زياد عبد الفتاح الاسدي
الحوار المتمدن-العدد: 5190 - 2016 / 6 / 11 - 01:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم يشهد التاريخ المعاصر أزمة سياسية في غاية التعقيد على المستوى الداخلي والاقليمي والدولي وصراعاً مسلحاً في شدة العنف والتدمير والدموية كما شهدته الازمة السورية . وهي بلا شك أزمة فريدة من نوعها ليس فقط من حيث التعقيد والتشابك أو حدة العنف والقتل والدمار , بل أيضا بما تحويه من كثرة الاطراف الداخلية والاقليمية والدولية الفاعلة في الصراع الدائر وكثرة التنوع والتداخل في العوامل الطبقية والطائفية والعرقية والثقافية الموثرة في هذا الصراع . فالازمة السورية هي بامتياز عقدة الازمات والانقسامات والتشوهات في المجتمعات المشرقية والعربية والاسلامية , كما أنها تمثل بؤرة التوتر والانقسام والتآمر في المجتمع الدولي بكل صراعاته وتحالفاته وأزماته السياسية والاقتصادية وبكل أشكاله العنصرية وأبعاده الثقافية والحضارية . والمتتبع لمسارهذه الازمة في مختلف ظواهرها وافرازاتها ومن يتمعن في عمقها وخلفياتها وأسبابها التحريضية على كافة المستويات منذ بداياتها لن يجد في هذا الكلام ما يدعو للمبالغة . ونظراً لضيق المساحة المتاحة فسوف نتطرق في جزئين أو أكثر من هذا المقال وباختصار شديد للخلفيات التاريخية للتعدد المذهبي والعرقي في سوريا وللمراحل السياسية التي مرت بها سوريا منذ الاستقلال وحتى فترة الوحدة بين مصر وسوريا ودور الغرب في تلك الفترة, وسنتطرق بعد ذلك لمختلف أبعاد الصراع وآفاق الحلول للازمة السورية الحالية.
تشمل سوريا في كيانها السياسي وامتدادها الجغرافي بالاضافة للاكثرية العربية وما يزيد عن نصف مليون لاجئ من الفلسطينيين العرب , العديد من الاقليات العرقية والقومية من المجتمعات المشرقية الشقيقة مثل الاكراد والارمن والآشوريين والكلدان والسريان والاتراك والتركمان والشيشان والداغستان والشركس....الخ. وتنتمي هذه الاقليات بما في ذلك الاكثرية العربية الى العديد من المذاهب والطوائف الاسلامية والمسيحية المختلفة . ومن الطوائف الاسلامية الرئيسية هنالك الطائفة السنية والطائفة العلوية والدرزية والاسماعيلية والشيعية ...الخ . أما بالنسبة للطوائف المسيحية الرئيسية في سوريا فهنالك طوائف الروم الارثوذوكس والسريان الارثوذوكس والروم الكاثوليك اضافة الى طوائف مسيحية أخرى مثل اللاتين والبروتستانت والموارنة والسريان الكاثوليك....الخ وتتميز سوريا ولا سيما مدينتي دمشق وحلب في كونها تحوي على العديد من الابرشيات والمقرات لكنائس رئيسية في المشرق, كبطريركية أنطاكيا وسائر المشرق للروم الارثوذوكس وبطريركية أنطاكيا والمشرق للسريان الارثوذوكس, إضافة الى بطريركية المشرق والقدس للروم الكاثوليك. والمسيحيون في سوريا كما هو حال المسلمين ينتمون في غالبيتهم الى القومية العربية , بل يعودون في جذورهم العربية الى ما قبل الاسلام . كما أن بعض الطوائف المسيحية في سوريا من القوميات المشرقية الغير العربية تتكلم في أغلبيتها اللغة العربية اضافة الى لغاتها الاصلية, وهذا يشمل الأرمن والآشوريين والكلدان والسريان . وفي بلدة معلولا وبعض مناطق القلمون لا يزال السكان من المسلمين والمسيحيين يتكلمون الى جانب اللغة العربية اللغة الآرامية الى يومنا هذا وهي لغة السيد المسيح وتعتبر من أقدم اللغات السامية المشرقية التي انتشرت في شرق حوض البحر الابيض المتوسط .
