أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - فاطمة ناعوت - ومات معها كل شيء!














المزيد.....

ومات معها كل شيء!


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 5179 - 2016 / 5 / 31 - 21:15
المحور: حقوق الانسان
    


قال الشاعر الفرنسي "لوي أراجون”: “لو وقف جميعُ رجال الكرة الأرضية خمسين عامًا متواصلة، يعتذرون للنساء عما فعله بحقهنّ الذكورُ على مدى التاريخ البشري؛ لما كان ذلك كافيًا.” واتفق بعضُ الفلاسفة على فكرة فانتازية طريفة تقول: "صحيحٌ أن اللهَ قد خلق الرجلَ قبل المرأة، ولكنك كذلك تكتب المُسَودّة دائمًا قبل النسخة المنقّحة الأجمل." وقال أحد الحكماء: “إذا محوت كلمة "امرأة" من القاموس، لم يبق في اللغة شيء ذو معنى". قالوا عن المرأة كثيرًا وكثيرًا، شعراءُ وفلاسفةٌ وحكماءُ وروائيون وأدباءُ وجدّاتٌ وأجدادٌ وعوامُ الناس، لكن شيئًا لم يجرح قلبي قدر ما وخز قلبي وأدماه ما قاله صبيٌّ صغيرٌ بالكاد تجاوز العاشرة من عمره.
كان امتحان الصف الخامس الابتدائي في مدرسة بشمال سيناء في مادة التعبير الإبداعي. وكان رأس السؤال يقول: “للأمِّ فضلٌ عظيم على أبنائها، أكتبْ في هذا الموضوع موضحًا فضل الأم عليك وواجبك نحوها.” وتحت رأس الموضوع عدة سطور شاغرة ليملأها الطالبُ بما تجود به قريحته الإبداعية من صوغ أدبي، أو- كما يفعل كثيرٌ من الطلاب للأسف- بما يحفظونه من كلاشيهات محفوظة مكررة يحقنهم بها المدرسون الخصوصيون الذين يتفننون في قتل مواهب الصغار ومحو الفطرة التي تجعلهم يفتشون في الكون عن فكرة أو إشراقة. تلك السطور الشاغرة لم يملأ منها هذا الصبيُّ الصغير، محمد عبد الكريم، إلا نصف سطر بكلمات تقول: “أمى ماتت ومات معها كل شىء".
انتهت إجابة الطالب بعد تلك الكلمات الستّ، وهل من مزيدٍ عليها؟! أو لم تفِ الكلماتُ القليلات بما لا تقوله قصائدُ الدنيا، وروايات العالم؟ مات كلُّ شيء بموت أم هذا الطفل الطيب، فما عاد لمفردة "الأم" من معنى. ذكّرتني عبارته بشطر شعري للآسر "أبي فراس الحمداني" في قصيدته الجميلة: “أراك عصيَّ الدمع": إذا مِتُّ ظمآنا فلا نزل القطرُ.” فما جدوى المطر بعد موتي ظامئًا، وما معنى كلمة "أم" وقد ماتت أمي؟! صدقتَ أيها الفتى النبيل، لا تعودُ الحياةُ حياةً، بعدما تطيرُ أمهاتُنا للسماء، وتتركنا وأيادينا لم تزل معلّقاتٍ في أطراف أثوابهنّ.
كلمات هذا الطفل ذكرتي بلحظة موت أمي وموت كل شيء معها. لكنني كنت أكبر عمرًا، لم أكن طفلة مثل هذا الصغير، كنت ناضجة وكاتبة وأمًّا لصبيين جميلين، وكنت أمتلك من الحيل الذهنية ما يُمكنني من خداع نفسي حتى أصمد وأتماسك وأتغلّب على محني الشخصية. أعرف كيف أقول لنفسي: “أمي ماتت مرّة، ولن أعيش مجددًا لحظات رعبٍ خوفًا من موتها، لأن الأمهات لا يمُتن مرتين. قُضي الأمر. هذا جيد.” كان هذا في مقال عنوانه: “صوتُ أمي لا يطيرُ مرتين"، أستهللته بقولي: “أرحمُ ما في موت الأمهات؛ أنهن لن يَمُتن مرةً أخرى. أن ينتهي رعبُ المرءِ من فكرة فقد أمّه. أذكرُ، وأنا طفلة، أني ظللتُ أعيشُ هذا الرعب، منذ أدرك عقلي معنى الموت والحرمان ممن نحبُّ إلى الأبد. إذا ما سعلتْ؛ أخافُ أن تموتَ، ويفرُغ العالمُ من حولي. إذا تأخرتْ في العمل، أقفُ بالشرفة، مثل عصفورٍ يرتعد. تتلفّتُ رأسي لأمسحَ الشارعَ من طرفيه، والخوف يفترسُ طفولتي: ألن أراها أبدًا تدخلُ من مدخل العمارة؟! وحينما كانت تمنعني من اللعب وقراءة "ميكي"، كان "الشريرُ" داخلي يرسم لي عالمًا رغدًا بلا أمّهات يُجبرن أطفالهن على شرب اللبن والمذاكرة والحرمان من الأصحاب واللعب والحلوى، لكنْ سرعان ما ينتفضُ "الطفلُ" داخلي، فأتوقُ للدفء. ولما مرضتْ أمي، مرضَها الأخير، كنتُ بمجرد أن أتركها بالمستشفى، أناصبُ التليفونَ العداء. كلّما رنَّ، أخفقَ قلبي هلعًا من سماع ما أكره. حتى عدتُ إلى بيتي مساء 5 سبتمبر 2008، لأجد الأنسر ماشين يحمل صوت خالو أسامة يقول: "حبيبتي فافي، البقاء الله، أبلا سهير تعيشي انتي!" انهدم العالمُ من حولي، لكن رعبي من فقدها تبدّد للأبد. لن أفقدها غدًا أو بعد غدٍ! فقدتُها بالفعل اليوم!”
محاولةٌ بائسة لإيجاد أي فرح أو راحة في موت أمي مرّةً واحدة، بدل انتظار موتها كلَّ يومٍ منذ طفولتي! لكنني أدرك الآن كم كنت أخدع نفسي! فالحقيقة أن أمي تموت كلَّ يومٍ منذ طيرانها إلى الله مع كل يوم يصافحُني دونها، ومع كل محنة أمرُّ بها وحيدةً دون سند، ومع كل مشكلة عابرة تواجهني خلال نهاري ولا أجد من يساعدني على حلِّها، ومع كل صفعة من الحياة تصفعني ولا أجد من يربتُ على ظهري ويمسّد شعري قائلا: “ولا يهمك، أنا معك، وسوف يكون الغدُ أجملَ"، ومع كل عيد أم بِلاها، ومع كل لحظة يقع فيها بصري على رقمها على شاشة هاتفي، ومع كل دقّة تليفون في بيتي أركض وأنا أرجو أن تكون المهاتفة من ماما، لأسمع صوتها ذاك الذي تبخّر في الأثير ولم يعد موجودًا، ومع كل نظرة إلى مذياعها وساعة الحائط في بيتي تلك التي كانت يومًا في بيتها، ومع كل صورة لها تقع عيني عليها في ثوب زفافها إلى أبي بعدسة الإيطالي "ڤ-;-ان ليو"، ومع كل نظرة في عيني ابني "مازن" لأتذكر صوتها يقول: “مازن طفل مُشرِّف"، وفي عيني ابني "عمر" لأتذكر كم داخت به عند الأطباء لتنقذه من مرض "التوحد". ماتت أمي، ومات معها كلُّ شيء.



