مريم نجمه
الحوار المتمدن-العدد: 1397 - 2005 / 12 / 12 - 11:05
المحور:
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
الديمقراطيّة ليست شعارا .. هولندا .. محطّة , تجربة , مواطنة , وتقييم – 2
المحطّة الثانية :
وصلنا بالحافلات الخاصة لمركز إستقبال اللاجئين بعد منتصف الليل .. لمركز ثاني اّخر للإستقبال والإستراحة في مدينة ( ميل Meel ) - للإنتظار هنا , حتى موعد المقابلة الأولى ( الإنترفيو ) .
كان في استقبالنا موظّفو وشرطة المركز – زوّدوا كل شخص منّابشرشف ومنظّفات للجسم والأسنان وغير ذلك , وبرفقة ومساعدة مرشدات , وشرطيّات المركز هناك أشارت كل واحد من القادمين الجدد إلى غرفته وسريره , وتعليمات مواعيد الطعام اليوميّة .
إنتهى يوم السفر الطويل .. المتعدّد المدن والمراكز والتعارف .. المتعدّد المفاجاّت والأحداث والمعلومات والتجارب والتنقّل من مدينة .. إلى أخرى –
وأخيرا ... استلقيت على سريري منهكة , متعبة , من السفر والإستنفار والترقّب من الفجر حتى الواحدة ليلا ...
كانت الغرفة تضمّ – 6 – أسرّة على طابقين
تجربة جديدة عشتها هنا بكلّ أبعادها ودروسها .. وأحزانها
إلتقيت هنا عن قرب .. بالكثير من شعوب العالم الثالث المهاجرة , والمهجّرة , استمعت إلى قصص وماّسي عديدة .
تعاطفنا , تضامنّا .. تاّخينا بهمومنا ومشاكلنا المتشابهة من ( الدول الإشتراكيّة السابقة والإتحاد السوفييتي السابق طبعا – الذي كان يسمّى العالم الأوّل - ) رومانيا – بلغاريا – تشيكيا – روسيا – وغيرها – من الهند وباكستان وإفغانستان, إيران , وأفريقيا , ومعظم الدول العربيّة .. العراق , سورية , مصر , ليبيا , السودان , الخ ...
تولّدت صداقات حميمة .. وخاصة مع إخوتنا السورييّن العرب والأكراد , تركت فيّ ذكريات .. ومشاعر أخويّة .. وأموميّة فيّاضة ( أم لارا ) و ( أم محمّد , وأم قيس , وأم سركون وووو) ...
كنّا نجلس معا .. بعد الفطور , أو الغداء , والسهرات , في الباحات والحدائق المحيطة بمجمّع اللاجئين هذا .. وتأخذنا الأحاديث المرّة والحلوة كأننا نعيش في .. بغداد , وكربلاء , والموصل , والمالكيّة , والقامشلي , أو دمشق .. أو أو
نذهب معا لسوق المدينة القريب من المركز لنشتري بعض الحاجات الخاصة .
تحدّثنا الكثير عن اّلام شعوبنا المتشابهة .. تحت أنظمة الإستبداد والذلّ والطغيان , واحتقار واضطهاد الاّخر الرأي أو القومية.. أو الحزب والإتجاه والمعتقد ... التي جعلتنا مشرّدين كذا ... هنا وهناك ؟؟ !!
أيّام لا تنسى .. عشتها مع جيش اللاجئين المتعدّدي الأجناس واللغاّات والقوميّات والأعراف والألوان .. والثقافات , نتكلّم بالعربي بالإنكليزي بالإشارات بأي شئ .. لننصهر في بوتقة الألم .. والإنسانيّة المعذّبة الواحدة –
نمت مع أختي الصوماليّة والإرترية والكرديّة والعراقيّة والأفريقيّة .
تعرّفت على قضاياهم وهمومهم الخاصة .. إنها مجلّدات .. تمنيّت " غوركي " و " بابلو نيرودا " وهمنغواي " و " نجيب محفوظ " و كتّاب الوطن العربي وغيرهم – معي يسمعوا ويكتبوا ويؤلّفوا الملاحم والقصص .. والروايات العالميّة .. والقصائد .. , في عصر النفط , والإستلاب , والكوارث , والنظام الأمريكي الجديد .. !؟
الفطور يبدأ هنا في هذا المركز .. الساعة 9 – 10 – قدّموا لنا القهوة والشاي مع الحليب , الزبد والأجبان والمرتديلا أو الييض والمربّيات
الغداء من الساعة 2 – 3 – بعد الظهر , كان هناك دائما صحن حساء و وجبة مطبوخة تضمّ نوعين من الطعام , مع الفواكه أو الحلويات . والعشاء الساعة السابعة مساء , سندويش مع أشياء خفيفة .