وقد شهدت سوريا مع أواخر القرن التاسع عشر وخلال الحرب العالمية الاولى العديد من الهجرات لبعض الاقليات القومية المشرقية ولاسيما من بعض مناطق روسيا وأرمينيا والقوقاز وجنوب شرق تركيا وشمال غرب إيران , وقد شملت هذه الهجرات الارمن والشركس والشيشان والداغستان والآشوريين والكلدان والسريان . ونتجت هذه الهجرات بشكل رئيسي بسبب الاضطهاد العرقي والديني والذي وصل في بعض الاحيان الى درجة المذابح والتصفية العرقية كالتي تعرض لها الارمن والآشوريون والكلدان والسريان على يد الدولة العثمانية , سواء من قبل الجيش العثماني أو بعض الجماعات الكردية المسلحة المنضوية تحت لوائه . ومع انتهاء الحرب العالمية الاولى وانهيار الحكم العثماني سيطر المستعمرون البريطانيون والفرنسيون على المشرق العربي بما في ذلك سوريا والهلال الخصيب بمساعدة ما يُسمى بالثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين بن علي . وهنا خضع المشرق العربي لعملية تقسيمٍ عشوائي من قبل الفرنسيين والبريطانيين (بعد خداعهم للشريف حسين ونكثهم بوعودهم له) , وذلك وفق ما يُعرف باتفاقية سايكس بيكو . وبدأت في فلسطين وبرعاية بريطانية أقذر عملية تهجير وتشريد واغتصاب في التاريخ الحديث. حيث تم تهجير أعداد هائلة من اليهود الاوروبيين لتوطينهم في فلسطين . وفي عام 1948 قامت العصابات الصهيونية بتشريد عرب فلسطين وارتكاب مجازر بحقهم بعد اغتصاب أراضيهم تنفيذاً لما يُعرف بوعد بلفور في اقامة دولة لليهود في فلسطين . ودون الدخول في تفاصيل هذا التاريخ المشؤوم , فقد تأثرت سوريا كدولة وشعب وبشدة من اغتصاب فلسطين ليس فقط لكونها أرض عربية , بل لأنها جزء لا يتجزأ من سوريا ما قبل سايكس بيكو, ولأن فلسطين كما هي لبنان تُمثل في الوجدان السوري امتداداً طبيعياً لسوريا من حيث التاريخ والجغرافيا والنسيج الاجتماعي والثقافي والطوائف الدينية والتقاليد والمأكولات والفولكلور الشعبي كاللباس التقليدي والاغاني والرقصات والدبكة....الخ.
وبناءاً على ما تقدم يمكننا القول أن سوريا كدولة وشعب قد ورثت في المنطقة ليس فقط القسم الاكبر من الأعباء القومية ومن ثقل القضية الفلسطينية , بل أيضاً مسؤوليات انسانية وثقافية وحضارية لا يُستهان بها تتمثل في حماية ورعاية واحتواء القوميات المشرقية والتعددية الدينية والمذهبية في سوريا وصهرها في البوتقة السورية في اطار من المحبة والعدالة والمساواة والتمسك بعلمانية الدولة وشعار الوطن للجميع. وبسبب هذه الاعباء والمسؤوليات الجسيمة والهامة, تعرضت سوريا كشعب ودولة وأحزاب قومية ووطنية وقيادات سياسية متتالية ومنذ الاستقلال الى تحديات خطيرة ومؤامرات متواصلة من قبل الدول الاستعمارية وقوى العمالة والرجعية العربية بهدف إضعافها وتحجيم دورها القومي في الصراع العربي الاسرائيلي من خلال زعزعة الاستقرار الداخلي فيها سواء ببعض الانقلابات العسكرية المدعومة من الخارج أو بزرع الفتن والصراعات المذهبية والطائفية والتي بدأها الاحتلال الفرنسي في سوريا ولبنان , وبينما فشلت سلطات الاحتلال الفرنسي في إضعاف التوجه القومي وزرع الطائفية السياسية في سوريا فقد تمكنت من ذلك بنجاح في لبنان. وكان الغرب قد حاول جاهداً من خلال مؤامراته أن يُلحق سوريا بركب الدول العربية الرجعية الدائرة في فلك الغرب الاستعماري والخاضعة لمشيئته من خلال محاور الصراع والتجاذب التقليدية في المنطقة . ففي أذار عام 1949 وبعد استقلال سورية بدأت أولى محاولات