|
الواجب والحكم الديني الأمر وقضية الإنسان أولا.
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5181 - 2016 / 6 / 2 - 21:31
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الواجب والحكم الديني الأمر وقضية الإنسان أولا.
عندما تتحول المفاهيم الخيارية التي تعرضها النصوص الدينية إلى ملزم تعبدي حتمي وقانون في مخالفته خروج عن أحكام الدين وواجباته تتدهور القيم الحاكمة، فننسخ بذلك واقعا وليس أفتراضا حكم النص وتضيع قيمة الخيار الرباني الحر، ويتحول الإيمان العقلي إلى إلجاء فوق الإرادة المؤمنة وتفقد بذلك أصلها العقلي، كثيرا من النصوص قائمة على حرية الأختيار لأن الدين أصلا فكرة من هذا النسق فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، تبقى هناك حدود نصية حكمية قاطعة وهي الحدود المانعة أو المقيدة للسلوك ليس لأنها واجبات وأحكام الرب بل لأنها تحفظ الوجود البشري مثل لا تقتلوا النفس التي حرم الله. في متابعة ومقارنة بين النصوص الأمرة بالفعل وبين الناهية عن أفعال نجد أن الجزاءات اللاحقة تظهر بوضوح ودقة وبالتفصيل الدقيقي في الصنف الثاني في حين تسكت تلك النصوص ذاتها عن إدانة الترك في الأولى، لو أخذنا مقارنة بين نموذجين منهما نجد سلسلة من الأفتراقات تبدأ بالصورة الموضوعية التحفيزية مع وعد في الأخرة وجزاء وإحسان لمن جاء بها لأنها نوع من أنواع وسائل تعديل وتقويم السلوك الإيجابي، كتب عليكم الصيام ... وإن تصوموا تصحوا، في الجانب الأخر ومن قتل نفسا بغير نفس كأنما قتل الناس جميعا، الأولى منفعتها فردية ومتعلقة بصديقية الأداء في الثانية تحذيرية لأنها تنتهك مبادئ الوجود. الصوم عبادة لا شك أنها تقرب الإنسان من نسخته النموذجية والطبيعية حين يلتزم المؤمن جاهدا بفلسفة الصيام القائمة ليس على تذكر حال الفقراء والمحرومين كما يزعم أعلام الكهنوت، بل بمنهج وفكرة أخرى مثالية ولكنها أيضا يمكن وصفها أنها عملية فكرية وسلوكية تخلق في الإنسان القدرة على التحدي والتحمل والمصابرة لأجل هدف معلوم، هذه الوظيفة التربوية وحدها مبرر دائم لدعوة الصيام حين يقول النص (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)، الكتابة هنا مرتبطة بالدين كفكر وليس كطقوس والدليل أن عملية البناء هي جوهر التعبد الإيماني وبالنص الديني تحديدا ورد هذا المبدأ خطاباً لموسى {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}طه/39، وأيضا الصنعة عنا ليس واجبا وليس كما يفهمها تأويلا البعض، الصنعة تعني إكمال ونمذجة الخلقة التربوية الكاملة وخطاباً للرسل{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}الطور/48. مثال أخر يبين الفرق بين النص الموجه والنص المحذر وبيان أن الفرق بين النصوص ليس بلاغيا فحسب بل تبنى عليه نظرية أكبر تؤكد على إيجابيات السلوك الفردي المتماثل لروحية الفكرة الدينية والتي تتجنب النواهي بقدر ما تحد من الأعتداء على أسس البناء الأجتماعي السليم، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 90النحل، هذه الأوامر وكما مبين في نهاية الجملة العرضية قواعد سلوكية المراد منها مطابقة النظام الأجتماعي مع أفضل وأكمل الأسس التقويمية التي من خلال تطبيقها نشد نوع من التوازن الأجتماعي المختل في كل التطبيقات البشرية الآن وفي الأمس وللمستقبل. لكنها في نفس الوقت ومع أهميتها الكبرى وحساسية القضايا المرتبطة بها لم يعرها الكهنوتي أي اهتمام حقيقي وجعلها واجب في مخالفته ينزل الغضب والعذاب مع أن صيغتها أمر ملزم، إن الله يأمر... هذا الأمر في الحقيقة يتناقض مع دور الكهنوت ويعري مذاهبهم القائمة على فرض الاعتباط الفكري التأويلي وإخراج الناس من مبدأ عبودية الذات الكهنوتية إلى فضاء عبادة الرب