ناصر بن رجب
الحوار المتمدن-العدد: 5178 - 2016 / 5 / 30 - 04:07
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لَيْلَةُ القَدْر هيَ... أم ليلة الميلاد؟ (5)
ترجمة:
بشير ماشطة وعلي بن رجب
مراجعة وإعداد:
ناصر بن رجب
يبدو بالفعل أن "السَّلام" هو الموضوع المحوري لسورة القَدْر. وهذا هو ما قَصَده المُحَرِّر، وذلك بدليل التركيب المُبتَدِع الذي اعتمده بوضعِه لفظة "سَلَامٌ" على رأس الآية 5 الشَّيء الذي يجعلها تَبْرُز أكثر. غير أن سَطْرَيْ قوّة السورة يقوداننا تحديدا إلى كلمة "سَلاَمٌ" ويجدان فيها تفسيرهما.
أحدُ سَطرَي القُوَّة هاذين يظهر في الآيتين 3 و4 أين يقع الحديث عن قيمة صلوات قيام اللّيل ونزول الملائكة خلال ليلة الميلاد. وهكذا يكون السَّلام في نفس الوقت هو نتيجة لقدوم المسيح وكذلك يُمثِّل موضوع الأناشيد التي تُرتِّلها مَعًا الملائكة (الآية 4) والمؤمنين السّاهرون وهم يتهجّدون (الآية 3). وقد رأينا سابقا أن س 97: 3ـ5 ترتبط بتقليد من أصل سرياني يحافظ على علاقات قويّة مع أنشودة الميلاد 21 ــ فليس من المدهش إذن أن تكون الموازاة بين الملائكة والمؤمنين صريحةً عند إفرآم:
"الليلةَ إتَّحَد الحُرَّاسُ العُلْوِيون [الملائكة] مع الحُرَّاسِ السَّاهِرين [المؤمنون]؛ فقد جاء السَّاهِر [المسيح] لِيَخْلِقَ حُرَّاسًا في وسط الخليقة؛ هُوَ ذَا فإنّ الحرَّاسَ السَّاهرين قد صاروا زُمَلاءَ للحُرَّاس العُلْوِيِّين، وأَنْشَدوا مع الساروفيم: طُوبَى لِمَن يَصِيرُ قيثارَةً لتسْبيحِكَ، فإنَّ نِعْمَتك تكون هي مكافأتَهم" (أنشودة الميلاد 21: 4).
لكن ما هو الشأن مع سطر القوَّة الأول للسُّورة الموجودِ منذ الآية 1 التي تتحدّث عن ميلاد يسوع وعن "نزوله" خلال ليلة القدر؟ هنا القرآن، بكلِّ تأكيد، يختَصِر شديد الاختصار ويُلمِّح فقط مجرّد التلميح، ولم أتوصل بعدُ إلى اكتشاف تَوَازِيات نَصِّيَّة لهذه الآية شبيهة بتلك التوازيات التي وجدناها للآيتين 3ـ 4 (1). غير أنني أقترح أن نرى في سورة القَدْرِ إشارة إلى تقليد كامل من الفكر المسيحي، تُمثِّلُه على وجه الخصوص النصوص القليلة المذكورة أعلاه التي تتحدث عن ميلاد يسوع الذي يفتح عَهدًا من السَّلام والخلاص. بالتأكيد، الآية 5 تتحدث عن "السَّلام حتى مطلع الفجر" وليس "عَهد سلام": من وجهة النظر هذه فإنّ هذه الآية تمثِّل صدى للآيتين 3ـ4 أكثر منها للآية 1. غير أنه يبدو لي، من الناحية البلاغية، أن كلمة "قدَرْ" في آخر الآيتين 1 و2 تتعارض بشكل واضح مع كلمة "سَلام" في الآية 5.
هل هذا التقليد الفكري حاضر عند إفرآم؟ لا نجد في أناشيد الميلاد رؤية حول التَّنْجيم أو القَدر مثل التي نجدها عند ثيودوت أو أوريجان. إلاّ أنّ هذه الرؤية تَطْفو في المقطع التالي:
"امْتَزج "الحُرَّاس" بالحُرَّاس، وَفَرِحَ الكُلُّ، لأنَّ العالَمَ جاء إلى الحياة. الشيطان الذي كان مَلِكًا صار في عَارٍ، فنَسَجَ لنفسه تيجَانًا من الكذب. بنى عرشه كإلَهٍ على العالم المسكون، لكن جاء "الطِّفل" في المذْوَدِ، فطرد الشَّيطانَ من مملكته. الشّمسُ سجدت له (للطِّفل) بواسطة المجوس، وعَبَدَتْه بواسِطَة عابِدِيها" (أنشودة الميلاد. 21: 11 ).