الغرب لزعزعة الاستقرار الداخلي والتوجه الوطني لقيادة الرئيس شكري القوتلي من خلال الانقلاب العسكري الذي قاده حسني الزعيم . حيث ظهرت عندها أن أصابع الغرب والولايات المتحدة كانت بوضوح خلف هذا الانقلاب , فقد قام حسني الزعيم بعد شهور قليلة من انقلابه بتكليف رئيس وزرائه محسن البرازي باجراء محادثات سرية مع رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك في محاولة لعقد معاهدة سلام مع اسرائيل . كما تم تكليف البرازي بعقد اتفاق بين حسني الزعيم ورئيس وزراء لبنان رياض الصلح , كان من نتائجه تسليم الامين العام للحزب السوري القومي الاجتماعي ومؤسس الحزب أنطوان سعادة الى السلطات اللبنانية ليتم بعدها إعدامه مباشرة بعد محاكمة شكلية في تموز عام 1949 . وهنالك أمثلة عديدة على تآمر الغرب وتدخله في الشأن السوري في المرحلة الممتدة بين الاستقلال ومطلع الستينات لامجال لذكرها بالتفصيل وكان من أهمها الانقلاب الانفصالي الذي قاده عبد الكريم النحلاوي ومأمون الكزبري عام 1961 والذي أنهى الوحدة التاريخية بين سوريا ومصر بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر . وهي وحدة لاقت في سوريا دعماً وتأييداً كبيراً من التيارين القوميين الكبيرين البعثي والناصري. وكان حزب البعث العربي الاشتراكي في طليعة الأحزاب التي بايعت الوحدة السورية مع مصر وجندت تنظيم الحزب في الداخل السوري لانجاحها الى درجة أن الحزب قام بحل تنظيمه بشكل طوعي خلال فترة الوحدة استجابة لمطلب الرئيس جمال عبد الناصر بحل الاحزاب, وذلك رغم الخلافات الفكرية والسياسية بين البعثيين والناصريين في معالجة القضايا القومية والمصيرية. ولكن الانقلاب الانفصالي الذي قاده عبد الكريم النحلاوي سرعان ما تمت الاطاحة به لاعادة النهج القومي والوحدوي لسوريا وذلك بحركة انقلابية قادها البعثيون والناصريون في الجيش السوري في مارس آذار عام 1963 . وهنا سيطر البعثيون على السلطة بعد الانقلاب بدعم من اللجنة العسكرية للحزب باعتبارهم الاقوى في صفوف الجيش من حيث الانتشار والتنظيم السياسي . وقد غلب الطابع المدني على القيادة السياسية للسلطة البعثية , فاستلم صلاح الدين بيطار رئاسة الوزراء وأمين الحافظ رئاسة الجمهورية بينما احتفظ ميشيل عفلق بمنصب الامين العام للحزب . وبقي الحال على ذلك حتى انقلاب 23 شباط عام 1966 عندما تمكن اليسار الراديكالي في الجيش من أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث بقيادة اللواء صلاح جديد والعقيد عبد الكريم الجندي والرائد سليم حاطوم وغيرهم من الاطاحة بسلطة القيادة القومية بزعامة أمين الحافظ وصلاح البيطار وميشيل عفلق . وكان الحزب قد شهد صراعاً غير معلن لما يزيد عن عامين بين ما أعتبره قادة الانقلاب " اليمين " في القيادة القومية وبين اليسار من العسكريين في القيادة القطرية . وقد لعب الرئيس الراحل حافظ الاسد ( دوراً عسكرياً هاماً في نجاح حركة 23 شباط (وكان عندها قائداً لسلاح الطيران) من خلال وقوفه الى جانب الانقلاب اليساري بزعامة اللواء صلاح جديد .
لم يكن الفريق أمين الحافظ على علم بأن حافظ الاسد كان على تنسيق كامل وجزء رئيسي من التكتل العسكري للحزب (اللجنة العسكرية) بزعامة اللواء صلاح جديد الذي كان يسعى للاطاحة بسلطة القيادة القومية , واعتقد أمين الحافظ حينها أن اللواء حافظ الاسد المُمْسِك بسلاح الطيران والمُقرب منه سيُفشل أي محاولة انقلابية قد يقودها اللواء صلاح جديد .