الكلّ يجتمع في المطعم المخصّص لذلك على طاولات فرديّة , أو جماعيّة – خدمة ذاتيّة مع موظّفات المطعم والمرشدين الذين يشرفون على التوزيع والنظام
شرطة المركز والموظّفون كانوا يتناولون الطعام , من نفس النوعية المقدّمة لنا دون تمييز أو تحيّز .
وكانت الشرطة التي تحافظ على الأمن والحراسة والنظام هنا .. تتحدّث مع هذا الخليط البشري , بكلّ احترام ومحبّة وتواضع كأنهم أسرة واحدة .
أمّا موظّفات المطعم فمعظمهنّ كنّ متطوّعات .. للعمل الخدمي الإنساني المجاني , من نفس المدينة الموجود فيها المركز , هكذا علمنا فيما بعد , ومعظمهن كبيرات في العمر ( أي في مرحلة التقاعد ) –
فكثيرا ما كنت أشاهدهن .. أثناء ذهابي إلى سوق المدينة , وهن خارجات من منازلهنّ بالملابس الأنيقة وهن يقدن سيارتهن
أو أثناء ذهابهن إلى الكنائس ..
كان مسموحا لنا الذهاب إلى خارج المجمّع للتسوّق , أو النزهة في البساتين والغابات والبحيرات القريبة – بعد أخذ الهويّة والإسم عند بوّابة المدخل عند الذهاب والإياب .
أوّل مشوار إستطلاعي لي لهذه المدينة الصغيرة .. كنت لا أصدّق ما أرى أمامي ,
هل أنا في جنّات الله على الأرض .. ؟ أنا في واقع .. أم خيال .. ؟
النظافة .. البيئة .. المزارع .. الحقول .. تنظيم الطرقات الخاصة .. والعامة .. ولراكبي الدرّاجات , كيف يحتفون بنا ويسلّمون علينا كأننا أصدقاء منذ أمد بعيد .. !
أوّل مادة تشريح شاهدتها في جسم " هولندا الزراعي النباتي " . كأوّل بلد في زراعة الورود وتهجينها :
الحدائق المنزلية الرائعة .. من كل صنفف وورد وزهر ونبات وأشجار , كل حديقة تختلف عن الأخرى .. بفن وإبداع دون تقليد أو حواجز ..
لوحة جميلة تستقبلنا .. في أوّل مدخل المدينة وشارعها الرئيسي العريض – أحرف " ميل " مكتوبة بالورد الأحمر -
والطاحونة الكبيرة في الوسط .. رمز هولندا القديم .
وأوّل درس بأخلاق هذا الشعب وتواضعه وطيبته وحبّه للغريب ابتدأت هنا ..
هذه المحطّة رغم قصرها – 12 – يوما بقيت أوّل محطّة رئيسية وهامة في دروس حقوق الإنسان المجسّدة والمعاشة واقعيّا في هذا البلد الجميل
هنا .. في هذا المركز بالذات , قرأت اول صفحة من كتاب حقوق الإنسان
في أحد الأيام .. تعثّرت في سيرها إحدى النساء الأفريقيّات وكانت حامل – فسقطت أرضا ..
بسرعة البرق .. ركضت إحدى الطبيبات والممرّضات والمساعدين الصحييّن ونقلوها للسرير .. عالجوها , وقدّموالها كلّ مايلزم , وبقيت الطبيبة بجانبها ليلا نهارا أسبوعا , لم يتركوها ولا دقيقة , وكانت الطبيبة بنفسها تحمل و ترعى إبنتها الصغيرة وتطعمها وتعتني بها , بكلّ حبّ وتواضع ورعاية واحترام .
كم أثّرت فيّ هذه الحادثة حقيقة .. ونقشت في ذاكرتي أوّل أمثولة .. لمدى إحترام الإنسان في " هولندا "
وكم علّمت الاّخرين وأعطتهم درسا في المعاملة الإنسانيّة التي افتقدوها في بلدانهم الأصليّة .
كم كانوا الأطفال أثناء الطعام مع أمهاتهم يسكبون ويرمون الشاي والطعام والأوساخ على الأرض والموكيت في المطعم أو الصالات الأخرى .. فبمنتهى الهدوء والإبتسامة تأتي العاملة وتنظّف ما أفسد .... !
وفي المغاسل يوميّا .. ترمي هذه الجموع "الفقيرة الغفيرة البعيدة " –ليس ذنبها أنما ذنب حكامها – فراشي الأسنان بعد إستعمالها في المغسلة , وليس في سلّة الأوساخ , ؟؟ !! فالنظام هنا توزّع يوميا هذه الفراشي مع المناشف والشراشف , كغيرها من الإستعمالات والإستهلاك اليومي , ومع ذلك المنظر الغير تمدّني وحضاري , لا يتكلّمون شيئا أو يوبّخون أحد
المركز .. مجهّز بكل ما يلزم للراحة والتسلية ( تلفاز في قاعة الجلوس ) وباحات للرياضة , ومخزن للثياب والألبسة والأحذية " المستعملة " وكلّها تبرّعات من الأهالي والمحلاّت – توزّع على اللاجئين يومين في الأسبوع لمن يحتاج ويقبل بكل حرية ومجانيّة .
