|
ذكريات مع توفيق الحكيم
نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)
الحوار المتمدن-العدد: 5187 - 2016 / 6 / 8 - 01:20
المحور:
سيرة ذاتية
تعود ذاكرتى للوراء أربعين عاما وأكثر، كنت عضوا بلجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب (أصبح المجلس الأعلى للثقافة)، كان رئيس اللجنة توفيق الحكيم، ومن أعضائها نجيب محفوظ ويوسف إدريس وثروت أباظة ولطيفة الزيات ويوسف الشارونى وغيرهم. دار الحوار ذلك الصباح، حول رواية أولاد حارتنا، وكان نجيب محفوظ قد نشرها وأثارت جدلا مهما، كان يوما شتويا باردا ممطرا، فاختفى بعض الأعضاء والعضوات فى البيوت تحت البطاطين، إلا توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وكنت أحب الخروج فى البرد تحت المطر، وأعرف أن توفيق الحكيم لن يغيب عن الاجتماع، لأى سبب كان. وبدأ توفيق الحكيم بسؤال مشاكس كعادته من نوع: يا ترى الإله مع الاشتراكية أو الرأسمالية؟ ورحنا نخوض فى مياه السياسة العميقة الخطيرة والتاريخ والدين والطب والأدب والفلسفة، وكان نجيب محفوظ يستمع باهتمام شديد، ونوع من الوجل، والتردد بين الصمت والكلام. وأنا أرد على توفيق الحكيم بنوع أسئلته فأقول: إذا كان الإله روحا بلا جسد فلماذا تخاطبه بصيغة المذكر؟ ويرد توفيق الحكيم: لأن اللغات ذكورية بما فيها لغتنا. ثم دار النقاش حول رواية أولاد حارتنا، بدأه توفيق الحكيم قائلا: هذه رواية رمزية تكشف الحجاب عن الصراع حول الأرض والسلطة منذ بداية التاريخ بين الإله الحاكم الدكتاتور وأبنائه وأحفاده، البطل الرئيسى الجبلاوى، يرمز للرب الجبار أو الأب الطاغى، يصدر أوامره الظالمة دون نقاش، مثل الأمر بتعيين ابنه أدهم (يرمز الى آدم) خليفة له، ويطيعه كل أبنائه إلا أكبرهم إدريس (يرمز الى إبليس) الذى يرفض الظلم ويصارع حتى يتم طرد أخيه آدهم من الحديقة (أو الجنة)، ودأب الأب الطاغى على إشعال الحرب بين أبنائه وأحفاده، على غرار فرق تسد، حتى أقدم قابيل (قدرى فى الرواية) على قتل أخيه هابيل (أو همام فى الرواية) وينتشر الظلم والقتل بسبب دكتاتورية الجبلاوى وتآمره، والذى لا يجرؤ أحد على اتهامه بالظلم أو التآمر، ويخضع له الجميع صاغرين باعتباره معصوما من الخطأ، وحين تغرق الأرض بالدماء يرسل الجبلاوى بعض رجاله للتوفيق بين الناس وهدايتهم الى السلام والخير، وعدم وقوعهم تحت غواية إدريس (إبليس)، الذى أصبح يتحمل وحده مسئولية الشر "آلا يحدث ذلك عندنا، نحن عبيد الحاكم الإله الدكتاتور، وليس عندنا إبليس واحد، بل كثير من الأبالسة؟ يتساءل توفيق الحكيم ضاحكا بشقاوة الأطفال ومرحهم، تنتقل العدوى للجميع، يضحك يوسف إدريس مقهقها، ولطيفة الزيات تطلق ضحكتها، لكن نجيب محفوظ يبتسم بشئ من التحفظ، ويقول بصوت منخفض: نعم يا توفيق بيه، الأبالسة كثيرون وليس عندنا أحزاب معارضة كما كان الحال أيام الملكية والليبرالية، لم يكن الأدباء والأديبات، أعضاء لجنة القصة، من الحالمين بعودة الملكية، أو ليبرالية الطبقة العليا، التى كانت تشكل 2% من الشعب، خاصة اليساريين منهم، مثل يوسف إدريس ولطيفة الزيات، ولم يكن أحد يشعر أيضا بالحنين للحكم الملكى السابق، أو يؤيد دكتاتورية