الأمر بالحسنى، في حين يبادر وينصب المشانق ويحد السيوف لمبدأ وحكم أخر يعتبر فرع بالمفهوم التحصيلي للنص الأول (والذين هم للزكاة فاعلون) الزكاة فرع واحد من عدة فروع وأحوال ذكرتها النصوص بالتفصيل وحث عليها الأمر الديني كي تكون عامل مساعد لتطبيق أمر النص(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) البقرة : 254. هنا جعل الديني الكهنوتي الأعتباطي وفي قراءة متشنجة أصلا ولها محفزات ودوافع ذاتية خاصة من الزكاة ركن من أركان الإسلام التي لا يقوم إلا بها، في حين أن بناء التوازن وحفظ المجتمع البشري من الأهتزازات والكوارث الناتجة عن عدم احترام قواعد العيش المشترك الطبيعي هي أهم أركان الدين وواحدة من غايات الفكر الديني المجرد، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} في هذا النص الذي يجب أن يكون واحدا من أهم أركان الدين لأنه مضمار لكل الصور التي أوردها الديني الفقيه التي جعل منها ما سماه أركان ويتسع بذلك لتجسيد رسالة الإنسان في الوجود أولا ورسالة الدين للإنسان {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ}. الذي يظن أن الدين مجموعة واجبات وصور تفصيلية لطقوس ومفاهيم متصلة بهما، ويعمل جادا وبكل أدوات الرهبة والتخويف والتقديس على حصر دائرة التدين في محددات قليلة على أنها أولويات الرسالة، إنما ينصب نفسه حاكما أخر مشاركا للديان في فرضه وأوامره وحتى في شكلية ما يجب أن يفهم الناس، وبالتالي فهو لا يقدم الدين كما صاغه الرب بل يقدم نموذجا أخر نتاج عقلية قراءة منفردة لها أهداف وغايات لا تتواءم أساسا مع جوهرية الفكرة الدينية القائمة على الوصول لحالة الإعمار والتعارف التي تنتهي بغائية الوظيفة الإنسانية في تحصيل الخير والفلاح والفوز بالوجود المنظم السليم. هذا العرض البسيط والموجز يكشف لنا الكيفية التي حرف بها الإنسان مفاهيم الدين والواجبات والأحكام وترتيبها من حيث الأهمية الكلية بالنسبة له، الصيام واحدا من هذه الإشكاليات كما في الصلاة أيضا ركنان مما يعد من أركان الدين والإتيان بهما واجب، ووصل الحد بالفقيه الكهنوتي أن جعل التفريط بلا سبب بفرض واحدة هو خروج صريح من الإنسان إلى دائرة المخالفة والكفر، النصوص التي بين أيدينا وهي نصوص مجمع عليها أنها محفوظة من التحريف لم تبين هذا المبدأ بل ولا تلزم المؤمن أن يأت بها وفقا للصيغة والفهم الوارد بالشروحات والتفسير والتأويل المنتشر بين صفوف الدينين. مثلا الصلاة أمر لا نقاش فيها ولا في وجوبيتها ولكن ما يمكننا الدخول في تفكيك العلاقة بين الصلاة والوجوب ليس شكل الصلاة وشكليتها وأوقاتها والصيغة التي تؤدى فيها بل بالوظيفة الحصرية لها، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعضكم لعلكم تتفكرون، القضية إذن من مجمل ما ورد في النص أن الصلاة تقويم سلوكي ذو جانبين الأول تحصيني للفرد من سلوكيات مذمومو، والقضية الثانية الصلاة عظة من الله للمؤمن وليست إلجاء في ذاتها، والقضية الأهم أنها تتصل بعقيدة الإنسان (الدين) من حيث هي فكرة مجردة لذا قال لعلكم تتفكرون، هذا الخطاب التكويني يدخل الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها من أكابر الأركان كما يزعمون في دائرة البر والخير الذي يجب عليه أن يكون وجود الإنسان المؤمن. القضية المركزية التي يتبناها الدين ويحاول أن يرسم خطوات عملية وعلمية لتنفيذها لا تتعلق بالأداء الطقوسي ولا بالواجبات والمسائل الحسية إلا بالقدر الذي يوصل الإنسان لهذه الغاية، يا أيها الناس وهذا خطاب أشمل وأعم وأعظم من خطاب يا أيها المؤمنون (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)، في هذا النص أختصارا للرسالة وتعبير عن هوية الدين وغائية العبادة وما عدا ذلك مما وصلنا