ومع نجاح حركة 23 شباط بدى واضحاً أن السلطة السياسية والعسكرية الجديدة للحزب بقيادة صلاح جديد كانت أكثر تشدداً وتطرفاً نحو اليسار القومي . حيث أكد اللواء صلاح جديد بعد الانقلاب أن الحزب سيتعاون بلا تردد مع الاحزاب والانظمة التقدمية العربية وفي مقدمتها النظام المصري بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر للوقوف في وجه الانظمة والقوى اليمينية والرجعية . وبذلك لقي انقلاب 23 شباط تأييداً وترحيباً من الرئيس المصري الراحل خصوصاً وأن العلاقة بين عبد الناصر والقيادة البعثية السابقة كانت تشوبها أجواء من الكراهية وعدم الثقة لاسيما بعد فشل الانقلاب الناصري الذي قاده العقيد جاسم علوان في 18 تموز 1963 بعد أشهر قليلة من انقلاب 8 آذار والذي كان يهدف للاطاحة بنفوذ حزب البعث الذي سيطر على الجيش وحجم النفوذ الناصري والانقلاب على سلطة الفريق لؤي الاتاسي الذي قام بعد انقلاب 8 آذار بإبعاد عدد من الضباط الناصريين من الجيش حال استلامه لقيادة الجيش ورئاسة الجمهورية, رغم أنه كان محسوباً على الناصريين والوحدويين . وبعد فشل انقلاب 18 تموز قام الفريق أمين الحافظ وبحكم موقعه في الجيش ووزارة الداخلية بحملة قمعية واسعة ضد الضباط الناصريين أدت الى اعدام واعتقال العديد منهم , وانتهت هذه الحملة باستقالة (أو عزل) الفريق لؤي الاتاسي الذي اعترض على اجراءات القمع الشديدة , ليتسلم بعدها أمين الحافظ منصب رئيس الجمهورية والقائد الاعلى للجيش والامين القطري لحزب البعث . وقد جاءت بعد ذلك حركة 23 شباط عام 1966 بزعامة اللواء صلاح جديد واللجنة العسكرية , لتحسم الصراع الغير معلن وعلى مدى عامين مع الفريق أمين الحافظ والقيادات التي ساهمت بتأسيس حزب البعث (ميشيل عفلق وصلاح البيطار), ولتُساهم في تحويل آيديولوجية الحزب نحو اليسار القومي الراديكالي ولتُعيد المياه الى مجاريها الى حدٍ ما مع الحليف القومي في مصر الناصرية .
وبعد حركة 23 شباط توطدت العلاقة بين الرئيس الراحل حافظ الاسد واللواء صلاح جديد . فقد تخلى صلاح جديد عن قيادة الجيش والاركان لادارة حليفه في الحزب والجيش حافظ الاسد بعد أن تم تعيينه وزيراً للدفاع , ولكي يتفرغ صلاح جديد بدوره للعمل السياسي والحزبي على الصعيدين القطري والقومي بعد استلامه لمنصب الامين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي . بينما استلم المناصب السياسية البارزة في الدولة مجموعة من الاطباء البعثيين الذين تطوعوا سابقاً في صفوف جبهة التحرير الجزائرية أثناء حرب التحرير , وهم نور الدين الاتاسي الذي تسلم منصب رئيس الدولة والامين القطري للحزب, ويوسف زعين الذي تسلم رئاسة الوزراء, وابراهيم ماخوس في منصب وزير الخارجية ..... وبدا الانسجام السياسي واضحاً في القيادة الجديدة بزعامة صلاح جديد, ولم تظهر الى السطح أية خلافات واضحة بين مختلف أطراف القيادة السياسية والحزبية والعسكرية . وبقي الحال على ذلك حتى اندلاع حرب حزيران عام 1967 حين انتقد صلاح جديد أداء وزير الدفاع حافظ الاسد خلال الحرب ولا سيما في سرعة سقوط القنيطرة والجولان بيد القوات الاسرائيلية بعد الانسحاب العسكري للجيش السوري من مواقعه في الجبهة تحت قيادة العميد أحمد المير . وقد بررعندها وزير الدفاع حافظ الاسد وقيادة الجيش عملية الانسحاب الى التفوق العسكري الواضح للجيش الاسرائيلي والذي ترافق مع ضغط عسكري هائل على الجبهة السورية لاسيما بعد الانهيار السريع للجبهة المصرية اثر الضربة المدمرة والمفاجئة لسلاح الطيران المصري على الارض من قبل سلاح الجو الاسرائيلي . فكان انسحاب الجيش السوري الى مواقع خلفية من وجهة نظر القيادة العسكرية يهدف الى تجنيب الجيش هزيمة عسكرية مؤكدة في مواجهة الاجتياح الاسرائيلي للجبهة التي ستُؤدي حكماً الى خسائر هائلة في الجنود والآليات والمدرعات ووحدات المدفعية وتدمير القدرات العسكرية للجيش السوري لا سيما مع تركيز العدو على الجبهة السورية بعد انهيار الجبهة المصرية بعد أن دفع العدو بكل قدراته العسكرية لمهاجمة الجبهة السورية .
