|
بيت شاهندة مقلد
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 5182 - 2016 / 6 / 3 - 16:06
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
حين زرتُها قبل سنوات، في بيتها بمدينة نصر، لم أكن أدري أنها المرة الأخيرة التي سأرى فيها هذا البيت المزدحم بالتواريخ والحكايا. طارتِ العصفورة المشاكسة إلى حيث تطير العصافيرُ إلى الأعالي، لتحطَّ على ِأشجار الفردوس، حيث لا غنيٌّ ولا فقير، ولا إقطاعٌ ولا استعباد، ولا طاغٍ ولا مُستضعَف. السيدةُ الجميلةُ التي بيتُها قطعةٌ من الزمان الجميل. كلُّ ركن فيه، كلُّ قطعة أثاث ومزهرية، كلُّ ستارة وسجادة وتابلوه، تحكي لك حكاية عن وطن استثنائيّ عريق، ظلّ أنيقًا إلى أن غزته رياحُ الركاكة والفوضى والمسخ. كلُّ كتاب ينام قلِقًا في مكتبتها حتى تمسّه بيدها فيهدأ، كلُّ خدشٍ في جدار، وكل صدعٍ في نافذة، كلُّ عَلم مُنكّسٍ حزين، وكل علم مرفوع الهامة يرفرف، يحمل أسراره وحكاياه. كلُّ شارة حداد فوق صورة، تحكي عن عصافيرَ غاليةٍ غادرت هذا البيت منذ سنوات، وراحت تنتظر عصفورتنا لتلحق بها إلى حيث تغادرُ العصافيرُ الحُرّة حين تضجرُ من ظلام الأرض وتتوق للنور، وحين تنزعجُ من فاشية الأرض وطغيانها، فتنطلق نحو تحضّر السماء وعدالتها. سألتُها عن سر الثوب الأسود الذي لا يبرحُ جسدها منذ عقود، وأنا أعرف الإجابة. فلم تُجب، واكتفت بابتسامتها المشرقة، التي غدت ملمحًا من ملامح ذلك الوجه المشرق. هذا الثوب الأسود هو المعادل لثوب الزفاف الأبيض الذي يضيء على جدران البيت في صور، بالأبيض والأسود والظلال، لعروس فاتنة تقف كأميرة ملكية جوار زوجها الذي مات، ولم يمُت. الأرملُ الرائعة تعيش عرسَها الأبديّ مع شهيد شريف لم يستطع الاغتيالُ أن ينتزعه من قلب عروسه المثقفة التي ناضلت معه منذ عقود من أجل فقراء وطن طيبٍ، وماتزال تناضل الآن مع أجيال مصر البكر، من أجل وطن مسروق، لا بديل عن استعادته. وطن منكّس الرأس مطعون بسيوف أعداء الخارج وأعداء الداخل، لكنه غنيٌّ مرفوعُ الهامة بأبنائه، أبدًا. أما الشهيدُ الفارس، فهو المصري النبيل "صلاح حسين" الذي حمل روحه فوق كفّه ليكافح أعداء ثلاثة، في جبهات ثلاث: صهيون؛ في جبهة صفوف المقاومة عام 1948، والمحتلّ البريطاني في جبهة صفوف المقاومة الشعبية عند قناة السويس عام 1951، ثم قيادة جبهة المقاومة الفكرية ضد الإقطاع المصري الذي كان يُسخّر فقراء الفلاحين ويستلب عرقهم ليزدادوا فقرًا، ويزداد هو ثراءً وطغيانًا. وأما العروسُ، فهي المناضلة المثقفة الأستاذة "شاهندة مقلد"، التي غادرتنا بالأمس، وغدرتني أنا شخصيًّا، حين اختارت أن تمضي وأنا على سفر، ففوّتت عليّ منحة أن أعانقها العناق الأخير. بدأت حياتها الغضّة ناشطةً في الحركات الطلابية الثورية ضد الاحتلال، ومن يومها لم يتوقف نضالها من أجل انتزاع حقوق الفلاحين الضائعة وسط مطامع مُلاّك إقطاعيين يعرفون كيف يكدّسون الأموالَ فوق الأموال، ولم يتعلّموا يومًا كيف يرمقون حبّات العرق تتساقط من جباه سمراء، تصنع لهم تلك الأموال. في قرية "كمشيش"، المُحوّرة من الاسم الفرعوني "كوم شيش"، نبتت تلك الزهرة المتمردة شاهندة لتتعلّم من أسرتها أن الإنسان يكون بقدر ما يُكوّن وجة نظر في العالم، ويعيش بقدر ما يُنصت إلى إيقاع البسطاء، ويعلو بقدر ما يُسقِطُ الشرور. علّمها أبوها الدرس الخالد الذي سيرسم مستقبلها كاملا: "دافعي عن رأيكِ حتى الموت"، ويختتم وصيته لها لحظة وفاته بتلك الكلمة ذاتها لكيلا تنساها ما عاشت. ولم تنسها البنتُ أبدًا. وربما هذا هو سرّ البريق الدائم في عينيها، ذاك الذي يشيرُ إلى روح