في كلّ يوم كان يأتي إلى هذا المركز – الإستقبال والإستراحة - فوجا جديدا من اللاجئين ويذهب اّخر
وبعد مضي 12 – يوما على إستراحتي هنا أتى دوري بمغادرة المكان إلى المقابلة الأولى لأخذ المعلومات كاملة عني .
في المساء قرأت إسمي على لوحة الجدار مع المجموعة التي ربطتني بهم علاقات جميلة ,
غادرنا المركزباكرا .. في الساعة السادسة صباحا , نقلونا إلى مركز ( رايزبرخن ) ثانية , حيث هناك أجنحة كثيرة وكبيرة تحوي عدّة طوابق , يقوم الموظّفون من وزارتي الهجرة والعدل – وجهات ومؤسسّات أخرى باستجواب كل شخص لاجئ على حدة , مع وجود مترجم باللغّة الذي يتكلّم بها اللاجئ , وموظفة تسجل المعلومات على الكمبيوتر , والموظّف الذي يقوم بالأسئلة ,
بقيت هنا أربعة أيام , وفي اليوم الثاني أتى إسمي باللإستجواب والمقابلة .. قادني بيدي بعد التحيّة في قاعة الإنتظار المدير أو الموظّف الذي سيجري معي المقابلة , بعد أن أعطى إسمه , وسار معي بكل إحترام حتى الغرفة المخصّصة في الطابق الثاني .
أخذوا كل المعلومات عني , منذ الولادة حتى اليوم ( عائليّا – دراسيّا – إجتماعيّا – سياسيّا )الخ من الألف حتى الياء .
المقابلة بقيت على يومين مع الإستراحات والغداء , ومن الاّن فصاعدا قد أصبح لديهم ملفّا كاملا و ( إضبارة ) كما نسميها عندنا , ستبقى نسخة عندهم , والنسخة الثانية سيسلّمونني إياها بعد مراحل أخرى في المستقبل
التجربة هنا متعبة .. وخاصة بالنسبة لعمري , إستنفار ونهوض باكرا وانتظار وترقب الإسم في أي لحظة , حتى الرابعة عصرا , جلوسا على الكرسي
الأعداد هنا ليست كبيرة , كانت أقل عددا من مركز الإستراحة , لكن هنا دروسا جديدة ومشاهدا مختلفة بالنسبة للاجئين والمقيمين أيضا , وصداقات جديدة نشأت هنا من أناس وعائلات عربية قادمة من مراكز مختلفة أطفال وأمهات حوامل ومرضى وعجائز .. أسرّة خاصة لهم .. وغرفة صلاة للمتعبّدين ..
هنا تتّسع القائمة .. ويمتدّ القاموس الدرامي المأساوي على مساحة الكوكب الأرضي بالقصص والحكايا والهموم , بالرفض والقبول , بالطرد بتسكير الملفّ , أو العكس
هنا أيضا .. حدثت واقعة أمامي في الباحة داخل المركز , أحد اللاجئين أخذ يتهجّم على الشرطي المراقب ويشتمه وبصوت عال , فورا تبادر إلى ذهني أن قوّة ستأتي وتخفر الشخص المتهجّم على الشرطي كما يحدث في بلادنا .. ؟ !
لا شئ حدث البتّة .. كأن شئ لم يكن .. وانتهت بسلام
هنا أيضا ولدت صداقات .. مع طبيبة المركز , حيث كانت تقيس لي الضغط مساء , كانت في منتهى التواضع واللطف والإنسانيّة ..
في اّخر المطاف .. وبعد الإنتهاء من أخذ المعلومات الشخصيّة مني أتى القبول بالإيجاب " بوسيتيف " .. وكانت المفاجأة السارة لي أنهم اتصّلوا بزوجي الذي سبقني بعام واحد قبلي إلى هولندا , وتكلّمت معه لأوّل مرّة , بعد غياب طويل , وكانت هذه فرحة الختام في هذا المركز
ونحن منطلقين أعادوا لي كلّ الأوراق الثبوتيّة والخاصة والحقائب .. بعدها لم أعد أرى – أم لاراوعائلتها وغيرها وغيرها , فكل مجموعة توزّعت إلى مراكز مختلفة , وبعضها قبل , وبعضها الاّخررفض سيقدّم إعتراضا وبمساعدة محامين من منظّمات إنسانية أخرى
غادرنا المكان برفقة مجموعة جديدة بسيارة - ميكروباص - إلى مركز (بياتريكس , الأوسي ) يسمى باللغة الهولنديّة –وهذا المركز كان مجموعة قصور ملكيّة قديما مع حدائق غنّاء .. .. يتبع
#مريم_نجمه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