ولكن الخلاف تعمق بعد ذلك بين وزير الدفاع حافظ الاسد والقيادة الحزبية والسياسية بقيادة صلاح جديد ذو الميول اليسارية على قضايا عديدة تتعلق باستراتيجية الصراع مع العدو الصهيوني والاقتصاد والتنمية وبناء الدولة الاشتراكية وامكانية فتح قنوات للحوار مع حزب البعث في العراق والتي اقترحها حافظ الاسد لتحقيق الوحدة والتعاون العربي في مواجهة اسرائيل عسكرياً . وقد تفاقمت الخلافات بينهما ما قبل وخلال المؤتمر القطري الرابع للحزب الذي عقد عام 1968 واستمرت الخلافات الشديدة حتى انعقاد المؤتمر القطري الرابع الاستثنائي في آذار 1969 . ومع اندلاع القتال المسلح بين الجيش الاردني والمقاومة الفلسطينية في أيلول عام 1970 أخذ الخلاف بينهما بعداً خطيراً عندما رفض حافظ الاسد كوزيرٍ للدفاع إقحام سلاح الجو السوري في القتال الدائر بين الطرفين , بعد أن قام صلاح جديد بارسال وحدات من الجيش السوري والمقاتلين الفلسطينيين لدعم قوات المقومة الفلسطينية في مواجهة الجيش الاردني وطلب من وزير الدفاع ورئيس الاركان مساندة سلاح الطيران لانجاح هذه المهمة بعدما تدخل الطيران الاردني . وهذا ما أدى بنظر القيادة الحزبية الى إفشال خطة الحسم العسكري لمصلحة المقاومة الفلسطينية التي وضعها كل من صلاح جديد ونور الدين الاتاسي وتعريض وحدات الجيش السوري الى خسائر فادحة . وبعد انتهاء القتال وتنفيذ بنود اتفاقية القاهرة-عمان برعاية الرئيس جمال عبد الناصر قام صلاح جديد بدعوة القيادة القطرية للحزب الى اجتماع طارئ في أواخر تشرين الاول 1970 لاقالة الاسد ورئيس الاركان مصطفى طلاس . ولكن حافظ لاسد تمكن من خلال نفوذه في الجيش والمخابرات العسكرية وسلاح الطيران وبمساندة الفرق العسكرية الموالية له من حسم الصراع القائم لمصلحته بسهولة بما يُعرف بالحركة التصحيحية . فقام بالانقلاب على القيادة الحزبية لصلاح جديد وعلى السلطة السياسية بقيادة رئيس الدولة والامين القطري للحزب نور الدين الاتاسي وجرى إعتقالهم بالاضافة الى يوسف زعين وتم وضعهم جميعاً في السجن , بينما تمكن وزير الخارجية ابراهيم ماخوس من مغادرة البلاد واللجوء السياسي في الجزائر.