من أقوال وأراء وأفكار ذاتية في النص أو من خلال فهم الإنسان لها يدور في هذا المنحنى الوجودي وما يعني بالنهاية لحياة وديمومية البشرية. حينما نقارن بفهمنا القصدي وما وراء النص من غايات ومرام ونستطلع الأحكام ذاتها بين صورتها الأصل والنموذج المطروح في داخلها من أفكار، وبين ما بين أيدينا من واقع فكري نجد التناقض صارخا وعجيبا وحتى مفاجئ للكثيرين من يعتقدون أن الدين ليس أكثر من عبادات وطقوس أولا، ومن ثم يأت النتاج بمراقبة النفس الإنسانية لهذا السلوك وتتحاشى مجبرة أن لا تتعارض مع مراقبة الرب لها، هذا النموذج من الفهم رؤية نفسية متضايقة ومحدودة تنطلق من روح مستعبدة خائفة وجبانة، أما الفهم الذي يرى أن الله قدم لنا خارطة طريق من خلال العقل والمنطق لنبني وجودنا مسترشدين بقانون الأصلحية والأخيرية لبلوغ السعادة الوجودية الكاملة باستعمار الوجود والتعارف، هذا الفهم يتطابق مع حقيقة الرب عندما يريد أن يضع الإنسان أمام عقله في أمتحان حر وبلا حدود مع الكثير من الوسائل الداعمة والمنشطة لخيار الحرية. الواجبات والفروض والأحكام التي تأت بصفة الوعد الجميل وبأسلوب الإرشاد والنصح وتنتهي بعبارة الفلاح والصلاح والخير والتفكر والعقل، هي مجرد قضايا الهدف منها تدعيم السلوك الإيجابي للإنسان وحثه للتفاعل مع وجوده بأفضل صيغة وهي بالعموم صيغ جزئية وإجرائية، أما القضايا الكبرى والتي تحمل هم الدين وعظيم تفكيره كلها تقع في دائرة المنع والتحريم لأنها تحمي الوجود الإنساني أولا وتمهد للقضايا الأولى أن تتفاعل مع الواقع، وبذلك يسحب الله أو النص المعبر عن إرادته العنصر السلبي من الوجود البشري في محاولة لإعادة التوازن للأنا الإنسانية المجبولة على المزاحمة وليس على التشارك والتعاون ، لذا سميت أنا وتجردت بكل قوة من الــ (نحن) إلا في حدود ما تقهر به.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صورة الإنسان المزدوجة.... في الفهم الديني
-
وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين ح2
-
وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين ح1
-
قضية رأي في التفكر والجنون ح2
-
قضية رأي في التفكر والجنون
-
فكرة الدين والوجود تناقض أو صورة ناقصة؟.
-
تنبؤات مجنونة من طفولة عاقلة
-
الفكرة المهدوية وغياب رؤية النهاية
-
الإرهاب بطريق الوهم
-
مكابدات الحزن والفرح في وطن حزين
-
آينشتاين النبي ..... مفهوم العقل في العقل
-
العمل السياسي في العراق بين المهنية والتلقائية
-
العشوائيات السكانية .... القنبلة التي تهدد الأمن الأجتماعي
-
القبانجي الليبرالي بزي السلفيين
-
العقل في دائرة الروح
-
أكاذيب حول موقف الإسلام من المرأة _ الإمامة مثالا.
-
الناس على دين ملوكها.
-
حكاية الأربعاء
-
بيان الأمانة العامة المؤقتة للتجمع المدني الديمقراطي للتغيير
...
-
الفوضى الضرورية والفوضى الخلاقة
المزيد.....
-
الإمارات تكشف هوية مرتكبي جريمة قتل الحاخام اليهودي
-
المقاومة الإسلامية تستهدف المقر الإداري لقيادة لواء غولاني
-
أبرزهم القرضاوي وغنيم ونجل مرسي.. تفاصيل قرار السيسي بشأن ال
...
-
كلمة قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي بمناسبة
...
-
قائد الثورة الاسلامية: التعبئة لا تقتصر على البعد العسكري رغ
...
-
قائد الثورة الاسلامية: ركيزتان اساسيتان للتعبئة هما الايمان
...
-
قائد الثورة الاسلامية: كل خصوصيات التعبئة تعود الى هاتين الر
...
-
قائد الثورة الاسلامية: شهدنا العون الالهي في القضايا التي تب
...
-
قائد الثورة الاسلامية: تتضائل قوة الاعداء امام قوتنا مع وجود
...
-
قائد الثورة الإسلامية: الثورة الاسلامية جاءت لتعيد الثقة الى
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|