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فتّشوا عن الصندوق الأسود داخلكم
- الضعيف والمُستضعَف
- جلباب سعاد وأُذُن أيمن
- حوار حول تيارات الإسلام السياسي وقضيتها
- في الغُربة... الجول باثنين
- كيف وأدت الإماراتُ أخطبوط الطائفية؟
- صباح الخير يا مايسترو
- من فوق غيمة
- سيبيهم يحلموا يا طنط عفاف
- جمال السويدي يحذّر من السراب
- عينُ الطائر... والزّمارُ البدين
- مهنتي الكتابة | كُن كاتبًا تمشِ في الطرقات حُرًّا
- بناءُ الإنسان في الإمارات
- اليماماتُ مذعورةٌ في بلادي!
- قراءة في كتاب -دفتر العمر-
- تحت شرفة عبد الوهاب … كَم تُرتكب من جرائم!
- السير يعقوب وليلى ابنة الفقراء
- الإمارات تكسر شرانقهم |الأسبوع العالمي للتوّحد
- تعالوا نمشيها نكت
- حُلم | قصيدة للشاعرة فاطمة ناعوت


المزيد.....




- آليات الاحتلال تطلق النار العشوائي على خيام النازحين في مواص ...
- الأونروا: نصف مليون شخص في غزة معرضون لخطر الفيضانات
- -هيومن رايتس ووتش-: استهداف إسرائيل الصحفيين في حاصبيا جريمة ...
- عدنان أبو حسنة: منظمات الأمم المتحدة ليست بديلا عن الأونروا ...
- تشديد أمني وحملة اعتقالات تستهدف مسيرة لأنصار عمران خان في ب ...
- منخفض جوي على غزة.. أمطار غزيرة وأمواج البحر تغرق خيام الناز ...
- قائد الثورة : اصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو غير كاف بل يجب ...
- قائد الثورة: لا يكفي صدور احكام اعتقال قيادات الكيان الصهيون ...
- حملة اعتقالات بالضفة تطال 22 فلسطينيا بينهم صحفي وجريح
- هيومن رايتس:-إسرائيل- استهدفت صحافيين بلبنان بأسلحة أميركية ...


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - فاطمة ناعوت - ومات معها كل شيء!