الحكم العسكرى بعد ثورة يوليو، وتفرع النقاش الى مأزق الاشتراكية فى علاقتها بالديمقراطية، ثم عاد الى الجبلاوى الجبار فى رواية أولاد حارتنا، وجاء دورى فسألت نجيب محفوظ: لماذا جعلت جميع أبناء الجبلاوى من الذكور وجميع من أرسلهم الجبلاوى لهداية الناس من الذكور أيضا، هل أردت لخيالك الروائى أن يظل داخل إطار قصة الخلق فى الكتاب المقدس، أم أنك تأثرت بنظرية سيجموند فرويد عن مقتل الأب بيد ابنه، كرمز للتحرر من السلطة الأبوية المطلقة أو الاستقلال عن الأب، أى الخروج من الطفولة البشرية إلى النضوج الإنسانى؟ يرد توفيق الحكيم ضاحكا: نحن الرجال، خيالنا الروائى ذكورى مائة فى المائة، ويقول نجيب محفوظ: لم يكن بين الأنبياء امرأة واحدة، هذه حقيقة، أليس كذلك يا دكتورة نوال؟ قلت: لا يا أستاذ نجيب، يوجد إلهات نساء، مثل إزيس (وليس فقط نبيات) فى تاريخ مصر القديمة وبابل وفلسطين واليونان، لم يكن منصب الإلوهة أو النبوة يخص الجنس الذكورى فقط، أليس كذلك؟ وقال توفيق الحكيم فرحا: غلبتك امرأة يا رجل كما غلبت عمر بن الخطاب، وضحك الحاضرون وتحول الأمر الى فكاهات ومرح، لم أشاركهم فيه وقلت: نساء كثيرات تغلبن على الرجال فكريا فى الماضى والحاضر فالمسألة لا تتعلق بنوع الجنس بل بالمخ والعقل، ثم لماذا يحول الرجال النقاش الجاد عن عقل المرأة الى نكتة أو فكاهة؟ وقال توفيق الحكيم: إنه خيال الرجل لم يتطور بعد ليدرك أن المرأة مساوية له عقلا وحكمة هذه العبارة نطقها توفيق الحكيم منذ نصف قرن، ولم يكن رأس المرأة عورة أو عقلها ناقص كما نسمع اليوم.
#نوال_السعداوي (هاشتاغ)
Nawal_El_Saadawi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أتكون الطفلة ملحدة؟
-
فاطمة الميرنيسى
-
كتابك غير حياتى
-
امرأة تكتب مصيرها بيدها
-
وتظل النخبة المختارة تصفق
-
لا يكفى أن تكون امرأة
-
مشروع جديد لإصلاح الأخلاق
-
حوار لا أنساه بين أمى وأبى
-
المنسيون فى التاريخ الرسمى للثورات
-
القلاع الأبوية. الرأسمالية تتهاوى
-
أتكون هى أنبل النساء؟
-
الجبلاوى ونجيب محفوظ والنساء
-
حوار بعد منتصف الليل
-
منذ بداية اللامساواة والخطيئة الأولى
-
ساندرا الحبيسة وقدسية الجسد؟
-
معارك تحرير النساء اللا نهائية
-
النقاب ورجم الشيطان
-
وتسعد المرأة بعقلها المبدع؟
-
مؤتمر النساء فى إسبانيا
-
الاستغناء والانعتاق من العبودية
المزيد.....
-
الأكثر ازدحاما..ماذا يعرقل حركة الطيران خلال عطلة عيد الشكر
...
-
لن تصدق ما حدث للسائق.. شاهد شجرة عملاقة تسقط على سيارة وتسح
...
-
مسؤول إسرائيلي يكشف عن آخر تطورات محادثات وقف إطلاق النار مع
...
-
-حامل- منذ 15 شهراً، ما هي تفاصيل عمليات احتيال -معجزة- للحم
...
-
خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تصفية مسؤولين في -حماس- شاركا في هجوم
...
-
هل سمحت مصر لشركة مراهنات كبرى بالعمل في البلاد؟
-
فيضانات تضرب جزيرة سومطرة الإندونيسية ورجال الإنقاذ ينتشلون
...
-
ليتوانيا تبحث في فرضية -العمل الإرهابي- بعد تحطم طائرة الشحن
...
-
محللة استخبارات عسكرية أمريكية: نحن على سلم التصعيد نحو حرب
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|