق في جلودكم مسمار
-
الصخرة الأرثوذكسية ورياح التغيير
-
مصر والعرب والعروبة
-
قليل من الوقار يا سادة
-
إلى ما يسمى تيار الإخوان المعتدل
-
الإخوان والحنان الليبرالي اليائس
-
خطوة تكتيكية إلى الخلف
-
رائحة سرور تلك - كتابة عبر النوعية
-
هكذا تكلمت إيزيس
-
عصفور الشرق المغرد في لندن - صنديد العروبة الذي لا يخجل
-
معضلة المرض العقلي
-
السباحة في بحر الظلمات إهداء إلى د. سيد القمني.
المزيد.....
-
الخارجية الروسية: ألمانيا تحاول كتابة التاريخ لصالح الرايخ ا
...
-
مفاجآت روسيا للناتو.. ماذا بعد أوريشنيك؟
-
-نحن على خط النهاية- لكن -الاتفاق لم يكتمل-.. هل تتوصل إسرائ
...
-
روسيا وأوكرانيا: فاينانشيال تايمز.. روسيا تجند يمنيين للقتال
...
-
17 مفقودا في غرق مركب سياحي قبالة سواحل مرسى علم شمالي مصر
-
الاختصارات في الرسائل النصية تثير الشك في صدقها.. فما السبب؟
...
-
إنقاذ 28 فردا والبحث عن 17 مفقودا بعد غرق مركب سياحي مصري
-
الإمارات تعتقل 3 متهمين باغتيال كوغان
-
خامنئي: واشنطن تسعى للسيطرة على المنطقة
-
القاهرة.. معارض فنية في أيام موسكو
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|