تذكِّرُ نهاية المقطع أن ميلاد المسيح يُحرِّر الإنسان من الوثنيِّة. وهي الفكرة التي لم يتوان إفرآم في أكيدها ــ فقد ذهب إلى حدّ تخصيص أنشودة كاملة لها وهي الأنشودة 22. يظهر فيها المسيح بمثابة ذاك الذي يُحرر الخليقة من الشيطان والوثنية (22: 4، 5، 6، 9، 13، 34، 35، وكذلك 5: 15). فانتهت عبادة الشياطين (22: 27): واختفت بذلك قوة السَّحَرة:
"كان الكِلْدانيون يذهبون في كل مكان، تائهين ومُضلِّلين، انكشف رُسُلُ الخطيئة في أنحاء العالم وأخرَسَهم رُسُل الحقيقة وهزموهم، مُباركٌ هو "الطفل" الذّي بُشِّر بمجيئه" (أنشودة الميلاد. 22 : 32).
التوازِيات، على مستوى تركيب الجمل والمواضيع، بين سورة القَدْر وأناشيد الميلاد للقدّيس إفرآم وخاصة منها الأنشودة 21، تبدو مُكَثَّفة جدّا إلى درجة يصعب معها اعتبارها جاءت بمحض صدفة: لذا يمكن أن نعتبر أن كاتب سورة القَدْر كان مطلعا، بشكل مباشر أو غير مباشر (2)، على بعض أناشيد إفرآم التي لعبت دورا حاسما في تأليف السورة (حتى ولو كانت كريستولوجيا (طبيعة المسيح) القرآن مختلفة بطبيعة الحال عن مثيلتها عند إفرآم).
وبشكل أَعَم، هناك تقليد أدبيّ ودينيّ (في البَيْبل [الكتاب المقدّس]) يُفْتَرَض أنه كان معروفًا من طرف كاتِب (أو كَتَبَة) النّص القرآني وفي نفس الوقت لدى مُسْتَلِمي هذا النّص. في الواقع، إنّ القرآن هو نصٌّ إيحائي في إحالاته البَيْبليّة إلى درجةِ أنّه لا يمكن فَهْمُه حقيقة إلا من طرف أُناسٍ يتمتَّعون بسابق معرفة بالقصص التي يُحيل عليها. ولذلك فهو يُشبِه في أسلوبه، جُزئِيًّا على الأقلّ، أسلوبَ العِظَة الدينيّة الأدبي: فهو يُمَثِّل غالبا نوعا من التّعليق الهامشي على القِصَص البيْبليّة، وذلك بالإشارة إلى معنى ومَوعِظَة هذه القصص (حتّى وإن تطلَّب هذا لجوؤُه إلى استخدام اختيارات لاهوتية متعَارِضة مع التقاليد الدينية التي يشير إليها ضمنيا).
من وجهة النظر هذه، إذا كانت سورة القَدْر ليست نصًّا جِداليًّا كما هو حال الكثير من المقاطع القرآنية التي تتحدَّث عن يسوع، فهي تظَلُّ على الأقل متعلِّقة باللِّيتورجيا، وفي الوقت ذاته بالخُطْبة الوَعظيَّة (3) (وهما نوعان لا يتعارضان بل بالعكس: فنحن نعرف مثلا أنّ مَدْرَاشات إفرآم السرياني بالإضافة إلى وظيفتها اللّيتورجيّة، فإنها تلعب كذلك دَوْرًا وعظِيًّا، باعتبارها فرصة لإعطاء الشّعب تعليما دينيا لا يحصل عليه بالضرورة بطرق أخرى). هذا والحال أنّنا عندما نقول خُطبة دينية فهذا يعني نَصًّا تكون فيه العِظة تُمَثِّل في نفس الوقت التعليق والتَّفسير أو مُجرّد الشَّرح. فهل يجب أن نعتبِر أنّ هذا النص كان تأليفا سريانيا أو تأليفا ليتورجيًّا عربيًّا مسيحيًّا أو فقط مأثورًا شفويًّا (مَرْويَّاتٌ عن القصص البِيْبليّة التي كانت تُداوَل منذ ذلك الحين بين مُستَلِمي الرسالة القرآنيّة)؟ ليس هنا مجال اتِّخاذ القرار في هذا الشأن.