ودخلت سوريا بعد الحركة الانقلابية التي قادها الرئيس الراحل حافظ الاسد في تشرين الثاني 1970 مرحلة طويلة من التوازن والاستقرار الداخلي على مستوى السلطة السياسية والعسكرية والحزبية بقيادة الرئيس حافظ الاسد الذي حكم البلاد بقبضة حديدية , بعد أن اتسمت المرحلة السابقة التي استمرت لما يزيد عن عقدين من الزمان بالانقلابات العسكرية والعديد من الصراعات والتكتلات الحزبية والعقائدية داخل المؤسسة العسكرية ,التي شملت بشكل رئيسي الاحزاب والتيارات السياسية القومية الكبرى كحزب البعث العربي الاشتراكي والحزب السوري القومي الاجتماعي والتيار القومي الناصري والاحزاب التي انبثقت لاحقاً من حركة القوميين العرب والناصريين وحزب البعث العربي الاشتراكي كحزب الوحدويين الاشتراكيين وحركة الاشتراكيين العرب...الخ ..... حيث إتسمت أو ترافقت هذه الصراعات والتكتلات داخل الجيش في بعض الاحيان وتحديداً بعد انقلاب 8 آذار1963 ليس فقط بالطابع الحزبي والسياسي والعقائدي بل أيضاً بالعوامل العائلية والعشائرية والمناطقية أوالقروية والتي هي جزء من ثقافة وسلوك المجتمعات الريفية , خاصة وأن جزءاً هاماً من ضباط أركان الجيش السوري كانوا ينتمون في تلك الفترة الى مناطق الارياف والساحل السوري نتيجة انخراطهم بأعداد كبيرة في تلك الفترة في الاكاديميات العسكرية. ولكن الملاحظ أن هذه التكتلات قد فُهِمت من قبل البعض آنذاك على نحوٍ خاطئ . فبدت لهم وكأنها تكتلات ذات خلفيات طائفية رغم أن الانتماء القومي والعقائدي في تلك الفترة كان أقوى بكثير من الانتماء الديني أو المذهبي . وقد لعبت بعض القيادات المشبوهة في الجيش المُرتبطة بالقوى الاستعمارية والرجعية والمُعادية للوحدة والقومية العربية (ولا سيما بعد سقوط حكم الانفصال في آذار 1963) دوراً لا يُستهان في اشاعة المشاعر والهواجس الطائفية بين ضباط الجيش . فبدأت تظهر للاسف وتحت السطح البوادر والبذور الاولى لهذه الهواجس الطائفية بين قيادات المؤسسة العسكرية بما في ذلك الضباط ذوي الانتماء الوطني والتقدمي رغم عدم قناعتهم المطلقة بها . وقد ساعد وجود التقسيم السياسي الطائفي في الجوار اللبناني دورا اضافياً في انتقال عدوى الطائفية السياسية تدريجياً الى الشقيقة السورية الكبرى رغم استحالة تطبيقها في سوريا. ولكنها تركت بالتأكيد بصماتها السلبية على المجتمع والمؤسسة العسكرية وهواجس الحياة السياسية في سوريا . وقد ساعد في ظهور البوادر الاولى للطائفية في الجيش وجود نسبة عالية من كبار الضباط في قيادة ألاركان الذين ينتمون الى ريف اللاذقية ومناطق الساحل السوري أبان حكم الرئيس الراحل حافظ الاسد . وهذا ما ساعد على ازدياد الهواجس والمشاعر الطائفية بين بقية الضباط في المؤسسة العسكرية وبين فئات المجتمع السوري التي لا تنتمي الى تلك المناطق أو الارياف . ويعود السبب في ذلك كما ذكرنا سابقاً الى انخراط أعداد كبيرة من أبناء تلك المناطق الفقيرة ولاسباب اقتصادية وطبقية في الكليات الحربية في فترة الخمسينات والستينات, بحيث أصبح هؤلاء في فترة السبعينات من كبار الضباط في الجيش ويسيطرون على معظم المناصب العسكرية في قيادة أركان الجيش السوري .
