خاص: الحوار المتمدن
يتسم زمن ماقبل التحول أو ما يعرف بلحظات المخاض أو المنعطف بصرف النظر عن نوع هذا التحول وطبيعته، بصفات خاصة تجعله زمنا خارج الزمن العادي والمألوف، وفي محطات ومنعطفات محددة يكون زمن التحول أو زمن ماقبل ولادة الحدث وكأنه ليس زمنا، بل انه أقرب الى الاعصار، لذلك يظهر زمن التحول بصورة أقدام ثقيلة تسحق قوى ومؤسسات وانظمة قيم وعادات ومرجعيات وتؤسس أخرى أو لا تؤسس شيئا احيانا فتقع المجتمعات في لحظات تيه تاريخي وتبدو الاشياء كما لو انها تتحرك حسب قوى شبحية.
انها لحظة انهيار المعايير وهي لحظة تقع تحديدا بين زمن ماقبل التحول وزمن التحول نفسه، وهذه اللحظة قد تكون حقبة طويلة، أو فترة زمنية محددة أو ساعات .
وموقف المثقف في ساعات المنعطف أو لحظات التحول شبيه الى حد كبير بمحنة طائر البطريق الذي يعيش العاصفة مرتين: مرة قبل أن تهب العاصفة حيث يشعر البطريق بالتشنج وفوضى الحواس والترقب ودبيب العاصفة تحت الجلد وفي الدم، ومرة اخرى حين تهب العاصفة فعلا . اي ان طائر البطريق يعيش العاصفة مرتين: مرة حين كانت هجسا، واخرى حين صارت واقعا.
بمعنى اخر ان طائر البطريق، هذا الكائن النبوئي، الرائي، لم تباغته العاصفة لا حين كانت تتشكل ولا عند الهبوب. وبهذه الطريقة تجنب البطريق حالة المداهمة التي تقلب نظام الاشياء وتخلخل المعايير وتهدم نظام الحواس وتخلق الفوضى.
ان اول ضربة قاصمة توجه في لحظات ماقبل التحول أو المخاض أو المنعطف هي لنظام المعايير أو القيم. فمن المعروف ان المجتمعات تستعمل المعايير لضبط التبادل الاجتماعي بين الافراد في اطار مرجعي أو حسب عالم الاجتماع هنري بيارون، مايمكن ان يتخذ كنمط أو مثال أو قاعدة. المعيار اذن هو سلوك وقانون اجتماعي موروث، ولكنه نابع من القيم التقليدية والدين والثقافة المحلية والاراء العامة عن الحياة والموت والاخلاق وقيم الشرف والوضوح ومفاهيم الحرية والعدالة والجنس ..الخ...
وهذه المعايير تتسم بالثبات والنسبية، اي الثبات المرحلي، والتحول التدريجي البطيء حسب قوانين الحياة. فمثلا ليس من المقبول اجتماعيا في منتصف القرن الماضي وحتى وقت قريب، وفي بعض مدن العراق حتى اليوم، ان تجلس امرأة في مقهى لأن نظام المعايير لا يسمح بذلك، لكنه صار واقعا مألوفا في مدن أخرى هذه الايام.
والمعايير تختلف حتى داخل المدينة الواحدة من وقت لاخر: مثلا لا يمكن لعراقي ان يذهب الى المسجد بثياب السباحة، لكنه يستطيع ذلك عند الذهاب الى النهر. فالمعايير تختلف في المكان الواحد.
وهناك مفاهيم موحدة حول قضايا الشرف والخيانة والحرية والحق والانحراف والظلم.
لكن ماذا يحدث حين تصاب انظمة المعايير بالانهيار كما هو حاصل اليوم في انظمة المعايير العراقية والتشوه القائم في المقاييس؟. ومتى تصاب هذه المعايير بهذه الفوضى؟
تصاب في لحظات الزلازل الاجتماعية والحربية والسياسية والاقتصادية الكبرى وفي ساعات الاعاصير والبراكين، وفي لحظات تاريخية محددة حين يسيطر مكون ديني ما على أذهان شريحة اجتماعية بأنها تعيش في زمن القيامة أو لحظاتهأو زمنا دينيا خاصا.