إذا أخذنا مأخذ الجِدّ الطابع الوعظي للسورة فإنّ ذلك يُوفر لنا على أيّ حال مفتاحا لفهم عبارة "أَنْزَلْناهُ" (س97: 1)، وبشكل أَدقّ معرفة ما يعود عليه الضمير "هُ". يبدو لي أنّه من المحتمل جدًّا أنَّ سورة القَدْر هي مقطع من نصٍّ أطول، وأنّ مقاطعه الأخرى لم يقع الاحتفاظ بها في النص القرآني: ومن الطبيعي أن يقع التفكير في أنّ هذه السورة إنما هي أنشودة مسيحية تعود لفترة ما قبل الإسلام (4)، ولكن بالرّغم من أنّ التحليل الوحيد للسّورة هنا لا يسمح بتأكيد طابعا الجاهلي، إلاّ أنّه يُظهِر فقط ارتباطها المباشر بالأناشيد المسيحية ما قبل إسلاميّة. ومهما يكن من أمر، ليس من الضروري أبدًا البحث على مَن يعود عليه الضمير "هُ" في المقاطع التي من المُفتَرض أنّها فُقِدت من هذه الأنشودة: فالضمير "هُ" يمكن أن يُشير بكل بساطة إلى شخصيَّة النص الرئيسية التي تشرحها هذه الأنشودة، أي يسوع.
توضيحات
أصبح من الممكن الآن العودة إلى كامل السورة ونوضِّح بعض النِّقاط التي مازال يكسوها الغموض.
(1) إنا أَنْزَلْناهُ في ليلة القَدْر (أو القَدَر)
يتعلّق الأمر إذن في الآية 1 بيسوع وبليلة الميلاد. "نُزول يسوع"، من وجهة نظر مسيحية هو فكرة بديهيّة. ولكن من وجهة نظر القرآن قد يكون من الممكن أن يُثير الحديث عن نزول يسوع بعض الصعوبات الطفيفة التي يجدر بنا مناقشتها.
أولا، هل يمكن أن نفهم من "نزول يسوع" هو ميلاده بالذّات؟ بل قد يجب علينا، بشكل من الاشكال، أن نفهم من كلمة "النزول" ليس الولادة بل "الحَبْل" [حبلت مريم بيسوع بقوّة الروح القدس، "نفخنا فيها من روحنا" كما يقول القرآن]. ألم يكتب إفرآم: "جَاءَ (الإبن) في الحَمْلِ ففتَحَ الطَّريقَ وجعلَهُ سَهْلاً، وإِذْ جاءَ في الميلاد هيَّأَهُ وأَوْضَحَ مَلامِحَهُ"؟ (أنشودة الميلاد 22: 2ـ3). ثانيا، ألا يفترض الحديث عن نزول يسوع وُجودَ يسوع أَزَلي (وهي فكرة أساسية عند المسيحيين النّيقيّين [نسبة إلى مَجْمَع نيقيّة المَسْكوني الذي انعقد سنة 325 م والّذي كرَّس أزليّة يسوع]، ولكنّها مبدَئيًّا ليست بتاتا فكرةً قرآنيّة)؟ أخيرا، لا نجد إشارات قرآنيّة موازية قد تتحدث بوضوح عن نزول يسوع.
يقدِّم لوكسنبيرغ، فيما يتعلق بالنقطة الأولى، الإقتراح التالي: "الفعل العربي (أَنْزَلَ) ينبغي أن نضعه هنا في علاقة مع المصدر السرياني/الأرامي "نُحَّاتَا" – "نُوحَاتَا" (بالعربيّة "نُحَاتَه = البِراية")، الذي ذُكر مرتين في سورة مريم: "فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا" (السورة 19: 24)، واصِفًا ولادة مريم، وهو يعني حرفيًّا "أَنْزَلَ". ولم يقع استعمال هذه الكلمة في القرآن إلا في هذه الآية لتشير إلى الخاصّية ما فوق طبيعيّة لميلاد يسوع الذي (...) كلَّم النّاس وهو في المَهد صبيًّا" [لوكسنبيرغ].
