لا يظهر تاريخ المنطقة السمات التي يظهرها تاريخ أوربا ، حيث يظهر تاريخ الشرق كأنه عبارة عن ديكتاتوريات ممتدة، متراصة كتفا لكتف ، أو كسلسلة متواصلة من الديكتاتوريات التي لا تنتهي ، ولا يوجد أي فاصل بينها سوى تلونها أو تمظهرها بأشكال مختلفة من ناحية الكيف لكنها منسجمة من ناحية النوع ، فليس مستغرب والحال كذلك أن تتشابه أنظمة الحكم وعلى امتداد التاريخ على الرغم من اختلاف الدول التي تسود في هذه المنطقة أو تلك , فسمات الحاكم العباسي هي نفس سمات الحاكم الأموي وكذلك إذا تتبعنا السلسلة من الدول التي سادت حتى القرن الحالي ، وكان العملية متوارثة ، وخاصة إذا نظرنا إلى العلاقة التي تربط الحكام من جهة مع الشعوب من جهة أخرى ، أو إذا نظرنا إلى معنى الحاكم لدى الإنسان البسيط ، أو صورة الحاكم في ذهن الإنسان البسيط ، وصورة المواطن في ذهن الحاكم ، أو بعبارة أخرى ما يعكسه وعي الإنسان العادي عن الحاكم وانعكاس صورة المواطن في ذهن الحاكم وما يعنيه المواطن لدى الحاكم ، فكلا الصورتين تأخذان أبعادا مختلفة تحكمه العلاقة بين الحاكم والمحكوم هذه العلاقة التي تمر بين شد وجذب لكنها تحافظ على سمات محددة للحاكم وكذلك للمواطن أو الإنسان العادي ، فالحاكم يستمد مشروعية بقاءه قي الحكم من أسس مترسخة في وعي الإنسان العادي تختزلها كلمة واحدة انه الملائم لنا ولهذه الكلمة عدة مدلولات فهي تفترض بناء شخصي ونفسي معين بحيث لا يلائمه الاهذه النوعية من الحكام أولا وتفترض قصور معين لدى المواطن ونتيجته هذه النوعية من الحكام وكذلك تفترض مسالة أخرى على جانب كبير من الأهمية إلا وهي الإحساس بذنب ما ونتيجته هذه العقوبة التي بموجبها يسود هذا النمط من الحكام، إن هذا الاختزال لمشروعية نمط الحاكم أو نمط الاستبداد السائد تاريخيا في المنطقة يترافق مع افتراض آخر يتأتى من نظرية المنقذ كمعادل موضوعي ، ا وفسحة أمل للإنسان العادي كي يترجى العدالة في يوم ما ، وهو مهما ابتعد فانه قريب، فما الزمن بالشيء المهم تجاه سرمدية الحكام ،أو تجاه نمط الحكم الذي يسود المنطقة ، فمكونات وعي الإنسان العادي ترتبط ارتباط مباشر بهذه النظرية وما التاريخ حسب هذا الوعي إلا عبارة عن صراع دائم بين قوى ميتافيزيقية والحكام والمواطن هو نتيجة عرضية لهذا الصراع ليس له في النهاية إلا الانقياد وراء هاتين القوتين ، فهو في اغلب الأحيان مغيب أو أداة بيد أحدى القوتين لتنفيذ مأربها سواء شاء أم أبى ، سواء انتفض أم استسلم ، أي انه مسلوب الإرادة والقدرة على الفعل الذي يستلزم إخراجه من المحنة الحقيقية التي هو فيها .
أن الوصف بهذه الطريقة يقودنا تدريجيا إلى محاولة استكنا ه أو استكشاف مكونات وعي الإنسان وهي مهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة , حيث تكمن صعوبتها في البعد التاريخي الغائر في القدم لإنسان المنطقة وهو بدوره يتطلب العودة إلى منابع الوعي الأولي وتشكله عبر مرحلة تاريخية موغلة في القدم ، كان فيها للحاكم الدور الفاعل الأول في سيطرة الإنسان على الطبيعة وفي محاولة تطويع قواها وتسخيرها لخدمة الإنسان ، فالحاكم الإله أو ابن الإله لم يكن ابنا له آو اله حقيقي إلا بقدر كونه أداة إلهية تسيطر على فيضان الأنهار مثلا ولا يكون كذلك أن لم يقم بأعمال خارقة في العادة وهو ما فعله كالكامش مثلا عندما بنى أوروك وجاء بإخبار ما قبل الطوفان وقتل الثور السماوي وفي نفس الوقت فان داخل هذه الشخصية الأسطورية يقبع الديكتاتور الذي كان يسير رعيته على صوت الطبل والذي لم يترك فتاة لامها ولا ولد لأبيه بل هو أقدم مثل معروف عن حق الليلة الأولى في العروس . أن هذه الشخصية هي نموذج يمكن الاستفادة منه في تحليل مكونات دورة الحاكم الحديث فليس بالمستغرب كثرة الألقاب التي يحملها الحاكم الفلاني أو محاولات تشبه الكثير من الحكام برموز