صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 1395 - 2005 / 12 / 10 - 12:34
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
ينظرعدد متزايد من سكان الوطن العربي, إلى العلاقة مع اسرائيل, كأنها امنية بعيدة المنال, وإلى الامتناع عن تلك العلاقة, على انه تضحية للفلسطينيين اوتضحية للعرب, إن كان "المضحي" من غير العرب.
يكتسب هذا الموضوع اهمية اضافية قرب الانتخابات العراقية. فإسرائيل مدعوة الى دخول الجمعية الوطنية العراقية بممثلها "مثال الالوسي", وفريقه الانتخابي. http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=23494
من المفروض ان يكتفي المرء بعنصرية إسرائيل وعدوانيتها سبباً مبدئيا لرفض العلاقة معها, ولكن لندع المبادئ جانباً لدقائق, مادامت لاتهم الكثيرين اليوم, ولننظر الى العلاقة مع اسرائيل من وجهة نظر براغماتية بحتة, لكي نقيم حجم الخسارة التي نتجشمها والتضحية التي نقدمها للفلسطينيين (والعرب) من جراء الامتناع عن اقامة تلك العلاقة.
لقد عرف العرب اسرائيل كعدو, فلنتعرف عليها اليوم كصديق. وخير طريقة لذلك هي ان ندرس علاقات اسرائيل مع الدول الصديقة لها. ما شكل تلك العلاقات وما الذي تربحه تلك الدول منها وما تخسره.
إسرائيل والصداقة
من الصعب جداً ان نجد علاقة لإسرائيل مع دولة اخرى, يمكن ان نسميها صداقة, او حتى علاقة دولية طبيعية. ففي كل علاقاتها, تلجأ اسرائيل الى بناء علاقة على اسس من شبكات سرية وعلنية من اللوبي والتجسس ولاتتردد في مخالفة قوانين تلك الدولة "الصديقة" والقانون الدولي, وصولاً الى نقاط التأثير في الدولة التي تتواجد فيها, ولا يستثنى من ذلك اية دولة حتى الولايات المتحدة التي امسكت العديد من شبكات التجسس الإسرائيلية.
في هولندا عرض قبل عامان فلم وثائقي تحت عنوان (Zwijgen over Israel ) "الصمت عن اسرائيل" من انتاج شركة انتاج تلفزيوني معروفة (Zembla), وفيه يسلط الضوء على تجربة عدد من اهم السياسيين الهولندين في العلاقة مع اسرئيل.
وشخصيات هولندية تتكلم عن تجربتها
تحدث في الفلم السياسي السابق هانس فان ميرلو, مؤسس احد الاحزاب الهامة في هولندا ( D66 ) فقال:
تعامل هولندا اسرائيل بدون اي شك بشكل مميز تماماً عن بقية الدول. اننا نقبل من اسرائيل ما لانقبله اطلاقاً من دولة اخرى, وبضمن ذلك مسائل (مبدأية) مثل حق الشعوب (بتقرير مصيرها).
يشرح فان ميرلو رأيه الاخير بصوت يائس قائلاً: الاحتلال كان وسيبقى دائماً منبع الارهاب, لذا يجب ان تبدأ محاربة الارهاب هناك. ليس من الصداقة لإسرائيل ان تشجعها على المضي في الطريق الخاطئ
أما فرح كريمي عضوة البرلمان عن حزب الخضر فتشكو قائلة : التوازن بمفهوم اسرائيل ان تؤيدها ولا توجه اليها اي نقد مؤثر. في كل مرة نجتمع مع اسرائيليين, في كل مرة وبلا اي استثناء, فأنهم يبدأون بالحديث عن المحرقة وضحايا اليهود. احد اصدقائي أوضح لي قائلاً ان السياسة تجاه اسرائيل ليست من شأن السياسة الخارجية الهولندية, بل شأن السياسة الداخلية, وبالفعل اقتنعت بذلك تماماً في السنوات التالية.
تألمت كثيراً من اتهامي بمعادات السامية. من تلك السهولة التي تلصق بك تلك التهمة لمجرد دعوتك لدولة ما للإلتزام بالقانون الدولي.
برت كوندرز, عضو البرلمان عن حزب العمل يؤيد قائلاً: أي شخص ينتقد اسرائيل (في هولندا) يوقف محله. التوازن يعني انهاء المناقشة بشكل جبان
مارسيل فان دام, سياسي سابق في حزب العمل, وشخصية صحفية وتلفزيونية, معروفه تحدث بألم قائلاً: "اثير فوراً ان موقفي من اسرائيل ينبع من كوني كاثوليكي سابق, فهو موقف لاسامي.
حاجو, شيخ يهودي هولندي من منظمة "صوت يهودي اخر" المنتقدة للسياسة الإسرائيلية قال :
إلاتهام بمعادات السامية محمل وملوث بتأريخ اوشويتس (اشهر مراكز اعتقال اليهود) ولذا فهو اسوأ اشكال ما يمكن ان يتهم المرء به حالياً. (...) لكن انتقاد تلك الأعمال اللاأنسانية (التي تقوم بها إسرائيل) اصبح يعتبر معادياً للسامية... تلك جريمة! لقد اتهموني بالخيانة : وهل ضايقك ذلك؟ يسأله محاور الفلم فيجيب بلا تردد:
لا....إن كان علي ان اختار بين الاتهام بالخيانة او بالجريمة, فسأختار تهمة الخيانة.