يُشير لوكسنبيرغ إلى تحليله للآية 24 من سورة مريم، وهو تحليل يبتعد عن النَّص المُسْتَلَم [النّص الرَّسمي] في العديد من النقاط (فهو مثلا يُعيد صياغة عبارة "نُحَاتا" التي لا تظهر في القراءة التقليدية للنص القرآني). غير أن مناقشة تحاليل لوكسنبيرغ لسورة مريم تتعدّى حدود بحثنا هذا. سأُشير فقط إلى صعوبة في اقتراحه حول الآية 1 من سورة القَدْر (صعوبة تتشابه مع التفسير الإسلامي الأكثر انتشارا). بالفعل، بما أنّ كلمة "أَنْزَلَ" تشير في القرآن إلى الانتقال من السماوي إلى الأرضي ومن المُتعالي إلى الدُّنيوي فإنّها لا يمكن أن تشير إلى حدث سماوي بحت مثل نزول القرآن إلى السماء الدنيا، ولكن لا يبدو أنها تشير أيضا إلى حدث، هو عجيب بالتّأكيد، غير أنّه يظّل "دُنْيَوي"، مثل حدث ميلاد يسوع.
هذه الصعوبات التي تتعلَّق بميلاد أو نزول يسوع ليست مع ذلك إلا صعوبات ظاهرية. صحيح، أحيانا يقع التفريق بين النزول والميلاد، ولكنَّ هذا التمييز ليس تمييزًا منهجيًّا. بصورة عامّة، الحديث عن نزول يسوع يعني بكل بساطة الحديث عن مجيئه إلى الدنيا، الشيء الذي يشمل في نفس الوقت الحَبْل والميلاد. ويمكن أن نستشهد من جديد بإفرآم:
"لقد أتى إلينا النُّورُ السِرِّيُ، وظهَر جَمَالُهُ بالجَسَد! النُّورُ الذي تَكَلَّمَ عنْه زَكرِيّا أَضاءَ اليَوْمَ في بيْتِ لَحْم" (أنشودة الميلاد 1: 6).
من ناحية أخرى، نستطيع الحديث كذلك عن "النزول" فقط للإشارة لميلاد يسوع:
"وفي تلك الأيَّام التي صَدَرَ فيها أَمْرٌ من القَيْصَر بإِحْصاءِ جميع أهْلِ المَعمور [لوقا 2: 1ـ3]، نَزَل مُخلِّصُنا" (أنشودة الميلاد 18: 2: 1ـ2).
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
* نُشِر هذا المقال بالفرنسية تحت عنوان:
Guillaume DYE, « La nuit du Destin et la nuit de la Nativité »
ضمن كتاب:
Guillaume Dye & Fabien Nobilio, Figures bibliques en islam, Bruxelles-Fernelmont, EME, 2011
(1) بما أنّ إفرام السّرياني اعتمد، في نظم أناشيده، على مأثور بأكمَلِه كان موجودًا وخاصّة مأثور "بارديسان" الذي يُعطي هو نفسه أهمّية بالغة لموضوع القَدَر، فإنَّه بإمكاننا، كما يقترح ذلك الباحث يان فان ريث، أن نتساءَل ما إذا كان بارديسان قد مثَّل مصدَرًا، مباشِرًا أو غير مباشر، للقرآن. هذه الفرضية جديرة بأن نتمعّنَ فيها أكثر.
(2) "غير مباشر"، أقصد من هذا وجود نصٍّ أو مأثور شفوي يختلف عن نصّ أفرآم نفسه ولكنه يمكن أن يكون مُستَلْهَمًا أو مُقتَبَسًا من أناشيد الميلاد. نذكِّر هنا أنّ ما وصلنا من أناشيد الميلاد هي ثمانية وعشرين نشيدا، ولكنّ هناك ملحوظة لا نعرف كاتبها وردت في مخطوطة تُشير إلى أنّ أفرآم نظم في الأصل خمسين نشيدا. أنظر: "مفتاح لأناشيد إفرآم في مخطوط سيناء السرياني":
DE HALLEUX A., 1972, « Une clé pour les hymnes d’É-;-phrem dans le ms. Sinai syr. 10 », Le Muséon n° 85, pp. 171-199.
(3) أنظر لاحقا عندما نتعرّض للصّيغة "وَمَا أَدْرَاكَ مَا".
(4) هذه الفكرة ليست جديدة. لقد دافع عنها، في صيغة أكثر تحديدا (الصيغة الشعريّة للخطب الوعظيّة) من طرف باحثين مثل:
MULLER D. H. (1896), HOLDER, GEYER R. (1908), LULING G. (20113)
#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