صلبة، رغم رهافتها، وقلب لا ينكسر، رغم ما مرَّ به من صروف وويل. كان الإقطاعيون قبل ثورة يوليو في كمشيش يستنزفون دماء الفلاحين وينازعونهم في كسرات خبزهم الشحيح، باعتبارهم عبيدًا. لكن شابًّا وسيمًا اسمه "صلاح حسين" علّمهم كيف يرفضون الذلَّ والسُّخرةَ. ثم قام بهدم السد الذي بناه الإقطاعيون في أراضي الفلاحين التي وُزعت عليهم بعد الثورة. حقوق الفلاحين ظلّت مهدرةً وكأن الثورة لم تقم، هذا ما قالته فتاةٌ في العشرين من عمرها اسمها "شاهندة" في اجتماع عُقد بمناسبة وحدتنا مع سورية، ثم أرسلت خطابًا لجمال عبد الناصر قالت فيه: "الإقطاعُ لا يزال قائمًا في مصر، لا تشوّهوا الثورة بمهادنتكم الإقطاع." ثم اعترضت موكب الرئيس جمال عبد الناصر حين زار شبين الكوم مع "تشي جيفارا"، وطالبته بزيارة كمشيش، فاستجاب لها، وعدّل من برنامج الرحلة. وكان سقوطُ زوجها برصاص الإقطاع عام 1966، ثمنًّا غاليًا لبدء تشكيل لجنة لتصفية الإقطاع في مصر، بعدما خطب عبد الناصر ينعي الشهيد الشاب. لم تركن العروسُ لأحزانها. من فورها نظّمت صفوفَ مقاومة شعبية مع سبعين فلاحًا بعد هزيمة 67، ونالت نصيبها من الاعتقال مرّاتٍ عديدةً في عهد السادات لرفضها معاهدة السلام مع إسرائيل. وفي عهد الإخوان البائس قبل ثلاثة أعوام، خرجت مع جموع المصريين لتهتف ضد الإعلان الدستوري الإخوانيّ والاستفتاء الباطل، فحاول عُتلٌّ من أزلام نظام مرسي تكميمَ فمها بيده الغليظة. يدٌ سمينةٌ بدينةٌ خاملةٌ لم تقدم لمصر شيئًا، كمّمتْ فمًا صرخ عقودًا في وجه الظلم، وجاء بحق الضعاف من أنياب الوحوش! فهل تعرفُ تلك اليدُ الغشومُ، أيَّ فمٍ كمّمت؟! هذا الفمُ المنذور للهتاف من أجل حقوق فقراء مصر، لم تستطع أيادي النظم الفاشية تكميمه عن قول الحق، وكذلك يدُ الموت لن تستطيع. لأن تلاميذ كثيرين، أنا من بينهم، سوف يحملون مِشعلها أبديَّ النور والنار، حتى لا ينطفئ. ارقدي في سلام أيتها الجميلة، فقد آن لك أن تستريحي.
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ومات معها كل شيء!
-
فتّشوا عن الصندوق الأسود داخلكم
-
الضعيف والمُستضعَف
-
جلباب سعاد وأُذُن أيمن
-
حوار حول تيارات الإسلام السياسي وقضيتها
-
في الغُربة... الجول باثنين
-
كيف وأدت الإماراتُ أخطبوط الطائفية؟
-
صباح الخير يا مايسترو
-
من فوق غيمة
-
سيبيهم يحلموا يا طنط عفاف
-
جمال السويدي يحذّر من السراب
-
عينُ الطائر... والزّمارُ البدين
-
مهنتي الكتابة | كُن كاتبًا تمشِ في الطرقات حُرًّا
-
بناءُ الإنسان في الإمارات
-
اليماماتُ مذعورةٌ في بلادي!
-
قراءة في كتاب -دفتر العمر-
-
تحت شرفة عبد الوهاب … كَم تُرتكب من جرائم!
-
السير يعقوب وليلى ابنة الفقراء
-
الإمارات تكسر شرانقهم |الأسبوع العالمي للتوّحد
-
تعالوا نمشيها نكت
المزيد.....
-
كيف يعصف الذكاء الاصطناعي بالمشهد الفني؟
-
إسرائيل تشن غارات جديدة في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بع
...
-
أضرار في حيفا عقب هجمات صاروخية لـ-حزب الله- والشرطة تحذر من
...
-
حميميم: -التحالف الدولي- يواصل انتهاك المجال الجوي السوري وي
...
-
شاهد عيان يروي بعضا من إجرام قوات كييف بحق المدنيين في سيليد
...
-
اللحظات الأولى لاشتعال طائرة روسية من طراز -سوبرجيت 100- في
...
-
القوى السياسية في قبرص تنظم مظاهرة ضد تحويل البلاد إلى قاعدة
...
-
طهران: الغرب يدفع للعمل خارج أطر الوكالة
-
الكرملين: ضربة أوريشنيك في الوقت المناسب
-
الأوروغواي: المنتخبون يصوتون في الجولة الثانية لاختيار رئيسه
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|