تاريخية معينة وما ذلك إلا كونهم امتدا فعلي لأولئك ، ولكنهم لا يعنون الآن سوى كونهم ديكتاتوريين ، فكالكامش كان امتداد لمرحلة سبقته كان فيها الحاكم يقدم كقربان للآلهة في المواسم الزراعية لتجديد خصوبة الأرض بعد الحصاد فهو كان أداة يراد منها السيطرة على الطبيعة ، حيث كان موقعه ليس أكثر من كونه قربان وبتطور الحضارة أصبح للحاكم مركز أكثر تقديسا وأصبح يستعاض عنه في تقديم القرابين , وهنا يجب ملاحظة مسالة جدا مهمة ألا وهي قداسة القربان التي تستمد من قداسة الإله نفسه ، فالقربان هو جزء مهم من جسد الإله في الفكر المسيحي , وفي الإسلام يأخذ القربان مديات أوسع ، فقداسة الحاكم ابتدأت منذ كونه قربان ينحر إلى الآلهة لأنه جزء منها وارتبطت تدريجيا بالمنصب الذي يحتله الحاكم في مراحل أحدث , وهي استمرت إذ بان الفترة التي كان الحاكم يمارس قيها الزواج المقدس ، ففي هذه الحالة كان الحاكم يمنح الخصب إلى الطبيعة كما كان يخصب الكاهنة العظمى ، وهو احتفال كان يجرى على أعين الملأ الذي كان يترقب نجاح الاتحاد الذي يجري أمامه اعتقادا منه إن الفشل سيصيبه بالجدب والقحط , فكان الملك أو الحاكم يشكل عامل مهم لبقائه على قيد الحياة وأساس من أسس الرخاء الذي إن فقد تنزل النازلة ويحل الخراب , أن هذه الصورة التي كونها إنسان المنطقة اختزنه اللاوعي الجمعي لشعوب المنطقة , يتجلى هذا بابها صوره باعتبار الملك منصب ألاهي ليس للإنسان دخل في تكوينه وصيرورته في النهاية , فالله هو مالك الملك , والحاكم هو وسيلة الله في أرضه , وهي نفس الصورة مع التشذيب عن افتراض الحاكم ابن الإله أو نصف اله . .
لكن هذه الصورة لا يمكنها الاستمرار عبر العصور لولا التدعيم المتواصل الذي يمدها به أسلوب الإنتاج , وكذلك التدعيم المتواصل من قبل الدين الذي يحافظ على قداسة الحاكم وعلى باعتباره ولي الأمر وصلاح الحال لايتم دون صلاح الحاكم وكذلك يدفع بالإنسان نحو السلبية التي تطبع جوهر أي حركة معارضة ترفع الدين كاديلوجيا , فأي فعل ثوري لا ينجح دون إرادة الله التي في النهاية هي الحاكم وتقرر مصير الحكم مهما كانت الحركة الثورية فاعلة , وأمثلة التاريخ كثيرة فمثلا عندما طلب النفس الزكية مساعدة جعفر الصادق في الثورة ضد أبو جعفر المنصور أجابه الأخير بان الأمر مقدر لا أبا جعفر منذ الأزل والفشل سيحيق بثورة النفس الزكية , ان هذا المثل واضح بما يكفي للدلالة على ما نقصد من ترسيخ صورة الحاكم الذي يحكم بأمر الهي مقدر منذ الأزل وتركيز الدين الدائم على أطاعة أولي الامر وان نجد اختلاف بالتفسير لدى الفرق الإسلامية بالمعنيين بأولي الامر لكن هذا الاختلاف لا يلغي جانب التقدير المسبق للأمر الذي هو مقدر منذ الأزل إلى اتجاه معين في الحكم ، ونرى من خلال السياق السابق تغييب القوى الفاعلة الحقيقية عن القرار فالإنسان العادي مغيب عن تقرير مصيره الذي يتقرر بين فئة الحكام ،والقوى الغيبة التي تضعهم، ويشكل الإنسان العادي مادة تعمل عليها القوتان على الرغم من كونه أداة التغيير التي تتخذها مختلف القوى في صراعها ,فالتركيز على الطبيعة الاداتية للإنسان يضعه في طرف الصراع من جهة ويسلبه الفاعلية التي هو في مساس الحاجة إليها في تقرير مصيره ، وشكل حياته لذا لا نستغرب إذا تحدث الديكتاتور باسم الشعب على اعتباره هو من يمثل الشعب ، مع علمه أن أغلبية الشعب هي لا تطيق سماع كلمة من كلماته ، فالشعب لديه ما هو ألا كم مهمل ليس له في النهاية سوى الرقص على نشازا ته أو البكاء على ضحايا بقاء الديكتاتورية , فالديكتاتورية تشكل صورة ملائم لوعي لا يمتلك حتى القدرة على الخروج من الدائرة التي يرسمها القدر له , ليس معنى الكلام أن الديكتاتورية أبدية لكن نهايتها لا تتم دون التغيير الفعلي ودون استعادة الإنسان لفاعليته التي عملت النظم المستبدة والمتوارثة على إفقادها له .