إما مينت يان فابر, السكرتير السابق لاتحاد الكنائس ألذي هوجم بشدة لأنه كتب مرة يدعوا الى الغاء الصفة اليهودية عن اسرائيل, فيقول: عند الحديث عما يجري للفلسطينين, يجري ربط الأمر دائماً بالحرب العالمية الثانية.
ثم يأتي دور الصحافة فيشتكي مارتن يان هايمانز, مراسل في الشرق الاوسط, وأنتون فان هوف (كاتب عمود في صحيفة محلية دي خلدرلاند) و كوني موس: مراسل الشرق الاوسط لتلفزيون ار تي ال من كثرة تدخل السفارات الإسرائيلية واللوبي الاسرائيلي في ما يكتبون ويحاولون الضغط عليهم لكي يستعملوا كلمات معينة دون غيرها لصياغة الخبر بشكل يناسب اسرائيل, ليصل الحال مع (انتون فان هوف) أحياناً الى التهديد مثل : ان عدت الى امستردام فسنعرف اين نجدك!
ثم يلقي فان ميرلو السياسي الهولندي المخضرم الضوء على نقطة خطيرة فيقول انه كان مشغولاً بمشروع لتحريك الوحدة الاوربية من خلال التخلص من اهم معرقلاتها وهو حق الفيتو, والذي كان يشل مشروع اي قرار اوروبي, ثم يتحدث كيف ان المشروع تم رفضه من خلال اللوبي الاسرائيلي ومؤيدي اسرائيل في داخل هولندا نفسها, لا لسبب إلا لاعتبار ان الفيتو ضروري لحماية إسرائيل من اية قرارات اوروبية ضاغطة أو حادة.
يؤكد ذلك عضو البرلمان كوندرز قائلاً: يحاولون وضع هولندا بوجه القرار الأوربي, حين يفترض ان يكون الامر بالعكس وأن تتمكن اوروبا من التكلم بصوت واحد من أجل حل مشكلة الشرق الاوسط.
من ذلك نرى ان العلاقة مع إسرائيل لعبت دوراً اساسياً في عرقلة تكوين وتطوير الاتحاد ألاوروبي.
وزير الدفاع يمد اسرائيل بالسلاح دون علم دولته!
إلا ان النقطة الاكثر خطورة بما لايقاس في الفلم جاءت من سكرتير الدفاع الهولندي السابق. ففي حرب الـ 73 انبرى وزير الدفاع هنك فريديلنك وسكرتير الدولة لشؤون الدفاع برام ستيمردنك في حكومة دن اويل حينها, إلى اقامة جسر لمساعدة اسرائيل ومدها بالاسلحة دون علم الحكومة الهولندية.
يقول الوزير السابق هنك فريديلنك: ادرك انه كان عملاً غير صحيح ومخالف لمسؤوليتي في الدولة وتجاه الشعب الهولندي, وكان علي ان احصل على موافقة رئيس الوزراء اولاً لكني كنت اخشى ان يرفض بسبب القلق من موقف الدول العربية, لذا لم يكن لدي خيار واتخذت قراري ونفذته. كنت اعلم على اية حال ان البرلمان لم يكن سيتخلى عني (في حال اكتشافي).
يقول سكرتير الدفاع: "لقد بقي ألامر سراً لمدة طويلة, فحين قابل رئيس الوزراء وقتها دن اويل كولدا مائير في لندن فيما بعد, ولم يكن قد علم بعد بما حدث, انقضت عليه وعانقته شاكرة الدعم والمساعدة. استغرب دن اويل الحماس لكنه اعتقد ان ذلك بسبب فتح هولندا لمطاراتها امام الطائرات الامريكية المساندة لإسرائيل!"
كريتا دوزنبرغ : فتاة العلم
تلاحظ في الفلم وفي أي مناسبة أخرى ان من يتحدث عن إسرائيل فأنه يفعل ذلك ببطء وحذر شديد والكثير من التفكير قبل ان يقول كل كلمة. وليس ذلك لجبن هؤلاء الساسة والشخصيات الهولندية, بل هو خوف واقعي تماماً, فالقوى الممثلة لإسرائيل في هولندا, مثلما هي في معظم دول اوروبا الغربية, قادرة على تحطيم من يتعدى الحدود في نقده تحطيماً حقيقياً, ولطالما فعلت ذلك, حتى ان كانت تلك الشخصية ترتبط بعلاقات صداقة مع اليهود.