ان اوضح صورة هذه الايام عن انهيار المعايير في العقل العراقي هي صورة الاختلاف بل التناقضات الحادة على مواقف كان هناك في السابق اتفاق واجماع موحد عليها حسب القيم والمعايير الاجتماعية والدينية والسياسية والاخلاقية.
مثلا، كان الاتفاق عارما ومتماسكا وقويا حول قضية رفض الاحتلال ومقاومة الغزو الاجنبي مهما كانت الاسباب. وكان مجرد الهمس أو التلميح أو الاشارة الى قبول الاحتلال تعد خيانة وطنية واخلاقية ودينية وسياسية وعائلية وعاطفية.
الان، وفي ظل انهيار القيم والمعايير، صارت دعوة المحتل، والترويج له، بل والقيام بدور الدليل والواشي، هي سياسة مفهومة ومقبولة وهناك من يكتب عنها ويدافع عن ( جماليات الاحتلال) حتى ظن البعض ان كل من يرفض الاحتلال هو خائن للوطن!
هكذا انقلبت المعايير ودخلنا في الضباب الاخلاقي والعقلي والنفسي. والضباب العقلي ليس مفهوما سياسيا، بل هو مفهوم دقيق يقره علم تشريح الدماغ وعلوم النفس. والضباب العقلي هو ليس غياب المعايير، بل تداخلها، حسب درونكهايم.
ان تداخل المعايير، واهتزازها بهذه الشدة والعمق، يخلق البنية النفسية والسياسية والعقائدية للحرب الاهلية.
لكن هل من الضروري ان تكون قيم ومعايير ومقاييس المجتمع موحدة تماما؟ اليست هذه رؤية بوليسية؟.
ان معايير المجتمع يجب ان تكون موحدة وثابتة على ثوابت سياسية واجتماعية واخلاقية كأمن الوطن والثروة وحماية الارض والمستقبل ووحدة الارض.
اما المعايير الفردية في الموضة والشراب والزواج والحب والصداقة والسفر والسكن وطراز الحياة وكل الحريات الفردية فهي شأن فردي شرط ألا تتعارض مع المعايير والاعراف الاجتماعية. وحتى هذه تخضع لنظام الثبات النسبي لأنها في تحول دائم وبطيء وسلمي. وتحول المعايير السلمي يخلق جيلا متوازنا منطقيا، اما التحول المفاجيء( انقلابات العراقي المتكررة) فلقد خلقت اجيالا متناحرة، مشوهة، غير واثقة من نفسها، لأن شخصية الانسان لا تستقر على المواعظ مهما كانت جذابة وبراقة، بل على مجموعة قيم مستقرة ومعايير ثابته نسبيا في مرحلة من المراحل.
انهيار المعايير يكون على صور مختلفة لا تكون السياسة الا وجها من وجوهها. مثلا: ان اية فتوى اليوم تصدر من النجف وهي مرجعية دينية شيعية محترمة لا تكون مقبولة في ايران من قبل نفس المراجع الذين عاشوا بل ولدوا في النجف وتخرجوا منها.
ماذا حدث؟ هل تغير الدين؟ هل جاء نبي جديد؟
ابدا. لقد تغيير نظام المعايير حتى في العقيدة الواحدة وفي الرأي الواحد وفي وجهة النظر الواحدة. وهكذا يبدو ان النص الديني قابل للتأويل مثل اي نص آخر، وان القداسة في العقيدة خاضعة هي الاخرى للأهواء والرغبات والمواقف وللتوظيف السياسي ايضا.
ومن طبيعة انهيار القيم والمعايير هي الشمول والعمومية وسيادة ثقافة الحيلة والشطارة وسقوط المرجعيات الكبرى التي تحكم الحياة النفسية للانسان وتضبط ايقاع المجتمع.