ومن جهة أخرى فقد تسببت بعض التطورات الداخلية واللبنانية التي حدثت خلال فترة السبعينات في التصعيد الطائفي بشكل واضح لدى شرائح واسعة من المجتمع السوري . ومن أهم هذه التطورات اندلاع الحرب الاهلية اللبنانية الطويلة بأبعادها الطائفية الخطيرة عام 1975 ودخول الجيش السوري الى لبنان عام 1976 لوقف القتال بين أطراف الصراع . وقد ترافقت الحرب الاهلية اللبنانية في الفترة بين 1978 و1982 مع تصاعد عمليات التفجير التي نفذتها حركة الاخوان المسلمين في سوريا في المناطق العامة ومحطات النقل بين المحافظات التي ذهب ضحيتها مئات المواطنين, إضافة لاغتيال العديد من الشخصيات الحكومية والعلمية والطبية والجامعية والدينية البارزة . كما تم تفجير مدرسة المدفعية في حلب التي ذهب ضحيتها ما يقارب المئة من طلاب مدرسة المدفعية . كما قامت جماعة الاخوان المسلمين في تشرين الثاني 1981 بتفجير في حي الازبكية بدمشق كان الاعنف والاكثر دموية وإجراماً في تاريخ المنطقة وذهب ضحيته ما يقرب من 200 شهيد معظمهم من المدنيين . وقد إستمرت المواجهة بين الدولة والاخوان المسلمين الذين جعلوا من مدينة حماة مركزاً رئيسياً للعمليات والعصيان المسلح , الى أن انتهت هذه المواجهة في شباط 1982 بعد حملة عسكرية دموية تعرضت لها مدينة حماة من قبل سرايا الدفاع والقوات الخاصة بمشاركة المدفعية والدبابات, وقادها العقيد رفعت الاسد والتي راح ضحيتها الآلاف من المواطنين العزل والابرياء نتيجة للقمع العسكري المفرط الذي قام به رفعت الاسد بحق المواطنين الذين لا علاقة لهم بالاخوان المسلمين . ورغم مُضي ما يقرب من ثلاثين عاماً على أحداث حماة الكارثية وما سبقها من تفجيرات واغتيالات وأحداث دموية واجرامية من قبل جماعة الاخوان المسلمين , فقد تركت تلك الاحداث أثراً بالغاً وشرخاً طائفياً لا يُستهان به بين شرائح المجتمع السوري وما زالت تُلقي بظلالها الطائفية على سوريا الى يومنا هذا . وما تعرض له المواطنون في حماة من غير الاخوان المسلمين من قمعٍ وقتلٍ وتنكيل من قبل العقيد رفعت الاسد لم يكن سوى جزءاً من سجله الحافل بالممارسات المسيئة للمجتمع والسلوك العسكري الغير منضبط . ففي عام 1981 دفع العقيد رفعت بأعداد كبيرة من الشبيبة المظليين التي كانت تحت اشرافه الى الشوارع والاسواق والمرافق العامة في مدينة دمشق لاجبار النساء المحجبات على نزع الحجاب باستخدام العنف والتهديد بالسلاح , مما أدى الى موجة من الغضب العارم بين أوساط المواطنين دفعت بالرئيس الراحل حافظ الاسد الى التدخل لوضع حدٍ لهذه الممارسات المُسيئة للمشاعر الدينية والمُسببة للكراهية والتوتر الطائفي . وتصاعدت في تلك السنوات الخلافات بين الرئيس الاسد وشقيقه رفعت مع ازداد غضب واستياء الرئيس من سلوك وممارسات رفعت الاسد , ولا سيما بعد الحملة العسكرية ضد الاخوان المسلمين في مدينة حماة وتماديه في استخدام القوة العسكرية المُفرطة بلا ضوابط أخلاقية وانسانية . وشعر الرئيس حافظ الاسد في تلك الفترة أن النفوذ العسكري لشقيقه رفعت وطموحه للاضطهاد والسلطة قد خرج عن نطاق السيطرة , الى أن وصلت الامور بينهما الى حدٍ دفع بالعقيد رفعت الاسد للتآمرعلى شقيقه الراحل بهدف إعتقاله وإزاحته عن السلطة, معتمداً على وحدات سرايا الدفاع التابعة له والمرابطة حول مدينة دمشق وذلك في محاولة انقلابية فاشلة عام 1984 , حيث تم بعدها تجريد رفعت الاسد من كافة مناصبه الامنية والعسكرية , ثم ابعاده الى خارج البلاد .......... يُتبع في الجزء الثاني
#زياد_عبد_الفتاح_الاسدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