فعندما علقت كريتا داوزنبرغ, (ارملة ويم داوزنبرغ, رئيس البنك الاوروبي السابق) العلم الفلسطيني على شرفتها إحتجاجاً على وحشية اسرائيل وإنكارها للدولة الفلسطينية, بدأت حملة لتحطيمها من مضايقات وسخة الى تهديدات الى تشويه سمعة. وحين كانت تجمع التواقيع مرة, حصلت على 6000 توقيع سألها صحفي كم تأملين ان يصل العدد, اجابت بعفوية 6 ملايين! وهنا انقض اللوبي الاسرائيلي عليها متهماً اياها في كل مناسبة وفي كل مكان انها كانت تقصد السخرية من الـ 6 ملايين يهودي من ضحايا المحارق النازية, حتى صار الرقم هو موضوع كل من يتحدث عنها ويسألها كأن القضية أختصرت عند مشكلة هذا الرقم.
حادثة بيلمر
أخيراً اود الإشارة بسرعة الى حادثة بيلمر. ففي 4 اكتوبر 1992, ولم يكن قد مضى على وصولنا الى هولندا سوى بضعة اشهر, سقطت طائرة شحن تابعة لخطوط "العال" الاسرائيلية على منطقة بيلمر في أمستردام – هولندا, وراح الكثير من الناس ضحايا للحادث حيث ضربت الطائرة بناية سكنية كبيرة.
ترددت احاديث ان الطائرة كانت تنقل مواد كيمياوية تؤثر على الصحة, وبعد التحقيق الاولي تبين ان الطائرة لا تحمل اوراق نقل تكشف حمولتها, كما رفضت إسرائيل الكشف عن ماهية الحمولة بصلافة تامة. صاحب الموضوع شكاوي كثيرة من امراض غريبة في منطقة الحادث, وكثر اللغط عن رجال يرتدون ملابس بيضاء واقية أزالوا سراً بعض اجزاء من الطائرة. كل هذه تمكنت من الضغط على الحكومة الهولندية بعد ستة سنين (!!) للبدأ بإجراء تحقيق في الموضوع. التحقيق كشف أموراً في غاية الخطورة حيث تبين ان إسرائيل كانت تنقل مواد خطرة ليس في طائراتها فقط بل في الشاحنات والموانئ الهولندية, وتستثنى وحدها من أي تفتيش, حيث يفتحها في المطارات والموانئ رجال امن اسرائيليون ويغلقونها. وعلق صحفي في التلفزيون : اننا لانعلم ما يطير في سمائنا ولا ما يسير على طرقنا. أنها دولة داخل الدولة"
الموقع التالي يعطي فكرة عن الموضوع, التقرير بالهولندية مع مقدمة بالإنكليزية اضافة الى بعض الصور:
http://members.chello.nl/j.wiersema2/bijlmer/
بشكل عام يتبين ان اسلوب اسرائيل في علاقتها بالدول هو الضغط! بل ودائماً, تسليط اقصى ضغط ممكن على كل نقاط القوة التي يمكن الوصول اليها, لإجبارها على المسير ضمن ارادتها بغض النظر عن مصلحة تلك الدولة وشعبها.
هذا يؤدي غالباً الى فجوة كبيرة بين مواقف الحكومة وشعبها بكل ما يتعلق بإسرائيل, مسببة فجوة بينهما حتى في اعتى الدول الديمقراطية. فشعوب الارض عموماً تكره عنصرية إسرائيل ووحشيتها(وتتعاطف مع اليهود), أما الحكومات فيهمها رأي اسرائيل غالباً. وقد يصل هذا الفارق حدوداً غريبة. فمثلاً, وما دمنا في هولندا, نقول انه قبل بضعة سنوات بين إستبيان للرأي ان 74% من الشعب الهولندي يعتبر إسرائيل "الدولة الأكثر خطراُ على السلام في العالم". كانت نتيجة ألإستبيان قد وقعت كالصاعقة على اسرائيل والحكومة الهولندية*. وحين سأل احد الصحفيين مسؤولاً في الحكومة ان كانت الحكومة ستعيد النظر في علاقتها مع إسرائيل مستقبلاً (بإعتبارها حكومة ديمقراطية تمثل رأي شعبها) بسبب هذا ألإستبيان, رفض ذلك قائلاً ان علاقة هولندا بإسرائيل علاقة صداقة حميمة وستبقى كذلك. واستطرد في الموضوع حتى كاد يعتذر لإسرائيل عن رأي شعبه بها!
هذا نموذج لطبيعة العلاقة بين إسرائيل ودولة عريقة في الديمقراطية وعريقة في صداقة شعبها مع إسرائيل, فكيف يكون الأمر مع دولة يكره شعبها إسرائيل مسبقاً, ويعشعش في سياسييها الفساد, وليس فيها من المؤسسات ما يدافع به ذلك الشعب عن ديمقراطيته أمام تلك الضغوط الجبارة؟
* شمل الإستبيان جميع شعوب أوروبا الغربية, وكانت نتيجته المذهلة ان جميع تلك الشعوب قد رشحت اسرائيل بإعتبارها الخطر الأكبر على السلام في العالم, بمعدل 60%, وكانت هولندا الاعلى من بين تلك الشعوب (74%)
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