ان مفاهيم مثل الشرف والنقد والصدق والوضوح تصبح لا قيمة لها في لحظات المنعطف وماقبل التحول، لأن الثقافة التي تسود هي ثقافة الخوف من التحول، والمنتظر، والمقبل، وينحط الذكاء البشري ويتقلص الى سلوكيات للربح والكسب، وتتلاشى قيمة المثقف وقيم الثقافة الى الحضيض ويهيمن سلوك المقاول والنصاب والتاجر ـ سواء تاجر السياسة أو تاجر الجسد أو تاجر البضاعة ـ وتعم فوضى المعايير، ويصبح كل فرد يحكم من خلال " معاييره الشخصية". والمعايير الشخصية تشرّع لكل انواع الجرائم وتبرر اخس الافعال.
وفي لحظات ماقبل التحول تتلاشى ملكة الحوار والاقناع بين الافراد، وتحل محلها القابلية للايحاء. ان طبيعة الاقناع تقوم على الحوار والدليل والحجة العقلية والمحاكمة المنطقية، لكن الايحاء ينسف كل هذه القيم ويقوم على مبدأ التلقين وغرس الاكاذيب لأن العقل " في اجازة".
يستطيع اي فرد، بصرف النظر عن مواهبه وقيمه ومكانته العلمية، ان يخلق رايا عاما بناء على وشيات وتلفيقات وخزعبلات لأن طبيعة العقل المنهك والمتعب والضبابي والمستقيل والذي سلم نفسه الى الغير كما تسلم ربة بيت علبة صفيح النفط الى بائع عربة جوال ليملأها، هذا العقل المنهار غير قادر على المحاكمة العقلية فيسلم نفسه بكل طواعية حتى لأشد الأكاذيب وضوحا.
وفي مرحلة ماقبل التحول تهيمن نزعة الغموض وتلف المجتمع والافراد، ويصبح بناء على ذلك في امكان اي فرد ان ينسج اسطورة خاصة عن نفسه، في ضوء التشوش وظروف المنافي وغياب الامكنة الاصلية، حتى يبدو ابوذر الغفاري أو جيفارا أو عمار بن ياسر عبارة عن اقزام أمام المناضلين الجدد الذين خرجوا فجأة من فراغ التاريخ وفراغ المعايير وفراغ القيم وفراغ المرجعيات. وفي نفس الوقت ينزوي مناضلون شرفاء في عزلة حماية ووقاية واحتراما للذات، وهذا مايزيد من التباس الصورة.
وتسود في حقبة ماقبل التحول، بناء على ذلك، ثقافة الوشاية، وتظهر قوى ونماذج من الصفوف الخلفية في كل الحقول والانشطة والميادين الى الواجهة، في استغلال شنيع لغياب وتداخل وفوضى المعايير، وتعمل هذه القوى على تخريب ماتبقى من قيم واسس واعراف ويظهر التاريخ وكأنه ثورا صيب بخبل مفاجيء، وكما لو اننا نعيش تحت رحمة زمن الجراد.
ان مقدمات ماقبل الانفجار تبدو واضحة على افضل صورة في الاهتزاز العلني لكل القيم الاخلاقية والسياسية والدينية وفي منطق التبرير الذي يصبح هو عنوان المرحلة.
ان مالا تستطيع ثقافة الوشاية انجازه، تقوم ثقافة التبرير بإكماله، وتبصح أقذر الانحرافات السلوكية مقبولة وممكنة، بل قد تصبح نموذجا للاخلاق الجديدة، وعنوانا للتطور والحداثة.
اذا كانت مابعد الحداثة تقوم على نهاية السرديات الكبرى، وموت مفاهيم فلسفية عن الحياة، فإن حداثتنا القائمة اليوم في هذه اللحظات العاصفة والمملوءة بكل انواع الاحتمالات، هي حداثة التخلف وموت المعايير وفوضى الادوار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القسم الثاني: محنة البطريق . فوضى الادوار